4 مصاحف

حمل المصحف

مراجع في المصطلح واللغة

مراجع في المصطلح واللغة

كتاب الكبائر_لمحمد بن عثمان الذهبي/تابع الكبائر من... /حياة ابن تيمية العلمية أ. د. عبدالله بن مبارك آل... /التهاب الكلية الخلالي /الالتهاب السحائي عند الكبار والأطفال /صحيح السيرة النبوية{{ما صحّ من سيرة رسول الله صلى ... /كتاب : عيون الأخبار ابن قتيبة الدينوري أقسام ا... /كتاب :البداية والنهاية للامام الحافظ ابي الفداء ا... /أنواع العدوى المنقولة جنسياً ومنها الإيدز والعدوى ... /الالتهاب الرئوي الحاد /اعراض التسمم بالمعادن الرصاص والزرنيخ /المجلد الثالث 3. والرابع 4. [ القاموس المحيط - : م... /المجلد 11 و12.لسان العرب لمحمد بن مكرم بن منظور ال... /موسوعة المعاجم والقواميس - الإصدار الثاني / مجلد{1 و 2}كتاب: الفائق في غريب الحديث والأثر لأبي... /مجلد واحد كتاب: اللطائف في اللغة = معجم أسماء الأش... /مجلد {1 و 2 } كتاب: المحيط في اللغة لإسماعيل بن ... /سيرة الشيخ الألباني رحمه الله وغفر له /اللوكيميا النخاعية الحادة Acute Myeloid Leukemia.... /قائمة /مختصرات الأمراض والاضطرابات / اللقاحات وما تمنعه من أمراض /البواسير ( Hemorrhoids) /علاج الربو بالفصد /دراسة مفصلة لموسوعة أطراف الحديث النبوي للشيخ سع... / مصحف الشمرلي كله /حمل ما تريد من كتب /مكتبة التاريخ و مكتبة الحديث /مكتبة علوم القران و الادب /علاج سرطان البروستات بالاستماتة. /جهاز المناعة و الكيموكين CCL5 .. /السيتوكين" التي يجعل الجسم يهاجم نفسه /المنطقة المشفرة و{قائمة معلمات Y-STR} واختلال الص... /مشروع جينوم الشمبانزي /كتاب 1.: تاج العروس من جواهر القاموس محمّد بن محمّ... /كتاب :2. تاج العروس من جواهر القاموس /كتاب تاج العروس من جواهر القاموس /كتاب : تاج العروس من جواهر القاموس

الأربعاء، 11 مايو 2022

الأنوار الكاشفة لما في كتاب أضواء على السنة من الزلل والتضليل والمجازفة لعبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني غفر الله له

 

الأنوار الكاشفة لما  في كتاب أضواء على السنة من الزلل والتضليل والمجازفة  لعبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني

غفر الله له 

المطبعة السلفية – ومكتبتها عالم الكتب بيروت /1402هـ. – 1982م. 

 تنبيه

يوجد في أثناء الكتاب إحالات على ما تقدم منه أو تأخر بقيد الصفحات. والمعتبر في ذلك صفحات الأصل الذي بخط المؤلف ، وهو التي أشير عليها في هامش هذا المطبوع 

 بسم الله الرحمن الرحيم

أقدم كتابي هذا إلى أهل العلم وطالبيه الراغبين في الحق، المؤثرين له على كل ماسواه، سائلاً الله تعالى أن ينفعني وإياهم بما فيه من الحق، ويقيني وإياهم شر ما فيه من باطل حكيته عن غيري أو زلل منى، فإن حظى من العلم زهيد، وكان جمعي للكتاب على استعجال مع اشتغالي بغيره، فلم أكثر من مراجعة ما في متناولي من مؤلفات أهل العلم، ولا ظفرت ببعضها، ومنها ما هو من مصادر الكتاب المردود عليه (( أضواء على السنة )).

وقد سبقني إلى الرد عليه فضيلة الأستاذ العلامة الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة،  مدير دار الحديث بمكة المكرمة، والمدرس بالحرم الشريف، واستفدت من كتابه جزاه الله خيراً.

ولفضيلة السلفي الجليل المحسن الشهير نصير السنة الشيخ محمد نصيف اليد الطولى في استحثاثي لإكمال الكتاب، وإمدادي بالمراجع.

وكذلك للأخ الفاضل البحاثة الشيخ سليمان بن عبد الرحمن الصنيع عضو مجلس الشورى،  ومدير مكتبة الحرم المكي، فإنه أمدني ببعض المراجع من مكتبته الخاصة النفيسة.

ورجائي ممن يطالع كتابي هذا من أهل العلم أن يكتب إلي بما عنده من ملاحظات واستدراكات، لأراعيها أنا - أو من شاء الله تعالى- عند إعادة طبع الكتاب إن شاء الله تعالى. وفقنا الله جميعاً لما يحب ويرضي.

غرة شهر رجب سنة 1378                         المؤلف

عبد الرحمن بن يحيى المعلمي




1

 
بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.

أما بعد، فإنه وقع إلي كتاب جمعه الأستاذ محمود أبو رية وسماه (( أضواء على السنة المحمدية)) فطالعته وتدبرته، فوجدته جمعاً وترتيباً وتكميلاً للمطاعن في السنة النبوية، مع أشياء أخرى تتعلق بالمصطلح وغيره.

وقد ألف أخي العلامة الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة – وهو على فراش المرض- عافاه الله- رداً مبسوطاً على كتاب أبي رية لم يكمل حتى الآن.ورأيت من الحق علي أن أضع رسالة أسوق فيها القضايا التي ذكرها أبو رية، وأعقب كل قضية ببيان الحق فيها متحرياً إن شاء الله تعالى الحق،وأسأل الله التوفيق والتسديد، إنه لا حول ولا قوة إلا به، وهو حسبي ونعم الوكيل.

عُني أبو رية بإطراء كتابه، فأثبت على لوحة: (( دراسة محررة تناولت حياة الحديث المحمدي وتاريخه، وكل ما يتعلق به من أمور الدين والدنيا. وهذه الدراسة الجامعية التي قامت على قواعد التحقيق العلمي (؟!) هي الأولى في موضوعها، لم ينسج أحد من قبل على منوالها )).

وكرر الإطراء في مقدمته وخاتمته، وكنت أحب له لو ترفع عن ذلك وترك الكتاب يبنبيء عن نفسه، فإنه – عند العقلاء – أرفع له ولكتابه إن حمدوا الكتاب، وأخف للذم إذا لم يحمدوه.

 

 

بل استجراه حرصه على إطراء كتابه إلى أمور أكرهها له، تأتي الإشارة إلى بعضها قريباً إن شاء الله. كان مقتضى ثقته بكتابه وقضاياه أن يدعو مخالفيه إلى الرد عليه إن استطاعوا، فما باله يتقيهم بسلاح يرتد عليه وعلى كتابه، إذ يقول ص14   (( وقد ينبعث له من يتطاول إلى معارضته ممن تعفنت أفكارهم وتحجرت عقولهم )).

2

 
 ويقول في آخر كتابه (( وإن تضق به صدور الحشوية وشيوخ الجهل من زوامل الأسفار،  الذين يخشون على علمهم المزور من سطوة الحق، ويخافون على كساد بضاعته العفنة التي يستأكلون بها أموال الناس بالباطل،أن يكتنفهم ضوء العلم الصحيح، ويهتك سترهم ضوء الحجة البالغة، فهذا لا يهمنا، وليس لمثل هؤلاء خطر عندنا ولا وزن في حسابنا )).  أما أنا، فأرجوا أن لا يكون لي ولا لأبي رية ولا لمتبوعيه عند القراء خطر ولا وزن، وأن يكون الخطر والوزن للحق وحده.

/ قال أبو رية ص 4 (( تعريف بالكتاب )) يعني كتابه طبعاً. ثم ذكر علو قدر الحديث النبوي، ثم قال: (( وعلى أنه بهذه المكانة الجليلة والمنزلة الرفيعة، فإن العلماء والأدباء لم يولوه ما يستحق من العناية والدرس، وتركوا أمره لمن يسمون رجال الحديث يتداولونه فيما بينهم ويدرسونه على طريقتهم، وطريقة هذه الفئة التي اتخذتها لنفسها قامت على قواعد جامدة لا تتغير ولا تتبدل، فترى المتقدمين منهم وهم الذين وضعوا هذه القواعد قد حصروا عنايتهم في معرفة رواة الحديث والبحث على قدر الوسع في تاريخهم، ولا عليهم بعد ذلك إن كان ما يصدر عن هؤلاء الرواة صحيحاً في نفسه أو غير صحيح، معقولاً أو غير معقول، إذ وقفوا بعلمهم عند ما يتصل بالسند فحسب، أما المعنى فلا يعنيهم من أمره شيء… ))

قضية

العقل

 
أقول: مراده بقوله (( العلماء )) المشتغلون بعلم الكلام والفلسفة، ولم يكن منهم أحد في الصحابة والمهتدين بهديهم من علماء التابعين وأتباعهم والذين يلونهم، هؤلاء

كلهم ممن سماهم(( رجال الحديث )) ومنهم عامة المشهورين عند الأمة بالعلم والإمامة من السلف. أولئك كلهم ليسوا عند أبي رية علماء، لأنهم لم يكونوا يخوضون في غوامض المعقول، بل يفرون منها وينهون عنها ويعدونها زيفاً وضلالاً وخروجاً عن الصراط المستقيم، وقنعوا بعقل العامة!  وأقول: مهما تكن حالهم فقد كانوا عقلاء العقل الذي ارتضاه الله عزوجل لأصحاب رسوله ورضيهم سبحانه لمعرفته ولفهم كتابه، ورضى ذلك منهم، وشهد لهم بأنهم ( المؤمنون حقاً )، ( الراسخون في العلم )، (خير أمة أخرجت للناس ) وقال لهم في أواخر حياة رسوله: ( ا ليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي )، فمن زعم أن عقولهم لم تكن مع تسديد الشرع لها كافية وافية بمعرفة الله تعالى وفهم كتابه ومعرفة ما لا يتم الإيمان ولا يكمل الدين إلا بمعرفته؛ فأنما طعن في الدين نفسه.  وكان التابعون المهتدون بهدي الصحابة أقرب الخلق إليهم عقلاً وعلماً وهدياً، وهكذا من اهتدى بهديهم من الطبقات التي بعدهم، وهؤلاء هم الذين سماهم أبو رية (( رجال الحديث )) قد يقال: أما نفي العلم والعقل عنهم فلا التفات إليه، ولكن هل راعوا العقل في قبول الحديث وتصحيحه؟

3

 
أقول: نعم، راعوا ذلك في أربعة مواطن: عند السماع، وعند التحديث، وعند الحكم على الرواة، وعند الحكم على الأحاديث، فالمتثبتون إذا سمعوا خبراتمتنع صحته أو تبعد لم يكتبوه ولم يحفظوه، فإن حفظوه لم يحدثوا به، فإن ظهرت مصلحة لذكره ذكروه مع القدح فيه وفي الراوي الذي عليه تبعته. وقال الإمام الشافعي في الرسالة ص 399: (( وذلك أن يستدل على الصدق والكذب فيه بأن يحدث المحدث ما لا يجوز أن يكون مثله أو ما يخالفه ما هو أثبت أو أكثر دلالات بالصدق منه )). وقال الخطيب في الكفاية في علم الرواية ص 429: (( باب وجوب إخراج المنكر والمستحيل من الأحاديث )). وفي الرواية جماعة يتسامحون عند السماع وعند التحديث، لكن الأئمة بالمرصاد للرواة، فلا تكاد تجد حديثاً بين البطلان إلا وجدت في سنده واحداً أو اثنين أوجماعة قد جرحهم الأئمة،والأئمة كثيراً ما يجرحون الراوي بخبر واحد منكر جاء به، فضلاً عن / خبرين أو أكثر.

ويقولون للخبر الذين تمتنع صحته أو تبعد: (( منكر )) أو (( باطل )). وتجد ذلك كثيراً في تراجم الضعفاء، وكتب العلل والموضوعات، والمتثبتون لا يوثقون الراوي حتى يستعرضوا حديثه وينقدوه حديثا ًحديثاً.

فأما تصحيح الأحاديث فهم به أعنى وأشد احتياطا، نعم ليس كل من حكي عنه توثيق أو تصحيح متثبتاً، ولكن العارف الممارس يميز هؤلاء من أولئك.

هذا وقد عرف الأئمة الذين صححوا الأحاديث، أن منها أحاديث تثقل على بعض المتكلمين ونحوهم، ولكنهم وجدوها موافقة للعقل المعتد به في الدين، مستكملة شرائط الصحة الأخرى، وفوق ذلك وجدوا في القرآن آيات كثيرة توافقها أو تلاقيها، أو هي من قبيلها، قد ثقلت هي أيضاً على المتكلمين،وقد علموا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدين بالقرآن ويقتدي به، فمن المعقول جداً أن يجيء في كلامه نحو ما في القرآن من تلك الآيات.

من الحقائق التي يجب أن لا يغفل عنها أن الفريق الأول وهم الصحابة ومن اهتدى بهديهم من التابعين وأتباعهم ومن بعدهم عاشوا مع الله ورسوله، فالصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم وهديه ومع القرآن، والتابعون مع القرآن والصحابة والسنة وهلم جرا. وإن الفريق الثاني وهم المتكلمون والمتفلسفون ونحوهم عاشوا مع النظريات والشبهات والأغلوطات والمخاصمات، والمؤمن يعلم أن الهدي بيد الله، وأنه سبحانه إذا شرع إلى الهدى سبيلاً فالعدول إلى غيره لن يكون إلا تباعداً عنه وتعرضاً للحرمان منه، وبهذا جاء القرآن، وعليه تدل أحوال السلف واعتراف بعض أكابرهم في أواخر أعمارهم، والدقائق الطبيعية شيء والحقائق الدينية شيء آخر، فمن ظن الطريق إلى تلك طريقاً إلى هذه فقد ضل ضلالاً بعيداً.

واعلم أن أكثر المتكلمين لا يردون الأحاديث التي صححها أئمة الحديث، ولكنهم يتأولونها كما يتأولون الآيات التي يخالفون معانيها الظاهرة. لكن بعضهم رأى أن تأويل تلك الآيات والأحاديث تعسف ينكره العارف باللسان وبقانون الكلام وبطبيعة العصر النبوي، والذي يخشونه من تكذيب القرآن لا يخشونه من تكذيب الأحاديث، فأقدموا عليه وفي نفوسهم ما فيها، ولهم عدة مؤلفات في تأويل الأحاديث أو ردّها – قد طبع بعضها – فلم يهملوا الأحاديث كما زعم أبو رية.

4

 

البلاغة

 
قول أبي رية (( والأدباء )) يعني بهم علماء البلاغة، يريد أنهم لم يتصدوا لنقد الأحاديث بمقتضى البلاغة، قال في ص6 (( ولما وصلت من دراستي إلى كتب الحديث ألفيت فيها من الأحاديث ما يبعد أن يكون في / ألفاظه أو معانيه أو أسلوبه من محكم قوله وبارع منطقه صلوات الله عليه … ومما كان يثير عجبي أنى إذا قرأت كلمة لأحد أجلاف العرب أهتز لبلاغتها، وتعروني أريحية من جزالتها، وإذا قرأت لبعض ما ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قول لا أجده له هذه الأريحية ولا ذاك الاهتزاز، وكنت أعجب كيف يصدر عنه صلوات الله عليه مثل هذا الكلام المغسول من البلاغة، والعارى عن الفصاحة، وهو أبلغ من نطق بالضاد، أو يأتي منه مثل تلك المعاني السقيمة،وهو أحكم من دعا إلى رشاد ))

أقول: أما الأحاديث الصحيحة فليست هي بهذه المثابة، والاهتزاز والأريحية مما يختلف باختلاف الفهم والذوق والهوى، ولئن كان صادقاً في أن هذه حاله مع الأحاديث الصحيحة فلن يكون حاله مع كثير من آيات القرآن وسوره إلا قريباً من ذلك. هذا والبلاغة مطابقة الكلام لمقتضى الحال، والنبي صلى الله عليه وسلم كان همه إفهام الناس وتعليمهم على اختلاف طبقاتهم، وقد أمره الله تعالى أن يقول ( وما أنا من المتكلفين ) والكلمـات المنقـولة عن العرب ليست بشيء يذكر بالنسبة إلى كلامهم كله، وإنما نقلت لطرافتها، ومقتضى ذلك أنه لم يستطرف من كلامهم غيرها. وكذلك المنقول من شعرهم قليل، وإنما نقل ما استجيد، والشعر مظنة التصنع البالغ، ومع ذلك قد تقرأ القصيدة فلا تهتز إلا للبيت والبيتين، ثم إن كثيراً مما نقل عن

النبي صلى الله عليه وسلم روي بالمعنى كما يأتي، فأما سقم المعنى فقد ذكر علماء الحديث أنه من علامات الموضوع، كما نقله أبو رية نفسه ص 104.

وذكر ابن أبي حاتم في تقدمة ( الجرح والتعديل ) ص 351 في علامات الصحيح (( أن يكون كلاماً يصلح أن يكون من كلام النبوة )) فإن كان أبو رية يستسقم معاني الأحاديث الصحيحة فمن نفسه أتي.

يجد مرّاً به العذبَ الزُّلالا

ومن يكُ ذا فم مرّ مريض

قوله: (( أما المعنى فلا يعنيهم من أمره شيء )) كذا قال، وقد أسلفتُ أن رعايتهم للمعنى سابقة، يراعونه عند السماع، وعند التحديث،وعند الحكم على الراوي، ثم يراعونه عند التصحيح، ومنهم من يتسامح في بعض ذلك، وهم معروفون كما تقدم. وقد قال أبو رية ص104: (( ذكر المحققون أموراً كلية يعرف بها أن الحديث موضوع … )) فذكر جميع ما يتعلق بالمعنى- نقلاً عنهم.

فإن قال: ولكن مصححي الأحاديث لم يراعوا ذلك.

5

 
قلت: أما المثبتون كالبخاري ومسلم فقد راعوا ذلك، بلى في كل منهما أحاديث يسيرة انتقدها بعض الحفاظ أو ينتقدها بعض الناس. ومرجع ذلك إما إلى اختلاف النظر، وإما إلى اصطلاح لهما يغفل عنه المنتقد، وإما إلى الخطأ الذي لا ينجو منه بشر، وقد انُتقدت عليهما أحاديث من جهة السند، فهل يقال لأجل ذلك إنهمالم يراعيا هذا أيضاً؟

/ قال ص5 (( وعلى أنهم قد بذلوا أقصى جهدهم في دراسة علم الحديث من حيث روايته… فإنهم قد أهملوا جميعاً أمراً خطيراً …. أما هذا كله..  فقد انصرف عنه العلماء والباحثون، وتركوه أخباراً في بطون الكتب مبعثرة…)).

يعني فجمعها هو في كتابه. وغالب ذلك قد تكفلت به كتب المصطلح، وسائره في كتب أخرى من تأليف المحدثين أنفسهم، ومنها ينقل أبو رية.

وقال ص6(( أسباب تصنيف هذا الكتاب الخ )) إلى أن قال: (( ومما راعني أنى أجد في معاني كثير من الأحاديث ما لا يقبله عقل صريح )).

أقول: لا ريب أن في ما ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم من الأخبار ما يرده العقل الصريح، وقد جمع المحدثون ذلك وما يقرب منه في كتب الموضوعات، وما لم يذكر فيها منه فلن تجد له إسناداً متصلاً إلا وفي رجاله ممن جرحه أئمة الحديث رجل أو أكثر، وزعم أن في الصحيحين شيئاً من ذلك سيأتي النظر فيه وقد تقدمت قضية العقل.

قال (( ولا يثبته علم صحيح ولا يؤيده حس ظاهر أو كتاب متواتر )) أقول: لا أدري ما فائدة هذا،مع العلم بأن ما يثبته العلم الصحيح أو يؤيده الحس الظاهر لابد أن يقبله العقل الصريح، وإن القرآن لا يؤيد ما لا يقبله العقل الصريح.

ثم قال: (( كنت أسمع من شيوخ الدين عفا الله عنهم أن الأحاديث التي تحملها كتب السنة قد جاءت كلها على حقيقتها … ))

أقول: العامة في باديتتا اليمن، والعامة من مسلمي الهند، إذا ذكرت لأحدهم حديثاُ قال: أصحيح هو؟ فإن قلت له: هو في سنن الترمذي- مثلاً- قال: هل جميع الأحاديث التي في الكتاب المذكور صحيحة؟ فهل هؤلاء أعلم من شيوخ الدين في مصر؟

ثم ذكر حديث (( من كذب علىّ الخ )) وقضايا أخرى ذكر أنها انكشفت له، أجمل القول فيها هنا على أن يفصلها بعد، فأخرت النظر فيها إلى موضع تفصيلها.

ثم قال ص 13 (( لما انكشف لي ذلك كله وغيره مما يحمله كتابنا، وبدت لي حياة الحديث المحمـدي في صورة واضحة جلية تتراءى في مرآة مصقولة، أصحبت على بينة من أمر ما نسب إلى الرسول من أحاديث آخذ ما آخذ منه ونفسي راضية، وأدع ما أدع وقلبي مطمئن، ولا على في هذا أو ذلك حرج، أو جناح ))

أقول: أما إنه بعد إطلاعه على ما نقله في كتابه هذا صار عارفا بتاريخ الحديث النبوي إجمالاً فهذا قريب، لولا أن هناك قضايا عظيمةيصورها في كتابه هذا على نقيض حقيقتها كما سنقيم عليه الحجة ا لواضحة إن شاء الله تعالى.

6

 
وأما أنه أصحب على بينة إلى آخر ما قال فهذه دعوى تحتمل تفسيرين: الأول: أنه أصبح يعرف بنظرة واحدة إلى الحديث من الأحاديث حقيقة حاله من الصحة قطعاً أو ظناً/ أو احتمالاً أو البطلان كذلك.

الثاني: أنه ساء ظنه بالحديث النبوي- إن لم يكن بالدين كله – فصار لا يراه إلا أداة يستغلها الناس لأهوائهم، فأصبح يأخذ منه ما يوافق هواه، ويرد ما يخالف هواه، بدون اعتبار لما في نفس الأمر من صحة أو بطلان. من الجور أن نزعم أن مراد أبي رية هو ما تضمنه التفسير الأول، لأن ذلك باطل مكشوف، وذلك أن للقضية شطرين: الأول: أن يدع الحديث، الثاني: أنه يأخذ به.

فأما الشطر الأول، فالمسلم لا يدع الحديث وقلبه مطمئن، إلا إذا بان له أنه لا يصح، والذي في كتاب أبي رية مما ذكر أنه يدل على عدم الصحة، إما أن يقتضي امتناع الصحة قطعاً، كمناقضة الخبر للعقل الصريح أو للحس أو لنص القرآن، وإما أن يقتضي استبعادها فقط، والأول لا يحتاج الناس فيه إلى كتاب أبي رية هذا، والثاني لا يكفي، فإنه قد يثبت الخبر ثبوتاً يدفع الاستبعاد، إذن فثمرة مجهوده وكتابه بالنظر إلى هذا الشطر ضئيلة لا يليق التبجح بها.وأما الشطر الثاني، فمن الواضح أن انتفاء الموانع الظاهرة كمناقضة العقل الصريح ونحوه إنما يفيد إمكان الصحة، ثم يحتاج بعد ذلك إلى النظر في السنة، فإن كان موثق الرجال، ظاهر الاتصال، قيل: صحيح الإسناد، ثم يبقى احتمال العلة القادحـة بما فيه من

 

الشذوذ الضار، والتفرد الذي لا يحتمل.

والنظر في ذلك هو كما قال أبو رية ص 302 (( لا يقوم به إلا من كان له فهم ثاقب وحفظ واسع، ومعرفة تامة بالأسانيد والمتون وأحوال الرواة )) وهذه درجة لا تنال بمجهود أبي رية ولا بأضعاف أضعافه، فبان يقيناً أن أبا رية لا يمكنه الاستقلال بتصحيح حديث، بل كتابه ينادي عليه أنه لا يمكنه أن يستقل بتصحيح إسناد. إذن فلم يفده مجهوده شيئاً في هذا الشطر، وبقي فيه كما كان عالة على تصحيح علماء الحديث. هذا حال التفسير الأول.

وأما التفسير الثاني فلا أدري، غير أنه يشهد له صنيع أبي رية في ما يأتي من كتابه من رد الأحاديث والأخبار الثابتة،والاحتجاج كثيراً بالضعيفة والواهية والمكذوبة، والله أعلم.

قال ص 13 (( ولا يتوهمن أحد أني بدع في ذلك، فإن علماء الأمة لم يأخذوا بكل حديث نقلته إليهم كتب السنة، فليسعني ما وسعهم بعد ما تبين لي ما تبين لهم، وهذا أمر معلوم لا يختلف فيه عالم، اللهم إلا الحشوية الذين يؤمنون بكل ما حمل سيل الرواية، سواء كان صحيحاً أم غير صحيح، ما دام قد ثبت سنده على طريقتهم ))

7

 
أقول: لم يجهل أحد من أهل العلم ما قدمته قريباً في شأن صحة الحديث، ولكنهم لا يجيزون مخالفة حديث تبين إمكان / صحته ثم ثبت صحة إسناده ولم يعلم ما يقدح فيه أو يعارضه. وأبو رية يعيب عليهم هذا، ويبيح لنفسه أن يعارض نصوص القرآن وإجماع أهل الحق بأحاديث وأخبار وحكايات لا يعرف حال أسانيدها، ومنها الضعيف والواهي والساقط والكذب، ويكثر من ذلك كما ستراه

قد يقال: ربما يدّعي أنه أصبحت له ملكة وذوق يعرف بهما الصحيح بدون معرفة سند ولا غيره ! أقول: هذه دعوى لا تقع من عاقل يحترم عقـول الناس،

 

وقـد قال أبو رية ص 21 (( قد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصدق بعض ما يفتريه المنافقون )) ونقل ص 142 عن صاحب المنار محتجاً به قوله (( والنبي صلى الله عليه وسلم ما كان يعلم الغيب، فهو كسائر البشر يحمل كلام الناس على الصدق إذا لم تحف به شبهة، وكثيراً ماصدق المنافقين والكفار في أحاديثهم )) فهل يدّعي أبو رية لنفسه درجة لم يبلغها النبي صلى الله عليه وسلم ولا غيره؟ إذن فلن نعدم ممن عرف ما في كتابه هذا وأضعاف أضعافه من يعارضه قائلاً: قد حصل لي ملكة وذوق أعلى مما حصل لك، وأنا أعرف بطلان هذا الذي احتججت به، فتسقط الدعويان، ويقوم العقل والعدل. أما ذكره عن علماء الأمة فستأتي حكايته في ذلك ونبين حالها إن شاء الله. والحق أنه لم يكن في علماء الأمة المرضيين من يرد حديثاً بلغه إلا لعذر يحتمله له أكثر أهل العلم على الأقل، ولو كان حال أبي رية في الرد والعذر كحال أحدهم لساغ أن يقال: يسعه ما يسعهم، وإن كان البون شاسعاً جداً. ولكن له شأن آخر كما يأتي.

قال: قال ابن أبي ليلى(( لا يفقه الرجل في الحديث حتى يأخذ منه ويدع )) وقال عبد الرحمن بن مهدي (( لا يكون إماماً في الحديث من تتبع شواذ الحديث، أو حدث بكل ما يسمع، أوحدث عن كل أحد ))

أقول: هذا موجه إلى فريق من الرواة كانوا يكتبون ويروون كل ما يسمعون من الأخبار، يرون أنه ليس عليهم إلا الأمانة والصدق وبيان الأسانيد، تاركين النقد والفقه في الحديث والإمامة لغيرهم. فأما الأخذ والرد للعمل والاحتجاج، فكل أحد يعلم أنه يؤخذ ما يصح،ويترك ما لا يصح.ومر قريباً حال أو رية في هذا

قال أبو رية (( ولما كان هذا البحث لم يعن به أحد من قبل كما قلنا … )) أقول: قد تقدم أن الذي يسوغ له ادعاؤه هو أنه جمع في كتـابه هذا ما لم يجمع

 

 

في كتاب من قبل، والقناعة راحة

ثم قال (( وكان يجب أن يفرد بالتأليف منذ ألف سنة عندما ظهرت كتب الحديث المعروفة… حتى توضع هذه الكتب في مكانها الصحيح من الدين، ويعرف الناس حقيقة ما روي فيها من أحاديث … ))

8

 
أقول: إن ما جمعه في كتابه من كلام غيره منه ماهو مقبول، ومنه ما يعلم حاله من رسالتي هذه، فأما المقبول فمن مؤلفات/ المحدثين نقل، وفيها أكثر منه وأنفع وأرفع، وأما المرذول فليس له حساب وقد نبهوا عليه في مؤلفاتهم، وكثرة الباطل نقصان، غير أن للباطل هواة: منهم طائقة يثني عليها أبو رية من قلبه، وطائفة لا يرضها ولكنه رأى أن في كلامه ما يعجبها فراح يتملقها في مواضع رجاء أن يروج لديها كتابه كماراج لديها كتاب فلان

ثم قال ص 14 ((ولأن هذا البحث كما قلنا طريف أو غريب ))

أقول: قد خجلت من كثرة مناقشة أبي رية في إطرائه لكتابه، مع أنه عنده بمنزلة ولده يتعزى به عن ولده العزيز مصطقى، ولذلك جعله باسمه كما ذكره أول الكتاب تحت عنوان (( الاهداء )) وأحسبه يتصور أن الرد على كتابه معناه أن يلحق هذا الولد بمصطفى، ولذلك يقول هنا (( وقد ينبعث له من يتطاول إلى معارضته ممن تعفنت أفكارهم وتحجرت عقولهم )) ولو قال: قلوبهم لكان أنسب لحاله

قال (( فقد استكثرت فيه من الأدلة التي لا يرقى الشك إليها، وأتزيد من الشواهد التي لا ينال الضعف منها ))

أقول:

أفرس تحتك أم حمار !

سوف ترى إذا انجلى الغبار

قال: (( وبرغمي أن أنصرف في هذا الكتاب عن النقد والتحليل، وهي الأصول التي يقوم العلم الصحيح في هذا العصر عليها ))

أقول: قد ذكر هو ص 327 أن علماء الحديث قد عرفوا تلك الأصول ونقل عن صاحب المنار قوله (( إن لعلماء فقه الحديث من وراء نقد أسانيد الأخبار والآثار نقدا آخر لمتونها.. ويشاركهم في هذا النوع من النقد رجال الفلسفة والأدب والتاريخ ويسمونه في عصرنا النقد التحليلي )) فإن كان أبو رية يحسنه فإنماً عدل عنه ليتسع له المجال فيما يكره أن يتضح للمثقفين

9

 
لكن قال بعد هذا (( وقد اضطررت إلى ذلك لأن قومنا حديثوا عهد بمثل هذا البحث، على أنى أرجو أن يكون قد انقضى ذلك العهد الذي لا يشيع فيه إلا النفاق العلمي والرثاء الديني، ولا ينشر فيه إلا ما يروج بين الدهماء ويرضي عنه من يزعمون للناس زورا أنهم من المحدِّثين أو العلماء )) وهذا يشعر أو يصرح بأنه يريد بالنقد التحليلي أمراً آخر انصرف برغمه عنه اتقاء لعلماء المسلين وعامتهم وأخذا بنصيب مما يسميه بالنفاق العلمي والرثاء الديني. وفي كتابه أشياء تدل على قرب وأشياء تلد على بعد، وعبارته هذه ونحوها قريب من الضرب الأول وتلفت النظر إلى الثاني، فمنه ما مر في أ ول كتابه من الإشارة إلى أن جميع الذين اشتهروا في القرون الأولى بالعلم والإمامة ليسوا عنده علماء. ويأتي كلامه في الصحابة رضي الله عنهم وهجوه السوقى لأبي هريرة رضي الله عنه ومحاولته قلب محاسنه عيوباً والاستدلال بالحكايات الكاذبة للغض منزه واختلاق التهم / الباطلة لتكذيبه، وذلك ينبئ عن فقر مدقع من توقير النبي صلى الله عليه وسلم واحترام جانبه وجحود شديد لبركة صحبته وملازمته وخدمته، وأهم من ذلك أن أبا رية يقسم الدين إلى عام وخاص، ويقول إن العام هو الدلائل القطعية من القرآن، والسنن العملية المتواترة التي أجمع عليها مسلمو الصدر الأول وكانت معلومة عندهم بالضرورة. انظر ص 350 في كتابه. ثم يعود فيقرر أن الدلائل النقلية كلها ظنية. انظر 353،346منه. وأن الدين كله في القرآن لا يحتاج معه إلى غيره. ((حسبنا كتاب الله )) انظر ص 349 منه، وأنه لا يلزم من الإجماع على حكم مطابقته لحكم الله في نفس الأمر )) انظر ص352منه. ومجموع هذا يقتضي أن يكون الدين كله خاصاً عنده. ومعنى الخاص على ما يظهر من كلامه أن الدين فيما عدا الأمور القضائية (( موكول إلى اجتهاد الأفراد )) كأنه يريد أنه قضية فردية تخص كل فرد فيما بينه وبين الله لا شأن له بغيره ولا لغيره به. وفي الأمور القضائية (( موكول إلى أولى الأمر )) كأنه يريد أن للمقنن أو القاضي أن يأخذ بالحكم الديني إذا وافق رأيه وله أن يدعه. انظر ص 353 منه. وتجده يحتج كثيراً بأقوال لا يعتقد صحتها بل قد يعتقد بطلانها ولكنه يراها موافقة لغرضه. ويحاول إبطال أحاديث صحيحة بشبهات ينتقل الذهن فور إيرادها إلى ورودها على آيات من القرآن. فهذا وأشباهه يجعلنا نشفق على أبي رية ومنه.

قال (( وأرجو كذلك وقد حسرت النقاب عن وجه الحق في أمر الحديث المحمدي الذي جعلوه الأصل الثاني من الأدلة الشرعية بعد السنة العملية.. . )) أقول: نعم نحن المسلمين لا نفرق بين الله ورسله، بل نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله المبلغ لدين الله والمبين لكتاب الله بسنته، بقوله وفعله وغير ذلك مما بين به الدين، ونؤمن وندين بما بلغنا إياه بالكتاب وبالسنة، والأحاديث أخبار عن السنة، إذا ثبتت ثبت ما دلت عليه السنة، ولسنا نحن بالجاعلى السنة بهذه المرتبة، بل الله عزوجل جعلها. وهذا أمر معلوم من الدين بالضرورة، وقد تكفل الله تعالى بحفظ دينه، ووفق الأمة التي وصفها بأنها خير أمة أخرجت للناس فقام أئمتها وعلماؤها بما أمروا به من حفظ الدين وتبليغه على الوجه الذي اختاره الله ورسوله فلم يزل محفوظاً إن خفي بعضه عل الجهال لم يخف على العلماء، وإن خفي على بعض العلماء لم يخف على بقيتهم، وما في كتابك هذا من حق فمنهم نقلته، وباطلك مردود عليك.

قال (( واتخذوا منه أسانيد لتأييد الفرق الإسلامية ودلائل على الخرافــات

 

والأوهام، وقالوا بزعمهم إنها دينية ))

10

 
أقول: ما من فرقة من الفرق الإسلامية إلا ولديها شيء من الحق، وما تسميه أنت خرافات وأوهاما منه ما هو حق وإن / زعمت. والأحاديث التي يثبتها أهل العلم حق ولا يستنكر للحق أن يشهد للحق، وأما الأحاديث الباطلة فمنها ما نصوا على بطلانه وهو كثير، ومنها ما يعرف بالنظر فيه على طريقتهم بطلانه أو وهنه أو على الأقل الشك في صحته.

قال(( وكشفت القناع عما خفي على الناس أمره ))

أقول: أما أهل العلم فلم تزدهم علماً، وأما غيرهم فالذي في كتابك مما يضللهم ويلبس عليهم دينهم أكثر مما قد يفيدهم

ثم قال (( أرجو أن أكون قد وفقت إلى.. . الدفاع عن السنة القولية وحياطتها عما يشوبها، وأن يصان كلام الرسول من أن يتدسس إليه شيء من افتراء الكاذبين، أو ينال منه كيد المنافقين وأعداء الدين، وأن تنزه ذاته الكريمة من أن يعزى إليها إلا ما يتفق وسمو مكانها وجلال قدرها.. .. ))

أقول: أما ما نقله من كتب علماء الحديث من شرائط الصحيح وبيان المعتل وعلامات الموضوع وبيان أن كثيراً من الأحاديث الصحيحة رويت بالمعنى ونحو ذلك فإنه يليق به هذاالوصف. وأما كثير مما نقله عن غيرهم أو جاء به من عنده فوصفه بذلك بمنزلة أن يجمع رجل كتاباً يطعن في آيات كتيرة من القرآن بزعم أنها ليست منه وأن فيه كثيراً من ذلك ثم يزعم أن غرضه هو (( الدفاع عن الكلام الرباني وحياطته عما يشوبه ,أن يصان كلام رب العزة.. .. وأن تنزه ذاته المقدسة من أن يعزى إليها إلا ما يليق بجلالها.. .. )) ونحو ذلك

قال ص15 (( وإذا كان هذا الكتاب سيغير ولا ريب من آراء كثير من المسلمين فيما ورثوه من عقائد.فإنه سيقفهم إن شاء الله على حقائق كثيـــرة تزيدهم تبصرة وعلماً بدينهم، ويحل لهم مشاكل متعددة مما تضيق به صدروهم، ويدفع شبهات يتكئ عليها المخالفون.. . ))

أقول: الكلام على هذا نحو مما قبله.

وبعد فإن أضر الناس على الإسلام والمسلمين هم المحامون الاستسلاميون، يطعن الأعداء في عقيدة من عقائد الإسلام أوحكم من أحكامه ونحو ذلك فلا يكون عند أ ولئك المحامين من الإيمان واليقين والعلم الراسخ بالدين والاستحقاق لعون الله وتأييده ما يثبتهم على الحق ويهديهم إلى دفع الشبهة، فيلجأون إلى الاستسلام بنظام، ونظام المتقدمين التحريف ونظام المتوسطين زعم أن النصوص النقلية لا تفيد اليقين والمطلوب في أصول الدين اليقين، فعزلوا كتاب الله وسنة رسوله عن أصول الدين، ونظام بعض العصريين التشذيب.

وأبو رية يحاول استعمال الأنظمة الثلاثة ويوغل في الثالث، على أن أولئك الذين سميتهم محامين كثيراً ما يكونون هم الخصوم، والباطل جشع، وقد قال الله تبارك وتعالى ( 70:23ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن)

11

 
/ وقال الله عزوجل (120:2ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم، قل إن هدى الله هو الهدى ) وقال سبحانه (100:3 يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين. وكيف تكفرن بالله وأنتم تتلى علكيم آيات الله وفيكم رسوله ) والرسول فينا بسنته. وقال تعالى (217:2 ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا، ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أ عمالهم في الدينا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون)

قال أبو رية ص 15: (( وإني لأتوجه بعملي هذا – بعد الله سبحانه وله العزة- إلى المثقفين من المسلمين خاصة، ولى المعتمين بالدراسات الدينية عامة)) يعني المستشرقين من اليهود والنصارى والملحدين (( ذلك بأن هؤلاء وهؤلاء الذين يعرفون قدره.والله أدعو أن يجدوا فيه جميعاً ما يرضيهم ويرضي العلم والحق معهم ))

أقول: أما المستشرقون فالذي يرضيهم معروف. وأما المثقفون فيريد أبو رية الثقافة الغربية، ويطمع أبا رية فيهم أن يرى أكثرهم عزلاً عن الواقيين الاسلاميين: العلم الديني، والمناعة. وأما علماء المسلمين، وعامتهم وهم مظنة الخير فهم عند أبي رية سفهاء، واقرأ عشرين آية من أول سورة البقرة

ثم ختم أبو رية مقدمته بالدعاء لمجهوده وكتابه.وأنا أسأل الله تبارك وتعالى أن ينفعني والمسلمين ومن شاء من عباده بما في كتابي من صواب، ويقيني وإياهم شر ما فيه من خطأ، ويوفقنا جميعاً لما يحبه ويرضاه


السنة

12

 
/ ثم شرع أبو رية بعد الخطبة في الكتاب فقال في ص 16 (( السنة.. . ))، ونقل عبارات منها عبارة عن تعريفات الجرجاني زاد في آخرها زيادة في نحو ثلاثة أسطر لم أجدها في التعريفات في آخرها (( ثم اصطلح المحدثون على تسمية كلام الرسول حديثاً وسنة )) ثم قال أبو رية (( وقالوا: السنة تطلق في الأكثر على ما أضيف إلى النبي من قول أو فعل أو تقرير ))

أقول: تطلق السنة لغة وشرعاً على وجهين: الأول: الأمر يبتدئه الرجل فيتبعه فيه غيره. ومنه ما في صحيح مسلم في قصة الذي تصدق بصرة فتبعه الناس فتصدقوا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( من سن في الإسلام سنة حسنة فعمل بها بعده كتب له مثل أ جر من عمل بها... )) الحديث. والوجه الثاني: السيرة العامة، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم بهذا المعنى هي التي تقابل الكتاب، وتسمى الهدى.

وفي صحيح مسلم: أ ن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في خطبته (( أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة )) هذا وكل شأن من شئون النبي صلى الله عليه وسلم الجزئية المتعلقة بالدين من قول أو فعل أو كف أو تقرير، سنة بالمعنى الأول،و مجموع ذلك هو السنة بالمعنى الثاني. ومدلولات الأحاديث الثابتة هو السنة أو من السنة حقيقة، فإن أطلقت (( السنة )) على ألفاظها فمجاز أو اصطلاح. وإنما أوضحت هذا لأن أبا رية يتوهم أو يوهم أنه لا علاقة للأحاديث بالسنة الحقيقية.

ثم قال ص17 (( مكان السنة من الدين. جعلوا السنة القولية في الدرجة الثانية أو في الدرجة الثالثة من الدين.. .. وأما الذي هو في الدرجة ا لثانية من الدين فهو السنة العملية ))

 

 

 

 

أقول: المعروف بين أهل العلم قولهم (( الكتاب والسنة )) ثم يقسمون دلالات الكتاب إلى قطعية وغيرها، والسنة إلى متواتر وآحاد، وإلى قول وفعل وتقرير- إلى غير ذلك من التقسيمات. وسيأتي ذكر (( ثلاث مراتب )) من صاحب المنار، وننظر فيه

13

 
فأما منزلة السنة جملة من الدين فلا نزاع بين المسلمين أن ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من أمر الدين فهو ثابت عن الله عز وجل، ونصوص القرآن في ذلك كثيرة، منها (80:4 من يطع الرسول فقد أطاع الله) وكل مسلم يعلم أن الإيمان لا يحصل إلا بتصديق الرسول فيما بلغه عن ربه، وقد بلغ الرسول بسنته كما بلغ كتاب الله عزوجل.

 

ثم تكلم الناس في الترتيب بالنظر إلى التشريع، فمن قائل: السنة قاضية على الكتاب/ وقائل: السنة تبين الكتاب. وقائل: السنة في المرتبة الثانية بعدالكتاب. وانتصر الشاطبي في الموافقات لهذا القول وأطال، ومما استدل به هو وغيره قول الله عزوجل (89:16ويوم نبعث في كل أمة شهيداً عليهم من أنفسهم وجئناً بك شهيداً على هؤلاء، ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة للمسلمين. إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون )

 

قالوا: فقوله (( تبياناً لكل شيء )) واضح في أن الشريعة كلها مبينة في القرآن. ووجدنا الله تعالى قد قال في هذه السورة (44:16 وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون ) فعلمنا أن البيان الذي في قوله ( تبياناً لكل شيء ) غير البيان الموكول إلى الرسول. ففي القرآن سوى البيان المفصل الوافي بيان مجمل وهو ضربان: الأول: الأمر بالصلاة والزكاة والحج والعدل والإحسان وإيتــاء ذي

 

 

القربى، والنهي عن الفحشاء والمنكر والبغي، وتحريم الخبائث، وأكل أموال الناس بالباطل، وغير ذلك.

الثاني: الأمر باتباع الرسول وطاعنه وأخذ ما أتى والاننتهاء عما نهى ونحو ذلك. وفي الصحيحين وغيرهما عن علقمة بن قيس النخعي- وكان أعلم أصحاب عبد الله بن مسعود أو من أعلمهم – قال ((لعن عبد الله ا لواشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله. فقالت أم يعقوب: ما هذا؟ قال عبد الله: ومالي لا ألعن من لعن سول الله وفي كتاب الله؟ قالت: والله لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدته، قال: والله لئن قرأتيه لقد وجدتيه ( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ).

ظاهر صنيع ابن مسعود أن الاعتماد في كون القرآن مبيناً لكل ما بينته السنة على الضرب الثاني. وتعقيب آية التبيان بالتي تليها كأنه يشير إلى أن الاعتماد على ا لضر بين مجتمعين، ورجحه الشاطبي وزعم أن الاستقراء يوافقه. فعلى هذا لا يكون للخلاف ثمرة.

ثم قال قوم: جميع ما بينه الرسول علمه بالوحي. وقال آخرون: منه ماكان باجتهاد أذن الله له فيه وأقره عليه. ذكرهما الشافعي في الرسالة.

ثم قال ص 104 (( وأي هذا كان فقد بين الله أنه فرض فيه طاعة رسوله... )) وبالغ بعضهم فقال: كل ما بلغه الرسول فهمه من القرآن. ونسبه بعض المتأخرين إلى الشافعي، فعلى هذا كان القرآن في حق الرسول تبياناً لكل شيء وتفصيلاً، فأما في حق غيره فعلى ما مر. والله الموفق

14

 
ثم نقل أبور ية كلاما عن موافقات الشاطبي. وكلام الموافقات طويل جداً وفي ماتركه أبو رية منه ما قد يخالف ظاهر بعض مانقله، وإنما الكلام العربي الناصع كلام الشافعي في الرسالة

/ ثم قال أبو رية ص19: (( وكان الإمام مالك يراعي كل المراعـــاة العمل

 

المستمر والأكثر، ويترك ما سوى ذلك وإن جاء فيه أحاديث ))

أقول: كان مالك رحمه الله يدين باتباع الأحاديث الصحيحة إلا أنه ربما توقف عن الأخذ بحديث ويقول: ليس عليه العمل عندنا. يرى أن ذلك يدل على أن الحديث منسوخ أو نحو ذلك.

والانصاف أنه لم يتحرر لمالك قاعدة في ذلك فوقعت له أشياء مختلفة. راجع الأم للشافعي 177:7 – 249. وقد اشتهر عن مالك قوله (( كل أحدٍ يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب هذا القبر )) يعني النبي صلى الله عليه وسلم. وقوله للمنصور إذ عرض عليه أن يحمل الناس على الموطأ: إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تفرقوا في الأمصار فعند أهل كل مصر علم ))

قال أبو رية ص 19 (( وقال [مالك] أحب الأحاديث إلىّ ما اجتمع الناس عليه )) أقول: لا ريب أن المجمع عليه أعلى من غيره مع قيام الحجة بغيره إذا ثبت عند مالك وغيره.

 

ثم حكى عن صاحب المنار قوله (( والنبي مبين للقرآن بقوله وفعله، ويدخل في البيان التفصيل والتخصيص والتقييد، لكن لا يدخل فيه إبطال حكم من أحكامه أو نقض خبر من أخباره، ولذلك كان التحقيق أن السنة لا تنسخ القرآن ))

 

15

 
أقول: أما الإبطال ونقض الخبر بمعنى تكذيبه فهذا لا يقع من السنة للقرآن ولا من بعض القرآن لبعض، فالقرآن كله حق وصدق (42:41 لا يأتيه البطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ) وأما التخصيص والتقييد ونحوهما والنسخ فليست بإبطال ولا تكذيب، وإنما هي بيان.

 

فالتخصيص مثلاً إن اتصل بالخطاب بالعام كأن نزلت آية فيها عموم ونزلت معها آية من سورة أخرى فيها تخصيص للآية الأولى، أو نزلت الآية فتلاهــا النبي

 

 

صلى الله عليه وسلم وبين ما يخصصها فالأمر واضح، إذ البيان متصل بالمبين فكان معه كالكلام الواحد، وإن تأخر المخصص عن وقت الخطاب بالعام ولكنه تبعه وقت العلم بالعام أو عنده فهذا كالأولى عند الجمهور،وهذا مرجعه إلى عرف العر ب في لغتهم كما بينه الشافعي في الرسالة.[قد يكون كذلك في غير العربية، ولكن الشافعي رأى بعض المستعربين يستنكرونه فجوزمخالفة لغاتهم الأعجمية للعربية في ذلك]

أما إذا جاء بعد العمل بالعام ما صورته ا لتخصيص فإنما يكون نسخا جزئياً، لكن بعضهم يسمى النسخ تخصيصاً جزئياً كان أو كلياً نظراً إلى أن اقتضاء الخطاب بالحكم لشموله لما يستقبل من الأوقات عموم، والنسخ إخراج لبعض تلك الأوقات وهو المستقبل بالنسبة إلى النص الناسخ،وهذا مما يحتج به من يجيز نسخ بعض أحكام الكتاب بالسنة.

/قال صاحب ا لمنار (( والعمدة في الدين كتاب الله تعالى في المرتبة الأولى والسنة العملية المتفق عليها في المرتبة الثانية، وما ثبت عن النبي وأحاديث الآحاد فيها رواية ودلالة في الدرجة ا لثالثة ))

 قضية

 خطيرة

 
أقول: قد سبق أن المعروف بين أ هل العلم ذكر الكتاب والسنة ثم يقسمون السنة إلى متواتر وآحاد وغيرذلك. قال (( ومن عمل بالمتفق عليه كان مسلماً ناجياً في الآخرة مقرباً عند الله تعلى. وقد قرر ذلك الغزالي ))

علق أبو رية في الحاشية (( قرر الغزالي ذلك في كتاب القسطاس المستقيم )) وعبارة صاحب المنار في مقدمته لمغني ابن قدامة (( فمن مقتضى أصولهم كلهم وجوب ترك أسباب كل هذا التفرق والاختلاف[أسباب التفرق والاختلاف الواجب تركها باتفاقهم هي الجهل والهوى والتعصب، وكذلك الخطأ بقدر الوسع. فأما أن يترك أحدهم ما يراه حقاً فلا قائل به،بل هو محظور باتفاقهم] حتى قال الغزالي في القسطاس المستقيم

 

بالاكتفاء بالعمل بالمجمع عليه وعد المسائل الظنية المختلف فيها كأن لم تكن ))

كذا قال. والذي في القسطاس ا لمستقيم خلاف هذا، فإن فيه ص89 فما بعدها: أنه يعظ العامي الطالب الخلاص من الخلاف في الفروع بأن يقول له: (( لا تشغل نفسك بمواقع الاختلاف مالم تفرغ من جميع المتفق عليه، فقد اتفقت الأمة على أن زاد الآخرة هو التقوى والورع، وأن الكسب الحلال والمال الحرام والغيبة والنميمة والسرقة والخيانة.. . حرام، والفرائض كلها واجبة، فإن فرغت من جميعها علمتك طريق الخلاص من الخلاف )). قال: (( فإن هو طالبني بها قبل الفراغ من هذا كله فهو جَدَ ليّ وليس بعامي.. . نعم لو رأيتم صالحاً قد فرغ من حدود التقوى كلها وقال ها أنا تشكل عليّ مسائل.. . فأقول له إن كنت تطلب الأمان في طريق الآخرة فاسلك سبيل الاحتياط وخذ بما يتفق عليه الجميع فتوضأ من كل ما فيه خلاف، فإن كل من لا يوجبه يستحبه..  فإن قال: هو ذا يثقل علي.. ..، فأقول له: الآن اجتهد مع نفسك وانظر إلى الأئمة أيهم أفضل..  فمن غلب على ظنك أنه الأفضل فاتبعه )).

حاصل هذا أن الغزالي كان يعلم أن العامة في زمانه ينتسب كل منهم إلى مذهب ويتعصب له، فإن فرض أن أحدهم سأل عن الخلاف وكيف يتخلص منه فلن يكون إلا أحد رجلين: إما فارغاً متليهاً وإما ورعا تقياً، والتقى الورع لابد أن يكون قد شغل فكره المحافظة على الفرائض المتفق عليها وتجنب المحرمات المتفق عليها وعمل بذلك على مذهبه قبل أن يشغله الخلاف. فإذا كان السائل مقصراً مفرطاً وجاء يسأل عن الخلاف فلن يكون إلا متلهيا، فيقال له: ابدأ بالعمل بما تعلمه يقيناً ثم سل، فإن أبى فهو

16

 
جَدَليّ يتعنت في السؤال ولا يهمه العلم، والإعراض عن مثله أولى.

فأما من أتى بما عليه بحسب مذهبه وسأل عن الخلاص / من الخلاف فالظاهر أنه يسأل ليعلم ويعمل، قال الغزالي (( فأقول له: إن كنت تطلب الأمان في طريق الآخرة فاسلك سبيل الاحتياط وخذ بما يتفق عليه الجميع )) وفسر ذلك بما بعده، وذلك يوضح قطعاً أن مراده بما يتفق عليه الجميع أن يلتزم أن يكون وضوؤه الذي يصلي به وضوءاً يتفق العلماء على صحته، يتوضأ من كل ما قال عالم إنه ينقض الوضوء. وهكذا في سائر عمله، يأخذ بالأشد الأشد من أقول المختلفين. وفهم منها صاحب المنار أن لا يتوضأ من شيء قال عالم إنه لا ينقض الوضوء. وهكذا في سائر عمله أيضا ًبالأخف الأخف من أقوال المختلفين. فلينظر العالم أين هذا من ذلك؟

 

على أنه إن لم يتوضأ إلا بما اتفقوا على أنه قد ينقض الوضوء قد يكون وضوؤه باطلاً بإتفاقهم وذلك أن بعض العلماء يوجب الوضوء بمس الذكر ولا يوجبه من خروج الدم، وبعضهم يعكس، فإذا وقع لعامي هذا وهذا ولم يتوضأ فوضوؤه الأول باطل باتفاق الفريقين ومع أن مراد الغزالي الاحتياط الأكيد اقتصر على أن فيه (( الأمان في طريق الآخرة )) ومع أن صاحب المنار قلبه على التفريط الشديد لم يقتصر على أن صاحبه يكون ناجياً في الآخرة بل زاد (( مقربا ً عند الله تعالى ))

 

وبعد فلندع الغزالي وصاحب المنار، ولنرجع إلى الححة، إننا نعلم أن لكثير من علماء الفرق زلات وشواذ مخالفة لدلالات واضحة من القرآن، ولأحاديث تبلغ درجة التواتر المعنوي أو درجة القطع عند من يعرف الرواية والرواة، ومثل هذا غير قليل، فالمقتصر على ما اتفق عليه على ما فهمه صاحب المنار لابد أن يخالف الكتاب والسنة حتماً في كثير من القضايا، هذا في المخالفة القطعية، فأما الظنية فحدَّث عن كثرتها ولا حرج

 

ومن جهة آخرى، فمن المحال عادة أن يكون الحق دائماً من المسائل الخلافية مع المرخصين، فالترخص فيهاكلها ترك متيقن لكثير من الحق. ولنفرض أن جماعة تتبعوا أقوال علماء المسلمين من جميع الفرق ثم جمعوا كتاباً ضمنوه ما اتفق المسلمون على أنه واجب أو حرام أو باطل[انظر هل يسمحون بزيادة (( أو مندوب )) ] وأهملوا ما عدا ذلك، فهل يقال إن من حافظ على ما في الكتاب بدون نظر إلى غيره (( كان مسلماً ناجياً في الآخرة مقربا ًعند الله تعالى )) ثم يستغنى الناس بذاك الكتاب عن كتاب الله وتفسيراته وعن كتب السنة وشروحها ومتعلقاتها، وعن كتب الفقه كلها، ثم لا يعدم المشذبون مقالاً يشكك في ما ضمه ذاك الكتاب،كالشك في تحقق الإجماع وفي حجيته، ولتغير الأحكام بتغير الزمان. وحينئذ يستريح الذين يدعون أنفسهم بالمصلحين من كل أثر للإسلام

وقال ابن حرم في الأحكام 114:3 (( وبالحملة فهذا مذهب لم يخلق له معتقد قط، وهو أن لا يقول القائل بالنص حتى يوافقه الإجماع، بل قد صح الإجماع عل أن قائل هذا القول معتقداً له كافر بلا خلاف، لرفضه القول بالنصوص التي لا خلاف في وجوب طاعتها ))

17

 
هذا وقد برثت ذمة ا لغزالي من ذاك القول كما علمت. وأنا أجل السيد محمد رشيد رشا عن أن يقول به متصوراً حقيقته، وإنما هذا شأن الإنسان كمن يكون على جسر غير محجر فتستولى على ذهنه خشية السقوط من جانب فيتأخر عنه ويتأخر حتى يسقط بغير اختياره من الجانب الآخر.

 

كلام

الرسول

 في الأمور

 الدنيوية

 
بلى من عمل بالمتفق عليه كان مسلماً ناجياً في الآخرة مقرباً عند الله تعالى، وهذا المتفق عليه هو العلم بالدلائل القطعية والظنية من كتاب اللله تعالى ومن سنة رسوله الثابتة قطعاً أو ظناً، فالعالم يتحرى ذلك بالنظر في الأدلة، فإن اشتبهت عليه أو تعارضت أخذ بأحسنها مع تجنب خرق الإجماع الصحيح. والعامي يسأل العلماء ويأخذ بفتواهم، فإن اختلفوا عليه احتاط أو طلب ترجيحاً ما، وإذا علم الله حسن نيته فلابد أن ييسر له ذلك. فأما تقليد الأئمة فمهما قيل فيه فلا ريب أنه خير بكثير من تتبع الرخص. وراجح الموافقات 72:4-86

 

ثم قال أبو رية ص 20 (( حكم كلام الرسول صلى الله عليه وسلم في الأمور الدنيوية.. . ))

 

إلى أن قال: (( أما كلامه صلات الله عليه في الأمور الدنيوية فإنه كما قالوا من الآراء المحضة، ويسميه العلماء إرشاداً أي إن أمره صلى الله عليه وسلم في أي شيء من أمور الدنيا يسمى أمر إرشاد.. . لأنه لا يقصد به القربة ولا فيه معنى التعبد.ومن المعلوم أنه لادليل على وجوب أو ندب إلا بدليل خاص ))

أقول: ليس في هذا الكلام ما يصح أن يكون قاعدة ثابتة، فأمور الدنيا خاضعة لأحكام الشرع، وقد أمر الله تعالى بطاعة رسوله وحذر من المخالفة عن أمره، فأمره صلى الله عليه وسلم بشيء دليل قام على وجوبه، إلا أن يقوم دليل يصرف الأمر عن الوجوب إلى غيره. وتفصيل ذلك في كتب الفقه.

ثم قال(( لأن الرسل غير معصومين في غير التليغ. قال السفارينى.. . قال ابن حمدان.. . (( وإنهم معصومون فيما يؤدونه عن الله تعالى، وليسوا بمعصومين في غير ذلك ))، وقال ابن عقيل.. . لم يعتصموا في الأفعال، بل في نفس الأداء، ولا يجوز عليهم الكذب في الأقوال فيما يؤدونه عن الله تعالى..  وقال القاضي عياض:.. . ))

18

 
أقول:هذا الذي اقتصر عليه أبو رية يوهم أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ليسوا معصومين عن تعمد الكذب في غير التبليغ ولا عن الكبائر لا عن صغائر الخسة. وفي هذه الكتب التي نقل عنها وغيرها بيان عصمتهم عن ذلك وعن غيره مماترى تفصيله فيها.

ا حتاج أبو رية إلى صنعيه ليرد كثيراً من الأحاديث الصحيحة بزعم أنها لم تكن على وجه التبليغ، وأن الأنبياء إنما عصموا من الكذب في التبليغ. فليتدبر القارئ/ هذا مع قول أبي رية نفسه في حاشية ص39 (( ولعنة الله على الكاذبين، متعمدين وغير متعمدين )) !

وذكر قصة التأبير، فدونك تحقيقها: أخرج مسلم في صحيحه من حديث طلحة قال (( مررت مع رسول الله صلى الله عل يوسلم بقوم على رءوس النخل فقال: ما يصنع هؤلاء ؟ فقالوا: يلقحونه، يجعلون الذكر في الأنثى فيلقح، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أظن يغني ذلك شيئاً. قال فأخبروا بذلك فتركوه، فأخبر رسول الله صلى ا لله عليه وسلم بذلك، فقال: إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه، فإني إنما ظننت ظناً فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئاً فخذوا به فإني لن أكذب على الله عز وجل )).

ثم أخرجه عن رافع بن خديج وفيه (( فقال لعلكم لولم تفعلوا كان خيراً. فتركوه فنقضت.. فقال: إنما أنا بشر، إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر. قال عكرمة: أو نحو هذا ))

ثم أخرجه عن حماد بن سلمة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، وعن ثابت عن أنس.. . )) وفيه (( فقال: لو لم تفلعوا لصلح ))‑ وقال في آخره (( أنتم أعلم بأمر دنياكم )) عادة مسلم أن يرتب روايات الحديث بحسب قوتها:يقدم الأصح فالأصح. قوله صلى الله عليه وسلم في حديث طلحة (( ما أظن يغني ذلك شيئاً، إخبار عن ظنه، وكذلك كان ظنه، فالخبر صدق قطعاً، وخطأ الظن ليس كذباً، وفي معناه قوله في حديث رافع (( لعلكم.. . )) وذلك كما أشار إليه مسلم أصح مما في رواية حماد، لأن حماداً كان يخطئ.

وقوله في حديث طلحة ((( فإني لن أكذب على الله )) فيه دليل على امتناع أن يكذب على الله خطأ، لأن السياق في احتمال الخطأ، وامتناعه عمداً معلوم من باب أولى، بل كان معلوماً عندهم قطعاً. ونقل عن شفاء عياض قال (( وفي حديث ابن عباس في الخرص: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما أنا بشر، فما حدثتكم عن الله فهو حق، وما قلت فيه من قبل نفسي فإنما أنا بشر أخطئ، وأصيب )).

أقول: ذكر شارح الشفاء أن البزار أخرجه بسند حسن، وتحسين المتأخرين فيه نظر، فإن صح فكأنهم مروا بشجر مثمر فخرصوه يجربون حدسهم، وخرصها النبي صلى الله عليه وسلم فجاءت على خلاف خرصه. ومعلوم أن الخرص حزر وتخمين،  فكأن الخارص يقول: أظن كذا. وقد مر حكمه.والله أعلم

19

 
وقال أبو ريةقبل هذا (( وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصدق بعض ما يفتريه المنافقون كما وقع في غزووة تبوك وغيرها، وصدق بعض أزواجه، وتردد في حديث الإفك..  حتى نزل عليه آيات البراءة )). وذكر ص142 عن صاحب المنار: ((.... والنبي صلى الله عليه وسلم ماكان يعلم الغيب فهو كسائر البشر/ يحمل كلام الناس على الصدق إذ لم تحف به شبهة، وكثيراً ما صدق المنافقين والكفار في أحاديثهم. وحديث العرنيين وأصحاب بئر معونة مما يدل على ذلك..  إذ أذن لبعض المعتذرين من المنافقين في التخلف عن غزوة تبوك،وما علله به وهو قوله تعالى ( عفا الله عنك، لم أذنت لهم حتى بتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين ) وإذا جاز على الأنبياء والمرسلين أن يصدقوا الكاذب فيما لا يخل بأمر الدين.. . ))

وذكر ص22 عن عياض حيدث (( فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض فأحسب أنه صادق فأقضي له )) وفي رواية (( ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فاقضي له على نحو ما أسمع.. . ))

أقول: لم يكن صلىالله عليه وسلم يعلم من الغيب ما لم يعلمه الله تعالى به، ولم يكن - بأبي وأمي- مغفلاً، ولم يصدق المنافقين أي يعتقد صدقهم، بل ولا ظنه، وإنما كان الأمر عنده على الاحتمال. ولهذا عاتبه الله عزوجل على الإذن لهم، هذا واضح بجمد الله.

والعرنيون لم يتحقق منهم كذب، فلعلهم كانوا صادقين في إسلامهم وإنما بدا لهم أن يرتدوا لما وجدوا أنفسهم منفردين بالإبل والراعي بعيداً عن المدينة. وقصة بئر معونة اختلف فيها فلم يتحقق فيها شاهد على ما نحن فيه. راجح فتح الباري 296:7.

وقصته مع بعض أزواجه أراها في الصحيحين عن عائشة (( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمكث عند زينب بنت جحش ويشرب عندها عسلاً، فتواصيت أنا وحفصة أن أيتنا دخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم فلتقل: إني لأجد منك ريح مغافير، أكلت مغافير؟ فدخل على إحداهما فقالت له ذلك فقال: لا، بل شربت عسلاً عند زينب بنت جحش ولن أعود له. فنزلت ( يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله

 

لك ) إلى ( إن تتوبا إلى الله ) لعائشة وحفصة.. . ))

 

وتمام الآية(لم تحرِّم ما أحل الله لك تبتغي مرضاتك أزواجك،والله غفور رحيم ) ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم صدق المرأة في أن لذاك العسل رائحة كريهة لكان امتناعه لكراهيتها، وكذلك كان خلقه الكريم المطلوب منه شرعاً، وسياق الآية تخالف ذلك كا هو واضح.

 

فالذي يظهر أنه صلى الله عليه وسلم فطن للحيلة وعلم أن قائلة ذلك إنما غارت لطول مكثه عند ضرتها وانفرادها بسقيه العسل الذي يحبه، فحملتها شدة ا لغيرة، فتكرم فلم يكاشفها، وامتنع من شرب العسل عند ضرتها تطييباً لنفسها

وأما تردده في قصة الإفك فليس فيه ما يوهم التصديق ولا ظن الصدق

وأما قوله (( فأحسب أنه صادق )) فالحسبان هو الظن،ولينظر سند هذه الرواية

20

 
/وذكر (ص22) عن شفاء عياض (( فأما ما تعلق منها (أي معارف الأنبياء) بأمر الدنيا فلا يشترط في حق الأنبياء العصمة من عدم معرفة الأنبياء ببعضها أو اعتقادها على خلاف ما هي عليه ))

 

أقول: كلمة (( اعتقادها )) فيهانظر، فينبغي أن يقال بدلها (( ظنها ))

 

كتابة الحديث

 
كتابة الحديث في عهد النبي صلى الله عليه وسلم

 

تعرض أبو رية (ص7-8) لهذه القضية، ثم أفردها بفصل (ص23)، فمما قاله ((... تضافرت الأدلة.. . على أن أحاديث الرسول صلوات الله عليه لم تكتب في عهد النببي صلى الله عليه وسلم كما كان يكتب القرآن، ولا كان لها كتاب يقيدونها عند سماعها منه وتلفظه بها..  ))

أقول: قد وقعت كتابة في الجملة كما يأتي، لكن لم تشمل ولم يؤمر بها أمراً.

 

 

أما حكمة ذلك فمنها: أن الله تبارك وتعالى كما أراد لهذه الشريعة البقاء أراد سبحانه أن لايكلف عباده من حفظها إلا بما لا يشق عليهم مشقة شديدة، ثم هو سبحانه يحوطها ويحفظها بقدرته، كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي يعجل بقراءة مايوحى إليه قبل فراغه خشية أن ينسى شيئاً منه، فأنزل الله عليه (114:20 ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يُقضى إليك وحيه، وقل رب زدني علماً ) وقوله (16:75- لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه، فإذا قرأنه فاتبع قرآنه، ثم إن علينا بيانه ) وقوله (6:87- سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله إنه يعلم الجهر وما يخفى ونيسرك لليسرى )

وكانت العرب أمة أمية يندر وجود من يقرأ أو يكتب منهم، وأدوات الكتابة عزيزة ولا سيماما يكتب فيه، و كان الصحابة محتاجين إلى ا لسعي في مصالحهم، فكانوا في المدينة منهم من يعمل في حائطه، ومنهم من يبايع في الأسواق، فكان التكليف بالكتابة شاقاً، فاقتصر منه على كتابة ما ينزل من القرآن شيئاً فشيئاً ولو مرة واحدة في قطعة من جريد النخل أو نحوه تبقى عند الذي كتبها.

وفي صحيح البخاري وغيره من حديث زيد بن ثابت في قصة جمعه القرآن بأمر أبي بكر (( فتتبعتُ القرآن أجمعه من العُسُب واللخاف وصدور الرجال، حتى وجدت آخر سورة ا لتوبة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أ جدها مع أحد غيره ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم ) حتى خاتمة سورة براءة ))

21

 
وفي فتح الباري: أن العسب جريد النخل، ,إن اللخاف الحجارة الرقاق، وإنه وقع في رواية: القصب والعسب والكرانيف وجرائد النخل، ووقع في روايات أخر ذكر الرقاع وقطع الأديم والصحف.

 

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يلقن بعض أصحابه ما شاء الله من القرآن ثم يلقن بعضهم بعضاً، فكان القرآن محفوظاً جملة في صدورهم ومحفوظاً بالكتابــة في

 

 

قطع مفرقة عندهم. والمقصود أنه اقتصر من كتابة القرآن على ذاك القدر إذ كان أكثر منه شاقاً عليهم، وتكفل الله عزوجل بحفظه في صدورهم وفي تلك القطع، فلم يتلف منها شيء، حتى جمعت في عهد أبي بكر، ثم لم يتلف منها شيء حتى كتبت عنها المصاحف في عهد عثمان، وقد الله تعالى (9:15 إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون )، وتكفله سبحانه بحفظ لا يعفي المسلمين أن يفعلوا ما يمكنهم كما فعلوا – بتوفيقه لهم – في عهد أبي بكر، ثم في عهد عثمان. فأما السنة فقد تكفل الله بحفظها أيضا، لأن تكفله بحفظ القرآن يستلزم تكفله بحفظ بيانه وهو السنة، وحفظ لسانه وهو العربية، إذ المقصود بقاء الحجة قائمة والهداية باقية بحيث ينالها من يطلبها، لأن محمداً خاتم الأنبياء وشريعته خاتمة الشرائع. بل دل على ذلك قوله ( ثم إن علينا بيانه )، فحفظ الله السنة في صدور الصحابة والتابعين حتى كتبت ودونت كما يأتي، وكان التزام كتابتها في العهد النبوي شاقاً جداً، لأنها تشمل جميع أقول النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وأحواله وما يقوله غيره بحضرته أو يفعله وغير ذلك. والمقصود الشرعي منها معانيها، ليست كالقرآن المقصود لفظه ومعاناه، لأن كلام الله بلفظه ومعناه، ومعجز بلفظه ومعناه، ومتعبد بتلاوته بلفظه بدون أدنى تغيير، لاجرم خفف الله عنهم واكتفى من تبليغ السنة غالباً بأن يطلع عليها بعض الصحابة، ويكمل الله تعالى حفظها وتبليغها بقدرته التي لا يعجزها شيء، فالشأن في هذا ا لأمر هو العلم بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد بلغ ما أمر به التبليغ الذي رضيه الله منه، وأن ذلك مظنة بلوغه إلى من يحفظه من الأمة ويبلغه عند الحاجة ويبقى موجوداً بين الأمة، وتكفل الله تعالى بحفظ دينه يجعل تلك المظنة مئنة، فتم الحفظ كما أراد الله تعالى، وبهذا التكفل يدفع ما يتطرق إلى تبليغ القرآن كاحتمال تلف بعض القطع التي كتبت فيها الآيات، واحتمال أن يغير فيها من كانت عنده ونحو ذلك.

ومن طالع تراجم أئمة الحديث من التابعين فمن بعدهم وتدبر ما آتاهم الله تعالى من قوة الحفظ والفهم والرغبة الأكيدة في الجد والتشمير لحفظ النسة وحياطتها بان له ما يحير عقله، وعلم أن ذلك ثمرة تكفل الله تعالى بحفظ دينه. وشأنهم في عظيم جداً، أو هو عبادة من أعظم العبادات وأشرفها، وبذلك يتبين أن ذلك من المصالح المترتبة على ترك كتابة الأحديث كلها في العهد النبوي، إذ لو كتبت لانسد باب تلك العبادة وقد قال الله تعالى (56:51 وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ).

22

 
وثم مصالح أخرى منها: تنشئة علوم تحتاج إليها الأمة، فهذه الثروة العظيمة التي بيد المسلمين من تراجم قدمائهم، إنما جاءت من احتياج المحدثين إلى معرفة أحوال الرواة، فاضطروا إلى تتبع ذلك، وجمع التواريخ والمعاجم، ثم تبعهم غيرهم.

ومنها: الإسناد الذي يعرف به حال الخبر، كان بدؤه في الحديث ثم سرى إلى التفسير والتاريخ و الأدب.

 هل نهى

عن الكتابة

 
هذا والعالم الراسخ هو الذي إذا حصل له العلم الشافي بقضية لزمها ولم يبال بما قد يشكك فيها، بل إما أن يعرض عن تلك المشككات، وإما أن يتأملها في ضوء ما قد ثبت، فههنا من تدبر كتاب الله وتتبع هدي رسوله ونظر إلى ما جرى عليه العمل العام في عهد أصحابه وعلماء أمته بوجوب العمل بأخبار الثقات عن النبي صلى الله عليه وسلم وأنها من صلب الدين، فمن أعرض عن هذا وراح يقول: لماذالم تكتب الأحاديث ؟ بماذا، لماذا؟ ويتبع قضايا جزئية- إما أن لا تثبت، وإما أن تكون شاذة،وإما أن يكون لها محمل لا يخالف المعلوم الواضح – من كان شأنه فلا ريب في زيغه

 

هل نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كتابة الحديث

قال أبو رية (ص23): (( وقد جاءت أحاديث صحيحة وآثار ثابتة تنهى كلها عن كتابة أحاديثه صلى الله عليه وسلم ))

أقول: أما الأحاديث فإنما هي حديث مختلف في صحته، وآخر متفق على ضعفه.

فالأول: حديث مسلم وغيره عن أبي سعيد الخدري مرفعاً (( لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه، وحدثوا عني ولا حرج، ومن كذب عليّ-قال همام: أ حسبه قال (( متعمداً ))– فليتبوأ مقعده من النار )) هذا لفظ مسلم.  وذكره أبو رية مختصراً، وذكر لفظين آخرين، وهو حديث واحد. والثاني: ذكره بقوله (( ودخل زيد بن ثابت على معاوية فسأله عن حديث وأمر إنساناً أن يكتبه فقال له زيد: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا أن لا نكتب شيئا من حديثه. فمحاه ))  وقد كان ينبغي لأبي رية أن يجري على الطريقة التي يطريها وهي النقد التحليلي فيقول: معقول أن لا يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتابة أحاديثه لقلة الكتبة وقلة ما يكتب فيه والمشقة، فأما أن ينهى عن كتابتها ويأمر بمحوها فغير معقول، كيف وقد أذن لهم في التحديث فقال (( وحدثوا عني ولا حرج )).

23

 
أقول: إما حديث أبي سعيد ففي فتح الباري (185:1): (( منهم (يعني الأئمة ) من أعلّ حديث أبي سعيد وقال: / الصواب وقفه على أبي سعيد، قاله البخاري وغيره (( أي الصواب أنه من قول أبي سعيد نفسه، وغلط بعض الرواة فجعله عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أورد ابن عبد البر في كتاب العلم (64:1) قريباً من معناه موقوفاً عن أبي سعيد من طرق لم يذكر فيها النبي صلى الله عليه وسلم. وأما حديث زيد بن ثابت فهو من طريق كثير بن زيد عن المطلب بن عبد الله بن حنطب قال: دخل زيد بن ثابت الخ. وكثير غير قوي، والمطلب لم يدرك زيداً.  أما البخاري فقال في صحيحه (( باب كتابة العلم )) ثم ذكر قصة الصحيفة التي كانت عند علي رضي الله عنه، ثم خطبة النبي صلى الله عليه وسلم زمن الفتح وسؤال رجل أن يكتب له،فقال النبي صلى الله عليه وسلم (( اكتبوا لأبي فلان )) وفي غير هذه الرواية (( لأبي شاه )) ثم قول أبي هريرة (( ما من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحد أكثر حديثاً عنه مني إلا ما كان من عبد الله بن عمرو، فإنه كان يكتب وأنا لا أكتب ))  ثم حديث ابن عباس في قصة مرض النبي صلى الله عليه وسلم، وقوله (( ائتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده )) وفي بعض روايات حديث أبي هريرة في شأن عبد الله بن عمرو (( استأذن رسول الله صلى اله عليه وسلم أن يكتب بيده ما سمع منه فأذن له )) رواه الإمام أحمد والبيهقي.  قال في فتح الباري (185:1): (( إسناده حسن، وله طريق أخرى.. .)) وله شاهد من حديث عبد الله بن عمرو نفسه جاء من طرق، راجح فتح الباري والمستدرك (104:1) ومسند أحمد بتحقيق الشيخ أ حمد محمد شاكر رحمه الله الحديث: 0 651 وتعليقه. وقد ا شتهرت صحيفة عبد الله بن عمرو التي كتبها عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يغتبط بها ويسميها (( الصادقة )) وبقيت عند ولده يروون منها، راجح ترجمة عمرو بن شعيب في تهذيب التهذيب. أما مازعمه أبو رية أن صحيفة عبد الله بن عمرو إنما كانت فيها أذكار وأدعية فباطل قطعاً.  أما زيادة ما انتشر عن أبي هريرة من الحديث عما انتشر عن عبد الله بن عمرو؛ فلأن عبد الله لم يتجردللرواية تجرد أبي هريرة، وكان أبو هريرة بالمدينة وكانت دار الحديث لعناية أهلها بالرواية،ولرحلة الناس إليها لذلك، وكان عبد الله تارة بمصر،وتارة بالشام، وتارة بالطائف، مع أ نه كان يكثر من الأخبار عما وجده من كتب قديمة باليرموك، وكان الناس لذلك كأنهم قليلو الرغبة في السماع منه، ولذلك اكان معاوية وابنه قد نهياه عن التحديث.

فهذه الأحاديث، وغيرها مما يأتي إن لم تدل على صحة قول البخاري وغيره: إن حديث أبي سعيد غير صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإنها تقضي بتأويله، وقد ذكر في فتح الباري أوجها للجمع، والأقرب ما يأتي: قد ثبت في حديث / زيد بن ثابت في جمعه القرآن (( فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف ))، وفي بعض رواياته ذكر القصب وقطع الأديم. وقد مر قريبا ً(ص20)، وهذه كلها قطع صغيرة، وقد كانت تنزل على النبي صلى الله عليه وسلم الآية والآيتان فكان بعض الصحابة يكتبون في تلك القطع فتتجمع عند الواحد منهم عدة قطع في كل منها آية أو آيتان أو نحوها وان هذا هو المتيسر لهم، فالغالب أنه لو كتب أحدهم حديثا ًلكتبه في قطعة من تلك القطع، فعسى أن يختلط عند بعضهم القطع المكتوب فيها الأحاديث بالقطع المكتوب فيها الآيات، فنهوا عن كتابة الحديث سد للذريعة.

24

 
أما قول أبي رية (ص27): (( هذا سبب لا يقتنع به عاقل عالم.. . اللهم [ إلا ] إذا جعلنا ا لأحاديث من جنس القرآن في البلاغة وأن أسلوبها في الإعجاز من أسلوبه ))  فجوابه: أن القرآن إنما تحدى أن يؤتى بسورة من مثله، والآية والآيتان دون ذلك. ولا يشكل على هذا الوجه صحيفة علي، لأنه جمع فيها عدة أحكام،  وكان علي لا يخشى عليه الالتباس. ولا قصة أبي شاه، لأن أبا شاه لم يكن ممن يكتب القرآن، وإنما سأل أن تكتب له تلك الخطبة. ولا قوله صلى الله عليه وسلم في مرض موته: أئتوني بكتاب الخ. لأنه لوكتب لكان معروفاً عند الحاضرين وهم جمع كثير.  ولاقضية عبد الله بن عمرو، فإنه فيما يظهر حصل على صحيفة فيها عدة أوراق، فاستأذن أن يكتب فيها الأحاديث فقط.  وكذلك الكتب التي كتبها النبي صلى الله عليه وسلم لعماله وفيها أحكام الصدقات وغيرها، وكان كلها أو أكثرها مصدراً بقوله (( من محمد رسول الله الخ )) هذا كله على فرض صحة حديث أبي سعيد.  أما على ما قاله البخاري وغيره من عدم صحته عن النبي صلى الله عليه وسلم فالأمر أوضح، وسيأتي ما يشهد لذلك. قال أبو رية (ص23): وروى الحاكم بسنده عن عائشة قالت: جمع أبي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت خمسمائة حديث، فبات يتقلب.. . فلما أصبح قال: أي بنية هلمي الأحاديث التي عندك، فجئته بها فأحرقها، وقال: خشيت أن أموت وهي عندك فيكون فيها أحاديث عن رجل ائتمنته ووثقت به ولم يكن كما حدثني فأكون قد تقلدت ذلك.  زاد الأحوص بن المفضل في روايته: أو يكون قد بقى حديث لم أجده فيقال: لو كان قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم ما خفي على أبي بكر )).

أقول: لو صح هذا لكان حجة على ما قلناه، فلو كان النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كتابة الأحاديث مطلقاً لما كتب أبو بكر. فأما الإحراق فلسبب أو سببين آخرين كما رأيت. لكن الخبر ليس بصحيح، أحال به أبو رية على تذكرة الحفاظ للذهبي وجمع الجوامع للسيوطي ولم يذكر طعنهما فيه، ففي التذكرة عقبه (( فهذا لا يصح )).

25

 
وفي كنز العمال (237:5) – وهو ترتيب جمع الجوامع ومنه أخذ أبو رية-: (( قال ابن كثير هذا غريب من هذا الوجه جداً،. وعلي بن صالح  أحد رجال سنده  لا يعرف )

أقول: وفي السند غيره ممن فيه نظر. ثم وجهه ابن كثير على فرض صحته.

قال أبو رية (24): (( وروى حافظ المغرب ابن عبد البر والبيهقي في المدخل عن عروة: أن عمر أراد أن يكتب السنن فاستفتى أصحاب رسول الله في ذلك – ورواية البيهقي: فاستشار – فأشاروا عليه أن يكتبها، فطفق عمر يستخير الله شهراً، ثم أصبح يوماً وقد عزم الله له فقال: إني كنت أريد أن أكتب السنن، وإني ذكرت قوماً كانوا قبلكم كتبوا كتباً فأكبوا عليها وتركوا كتاب الله، وإني والله لا أشوب كتاب الله بشيء أبداً. ورواية البيهقي لا ألبس بكتاب الله بشيء أبداً )).

أقول:  وهذا وإن صح حجة لما قلناه، فلو كان النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كتابة الأحاديث مطلقا ً لماهم بها عمر وأشاربها عليه الصحابة، فأما عدوله عنها فلسبب آخر كما رأيت.

لكن الخبر منقطع لأن عروة لم يدرك عمر: فإن صح فإنماً كانت تلك الخشية في عهد عمر ثم زالت. وقد قال عروة نفسه كما في ترجمته من تهذيب التهذيب: (( وكنا نقول لا نتخذ كتاباً مع كتاب الله، فمحوت كتبي. فوالله لوددت أن كتبي عندي وإن كتاب الله قد استمرت مريرته )) يعني قد استقر أمره وعلمت مزيته وتقرر في أذهان الناس أنه الأصل، والسنة بيان له. فزال ماكان يخشى من أ ن يؤدي وجود كتاب للحديث إلى أن يكب الناس عليه، ويدعوا القرآن.

 

قال أبو رية (( وعن يحيى بن جعدة أن عمر بن الخطاب  أراد أن يكتب السنة، ثم بدا له أن لا يكتبها، ثم كتب إلى الأمصار من كان عنده شيء فليمحه )).

أقول: وهذا منقطع أيضاً، يحيى بن جعدة لم يدرك عمر، عروة أقدم منه وأعلم جداً، وزيادة يحيى منكرة، لوكتب عمر إلى الأمصار لاشتهر ذلك، وعنده علي وصحيفته، وعند عبد الله بن عمرو صحيفة كبيرة مشهورة.

قال أبو رية (( وروى ابن سعد عن عبد الله بن العلاء قال: سألت القاسم ابن محمد بن يملى على أحاديث فقال: إن الأحاديث كثرت على عهد عمر بن الخطاب فأنشد الناس أن يأتوه بها، فلما أ توه بها أمر بتحريقها: مثناة كمثناة أهل الكتاب. قال فمنعني القاسم بن محمد يومئذ أن أكتب حديثاً )).

26

 
أقول: وهذا منقطع أيضاً إنماولد القاسم بعد وفاة عمر ببضع عشرة سنة. ثم ذكر خبر زيد بن ثابت وقد مر ثم قال (( وعن جابر بن عبد الله بن يسار قال: سمعت علياً يخطب يقول: أعزم على كل من عنده كتاب إلا رجع فمحاه فإنما هلك الناس حين تتبعوا أحاديث علمائهم وتركوا كتاب ربهم ))

/ أقول ذكره ابن عبد البر من طريق شعبة عن جابر، ولم أ جد لجابر بن عبد الله بن يسار ذكرا وقد استوعب صاحب التهذيب مشايخ شعبة في ترجمته ولم يذكر فيهم من اسمه جابر إلا جابر بن يزيد الجعفي، فلعل الصواب (( جابر عن عبد الله بن يسار )) وجابر الجعفي ممقوت كان يؤمن برجعة على إلى الدنيا، وقد كذبه جماعة في الحديث منهم أبو حنيفة، وصدقه بعضهم في الحديث خاصة بشرطان يصرح بالسماع. ولم يصرح هنا،. وعبد الله بن يسار لا يعرف. وقد كان عند علي نفسه صحيفة فيها أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم كما مر. فإن صحت هذه الحكاية فإنما قال (( أحاديث علمائهم )) ولم يقل (( أحاديث أنبيائهم، وكلمة (( حديث ))بمعنى (( كلام )) واشتهارها فيما كان عن النبي صلى الله عليه وسلم اصطلاح متأخر، وقد كان بعض الناس يثبتون كلام علي في حياته، وفي مقدمة صحيح مسلم عن ابن عباس ما يعلم منه أنه كان عنده كتاب فيه قضاء علي، منها ما عرفه ابن عباس ومنها ما أنكره ولفظه (( فدعا بقضاء علي فجعل يكتب منه أشياء، ويمر به الشيء فيقول: والله ما قضى بهذا علي إلا أن يكون ضل، ثم ذكر عن طاوس قال (( أتى ابن عياش بكتاب فيه قضاء علي.. . )).

فإن صحت هذه الحكاية فكأن بعض الناس كتب شيئاً من كلام علي أو غيره من العلماء فتناقله الناس فبلغ علياً ذلك فقال ما قال.

قال أبو رية (( وعن الأسود بن هلال قال: أتى عبد الله بن مسعود بصحيفة فيها حديث فدعاء بماء فمحاها ثم غسلها ثم أمر بها فأحرقت ثم قال: أذكر الله رجلا يعلمها عند أ حد إلا أعلمني به، والله لو أعلم أنها بدير هند لبلغتها. بهذا هلك أهل الكتاب قبلكم حين نبذوا كتاب الله وراء ظهوركم كأنهم لا يعلمون ).

أقول روى الدارمي هذه القصة من وجه آخر (( عن الأشعت [بن أبي الشعتاء سليم بن أسود ] عن أبيه – وكان من أ صحاب عبد الله قال: رأيت مع رجل صحيفة فيها: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر. فقلت له: أنسخنيها، فكأنه بخل بها، ثم وعدني أن يعطينيها، فأتيت عبد الله فإذا هي بين يديه فقال: إن ما في هذا الكتاب بدعة وفتنة وضلالة.. . أفسم لو أنها ذكرت له بدار الهند (كذا) – أراه يعني مكاناً بالكوفة بعيداً – إلا أتيته ولو مشياً ).

لا ريب أنه لم يكن في الصحيفة تلك الكلمات وفقط وإلا ما طلب استنساخها لأنه قد حفظها فيمكنه أن يكتبها إن شاء من حفظه. وعند الدارمي قصة أخرى تفسر لنا هذه، ذكرها في باب كراهية أخذ الرأي، وفيها: إن قوماً تحلقوا في المسجد (( في كل حلقة رجل وفي أيديهم حصى فيقول: كبروا مائة، فيكبرون، فيقول: هللوا مائة فيهللون.. . )) وذكر إنكار ابن مسعود عليهم فكأنه كان في تلك الصحيفة وصف طريقة للذكر بتلك الكلمات ونحوها بعدد مخصوص وهيأة مخصوصة كما يبينه قول ابن مسعود (( إن ما في الكتاب بدعة وفتنة وضلالة )).

27

 
وقد ذكر الدارمي رواية أ خرى في صحيفة جئ بها من الشام فمحاها ابن مسعود. وفيها ((فقال مرة [ابن شرحبيل الهمداني أحد كبار أصحاب ابن مسعود]: أما إنه لوكان من القرآن أو السنة لم يمحه، ولكن كان من كتب أهل الكتاب )).

ثم قال أبو رية ص25 (( هناك غير ذلك أخبار كثيرة.. . )).

أقول:  ذكر ابن عبد البر عن مالك (( أن عمر أراد أن يكتب الأحاديث أو كتبها ثم قال: لا كتاب مع كتاب الله )) وهذا معضل، وقد مرت رواية عروة عن عمر وبيان وجهها.

وذكر عن أبي بردة بن أ بي موسى أنه كتب من حديث أبيه، فعلمه أبوه فدعا بالكتاب فمحاه. وقد أخرج الدارمي نحوه ثم أخرج عن أبي بردة عن أبيه (( أن بني إسرائيل كتبوا كتاباً فتتبعوا وتركوا التوراة )) وهذا كما مر عن عمر.

وذكر عن أبي نضرة قال (( قيل لأبي سعيد [ الخدري ] لو أكتبتنا الحديث فقال: لا نكتبكم، خذوا عنا كما أخذنا عن نبينا صلى الله عليه وسلم، ثم ذكره من وجه آخر في سنده من لم أ عرفه وفيه (( أتريدون أن تجعلوها مصاحف )) ثم من وجه ثالث بنحوه. وهذا من أبي سعيد بمعنى ما مر عن عمر وأبي موسى.

وذكر عن سعيد بن جبير قال (( كنا نختلف في أشياء فكتبتها في كتاب ثم أتبت بها ابن عمر أ سأله عنها خفياً فلو علم بها كانت الفيصل بيني وبينه )) في رواية كتب إلي أهل الكوفة مسائل ألقى بها ابن عمر، فلقيته فسألته عن الكتاب ولو علم أن معي كتاباً لكانت الفيصل بيني وبينه )). وهذا ليس مما نحن فيه إ نما هوباب كراهية الصحابة أن تكتب فتاواهم وما يقولونه برأيهم.

وذكر عن ابن عباس أنه قال (( إنا لا نكتب العلم ولا نكتبه )). وقد ذكر عن هارون بن عنترة عن أبيه أن ابن عباس أرخص له أن يكتب.

هذا وقد أخرج الدارمي بسند رجاله ثقات عن أنس أنه كان يقول لبنيه (( يا بني قيدوا هذا العلم )) وذكر ابن عبد البر ولفظه (( قيدوا العلم بالكتاب )) وروى هذا من قول النبي صلى الله عليه وسلم ومن قول عمر ومن قول ابن عمر، وإنما يصح من قول أنس رضي الله عنه.

وروى الدارمي وابن عبد البر وغيرهما بسند حسن أن أبا أمامة الباهلي رضي الله عنه سئل عن كتاب العلم فقال: لا بأس به.

28

 
وأخرج الدارمي وغيره بسند رجاله ثقات عن بشير بن نهيك وهو ثقة قال (( كنت أكتب ما أسمع من / أبي هريرة، فلما أردت أن أفارقه أتيته بكتابه فقرأته عليه وقلت له: هذا ما سمعت منك؟ قال: نعم )).

فالحاصل أن ما روى عن عمر وأبي موسى من الكراهة إنما كان كما صرحا به خشية أن يكب الناس على الكتب ويدعوا القرآن، وأما من  عاش بعدهما من الصحابة فمنهم أ بو سعيد بقي على الامتناع، ومنهم ابن عباس امتنع ورخص، ومنهم من رأى أنه قد زال المانع كما قال عروة الراوي امتناع عمر (( إن كتاب الله قد استمرت مريرته )) وقد مر ذلك ورأوا أن الحاجة إلى الكتابة قد قويت لأن الصحابة قد قلوا وبقاء الأحاديث تتناقل بالسماع والحفظ فقط لا يؤمن معه الخلل فرأوا للناس الكتابة كما مر عن أبي هريرة وأبي أمامة وأنس رضي الله عنهم.

 

وأما التابعون فغلبت فيهم الكتابة إلا أن من كان ذا حافظة نادرة كالشعبي والزهري وقتادة كانوا لا يرون إبقاء الكتب لكن يكتب ما يسمع ثم يتحفظه فإذا
أتقنه محاه- وأكثرهم كانت كتبه باقية عنده كسعيد بن جبير والحسن البصري وعبيدة السلماني ومرة الهمداني وأبي قلابة الجرمي وأبي المليح وبشير بن نهيك وأيوب السختياني ومعاوية بن قرة ورجاء بن حيوة وغيرهم. [ مقتبس من كتاب العلم لابن عبد البر، وسنن الدارمي، وغيرهما]

 

ثم قال أبو رية (ص25): (( ولئن كانت هناك بعض أحاديث رويت في الرخصة

 

بكتابة الأحاديث فإن أحاديث النهي أصح، بله ما جرى عليه العمل في عهد الصحابة والتابعين )).

أقول: قد علمت أنه ليس في النهي غير حديثين أحدهما متفق على ضعفه وهو المروى عن زيد بن ثابت، والثاني مختلف في صحته وهو حديث أبي سعيد، فأما أحاديث الإذن فلو لم يكن منها إل حديث أبي هريرة في الإذن لعبد الله بن عمرو لكان أصح مما جاء في النهي. أما الصحابة والتابعون فقدتقدم ويأتي ما فيه كفاية.

ثم قال أبو رية (ص25-27) عن مجلة المنار كلاماً بدئ فيه بمحاولة الجمع بين حديث النهي وقصة (( اكتبوا لأبي شاه )) بأن ما أمر بكتابته لأبي شاه من الدين العام,، وأن النهي كان عن كتابه سائر الأحاديث التي هي من الدين الخاص.

أقول: نظرية (( دين عام ودين خاص )) مردودة عليه، وقد تقدمت الإشارة إليها ص15. وحديث الأذان لعبد الله بن عمرو قاطع لشغبه لابتة.

قال صاحب المنار ((ولنا أن نستدل على كون النهي هو المتأخر بأمرين، أحدهما استدلال من روي عنهم من الصحابة الامتناع عن الكتابة ومنعها بالنهي عنها وذلك بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم )).

29

 
أقول: لم يثبت استدلال أحد منهم بنهي النبي صلى الله عليه وسلم، فالمروى عن زيد بن ثابت متفق على ضعفه، / وعن أبي سعيد روايتان إحداهما فيها الرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يذكر فيها امتناع أبي سعيد، ونحن لم نقل في هذا إنه منسوخ إنما قلنا إنها إ ما خطأ والصواب عن أبي سعيد من قوله، كما قال البخاري وغيره، وإما محمول على أمر خاص تقدم بيانه. وثانيتهما رواية أبي نضرة عن أبي سعيد ا متناعه هو، وليس فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى. وقد بقيت صحيفة علي عنده إلى زمن خلافته، وكذلك بقيت صحيفة عبد الله بن عمرو عنده وعند أولاده كما مر، فلو كان هناك نسخ لكان بقاء الصحيفتين دليلاً واضحاً جداً على أن الإذن هو المتأخر، وتقدم أن عمر عزم على الكتابة وأشار عليه الصحابة بها ثم تركها لمعنى آ خر، ولم يذكروا نهياً كان من النبي صلى الله عليه وسلم – وذلك صريح فيما قلنا، وقد أجاز الكتابة من الصحابة عبد الله بن عمرو وأبو هريرة وأبو أمامة وأنس رضي الله عنهم، وروى هارون بن عنتزة عن أبيه، أن ابن عباس رخص فيها ثم أجمعت عليها الأمة.

قال (ص26): وثانيهما عدم تدوين الصحابة الحديث ونشره )).

أقول أما النشر فقد نشروه بحمد الله تعالى، وبذلك بلغنا. وأما التدوين فيعني به الجمع في كتاب كما جمعوا القرآن، فاعلم أن الله تبارك وتعالى تكفل بحفظ القرآن وبيانه وهو السنة كما مر، وما تكفل الله بحفظه فلابد أن يحفظ وقدعلمنا من دين الله أن عاى عباده مع إيمانهم بحفظ ما تكفل بحفظه أن يعملوا ما من شأنه في العادة حفظ ذاك الشيء، وأنه لا تنافى بين الأمرين. وفي جامع الترمذي والمستدرك وغيرها عن أبي خزامة عن أبيه قال (( قلت: يا رسول الله أرأيت رقي نسترقى بها ودواء نتداوى به وتقاة نتقيها هل ترد من قدر الله شيئاً ؟ قال: هو من قدر الله )) فأما القرآن فأمروا بحفظه بطريقين: الأولى حفظ الصدور، وعليها كان اعتمادهم في الغالب. الثانية بالكتابة فكان يكتب في العهد النبوي في قطع صغيرة من جريد النخل وغيرها، فلما غزا المسلمون اليمامة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بقليل استحر القتل بالقراء قبل أن يأخذ عنهم التابعون، فكان ذلك مظنة نقص في الطريق الأولى، فرأى عمر المبادرة إلى تعويض ذلك بتكميل الطريق الثانية، فأشار على أبي بكر بجمع القرآن في صحف، فنفر منه أبو بكر وقال(( كيف تفعل ما لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ))؟ فقال عمر (( هو والله خير )) يريد أنه عمل يتم به مقصود الشرع من حفظ القرآن، وعدم فعل النبي صلى الله عليه وسلم له إنما كان لعدم تحقق المقتضى وقد تحقق، ولا يترتب على الجمع محذور، فهو خير محض. فجمع القرآن في صحف بقيت عند أبي بكر ثم عند عمر ثم عند ابنته حفصة / أم المؤمنين حتى طلبها

 

عثمان في خلافته وكتب المصاحف. ومعنى هذا أنه طول تلك المدة التي لم تبد حاجة إلى تلك الصحف بل بقي القراء يبلغون القرآن من صدورهم ومنهم من كتب من صدره مصحفاً لنفسه، فلما كان في زمن عثمان احتيج إلى تلك الصحف لاختيار الوجه الذي دعت الحاجة إلى قصر الناس على القراءة به دون غيره- وكتب عثمان بضعة مصاحف وبعث بها إلى الأمصار لا لتبليغ القرآن بل لمنع أن يقرأ أحد بخلاف ما فيها.

هذا شأن القرآن. فأما السنة فمخالفة لذلك في أمور: الأول أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعن بكتابتها بل اكتفى بحفظهم في صدورهم وتبليغهم منها أي بنحو الطريق الأولى في القرآن. الثاني أنها كانت منتشرة لا يمكن جمعها كلها بيقين. الثالث أنه لم يتفق لها في عهد الصحابة ما اتفق للقرآن إذ استحر القتل بحفاظه من الصحابة قبل أن يتلقاه التابعون، فإن الصحابة كانوا كثيراً ولم يتفق أن استحر القتل بحفاظ السنة منهم قبل تلقي التابعين. الرابع أنهم كانوا إذا هموا بجمعهارأوا أنه لن يكون كما قال عمر في جمع القرآن: (( هو والله خير )) أي خير محضن لا يترتب عليه محذور.

كانوا يرون أنه يصعب جمعها كلها، وإذا جمعوا ما أمكنهم خشوا أن يكون ذلك سبباً لرد من بعدهم ما فاتهم منها وقد مر ص24 عن أبي بكر في سبب تحريقه ما كان جمعه منها (( أو يكون قد بقي حديث لم أجده فيقال لو كان قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم ماخفي على أبي بكر )) وخشوا أيضاً من جمعها في الكتب قبل استحكام أمر القرآن أن يقبل الناس على تلك الكتب ويدعوا القرآن لما مر ص25 عن عمر وص27 عن أبي موسى، فلذلك رأوا أن يكتفوا بنشرها بطريق الرواية ويكلوها إلى حفظ الله تعالى الذي يؤمنون به.

ثم ذكر ص26أشياء قد تقدم الجواب عنها ثم قال (( وكون التابعين لم يدونوا الحديث إلا بأمر الأمراء )).

أقول:وجمع القرآن إنما كان بأمر الأمراء أبي بكر وعمر وعثمان فإن قيل هم أمراء المؤمنين وأئمة في العلم وأئمة في التقوى، قلنا فعمر بن عبد العزيز كذلك في هذا كله وهو الآمر بالتدوين، وتبعه الخلفاء بعده.

قال((يؤيد ما ورد أنهم كانوا [ قبل ذلك ] يكتبون الشيء لأجل حفظه ثم يمحونه )).

أقول: هذه حال بعضهم،وقد تقدم ص 27-28 أن جماعة كانوا يكتبون ويبقون كتبهم.

قال (( وإذا أضفت إلى هذا ما ورد في عدم رغبة كبار الصحابة في التحديث بل في رغبتهم عنه )).

31

 
أقول: سيأتي رد هذا مفصلاً. والتحقيق أن بعض كبار الصحابة يرون أن تبليغ الأحاديث إنما يتعين / عند وقت الحاجة، ويرون أنهم إذا بلغوا بدون حضور حاجة فقد يكون منهم خطأ ما قد يؤاخذون به، بخلاف ما إذا بلغوا عند حضور الحاجة فإن ذلك متعين عليهم، فإما أن يحفظهم الله تعالى من الخطأ، وإماأن لا يؤاخذهم، لهذا رويت الأحايث عنهم كلهم، ولم ينقل عن أحد منهم أنه كان عنده حديث فتحققت الحاجة إلى العمل به فلم يحدث به.

وكان جماعة آخرون من الصحابة يحدثون وإن لم تتحقق حاجة، يرون أن التبليغ قبل وقت الحاجة مرغب فيه لقول النبي صلى الله عليه وسلم ((حدثوا عني ولا حرج)) وغير ذلك من الأدلة الداعية إلى نشر العلم وتبليغ السنة. ولكل وجهة، وكلهم على خير، على أنه لما قل الصحابة رجحت كفة الفريق الثاني.

قال (( بل في نهيهم عنه )).

أقول: لم ينهوا، وكيف ينهون وما من أحد منهم إلا وقد حدث بعدد من الأحاديث، أ و سأل عنها، وإنما جاء عن عمر أنه نهى عن الإكثار، ومرجع ذلك إلى أمرين: الأول استحباب أن لا يكون التحديث إلا عند حضور الحاجة.

الثاني:ما صرح به من إيثار أن لا يشغل الناس – يعني بسماع الأحاديث دون حضور حاجة – عن القرآن.

وجاء عنه كما يأتي (( أقلوا الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا فيما يعمل به )) و(( العمل )) في كلامه مطلق، يعم العبادات والمعاملات والآداب، لا كما يهوى أبو رية.

قال (( قوي عندك ترجيح كونهم لم يريدوا أن يجعلوا الأحاديث (كلها) ديناً عاماً دائماً كالقرآن )).

أقول: هذه نظريته القائلة (( دين عام ودين خاص )) والذي يظهر من كلماته أن الدين العام الدائم هو الدين الحقيقي اللازم وأنه كما عبر عنه فيما مضى ص15 (( المتفق عليه )) وعلى هذا فمقصوده أن ما ذكر هنا يقوي عند مخاطبه أ ن الصحابة كانوا لا يوجبون العمل بالأحاديث الثابتة عندهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قدراً يسيراً هو الذي اتفقوا ووافقهم بقية الأمة بعدهم على العمل به، وأن ما زاد على ذلك فالأمر فيه على الاختيار: من شاه أخذ، ومن شاء ترك. بل إنهم كانوا يرون من الخير أمانة تلك الأحاديث ‍!

32

 
فإن كان هذا مراده فبطلانه معلوم من الدين قطعاً. وحسبك أنه لم يحد أحداً من علماء الأمة ينسب إليه هذا القول بحق أو باطل سوى ما مر ص15 من نسبته أو نحوه إلى الغزالي، وقدمنا بيان بطلان تلك النسبة. هذا ونصوص الكتاب والسنة والمتواتر عن الصحابة وإجماع علماء الأمة، كل ذلك يبطل قوله هذا قطعاً على أن نظريته هذه لا تقتصر على إهمال الأحاديث الصحيحة بل تتضمن كما تقدم ص15 إهمال دلالات القرآن/ التي نقل ما يخالفها عن بعض من نسب إلى العلم ولو واحداً فقط، فعلى زعمه دلالات القرآن الظاهرة والأحاديث الصحيحة ولو رواها عدد من الصحابة لا يلزم المسلم أن يعمل بشيء منها قد نقل عن منسوب إلى العلم ما يخالفه

 

وإن كان الجمهور على وفق ذلك الدليل،كأن عنده أن العالم إن خالف الدليل فهو معصوم من أن يغلط أو يغفل أو يزل أو يضل، وإن وافق الدليل فليس بمعصوم. هذا حكمهم غير متفقين، فأما إذا اتفقوا فهم معصومون إلا في مخالفتهم لنظرية هذه.

قال ((ولو كانوا فهموا من النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لكتبوا أو لأمروا بالكتابة ولجمع الراشدون ما كتب وضبطوا ما وثقوا به ولم يكتفوا بالقرآن والسنة المتبعة المعروفة للجمهور بجريان العلم بها )).

أقول: قد بينا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكتب مصحفاً، وأن أبا بكر وعمر وعثمان مدة من ولايته لم يكتبوا إلا مصحفاً واحداً بقي عندهم لا يكاد يصل إليه أحد، فما بالك بالإرسال إلى العمال، وإن عثمان إنما كتب وبعث بضعة مصاحف إلى بعض الأقطار لمنع الناس من القراءة بخلاف ما فيها، وقد علمنا أنه لم يحفظ القرآن كله في عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلا نفر يسير، أربعة أو نحوهم، وذكر ابن سعد وغيرهم أن أبابكر وعمر ماتا قبل أن يحفظا القرآن كله. وقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم ثم أبو بكر ثم عمر جماعة من العمال لم يحفظ كل منهم القرآن كله ولا كان عنده مصحف، فهل يقال لهذا إن القرآن لم يكن حينئذ من الدين العام؟ نعم كان العامل يحفظ طائفة من القرآن ويعلم جملة من السنة، فكان يبلغ هذا وهذا. ومن عرف وضع الشريعة عرف الحقيقة:إن وضع الشريعة عدم الإعنات، وتوجيه معظم العناية إلى التقوى. كان كثير من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هاجروا من مكة إلى الحبشة، ونزل بعدهم قرآن وأحكام، وجعلت كل من الظهر والعصر والعشاء أربعاً بعد أن كانت ركعتين، وحولت القبلة وغير ذلك، فلم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عقب تجدد حكم من هذه وغيرها يبعث رسلاً إلى من بالحبشة أو إلى غيرهم ممن بعد عنه يبلغهم ذلك، بل كان يدعهم على ماعرفوا حتى يبلغهم ما تجدد اتفاقاً، وجاء أنه صلى الظهر إلى الكعبـة أول ما صلى

 

إليها، فخرج ممن كان معه لحاجته فمر وقت العصر ببي حارثة- وهم في بعض أطراف المدينة – وهم يصلون إلى بيت المقدس، فأخبرهم فاستداروا إ لى الكعبة فأتموا صلاتهم. وهكذا تحريم الكلام

33

 
في الصلاة وتحريم الخمر،ومن المتفق عليه فيما أعلم أنه ليس واجباً على الأعيان / حفظ القرآن سوى الفاتحة، ولا تعلم القراءة والكتابة واتخاذ مصحف، ولايجب على الرجل أن يتعلم الفريضة إلا قرب العلم بها. وإنما الواجب أن يكون في الأمة علماء، ثم على العامي أن يسأل عالماً ويعمل بفتواه، وكان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه يكتفى في العامل أن يكون – مع حفظه لما شاء الله من القرآن – عارفاً بطائفة حسنة من السنة ثم يقال له: إذا لم تجد الحكم في الكتاب والسنة فاسأل من ترجو أن يكون عنده علم، فإن لم تجد فاجتهد رأيك، وقد كان أبو بكر وعمر إذا لم يجدا الحكم في الكتاب ولا فيما يعلمانه من السنة سألا الصحابة فإذا أخبرا بحديث أخذا به، وربما أخبرهما من هو دونهما في العلم والفضل بكثير. وترى في رسالة الشافعي عدة قضايا لعمر من هذا القبيل. وإذ كان الواجب على الأمة أن يكون فيها علماء كل منهم عارف بالقرآن عارف بجملة حسنة من السنة ليعمل ويفتي ويقضي بما علم ويسأل من تيسر له من العلماء عما لم يعلم فإن لم يجد اجتهد فقد كان الصحابة يعلمون أن منهم عدداً كثيراً هكذا وأن من تابعيهم عدداً كثيراً كذلك لا يزالون في ازديار، وأن حال من بعدهم سيكون كذلك، وأن القرآن والسنة موجودان بتمامهما عند أولئك العلماء مافات أحدهم منهما فموجود عند غيره، رأوا أن هذا كاف في أداء الواجب عليهم مع الإيمان التام بأن الله تعالى حافظ لشريعته، نعم فكروا في الاحتياط لجمع السنة فعرض لهم خشيةُ أن يؤدي ذلك إلى محذور كما مر فكفوا عنه. مكتفين بما ظهر لهم من حرص المسلمين وما آمنوا به من حفظ رب العالمين. وغاية ما يخشى بعد هذا أن يجهل العالم شيئاً من السنة ولا يتيسر له من يخبره بها فيجتهد فيخطئ. وهذا في نظر الشرع ليس بمحذور كما علم مما مر في حال من كان من المسلمين بعيداً عن المدينة إذ بقوا مدة يصلون الرباعية ركعتين ويتكلمون في الصلاة ويصلون إلى بيت المقدس ويستحلون الخمر بعد نزول الأحاكم المخالفة لذلك حتى بلغتهم. وكما أذن الله تعالى أن يبنيى المسلم على ظنه وإن اتفق له أن ينكح أخته وهو لا يدري وأن يقتل مسلماً يحسبه كافراً وأن يأكل لحماً يظنه حلالاً فبان لحم خمزير ميت وغير ذلك. إنما المحذور أن تدع الدليل الشرعي عمداً اتباعاً منك لقول عالم قد يجهل ويذهل ويغفل ويغلط ويزل، وأشد من ذلك وأضر وأدهى وأمر ما يول صاح بتلك النظرة:

34

 
إن الدليل الشرعي إذا وجد قول لعالم يخالفه ينزل بذلك عن الدين العام اللازم إل الدين الخاص الاختياري،من شا ه أخذ ومن شاء ترك،/ ومن خالف كل دليل من هذا القبيل مع علمه بها وعقله لها واقتصر على ما لم يخالفه أحد (( كان مسلماً ناجياً في الآخرة مقرباًً عند الله تعالى )) كما تقد م عنه ص 16، فهذا هو المحذور عند من يعقل.

قال (( وبهذا ييسقط قول من قال: إن الصحابة كانوا يكتفون في نشر الحديث بالرواية )).

 

أقول: قد عرفت الحقيقة ولله الحمد، وعرفت ما هو الساقط.

قال: (( وإذا أضفت إلى ذلك حكم عمر بن الخطاب على أعين الصحابة بما يخالف بعض تلك الأحاديث )).

 

أقول: كان عليه أن يبينها، فإن كان يريد مطاعن الرافضة في أمير المؤمنين عمر فجوابها في منهاج السنة وغيره، ويكفينا هنا أن نسأله: هل علمت عمر ثبت عنده حيديث فتركه لغير حجة قائلاً: لا يلزمنا الأخذ بالأحاديث؟

 

قال (( ثم ماجرى عليه علماء الأمصار في القرن الأول والثاني من اكتفاء الواحد منهم كأبي حنيفة بما بلغه ووثق به من الحديث وإن قل وعدم تعنيه في جمع غيره إليه ليفهم دينه ويبين أحكامه )).

 

أقول: لزم أبو حنيفة حماد بن أبي سليمان يأخذ عنه مدة، وكان حماد كثير الحديث، ثم أ خذ عن عدد كثير غيره كماتراه في مناقبه، وقلة الأحاديث المروية عنه لا تدل على قلة ما عنده، ذلك أنه لم يتصدى للرواية، وقد قدمنا أن العالم لا يكلف جمع السنة كلها، بل إذا كان عارفاً بالقرآن وعنده طائفة صالحة من السنة بحيث يغلب على اجتهاده الصواب كان له أن يفتي، وإذا عرضت قضية لم يجدها في الكتاب والسنة سأل من عنده علم بالسنة، فإن لم يجد اجتهد رأيه. وكذلك كان أبو حنيفة يفعل، وكان عنده في حلقته جماعة من المكثيرين في الحديث كمسعر وحبان ومندل، والأحايدث التي ذكروا أنه خالفها قليلة بالنسبة إلى ما وافقه، وما من حديث خالفه إلا وله عذر لا يخرج إن شاء الله عن أعذار العلماء، ولم يدع هو العصمة لنفسه ولا ادعاها له أحد، وقد خالفه كبار أصحابه في كثير من أقواله، وكان جماعة من علماء عصره ومن قرب منه ينفرون عنه وعن بعض أقواله، فإن فرض أنه خالف أحاديث صحيحة بغير حجة بينة فليس معنى ذلك أنه زعم أن العمل بالأحاديث الصحيحة غير لازم، بل المتواتر عنه ما عليه غيره من أهل العلم أنها حجة، بل ذهب إلى أن القهقهة في الصلاة تنقض الوضوء اتباعاً لحديث ضعيف[ وذكر ابن القيم في إعلام الموقعين مسائل أخرى لأبي حنيفة من هذا القبيل وكذلك غيره] ومن ثم ذكر أصحابه أن من أصله تقديم الحديث الضعيف – بله الصحيح – على القياس.

قال (( قوى عندي ذلك الترجيح )).

35

 
أقولك أما عند من يعرف دينه فهيهات.

 

/ قال (( بل تجد الفقهاء بعد اتفاقهم على جعل الأحاديث أصلاً من أصول الأحكام الشرعية، وبعد تدوين الحفاظ لها في الدواوين وبيان ما يحتج به وما لا يحتج

 

 

به لم يتفقوا على تحرير الصحيح والاتفاق على العمل به. فهذه كتب الفقه في المذاهب المتبعة – ولا سيما كتب الحنفية فالمالكية فالشافعية- فيها مئات من المسائل المخالفة للأحاديث المتفق على صحتها، ولا يعد أ حد منهم مخالفاً لأصول الدين ))

 

أقول: أما ما اعترفت به من اتفاقهم على أن الأحاديث الصحيحة أصل من أصول الأحكام الشرعية، فحجة عليك وعليهم مضافة إلى سائر الحجج. وأما عدم اتفاقهم على تحرير الصحيح وعدم اتفاقهم على العمل به فأنما حاصه أنهم يختلفون في صحة بعض الأحاديث، وذلك قليل بالنسبة إلى ما اتفقوا عليه، ويتوقف بعضهم عن الأخذ ببعضها بدعوى أنه منسوخ أو مؤول أو مرجوح، وليس في ذلك مخالفة للأصل الذي اتفقوا عليه.

 

فإن قيل: منهم من يتعمد رد الصحيح بدعوى ضعفه أو نسخه أو تأويله أو رجحان غيره عليه وهو يعلم أنه لا شيء من ذلك.قلنا: لنا الظاهر والله يتولى السرائر – على أنهم قد تراموا بهذا زمناً طويلاً وجرت فتن وحروب ثم ملوا فمالوا إلى التجامل وحسن الظن غالباً. وعلى كل حال فلا متشبث لك فيما ذكر، والفرق واضح بين من يستحل معلناً قتل المؤمنين بغير حق، ومن يقول: قتل المؤمن حرام، ثم يتفق له أن يقتل مؤمناً قائلاً: حسبته كافراً حربياً، وإن فرض دلالة القرائن على كذبه.

قال (( وقد أورد ابن القيم في إعلام الموقعين شواهد كثيرة جداً من رد الفقهاء للأحاديث الصحيحة عملاً بالقياس ولغير ذلك )).

أقول: القياس في الجملة دليل شرعي. وعلى كل حال فلا متنفس لك في ذلك كما مر.

قال (( ومن أغربها أخذهم ببعض الحديث الواحد دون باقيـه، وقد أورد لهذا

 

 

أكثر من ستين شاهداً )).

أقول: نصف عليك، ونصف ليس لك.

ثم ذكر أبو رية (ص27-28) كلاما قد تقدم جوابه مستوفي ولله الحمد

 

36

 
الصحابة ورواية الحديث

/ ذكر أبو رية (ص29) تحت هذا العنوان أن الصحابة (( كانوا يرغبون عن رواية الحديث، وينهون عنه، وأنهم كان يتشددون في قبول الأخبار تشديداً قوياً )).

أقول: دعوى عريضة، فما دليلها؟

قال (( روى الحافظ الذهبي في تذكرة الحفاظ قال: ومن مراسيل ابن أبي مليكة أن أبا بكر جمع الناس بعد وفاة نبيهم فقال: إنكم تحدثون عن رسول الله أحاديث تختلفون فيها والناس بعدكم أشد اختلافاً، فلا تحدثوا عن رسول الله شيئاً، فمن سألكم فقولوا: بيننا وبينكم كتاب الله فاستحلوا حلاله وحرموا حرامه )).

أقلو: قدم الذهبي في التذكرة قول أبي بكر للجدة (( ما أجد في كتاب الله شيئاً، وما علمت أن رسو ل الله صلى الله عليه وسلم ذكر لك شيئاً، ثم سأل الناس – الخ )).

فقضى بما أخبره المغيرة ومحمد بن مسلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم. ثم ذكر الذهبي هذا الخبر – ولا ندري ما سنده إلى ابن أبي مليلكة، وبين الذهبي أنه مرسل أي منقطع، لأن ابن أبي مليكة لم يدرك أبا بكر ولا كاد، ومثل ذلك ليس بحجة، إذ لايدرى ممن سمعه، ومع ذلك قال الذهبي (( مراد الصديق التثبت في الأخبار والتحرى، لا سد باب الرواية.. . ولم يقل حسبنا كتاب الله كما تقوله الخوارج )).

أقول: المتواتر عن أبي بكر رضي الله عنه، أنه كان يدين بكتاب الله تعالى وسنة رسولـه، وأخذ بحديث (( لا نـورث )) مع مايتراءى من مخالفته لظـاهر القرآن،

 

وأحاديثه عن النبي صلى الله عليه وسلم موجودة في دواوين الإسلام، وقد استدل أبو رية (كما مر ص24) بما روي أن أبا بكركتب خمسمائة حديث ثم أتلف الصحيفة وذكر ممما يخشاه إن بقيت قوله (( أبو يكون قد بقي حديث لم أ جده فيقال لو كان قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم ما خفي على أبي بكر.

37

 
وقد ذكر أهل العلم أن أصول أحاديث الأحاكم نحو خمسمائة حديث. انظر أعلام الموقعين 342:2وفيه 61:1 (( عن ابن سيرين قال... وإن أبا بكر نزلت به قضية فلم يجد في كتاب الله منها أصلاً ولا في السنة أثراً فاجتهد رأيه ثم قال: هذا رأيي فإن كان صواباً فمن الله.. . )) وفيه 70:1 (( عن ميمون بن مهران قال: كان أبو بكر الصديق إذا ورد عليه حكم نظر في كتاب الله تعالى.. . وإن لم يجد في كتاب الله نظر في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن وجد فيها ما يقضي به قضي به، فإن أعياه ذلك سأل الناس: هل علمتم أن رسول الله صلى الله علي وسلم قضى فيه.. . )). / وفيه 379:3 (( لا يحفظ للصديق خلاف نص واحدٍ أبداً )). وفي تاريخ الإسلام للذهبي 381:1 في قصة طويلة عن أبي بكر (( وددت أني سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم.. . وأني سألته عن العمة وبنت لأخ فإن في نفسي منها حاجة )) فإن كان لمرسل بن أبي مليكة أصل فكونه عقب الوفاة النبوية يشعر بأنه يتعلق بأمر الخلافة، كأن الناس عقب البيعة بقوا يختلفون يقول أحدهم: أبو بكر أهلها لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال كيت وكيت. فيقول آخر (( وفلان قد قال له النبي صلىالله عليه وسلم كيت وكيت، فأحب أبو بكر صرفهم عن الخوض في ذلك وتوجيهم إلى القرآن وفيه (( وأمرهم شورى بينهم )).

قال أبو رية (( وروى ابن عساكر عن [إبراهيم بن ] عبد الرحمن بن عوف قال: والله مامات عمر بن الخطاب حتى بعث إلى أصحاب رسول الله فجمعهم من الآفاق: عبد الله بن حذيفة وأبا الدرداء وأبا ذر وعقبة بن عامر قال: ما هذا الأحاديث التي أفشيتم عن رسول الله في الآفاق؟ قالوا تنهانا؟ قال [لا]، أقيموا عندي، لا والله لا تفارقوني ما عشت، فنحن أعلم، نأخذ منكم ونرد عليكم، فما فارقوه حتى مات.

أقول: أخذ أبو رية هذا من كنز العمال 239:1 وأسقط منه ما أضفته بين حاجزين. وفي خطبة كنز العمال 3:1 إن كل ما عزى فيه إلى تاريخ ابن عساكر فهو ضعيف، وعبد الله بن حذيفة غير معروف، إنما في الصحابة عبد الله ابن حذافة، وهو مقل جداً لا يثبت عنه حديث واحد، فلا يصلح لهذه القصة. وفي سماع إبراهيم ابن عبد الرحمن بن عوف من عمر خلاف والظاهر أنه لا يثبت ثم إن هؤلاء النفر لم يكونوا جميع الصحابة، بل كان كثير جداً من الصحابة في الأمصار والأقطار يحدثون.

قال أبو رية (( وفي رواية ابن حزم في ا لأحكام أنه حبس ابن مسعود وأبا موسى وأبا الدرداء في المدينة على الإكثار من الحديث )).

 

أقول: هذا من أحكام ابن حزم 39:3، وتعقبه بقوله (( مرسل ومشكوك فيه.. . ثم هو في نفسه ظاهر الكذب والتوليد..  ))وسيأتي الكلام في الإكثار.

38

 
قال (ص30): (( وروا ابن عساكر عن السائب بن يزيد قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول لأبي هريرة لتتركن الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو لألحقنك بأرض دوس. وقال لكعب الأحبار: لتتركن الحديث [عن الأول] أو لألحقنك بأرض القردة )).

 

/ أقول: قد علمت حال تاريخ ابن عساكر، وقد أعاد أبو رية هذا الخبر (ص163) ويأتي الكلام عليه هناك وبيان سقوطه. وأسقط أبو رية هناكلمة (( عن الأول )) لغرض خبيث، وصنع مثل ذلك ص115وص126 وفعل ص163 فعلة أخرى، ويأتي شرح ذلك في الكلام عليها إن شاء الله.

 

قال (( وكذلك فعل معهما عثمان بن عفان )). أقول: لم يعزه، ولم أجده قال (( وروى ابن سعد وابن عساكر عن محمود ابن لبيد[تحرف على أبي رية بلفظ (( محمود بن عبيد )) لم ينبه على تصحيحه] قال سمعت عثمان ابن عفان على المنبر يقول: لا يحل لأحد يروي حديثاً لم يسمع به في عهد أبي بكر ولا عهد عمر،فإنه لم يمنعني أن أحدث عن رسول الله أن لا أكون أوعى أصحابه، إلا أني سمعته يقول:من قال علي مالم أقل فقد تبوأ مقعده من النار)).

أقول: هو عند ابن سعد عقب السيرة النبوية في باب (( ذكر من كان يفتي بالمدينة )) رواه ابن سعد عن محمد بن عمر الأسلمي وهو الواقدي أحد المشهورين بالكذب، وكان ابن عساكر رواه من طريقه، وحال تاريخ ابن عساكر قد مر، وأحاديث عثمان ثابتة في أمهات الحديث كلها، ولم يزل يحدث حتى قتل.

قال (( وفي جامع بيان العلم.. . عن الشعبي عن قرظة بن كعب قال: خرجنا نريد العراق، فمشى معنا عمر إلى صرار ثم قال لنا: أتدرون لم مشيت معكم ؟ قلنا أردت أن تشيعنا وتكرمنا، قال: إن مع ذلك لحاجة خرجت لها، إنكم لتأتون بلدة لأهلها دوىّ كدوى النحل، فلا تصدوهم بالأحاديث عن رسول الله وأنا شريككم.

قال قرظة: فما حدثت بعده حديثاً عن رسول الله.. . وفي رواية أخرى: إنكم تأتون أهل قرية لها دوي بالقرآن كدوي النحل،فلا تصدوهم بالأحاديث لتشغلوهم، جردوا القرآن، وأقلوا الرواية عن رسول الله.

وفي الأم الشافعي.. . فلما قدم قرظة قالوا:حدثنا. قال: نهانا عمر ))

أقول اختلف في وفاة قرظة والأكثرون أنها كانت في خلافة علي، ووقع في صحيح مسلم في رواية ما يدل أنه تأخر بعد ذلك ولعلها خطأ.وسماع الشعبي منه غير متحقق، وقد جزم ابن حزم في الأحكام 138:2 بأنه لم يلقه، ورد هذا الخبر وبالغ كعادته، ومما قاله: إن عمر نفسه رويت عنه خمسمــائة حديث ونيف فهو

 

مكثر بالقياس إل المتوفين قريباً من وفاتته. أقول: مع اشتغاله بالوزارة لأبي بكر ثم بالخلافة. وكذلك رده ابن عبد البر في كتاب العلم 121:2-123 وأطال، قال (( والآثار الصحاح عنه (أي عمر) من رواية أهل المدينة بخلاف حديث قرظة هذا، وإنما يدل على بيان عن الشعبي وليس مثله حجة في هذا الباب لأنه يعارض السنة والكتاب )) وذكر آيات وأحاديث وآثاراً عن عمر في الحض على تعلم السنن، والشعبي لم يذكر في طبقات المدلسين، لكن ذكر أبو حا تم في ترجمة سلميان بن قيس اليشكري أن أكثر ما يرويه الشعبي عن جابر إنما أخذه الشعبي من صحيفة سليمان بن قيس اليشكري عن جابر، وهذا تدليس. ثم أقول: كان قد تجمع في العراق كثير من العرب من أهل اليمن وغيرهم وشرعوا في تعلم القرآن، فكره عمر أن يشغلوا عنه بذكر مغازى النبي صلى الله عليه وسلم ونحوها من أخباره التي لا حكم فيها. ولا مانع أن يجب / فيما فيه حكم أن تتوخى به الحاجة، وإن كان الخبر الآتي يخالف هذا.

39

 
قال (( وكان عمر يقول: أقلوا الرواية عن رسول الله إلا فيما يعمل به ))

أقول: عزاه إلى البداية والنهاية، وهو فيها عن الزهري، ولم يدرك عمر. وعلق عليه أبو رية قوله (( أي السنة العملية )) فإن أراد اصطلاح شيخه (( السنة العملية المتواترة )) فلا يخفى بطلانه، لأن هذا اصطلاح محدث، وإنما المراد ما يترتب عليه عمل شرعي، فيدخل في ذلك جميع الأحكام والآداب وغيرها، ولا يخرج إلا القصص ونحوها،استحب الاقلال من القصص ونحوها، ولم يمنع من الإكثار فيما فيه عمل.

ثم قال (( ولا غرابة في أن يفعل عمر ذلك لأنه كان لا يعتمد إلا على القرآن والسنة العملية، فقد روى البخاري عن ابن عباس أنه لما حضر النبي وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب قال النبي: هلم أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده. فقال عمر: إن النبي غلبه الوجع، وعندكم القرآن فحسبنا كتاب الله )).

أقول: تكلم بعض المتأخرين في هذا الحديث وذكر أنه لوكانت الواقعة بنحو هذه الصورة لما أغفل الصحابة ذكرها والتنويه بشأنها، فما باله لم يذكرها إلا ابن عباس مع أنه كان صغيراً يؤمئذ. ويميل هذا المتأخر إلى أنها كانت واقعة لا تستحق الذكر تجسمت في ذهن ابن عباس واتخذت ذاك الشكل، والذي يهمنا هنا أن نتبين أنه من المعلوم بقينا أن عمر لا يدعي كفاية كتاب الله عن كل ما سواه بما فيه بيان الصلاة والزكاة والحج وغير ذلك، إذن فإنما ادعى كفاية القرآن عن أمر خاص، ودلالة الحال تبين أنه ذاك الكتاب الذي عرض عليهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يكتبه لهم. والظاهر أنه قد كان جرى ذكر قضية خاصة بدا للنبي صلى الله عليه وسلم أن يكتب لهم في شأنها، فرأى عمر أن حكمها في القرآن، وأن غاية ما سيكون في ذاك الكتاب تأكيد أو زيادة توضيح أو نحو ذلك، فرأى أنه لا ضرورة إلى ذلك مع ما فيه من المشقة على النبي صلى الله عليه وسلم في شدة وجعه.

40

 
هذا وفي رسالة الشافعي ص422-445 وإعلام الموقعين 61:1-98،74 وأحكام ابن حزم 137:2-141 وكتاب العلم لابن عبد البر 121:2-124 وغيرها آثار كثيرة تبين تمسك عمر بالأحاديث والسنن، ورجوعه إليها، وعنايته بها، وحضه على تعلمها وتعليمها، وأمره باتباعها، فمن أحب فليراجعها، ومعنى ذلك في الجملة متواتر.

/ قال أبو رية ص31 (( وروى ابن سعد في الطبقات عن السائب بن يزيد أنه صحب سعد بن وقاص من المدينة إلى مكة، قال: فما سمعته يحدثنا حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم حتى رجع )).

أقول: أحاديث سعد موجودة في كتب الإسلام، وقد قدمنا أن جماعة من الصحابة كانوا لا يحبون أن يحدثوا في غير وقت الحاجة.

قال (( وسئل عن شيء فاستعجم وقال: إني أخاف أن أحدثكم واحداً فتزيدوا عليه المائة )).

أقول: هذا في الطبقات من طريق سعد، وهو ابن إبراهيم بن عبد الرحمن ابن عوف عن خالته (كذا، ولعل الصواب: عن خاليه ) أنهم دخلوا على سعد ابن أبي وقاص فسئل الخ. وأحاديث أبناء سعد عنه كثيرة، والظاهر أنه كان معهم هذه المرة من لا يأتمنه سعد، ولعلهم سألوه عن شيء يتعلق بما جرى بين الصحابة.

قال (( وعن عمرو بن ميمون قال: اختلفت إلى عبد الله بن مسعود سنة فما سمعته فيها يحدث عن رسول الله ولا يقول قال رسول الله، إلا أنه حدث ذات يوم بحديث فجرى على لسانه قال رسول الله فعلاه الكرب حتى رأيت العرق يتحدر عن جبينه ثم قال: إن شاء الله، إ ما فوق ذاك أو قريب من ذاك وإما دون ذلك، وفي رواية عند ابن سعد عن علقمة بن قيس أنه كان يقوم قائماً كل عشية خميس، فما سمعته في عشية منها يقول قال رسول الله غير مرة واحدة فنظرت إليه وهو يعتمد على عصا فنظرت إلى العصا تزعزع )).

أقول: رواية عمرو بن ميمون انفرد بها – فيما أعلم – مسلم البطين واضطرب فيها على أوجه، راجح مسند أحمد الحديث 3670، وفي بعض الطرق التقييد بيوم الخميس وذلك أن ابن مسعود كان يقوم يوم الخميس يعظ الناس بكلمات. وأما رواية علقمة هذا ولهذين وغيرهما عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة في دواوين الإسلام، وأما كرب ابن مسعود فالظاهر أنه عرض له تشكك في ضبطه لذلك الحديث.ولهذا قال (( إن شاء الله الخ )) والأحاديث الصحيحة عنه بالجزم كثيرة، وراجع ما تقدم عنه ص 13.

41

 
قال (( وسأل مالك بن دينار ميمون الكردي أن يحدث عن أبيه الذي أدرك النبي وسمع منه فقال: كان أبي لا يحدثنا عن النبي مخافة أن يزيد أم ينقص ))

أقول: لم يعزه ولم أعثر عليه، ووالد ميمون الكردي لا يكاد يعرف. وقد ذكر في أسد الغاية والإصابة باسم (( جابان )) ولم يذكروا له شيئاً إلا أنه وقع بسنــد

 

ضعيف عن ميمون عن أبيه، فذكر حديثاً لا يصح وفيه اضطراب.

قال (( وأخرج الدارقطني عن عبد الرحمن بن كعب قال (( قلت لأبي قتادة حدثني بشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: أخشى أن يزل لساني بشيء لم يقله رسول الله )).

أقول: قد قدمنا أنهم كانوا لا يحبون التحديث عند عدم الحاجة، وأحاديث أبي قتادة موجودة في دواوين الإسلام.

قال (( وروى ابن الجوزي في كتاب ( دفع شبهة التشبيه ) قال: سمع الزبير رجلاً يحدث، فاستمع الزبير حتى قضى الرجل حديثه، قال له الزبير: أنت سمعت هذا من رسول الله؟ فقال الرجل: نعم. فقال: هذا وأشباهه مما يمنعني أن أتحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم. قد لعمري سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا يؤمئذ حاضر، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتدأ بهذا الحديث فحدثناه عن رجل من أهل الكتاب حديثه يومئذ، فجئت أنت بعد انقضاء صدر الحديث، وذكر الرجل الذي هو من أهل الكتاب فظننت أنه من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أقول: أسنده البيهقي في الأسماء والصفات (ص258ط الهند ): (( أخبرنا أبو جعفر الغرابي[في مخطوط مكتبة الحرم المكي رقم203من كتب التوحيد القسم الأول (( العزائمي )) ] أخبرنا أبو العباس الصبغي حدثنا الحسن بن علي بن زياد حدثنا ابن أبي أويس حدثني ابن أبي الزناد عبد الرحمن عن هشام بن عروة عن [عبد الله بن] [قوله ((عبد الله بن))أثبته من المخطوطة، وسقط من المطبوعة ] عروة بن الزبير أن الزبير بن العوام سمع رجلاً.. . )) أبو جعفر لم أعرفه والصبغي هو محمد بن إسحاق بن أيوب مجروح وابن أبي الزناد فيه كلام، وعبد الله بن عروة ولد بعد الزبير بمدة فالخبر منقطع. وكأنه مصنوع

 

قال ص32 (( وأخرج البخاري والدارقطني عن السائب بن يزيد قال: صحبت عبد الرحمن بن عوف وطلحة بن عبيد الله وسعد بن أبي وقاص والمقداد بن الأسود فلم أسمع الواحد منهم يحدث عن رسول الله )).

أقول: قد حدثوا، وسمع منهم غير السائب، وحدث من هو خير منهم الخلفاء الأربعة والكثير الطيب من الصحابة رضي الله عنهم. وانتظر

قال (( وأخرج أحمد وأبو يعلى على دجين الخ )).

أقول: دجين أعرابي ليس بشيء في الرواية، وترجمته في لسان الميزان وفيها نحو هذا مع اختلاف.

قال (( وقال عمران بن حصين: والله إن كنت لأرى أني لو شئت لحدثت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يومين متتابعين، ولكن بطأني من ذلك أن رجالاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعوا كما سمعت وشهدوا كما شهدت ويحدثون أحاديث ما هي كما يقول(؟) وأخاف أن يشبه لي كما شبه لهم )) فاعلمك أنهم كانوا يغلطون ( وفي نسخة: يخطئون) لأنهم كانوا يتعمدون )).

42

 
أقول: هذا ذكره ابن قتيبة في مختلف الحديث ص49- فقال (( روى مطرف بن عبد الله أن عمران بن حصين قال.. .. )) ولم يذكر سنده. وقوله (( فأعلمك الخ )) عن كلام ابن قتيبة.

/ قال (( وأخرج ابن ماجه عن عبد الله بن أبي ليلى قال: قلت لزيد بن أرقم: حدثنا عن رسول الله قال: كبرنا ونسينا، والحديث عن رسول الله شديد )).

أقول: أحاديث زيد موجودة في الكتب، وقد قدمنا أنهم كانوا لا يحبون أن يحدثوا بدون حضور حاجة، ويتأكد ذلك عند خشية الخطأ – وانتظر

قال (( وقال ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث: وكان كثير من جلة الصحابـة

 

وأهل الخاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم كأبي بكر و الزبير وأبي عبيدة والعباس بن عبد المطلب يقلون الرواية عنه، بل كان بعضهم لا يكاد يروى عنه شيئاً كسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل أحد العشرة المشهود لهم بالجنة ))

قال أبو رية (( ولو أنك تصفحت البخاري ومسلم لما وجدت فيهما حديثاً واحداً لأمين هذه الأمة أبي عبيدة عامر بن [عبد الله بن] الجراح. وليس فيهما كذلك حديث لعتبة بن غزوان وأبي كبشة مولى رسول الله وكثيرين غيرهم ))

ثم قال أبو رية (( كان الخفاء الراشدون وكبار الصحابة وأهل الفتيا منهم كما علمت يتقون كثرة الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بل كانوا يرغبون عن روايته إذ كانوا يعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عن كتابة حديثه وأنهم إذا حدثوا عنه قد لا يستطيعون أن يؤدوا كل ما سمعوه... على وجهه الصحيح لأن الذاكرة لا يمكن أن تضبط كل ما تسمع وماتحفظه مما تسمعه لا يمكن أن يبقى فيها على أصله.. . ما كانوا ليرضوا بما رضي به بعضهم ومن جاء بعدهم من رواية الحديث بالمعنى، لأنهم كانوا يعلمون أن تغيير اللفظ قد يغير المعنى، وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم ليس كغيره إذ كل لقظة من كلامه صلى الله عليه وسلم يكمن وراءها معنى بقصده )).

43

 
أقول: كان الصحابة يفتون، وكل من طالت صحبته فبلغت سنة فأكثر فهو من العلماء، وإن كان بعضهم أعلم من بعض، وقد قال الشافعي في الأم 7/:244 (( أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم ممن له أن يقول في العلم )) وتبليغ الأحاديث فرض كفاية كالفتوى، فأما الصديق فقل حديثه وفتواه لأنه اشتغل بالخلافة حتى مات بعد سنتين وأشهر، وكان يكفيه غيره الفتوى والتحديث. وأما أبو عبيدة فشغل بفتح الشام حتى مات سنة 18 وكان معه في الجيش كثير من الصحابة كمعاذ بن جبل وغيره يكفونه الفتيا والتحديث. وقد جاءت عنه عدة أحاديث لم يتفق أن يكون منها ماهو على شرط الشيخين مما احتاجا إليه. وأما الزبير والعباس فكانا مشتغلين بمزارعهما غير منبسطبن لعامة الناس، فاكتفى الناس غالباً ببقية الصحابة وهم كثير. وأما سعيد / بن يزيد فكان منقبضاً ‘مقبلاً على العبادة. وأما عتبة بن غزوان فحاله كحال أبي عبيدة بقي في الجهاد والفتوح حتى مات سنة 17، وأما أبو كبشة فقديم الموت توفي يوم مات أبو بكر أو بعده بيوم. وكما قلت أحاديث هؤلاء قلت فتاواهم، مع العلم بأن الفتوى فرض كفاية، وأنه إذا لم يوجد إلا مفتٍ واحد والقضية واقعة تعينت عليه، وكما كانوا يتقون الفتوى في القضايا التي ليست واقعة حيننئذ حتى روي عن عمر أنه لعن من يسأل عما لم يكن. وأنه قال وهو على المنبر: وأحرج بالله على من سأل عما لم يكن، فإن الله قد بين ما هو كائن، أخرجهما الدارمي وغيره. وروى أنهم كانوا يتدافعون الفتوى، كل واحد يود أن يكفيه غيره فكذلك كان شأنهم في التحديث حين كان الصحابة متوافرين،وعامة من تقدم أنه قليل الحديث أو أنه سئل أن يحدث فامتنع، قد ثبتت عنهم أحاديث بين مكثر ومقل، وذلك يبين قطعاً أن قلة حديثهم إنما كانت لما تقدم. ويوضح ذلك أنه لم يأت عن أحد منهم ما يؤخذ منه أنه امتنع من التحديث بحديث عنده مع حضور الحاجة إليه وعدم كفاية غيره له. إ نك لا تجد بهذا المعنى حرفا ً واحداً، فاختيارهم أن لا يحدثوا إلا عند حضور الحاجة إلى تحديثهم خاصة هو السبب الوحيد لاتقاء الاكثار ولما يصح في الجملة من الرغبة عن الرواية، أما النهي عن الكتابة فقد فرغنا منه البتة فيما تقدم ص22- وأما خشية الخطأ فهذا من البواعث على تحري أن لا يحدثوا إلا عند الحاجة. راجع (ص31)  قوله: إن ما وعته الذاكرة (( لا يمكن أن يبقى فيها على أصله )) إن أراد بذلك ألفاظ الأحاديث القولية فليس كما قال، بل يمكن أن يبقى بعض ذلك، بل قوله إن (( الخلفاء الراشدين وكبار الصحابة وأهل الفتيا.. . لم يكونوا ليرضوا بما رضي به بعضهم.. . من رواية الحديث بالمعنى )) اعتراف منه بأن ما ثبت عن هؤلاء روايته من الأحاديث القولية قد رووه بلفظ النبي صلى الله عليه وسلم على وجهه الصحيح. وإن أراد الأحاديث الفعلية ومعاني القولية

 

فباطل، بل يبقى فيها الكثير من ذلك كما لا يخفى على أحد.

قوله (( إن تغيير اللفظ قد يغير المعنى )) قلنا: قد، ولكن الغالب فيمن ضبط المعنى ضبطاً يثق به أنه لا يغير.

قوله (( كل لفظة من كلامه صلى الله عليه وسلم يكمن وراءها معنى يقصده )) أقول نعوذ بالله من غلو يتذرع به إلى جحود، كان صلى الله عليه وسلم يكلم الناس ليفهموا عنه، فكان يتحرى إفهامهم )) إن كان ليحدث الحديث لو شاء العاد أن يحصيه أحصاه كما في سنن أبي داود عن عائشة، وأصله في الصحيحين. وكان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثاً حتى تفهم )) كما في صحيح البخاري عن أنس. ويقال لأبي رية: أمفهومة كانت / تلك المقاصد الكامنة وراء كل لفظة للصحابة، أم لا؟ إن كانت مفهومة لهم أمكنهم أن يؤدوها بغير تلك الألفاظ. وإلا فكيف يخاطبون بما لا يفهمونه؟ فأما حديث (( فرب مبلغ أوعى من سامع )) فإنما يتفق في قليل كما تفيد كلمة ((رب)) وذلك كأن يكون الصحابي ممن قرب عهده بالإسلام ولم يكن عنده علم فيؤديه إلى عالم يفهمه على وجهه، والغالب أن الصحابة أفهم لكلام النبي صلى الله عليه وسلم ممن بعدهم.

تشديد الصحابة في قبول الأخبار

قال أبو رية ص33 (( كانوا يتشددون في قبول الأخبار من إخوانهم في الصحبة مهما بلغت درجاتهم ويحتاطون في ذلك أشد الاحتياط حتى كان أبو بكر لا يقبل من أحد حديثا إلا بشهادة غيره على أنه سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أقول هذه دعوى لا تقبل إلا بدليل كأن يكون أبو بكر صرح بذلك، أو تكرر منه رد خبر الآحاد الذين لم يكن مع كل منهم آخر،وليس بيد أبي رية شيء من هذا، إنما ذكر الواقعة الآتية وسيأتي النظر فيها

قال (( روى ابن شهاب عن قبيصة أن الجدة جاءت أبا بكر تلتمس أن تورث فقال: ما أجد لك في كتاب الله شيئاً، وما علمت أن رسول الله ذكر لك شيئاً ثم سأل الناس، فقام المغيرة فقال: كان رسو الله صلى الله عليه ووسلم يعطيها السدس. فقال له: هل معك أحد.؟ فشهد محمد بن مسلمة بمثل ذلك، فأنفذه لها أبو بكر )).

أقول: هذه واقعة حال واحدة ليس فيها ما يدل على أنه لو لم يكن مع المغيرة غيره لم يقبله أبو بكر. والعالم يحب تظاهر الحجج كما بينه الشافعي في الرسالة (ص432). ومما حسن ذلك هنا أن قول المغيرة (( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيها السدس )) [كما نقله أبو رية]يعطي أن ذلك تكرر من قضاء النبي صلى الله عليه وسلم. وقد يستبعد أبو بكر تكرر ذلك ولم يعلمه هو مع أنه كان ألزم للنبي صلى الله عليه وسلم من المغيرة. وأيضاً الدعوى قائمة،وخير المغيرة يشبه الشهادة للمدعية ومع ذلك فهذا خبر تفرد به الزهري عن عثمان بن إسحاق بن خرشة عن قبيصة، واحد عن واحد عن واحد. فلو كان في القصة ما يدل على أن الواحد لا يكفى لعاد ذلك بالنقض على الخبر نفسه. فكيف وهو منقطع، لأن قبيصة لم يدرك أبا بكر، وعثمان بن إسحاق وإن وثق لا يعرف في الرواية إلا برواية الزهري وحده عنه هذا الخبر وحده.

45

 
قال أبو رية (( وقد وضع بعمله هذا أول شروط علم الرواية، وهو شرط الإسناد الصحيح )).

/ أقول تلك أمانيهم، وقد بين الكتاب والسنة وجوب أن يقبل خبر العدل وقرن الله تعالى تصديقه بالإيمان به سبحانه، قال تعالى في ذكر المنافقين (61:9 ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن) كلما أخبره أحد من الصحابة عنا بشر صدقه، قال تعالى ( قل أذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن بالمؤمنين )).أي يصدقهم. وقال سبحانه (6:49 يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا ) فبين سبحانه أن خبر الفاسق مناف لخبر العدل فمن حق خبر العادل أن يصدق كما صرحت به الآية الأولى، ومن حق خبر الفاسق أن يبحث عنه حتى يتبين أمره

وأما السنة فبيانها لوجوب أن يقبل خبر الواحد العدل أوضح، وقد أطال أهل العلم في ذلك وألفوا فيه، وانظر رسالة الشافعي (ص401-458) وأحكام ابن حزم (108:1) ومن أبين ما احتجوا به ما تواتر من بعث النبي صلى الله عليه وسلم آحاد الناس إلى القبائل والأقطار يبلغ كل واحد منهم من أرسل إليه ويعلمهم ويقيم لهم دينهم. قال ابن حزم (( بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذ إلى الجند وجهات من اليمن، وأبا موسى إلى جهة أخرى.. وأبا عبيدة إلى نجران، وعلياً قاضياً إلى اليمن، وكل من هؤلاء مضى إلى جهة ما معلماً لهم شرائع الإسلام. (( وكذلك بعث أميراً إلى كل جهة أسلمت.. . معلماً لهم دينهم ومعلماً لهم القرآن ومفتياً لهم في أحكام دينهم وقاضياً فيماوقع بينهم وناقلاً إليهم ما يلزمهم عن الله تعالى ورسوله، وهم مأمورون بقبول ما يخبرونهم به عن نبيهم صلى الله عليه وسلم. وبعثة هؤلاء المذكورين مشهورة بنقل التواتر من كافر ومؤمن لا يشك فيها أحد.. . ولا في أن بعثتهم إنما كانت لما ذكرنا. [و] من المحال الباطل الممتنع أن يبعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من لا تقوم عليهم الحجة بتبليغه، ومن لا يلزمهم قبول ما علموهم من القرآن وأحكام الدين وما أفتوهم به في الشريعة.. .إذ لو كان ذلك لكانت بعثته لهم فضولاً، ولكان عليه السلام قائلاً للمسلمين: بعثت إليكم من لا يجب عليكم أن تقبلوا منه ما بلغكم عني، ومن حكمكم أن لا تلتفتوا إلى ما نقل إليكم عني.. . ومن قال بهذا فقد فارق الإسلام )).

والحجج في هذا الباب كثيرة، وإجماع السلف على ذلك محقق.

قال أبو رية (ص34): (( أما عمر فقد كان أشد من ذلك احتياطاً وتثبيتاً روى البخاري عن أبي سعيد الخدري قال: كنت في مجلس من مجالس الأنصار إذ جاء أبوموسى كأنه مذعور، فقال: استأذنت على عمر ثلاثاً فلم يؤذن لي، فرجعت، قال عمر: ما منعك؟ قلت: استأذنت ثلاثا فلم يؤذن لي فرجعت، وقال رسول الله صلى

الله عليه وسلم / (( إذا استأذن أحدكم ثلاثاً فلم يؤذن له فليرجع )). فقال: والله لتقيمين عليه بينة. ( زاد مسلم: وإلا أوجعتك. وفي رواية ثالثة: فوالله لأوجعن ظهرك وبطنك أو لتأتين بمن يشهد لك على هذا ) أمنكم أحد سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم ؟ فقال أبي بن كعب: والله لا يقوم معك إلا أصغر القوم. فكنت أصغر القوم، فقمت معه فأخبرت عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك ))  قال أبو رية (( فانظر كيف تشدد عمر في أمر ليس فيه حلال ولا حرام، وتدبر ماذا يكون الأمر لو كان الحديث في غير ذلك من أصول الدين أو فروعه. وقد استند إلى هذه القصة من يقولون إن عمر كان لا يقبل خبر الواحد. واستدل به من قال إن خبر العدل بمفرده لا يقبل حتى ينضم إليه غيره... )). أقول: قد ثبت عن عمر الأخذ بخبر الواحد في أمورعديدة، من ذلك أنه كان لايورث المرأة من دية زوجها حتى أخبره الضحاك بن سفيان الكلابي أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إليه أن يورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها. فرجع إليه عمر. وعمل بخبر عبد الرحمن بن عوف وحده في النهي عن دخول بلد فيها الطاعون وعمل بخبره وحده في أخذ الجزية من المجوس. وهذا كله ثابت، راجع رسالة الشافعي 426: وفي صحيح البخاري وغيره عن عمر أنه قال لابنه عبد الله: (( إذا حدثك سعد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء فلا تسأل عنه غيره. وكان سعد حدث عبد الله حديثاً في مسح الخفين، فأما قصة أبي موسى فإنما شدد عمر لأن الاستئذان مما يكثر وقوعه، وعمر أطول صحبة للنبي صلى الله عليه وسلم وأكثر ملازمة وأشد اختصاصاً، ولم يحفظ هو ذاك الحكم فاستغربه، ولهذا لما أخبره أبو سعيد عاد عمر باللائمة على نفسه فقال (( خفي علي هذا من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم )) ألهاني عنه الصفق بالأسواق )). وهذا ثابت في الصحيحين. وأنكر أبي بن كعب على عمر تشديده على أبي موسى وقال (( فلا تكن يا ابن الخطاب عذاباً على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم )) فقال عمر (( إنما سمعت شيئاً فأحببت أن أتثبت )) وهذا في صحيح مسلم. وقـد كـان عمر يسمى أبيــاً: سيد

 

المسلمين. وفي الموطأ أن عمر قل لأبي موسى (( أما إني لم أتهمك، ولكني أردت أن لا يتجرأ الناس على الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم )). قال ابن عبد البر (( يحتمل أن يكون حضر عنده من قرب عهده بالإسلام فخشي أن أحدهم يختلق الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرغبة والرهبة طالباً للمخرج مما يدخل فيه. فأراد أن يعلمهم أن من فعل شيئاً من ذلك ينكر عليه حتى يأتي بالمخرج )) وقد نقل أبو رية شيئاً من فتح الباري وترك ما يتصل به من الجواب الواضح عنه، فإن شئت فراجعه.

47

 
/وقال أبو رية (ص8): (( وكان علي يستحلف الصحابي على ما يرويه له )) وقد رده البخاري وغيره كما في ترجمة أسماء من تهذيب التهذيب. وتوقيق العجلي وجدته بالاستقراء،كتوثيق ابن حبان أو أوسع، فلا يقاوم إنكار البخاري وغيره على أسماء. على أنه لو فرض ثبوته فإنما هو مزيد الاحتياط، لا دليل على اشتراطه.هذا من المتواتر عن الخلفاء الأربعة أن كلا منهم كان يقضي ويفتي بما عنده من السنة بدون حاجة إلى أن تكون عند غيره. وأنهم كان ينصبون العمال من الصحابة وغيرهم ويأمرونهم أن يقضي ويفتي كل منهم بما عنده من السنة بدون حاجة إلى وجودها عند غيره. هذا مع أن المنقول عن أبي بكر وعمر وجمهور العلماء أن القاضي لا يقضي بعلمه. وقال أبو بكر(( لو وجدت رجلاً على حد ما أقمته عليه حتى يكون معي غيري )) وقال عكرمة: قال عمر لعبد الرحمن بن عوف (( لو رأيت رجلاً على حد زنا أو سرقة وأنا أمير؟ )) فقال (( شهادتك شهادة رجل من المسلمين )) قال: (( صدقت )). (راجع فتح الباري 139:13و141). ولوكان عندهم أن خبر الواحد العدل ليس بحجة تامة لما كان للقاضي أن يقضي بخبر عنده حتى يكون معه غيره، ولا كان للمفتي أن يفتي بحسب خبر عنده ويلزم المستفتي العمل به حتى يكون معه غيره. فتدبر هذا فإنه إجماع. وقد مضي به العمل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه الغنى.

وذكر شيئاً عن أبي هريرة، وسيأتي في ترجمته رضي الله عنه.

 

الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم

قال أبو رية (ص6):لما قرأت حديث ((من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)) غمرني الدهش لهذا القيد الذي لا يمكن أن يصدر من رسول جاء بالصدق وأمر به، ونهى عن الكذب وحذر منه، إذ ليس بخاف أن الكذب هو الإخبار بالشيء على خلاف ما هو عليه، سواء أكان عمداً أم غير عمد )).

ثم ذكر (ص9) أنه كلمة (متعمداً ) (( لم تأت في روايات كبار الصحابة قال: ويبدو أن هذه الكلمة قد تسللت إلى هذا الحديث على سبيل الإدراج لكي يتكئ عليها الرواة فيما يروونه عن غيرهم من جهة الخطأ أو الوهم أو الغلط.. . ذلك بأن المخطيء غير مأثوم. أو أن هذه الكلمة وضعت ليسوغ الذين يضعون الأحاديث عن غير عمد عملهم ))

48

 
ثم أ طال الكلام (ض36) فزعم أن (( الروايات الصحيحة التي جاءت عن كبار الصحابة ومنهم ثلاثة من الخلفاء الراشدين / تدل على أن هذا الحديث لم تكن فيه تلك الكلمة (متعمداً)، قال: وكل ذي لب يستبعد أن يكون النبي نطق بها، لمنافة ذلك للعقل والخلق اللذين كان الرسول متصفاً بالكمال فيهما )).

أقول: أما الرواية فقد جاءت عن كبار الصحابة وغيرهم بلفظ (( من كذب على فلبيتبوأ الخ )) وبما يؤدي معناه مثل (( من قال علي ما ألم أقل الخ )) وجاءت بلفظ(( من كذب علي متعمداً فليتبوأ الخ )) وبما يؤدي معناه مثل (( من تعمد علي كذبا الخ )) راجع البخاري من فتح الباري وصحيح مسلم ومسند أحمد وتاريخ بغداد وكنز العمال 22:5 ومشكل الآثار للطحاوي 164:1-176. وقد يمكن للترجيح بالنظر إلى الرواية عن صحابي معين، فأما على الاطلاق فلا، وكما أن الله عزوجل كرر في القرآن بيان شدة الإثم في افتراء الكذب عليه فمعقول أن يكرر رسوله وها هنا بحثان:

البحث الأول في البرهان العقلي الذي اعتمد عليه أبو رية إذ قال: عن هذا القيد (متعمداً) (( لا يمكن أن يصدر من رسول الله جاء بالصدق الخ )) وقال (( وكل ذي لب يستبعد أن يكون النبي قد نطق بهالمنافة ذلك للعقل الخ ))

أقول: ماعسى أن يقول أبو رية في قول الله عزوجل (( ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كذب بآياته )) واقرأ (93:6و 144) و (37:7) و (17:10)و (18:11) و (15:18)و (68:29) و (70:61) كل هذه الآيات تذكر افتراء الكذب على الله، وافتراء الكذب هو تعمده والكذب على النبي صلى الله عليه وسلم لا يزيد على الكذب على الله، فلماذا لا يعقل أن يقيد النبي صلى الله عليه وسلم كما قيد القرآن؟

 

49

 
وقال الله سبحانه(286:2لا يكلف الله نفساً إلا وسعها[واقرأ (233:2)و(152:6)و(41:7)و(62:23)و(7:65)]لها ماكسبت وعليها ما اكتسب ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ) وقد اعترف أبو رية (ص8) بأنه ليس في وسع من سمع الحديث أن لا يقع منه في تبليغه خطأ البتة، وعبارته (( وتركه يذهب بغير قيد إلى أذهان السامعين، تخضعه الذاكرة لحكمها القاهر، الذي لا يستطيع إنسان مهما كان أن ينكره أو ينازع فيه من سهو أو غلط أو نسيان )). وإذا كان الله عزوجل لا يكلف نفساً إلا وسعها فبماذا يستحق من وقع منه ما ليس في وسعه أن لا يقع أن يتبوأ منزلاً من جهنم؟ وقد علم الله عباده أن يقولوا (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا)وماعلمهم إلا ليستجيب لهم. وقد ثبت في الصحيح أن الصحابة لما قالوها قال الله تعالى (( قد فعلت )) وقال الله تبارك وتعالى (5:33 وليس عليكم جناح فيما

 

 

أخطأتم به. ولكن ماتعمدت قلوبكم ) وقال سبحانه (106:16 من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان، ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم ) المخطيء أولى بالعذر من المكره.

49

 
قد يقول أبو رية: كان للصحابة مندوحة عن الوقوع في الخطأ، وذلك بأن يدعوا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم البتة.

قلت: أني لهم ذلك وهم مأمورون أن يبلغ شاهدهم غائبهم، كان ذلك في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبعده، وكان أصحابه يبلغ بعضهم بعضاً،وكان يتناوبون كما في الصحيح عن عمر كنت أنا وجار لي من الأنصار.. . وكنا نتناوب النزول على رسول اله صلى الله عليه وسليم ينزل يوماً وأنزل يوماً، فإذا نزلت جئته بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره، وإذا نزل فعل مثل ذلك..  )وقد قال تعالى (122:9 وما كان المؤمنون لينفروا كافة، فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم ولعلهم يحذرون) وكان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث الرسل والأمراء ويأمرهم أن يبلغوا من أرسلوا إليهم ويجيء أفراد من القبائل فيسلمون ويتعلمون ويسمعون ويرجعون إلى قبائلهم فيبلغونهم. وقد علموا أن محمداً رسول الله إلى الناس كافة إلى يوم القيامة، وأن شريعته للناس كافة إلى يوم القيامة وأن الله تعالى أمر الناس كافة باتباعه وطاعته والتأسي به وأخذ ما أتى به والانتهاء عما نهى، وجعله المبين عنه لما أنزله بقوله وفعله، وأنهم مأمورون بتبليغ الكتاب وبيانه،إذ كل ذلك دين الناس كافة إلىيوم القيامة،وأنهم مأمورورن بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،و التعاون على البر والتقوى، والدلالة على الخير والنصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولعباده. وعلموا الوعيد الشديد على كتمان الحق،وكتمان ما أنزل الله من البينات والهدى، مع علمهم بأن كتمان بيان الكتاب بمنزلة كتمان الكتاب. وحسبنا أنهم كانوا أعلم بالله ودينه وما لهم وعلهيم، وأتبع للحق وأحرص على النجاة من كل من جاء بعدهم، وقد حدث أفاضلهم وخيارهم ما بين مكثر ومقل، ولم يكن المقل يعيب على المكثر إلا أن يرى بعضهم أن الإكثار جداً خلاف الأولى، وهذا عمر الذي نسب إ ليه كراهية الإكثار قد جاءت عنه – مع تقدم وفاته—أكثر من خمسمائة حديث، وله في صحيح البخاري وحده ستون حديثاً، وقد نسب إ ليه الوهم كما نسب إلى غيره، فالحق الذي لا يرتاب فيه عاقل أنهم كانوا مأمورين بالتبليغ عند الحاجة، مأذونا لهم أن يحدثوا مطلقاً، مع العلم بشدة حرمة الكذب في جميع الأحوال، فمعنى ذلك أن عليهم ولهم أن يحدثوا بما يعتقدون أنهم صادقون فيه، ومع العلم بأن أحدهم إذا حدث معتقداً أنه صادق فقد يقع له خطأ، وإن من وقع له ذلك مع بذله وسعه في التحري والتحفظ فهو معذور، وهذا هو الذي تقتضيه القضايا العقلية والنصوص القرآنية، حتى لو فرض أنه لم يأت في الحديث / لفظ ( متعمداً) ولا ما يؤدي معناه، فإن الأدلة القطعية توجب أن يكون هذا مراداً في المعنى.

50

 
ولا يتوهمن أحد أن كلمة متعمداً تخرج من حدث جازماً وهو شاك، كلا فإن هذا متعمد بالإجماع، ولا نعلم أحد من الناس حتى من أهل الجهل والضلالة زعم أن كلمة (( متعمداً )) تخرج هذا، وإنما وجد من أهل الجهل والضلال من تشبت بكلمة (( علي )) فقال: نحن نكذب له لا عليه. فلو شكك أبو رية في كلمة (( علي )) لكان أقرب

وذكر أبو رية (ص38) حديث الزبير، ودونك تلخيص حاله: أشهر طرقه ر واية شعبة عن جامع بن شداد بن عامر عن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن الزبير، رواه عن شعبة جماعة بدون كلمة (( متعمداً )) ورواه معاذ بن معاذ – وهو من جبال الحفظ – فذكرها. فنظرنا في رواية غندر عن شعبة- فإن غندراً ضبط كتابه عن شعبة وعرضه عليه وحققه، قال ابن المبارك: إذا اختلف الناس في حديث شعبة فكتاب غندر حكم بينهم. فوجدنا الإمام أحمد رواه في مسنده عن غندر عن شعبة وفيه الكلمة (( متعمداً )). وكذلك رواه أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن بشار بنـدار

 

عن غندر، وراه ابن ماجه عنهما، لكن في الفتح أن الإسماعيلي أخرجه من طريق غندر بدونها. وفي الفتح أن الزبير بن بكار روى الخبر في كتاب النسب من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن الزبير بدونها، ولا أدري كيف سنده. وكذلك أخرجه الدارمي بدونها من طريق أخرى عن ابن الزبير، في سندها عبد الله بن صالح كاتب الليث، وفيه كلام. وقد أخرجه أبو داد بسند صحيح عن عامر بن عبد الله بن الزبير بسنده وفيه الكلمة. وقال المنذري في اختصاره لسنن أبي داود (( والمحفوظ في حديث الزبير أنه ليس فيه ( متعمداً ) )) نظر فيه العلامة أحمد محمد شاكر رحمه الله في تعليقه على المسند فذكر أن ابن سعد روىالخبر في طبقاته 3/1/ 74 عن عفان ووهب بن جرير وأبي الوليد، ثلاثتهم عن شعبة. فذكر الحديث وفي أخره (( قال وهب بن جرير في حديثه عن الزبير: والله ما قال (( متعمداً )) وأنتم تقولون (( متعمداً )) رأى أحمد شاكر أن هذا من قول وهب بن جرير لزملائه الذين رووا معه عن شعبة، يريد وهب: والله ما قال شعبة الخ:. فنسبتها إلى الزبير وهم.

51

 
أقول أما ظاهر قول ابن سعد (( قا ل وهب بن جرير في حديثه عن الزبير )) فإنه يقتضي أن وهباً ذكرها في الحديث نفسه. وفي مشكل الآثار للطحاوي 1/166 (( حدثنا يزيد بن سنان حدثنا أبو داود ووهب بن جرير حدثنا شعبة )) فذكر الحديث وقال في آخره (( زاد وهب في حديثه: والله ما قال متعمداً وأنتم تقولون متعمداً،لكن يعلوا على ذلك أن الحديث روى من عدة طرق عن شعبة وغيره، وليس فيه هذه الزيادة ((والله ما قال الخ)) ولا هي موجودة في رواية غندر عن شعبة،فيشبه أن تكون من كلام وهب قالها متصلة فحسبها السامع منه فقال (( قال وهب بن جرير في حديثه عن الزبير الخ)) فأما قول ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث ص49: (( وروى عن الزيبر أنه/ رواه وقال: أراهم يزيدون فيه متعمداً، والله ما سمعته قال متعمداً )) فأخشى أن يكون ابن قتيبة إنما أخذه من ابن سعد وتغيير اللفظ من الروايـة بالمعنى،

وعلى فرض صحة هذه الرواية عن الزبير فإنما يفيد ذلك خطأ من ذكر الكلمة في حديث الزبير، ثم تكون هذه الزيادة نفسها حجة على صحة الكلمة في الجملة لأن الزبير ذكر أنه سمع إخوانه من الصحابة يذكرونها في الحديث، والظاهر كما تقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم كرر التشديد في عدة مواقع، والحمل على أنه ترك الكلمة في موقع فسمعه جماعة منهم الزبير وذكرها في موقع آخر فسمعه آخرون، أوضح وأحق من الحمل على الغلط

51

 
والغريب ما علقه أبو رية في حاشية ص 39 من الهجر وفيه (( ولعنة الله على الكاذبين متعمدين وغير متعمدين ومن يروجه لهم من الشيوخ الحشويين، )) مع أنه ذكر ص49 وقوع الخطأ من عمر وابن عمر وعتبان بن مالك أحد البدريين وأبي الدرداء وأبي سعيد وأنس وغيرهم، والمخطيء عنده كاذب، بل مر في كلامه ما يقتضي أن كل من حدث من الصحابة – ومنهم الخلفاء الأربعة وبقية العشرة وأمهات المؤمنين وغيرهم - لا بد أن يكون وقع في الخطأ، فكلهم عنده كاذبون تنالهم لعنته.وأشد من هذا وأمر ما مرت الإشارة إليه ص(18-17)، وهذه من فوائد عداوة السنة وأهلها.

البحث الثاني في حقيقة الكذب: بنى أبو رية على أنه (( ليس بخاف أن الكذب هوا لإخبار بالشيء علىخلاف ما هو عليه، سواء أكا ن عن عمد أم غير عمد )) وهو يعلم – فيما يظهر – أن هذا مخالف لقول شيخيه اللذين يقدسهما، وإيهاما ونحوهما عنى بقوله ص4 (( العلماء والأدباء )) وقوله ص196 (( أصحاب العقول الصريحة )) وهما النظام والجاحظ، فالكذب عند النظام مخالفة الخبر لاعتقاد المخبر، وهو عند الجاحظ مخالفته لكلا الأمرين معاً: الواقع، واعتقاد الخبر، فعلى القولين ما طابق اعتقاد المخبر فليس بكذب وإن خالف الواقع.وقد ذكر أبو رية (ص50) قول عائشة الذين حدثوها عن عمر وابنه بخبر رأت أنهما وهما فيه (( إنكم لتحدثون عن غير كاذبين، ولكن السمع يخطيء ))، وقولها في خبر رواه ابن عمر (( إنه لم يكذب، ولكنه نسي أو خطأ )) والراجح ما عليه الجمهور أن الكذب مخالفة الخبر الواقع، لكن المتبادر من قولك: كذب فلان، أو: فلان كاذب ونحو ذلك أنه تعمد، فمن ثم لا يقال ذلك للمخطيء، إلا أنه ربما قيل له ذلك تنبيهاً على أنه قصر ( راجع كتاب الرد على الاخنائي ص21). ولما أرادت عائشة أن تنفي عن عمر وابنه التعمد والتقصير نفت عنهما الكذب البتة، ثم رأيت الطحاوي ذكر هذه القضية في مشكل الآثار، فذكر كثيراً من الروايات ثم قال 173 ما ملخصه: من كذب فقد تعمد، وذكر ( متعمداً ) في بعض الروايات إنما هو توكيد كقولك:،نظرت بعيني وسمعت بأذني، وفق القرآن ( والسارق والسارقة ) و ( الزاني والزانية ) (( لم يذكر في شيء من ذلك التعمد كأن هذه الأشياء لا تكون إلا عن تعمد، لأنه لا يكون كاذباً ولا يكون زانياً ولا يكون سارقاً إلا بقصده إلى ذلك وتعمده ))

52

 
وقال أبو رية (ص41): (( حديث من كذب علي ليس بمتواتر. وقد قال الحافظ ابن حجر وهو سيد المحدثين بإجماع وأمير المؤمنين في الحديث ما يلي..  )) فذكر عن فتح الباري 168:1 اعتراض بعضهم على تواتره، وسكت،/ وفي فتح الباري بيان الجواب الواضح عن ذلك الاعترض، فراجعه.

وقال (ص42): (( الكذب على النبي قبل وفاته )). أقول: سأنظر في هذا وما يليه إلى ص53 بعد الكلام على عدالة الصحابة الذي ذكره ص310، فانتظر

 

الرواية بالمعنى

 

قال أبو رية (ص8): (( ولما رأى بعض الصحابة أن يرووا للناس من أحاديث النبي، ووجدوا أنهم لا يستطيعون أن يأتوا بالحديث عن أصل لفظه استباحوا لأنفسهم أن يرووا على المعنى ))

أقول: أنزل الله تبـارك وتعـالى هذه الشريعة في أمة أ مية، فاقتضت حكمته

 

ورحمته أن يكفلهم الشريعة، ويكلفهم حفظها وتبليغها، في حدود ما يتيسر لهم. وتكفل سبحانه أن يرعاها بقدره ليتم ماأرده لها من الحفظ إلى قيام الساعة. وقد تقدم شيء من بيان التيسير ص20و21و22. ومن تدبر الأحاديث في إنزال القرآن على سبعة أحرف وما اتصل بذلك، بان له أن الله تعالى أنزل القرآن على حرف هو الأصل، ثم تكرر تعليم جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم لتمام سبعة أحرف، وهذه الأحرف الستة الزائدة عبارة عن أنواع من المخالفة في بعض الألفاظ للفظ الحرف الأول بدون اختلاف في المعنى[المراد بالاختلاف في المعنى هو الاختلاف المذكور في قول الله تعالى (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا]فأما أن يدل أحد الحرفين على معنى والآخر على معنى آخر وكلا المعنيين معاً حق.فليس باختلاف بهذا المعنى] فكان النبي صلى الله عليه وسلم يلقن أصحابه فيكون بين ما يلقنه ذا وما لقنه ذاك شيء من ذاك الاختلاف في اللفظ، فحفظ أصحابه كل بما لقن، وضبطوا ذلك في صدورهم ولقنوه الناس، ورفع الحرج مع ذلك عن المسلمين، فكان بعضهم ربما تلتبس عليه كلمة مما يحفظه أو يشق عليه النطق بها فيكون له أن يقرأ بمرادفها. فمن ذلك ماكان يوافق حرفاً آخر ومنه ما لا يوافق، ولكنه لا يخرج عن ذاك القبيل، وفي فتح الباري (( ثبت عن غير واحد من الصحابة أنه كان يقرأ بالمرادف ولو لم يكن مسموعاً له )). فهذا ضرب محدود من القراءة بالمعنى رخص فيه لأولئك وكتب القرآن بحضرة   النبي صلى الله عليه وسلم في قطع من الجريد وغيرهوتكون في القطعة الآية والآيتان أو أكثر، وكان رسم الخط يومئذ يحتمل – والله أعلم – غالب الاختلافات التي في الأحرف السبعة، إذ لم يكن له شكل ولا نقط، وكانت تحذف فيه كثير من الألفات ونحو ذلك كما تراه في رسم المصحف،وبذلك الرسم عينه نقل ما في تلك القطع إلى صحف في عهد أبي بكر، وبه كتبت المصاحف في عهد عثمان، ثم صار على الناس أن يضبطوا قراءتهم، بأن يجتمع فيها الأمران: النقل الثابت بالسماع من النبي صلى الله عليه وسلم، واحتمال رسم المصاحف العثمانية.

وبذلك خرجت من القراءات الصحيحة تلك التغييرات التي كان يترخص بها بعض الناس وبقي من الأحرف الستة المخالفة للحرف الأصلى ما احتمله الرسم/ ولعله غالبها إن لم يكن جميعها مع أنه وقع اختلاف يسير بين المصاحف العثمانية، وكأنه تبعاً للقطع التي كتب فيها القرآن بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم، كأن توجد الآية في قطعتين كتبت الكلمة في إحداهما بوجه وفي الأخرى بالآخر، فبقي هذا الاختلاف في القراءات الصحيحة.

53

 
ونخرج مما تقدم بنتيجتين: الأولى أن حفظ الصدور لم يكن كما يصوره أبو رية بل قد اعتمد عليه في القرآن وبقي الاعتماد عليه وحده بعد حفظ الله عزوجل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعمر وسنين من عهد عثمان، لأن تلك القطع التي كتب فيها في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كانت مفرقة عند بعض أصحابه لا يعرفها إلا من هي عنده، وسائر الناس غيره يعتمدون على حفظهم، ثم لما جمعت في عهد أبي بكر لم تنشر هي ولا الصحف التي كتبت عنها، بل بقيت عند أبي بكر ثم عند عمر ثم عند ابنته حفصة أم المؤمنين حتى طلبها عثمان، ثم اعتمد عليه في عامة الواضع التي يحتمل فيها الرسم وجهين أو أكثر، واستمر الاعتماد عليه حين استقر تدوين القراءات الصحيحة.

النتيجة الثانية: أن حال الأميين قد اقتضت الترخيص لهم في الجملة في القراءة بالمعنى، وإذا كان ذلك في القرآن مع أن ألفاظه مقصودة لذاتها لأنه كلام رب العالمين بلفظه ومعناه، معجر بلفظه ومعناه، متعبد بتلاوته، فما بالك بالأحاديث التي مدار المقصود الديني فيها على معانيها فقط؟ وإذا علمنا ما تقدم أول هذا الفصل من التيسير مع ما تقدم ص20 , 21و 32، وعلمنا ما دلت عليه القواطع أن النبي صلى الله عليه وسلم مبين لكتاب الله ودينه بقوله وفعله، وأن كل ما كان منه مما فيه بيان للدين فهو خالد بخلود الدين إلى يوم القيامة، وأن الصحابة مأمورون بتبليغ ذلك في حياة النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته (راجع ص12و 36و 45و49) وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمرهم بكتابة الأحاديث وأقرهم على عدم كتابتها، بل قيل إنه نهاهم عن كتابتها كما مر بما فيه، ومع ذلك كان يأمرهم بالتبليغ لما علموه وفهموه، وعلمنا أن عادة الناس قاطبة فيمن يلقى إليه كلام المقصود منه معناه ويؤمر بتبليغه أنه إذا لم يحفظ لفظه على وجهه وقد ضبط معناه لزمه أن يبلغه بمعناه ولا يعد كاذباً ولا شبه كاذب، علمنا يقيناً أن الصحابة إنما أمروا بالتبليغ على ماجرت به العادة: من بقي منهم حافظاً على وجهه فليؤده كذلك، ومن بقي ضابطاً للمعنى ولم يبق ضابطاً للفظ فليؤده بالمعنى. هذا أمر يقيني لا ريب فيه، وعلى ذلك جرى عملهم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته.

54

 
فقول أبي رية (( لما رأى بعض الصحابة..  استباحوا لأنفسهم )) إن أراد أنهم لم يؤمروا بالتبليغ ولم يبح لهم أن يرووا بالمعنى إذا كانوا ضابطين له دون اللفظ، فهذا كذب عليهم وعلى الشرع/ والعقل كما يعلم ما مر. وتشديده صلى الله عليه وسلم في الكذب عليه إنما المراد به الكذب في المعاني، فإن الناس يبعثون رسلهم ونوابهم ويأمرونهم بالتبليغ عنهم. فإذا لم يشترط عليهم المحافظة على الألفاظ فبلغوا المعنى فقد صدقوا: ولو قلت لابنك اذهب فقل للكاتب: أبي يدعوك. فذهب وقال له: والدي- أو الوالد – يدعوك، أو يطلب مجيئك إليه، أو أمرني أن أدعوك له، لكان مطيعاً صادقاً، ولو اطلعت بعد ذلك على ما قال فزعمت أنه عصى أو كذب وأردت أن تعاقبه لأنكر العقلاء عليك ذلك. وقد قص الله عزوجل في القرآن كثيراً من أ قوال خلقه بغير ألفاظهم، لأن من ذلك ما يطول فيبلغ الحد المعجز، ومنه ما يكون عن لسان أعجمي، ومنه ما يأتي في مواضع بألفاظ وفي آخر بغيرها، وقد تتعدد الصور كما في قصة موسى، ويطول في موضع ويختصر في آخر. فبالنظر إلى أداء المعنى كرر النبي صلى الله عليه وسلم بيان شدة الكذب عليه، وبالنظر إلى أداء اللفظ اقتصر على الترغيب فقال (( نصر الله امرءاً سمع منا شيئاً فأداه كما سمعه، فرب مبلغ أوعى من سامع )) جاء بهذا اللفظ أو معناه مطولا ومختصرا من حديث ابن مسعود  وزيد بن ثابت وأنس وجبير بن مطعم وعائشة وسعد وابن عمر وأبي هريرة وعمير بن قتادة ومعاذ بن جبل والنعمان بن بشير وزيد بن خالد وعبادة بن الصامت، منها الصحيح وغيره. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتحرى معونتهم على الحفظ والفهم كما مر ص43

واعلم أن الأحاديث الصحيحة ليست كلها قولية، بل منها ما هو إخبار عن أفعال النبي صلى الله عليه وسلم وهي كثيرة. ومنها ما أصله قولي، ولكن الصحابي لا يذكر القول بل يقول: أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بكذا، أو نهانا عن كذا، أو قضى بكذا، أو أذن في كذا..  وأشباه هذا. وهذا كثير أيضاً. وهذان الضربان ليسا محل نزاع، والكلام في مايقول الصحابي فيه: قال رسول الله كيت وكيت، أو نحو ذلك. ومن تتبع هذا في الأحاديث التي يرويها صحابيان أو أكثر ووقع اختلاف فإنما هو في بعض الألفاظ، وهذا يبين أن الصحابة لم يكونوا إذا حكوا قوله صلى الله عليه وسلم يهملون ألفاظه البتة، لكن منهم من يحاول أن يؤديها فيقع له تقديم وتأخير أو إبدال الكلمة بمرادفها ونحو ذلك. ومع هذا فقد عرف جماعة من الصحابة كانوا يتحرون ضبط الألفاظ، وتقدم ص42 قول أبو رية:إن الخلفاء الأربعة وكبار الصحابة وأهل الفتيا لم يكونوا ليرضوا أن يرووا بالمعنى. وكان ابن عمر ممن شدد في ذلك، وقد آتاهم الله من جودة الحفظ ما آتاهم.وقصة ابن عباس مع عمر بن أبي ربيعة مشهورة. ويأتي في ترجمة أبي هريرة ما ستراه، فعلى هذا ما كان من أحاديث المشهورين بالتحفظ فهو بلفظ النبي صلى الله عليه وسلم وما كان من حديث غيرهم فالظاهر ذلك، لأنهم كلهم كانوا يتحرون ما أمكنهم، ويبقى النظر في تصرف من بعدهم.

55

 
/ الحديث ورواته ونقد الأئمة للرواة

قال أبو رية (( ثم سار على سبيلهم كل من جاء من الرواة بعدهم. فيتلقى المتأخر عن المتقدم ما يرويه عن الرسول بالمعنى، ثم يؤديه إلى غيره بما استطاع أن يمسكه ذهنه معه )).

أقول: هذه حكاية من يأخذ الكلمات من هنا وهناك، ويقيس بذهنه بدون خبره بالواقع، فإن كثيراً من الأحاديث الصحيحة إن لم نقل غالبها يأتي الحديث منها عن صحابيين أو أكثر، وكثيراً ما يتعدد الرواة عن الصحابي ثم عن التابعي، وهلم جرا

فأما الصحابة فقد تقدم حالهم

وأما التابعون فقد يتحفظون الحديث كما يتحفظون القرآن كماجاء عن قتادة أنه (( كان إذا سمع الحديث أخذه العويل والزويل حتى يحفظه )) هذا مع قوة حفظه، ذكروا أن صحيفة جابر على كبرها قرئت عليه مرة واحدة- وكان أعمى – فحفظها بحروفها، حتى قرأ مرة سورة البقرة فلم يخطيء حرفاً ثم قال: لأنا الصحيفة جابر أحفظ مني لسورة البقرة )) وكان غالبهم يكتبون ثم يتحفظون ما كتبوه، ثم منهم من يبقى كتبه- راجع ص28 – ومنهم من إذا أتقن المكتوب حفظاً محا الكتاب، وهؤلاء ونفر لم يكونوا يكتبون، غالبهم ممن رزقوا جودة الحفظ وقوة الذاكرة كالشعبي والزهري وقتادة.وقد عرف منهم جماعة بالتزام رواية الحديث بتمام لفظه كالقاسم بن محمد بن أبي بكر ومحمد بن سيرين ورجاء بن حيوة.

أما أتباع التابعين فلم يكن فيهم راو مكثر إلا كان عنده كتب بمسموعاته يراجعها ويتعاهدها ويتحفظ حديثه منها. ثم منهم من لم يكن يحفظ، وإنما يحدث من كتابه، ومنهم من جرب عليه الأئمة أنه يحدث من حفظه فيخطيء، فاشترطولصحة روايته أن يكون السماع منه من كتابه.ومنهم من عرف الأئمة أنه حافظ، غير أنه قد يقدم كلمة أو يؤخرها، ونحو ذلك مما عرفوا أنه لا يغير المعنى، فيوثقونه ويبينون أن السماع منه من كتابه أثبت.

فأما من بعدهم فكان المتثبتون لا يكادون يسمعون من الرجل إلا من أصل كتابه. كان عبد الرزاق الصنعاني ثقة حافظاً، ومع ذلك لم يسمع منه أحد بن حنبل

 

ويحيى بن معين إلا من أصل كتابه

هذا، وكان الأئمة يعتبرون حديث كل راو فينظرون كيف حدث به في الأوقات المتفاوته فإذا وجدوه يحدث مرة كذا ومرة كذا بخلاف لا يحتمل ضعفوه. وربما سمعوا الحديث من الرجل ثم يدعونه مدة طويلة ثم يسألونه عنه. ثم يعتبر حرف مرواياته برواية من روى عن شيوخه وعن شيوخ شيوخه، فإذا رأوا في روايته مايخالف رواية الثقات حكموا عليه بحسبها. وليسوا يوثقون الرجل لظهور صلاحه في دينه فقط.، بل معظم اعتمادهم علىحاله في حديثه كما مر، وتجدهم يجرحون الرجل بأنه يخطيء ويغلط، وباضطرابه في حديثه، / وبمخالفته الثقات، وبتفرده، وهلم جرا. ونظرهم عند تصحيح الحديث أدق من هذا، نعم، إن هناك من المحدثين من يسهل ويخفف، لكن العارف لا يخفى عليه هؤلاء من هؤلاء. فإذا رأيت المحققين قد وثقوا رجلاً مطلقاً فمعنى ذلك أنه يروي الحديث بلفظه الذي سمعه، أو على الأقل إذا روى المعنى لم يغير المعنى، وإذا رأيتهم قد صححوا حديثاً فمعنى ذلك أنه صحيح بلفظه أو على الأقل بنحو لفظه، مع تمام معناه، فإن بان لهم خلاف ذلك نبهوا عليه كما تقدم ص18.

56

 
وذكر أبو رية ص54 فما بعدها كلاماً طويلاً في هذه القضية. وذكر اعتقاد شيوخ الدين أن الأحاديث كآيات القرآن (( من وجوب التسليم لها وفرض الإذعان لأحكامها بحيث يأثم أو يرتد أو يفسق من خالفها ويستتاب من أنكرها أو شك فيها ))

أقول: أما ما لم يثبت منها ثبوتاً تقوم به الحجة فلا قائل بوجوب قبوله والعمل به. وأما الثابت فقد قامت الحجج القطعية على وجوب قبوله والعمل به،وأجمع علماء الأمة عليه كما تقدم مراراً، فمنكر وجوب العمل بالأحاديث مطلقاً تقام عليه الحجة، فإن أصر بأن كفره، ومنكر وجوب العمل ببعض الأحاديث إن كان له عذر

من الأعذار المعروفة بين أهل العلم وما في معناها فمعذور، وإلا فهو عاصٍ لله ورسوله، والعاصي آثم فاسق. وقد يتفق ما يجعله في معنى منكر وجوب العمل بالأحاديث مطلقاً وقد مر.

وذكر (ص55فما بعدها) الخلاف في جواز الرواية بالمعنى

أقول: الذين قالوا لا تجوز إنما غرضهم ما ينبغي أن يعمل به في عهدهم وبعدهم: فأما ما قد مضى فلا كلام فيه، لا يطعن في متقدم بأنه كان يروى بالمعنى ولا في روايته، لكن إن وقع تعارض بين مرويه ومروي من كان يبالغ في تحرى الرواية باللفظ فذلك مما يرجح الثاني. وهذا لا نزاع فيه.

ومدار البحث هو أن الرواية بالمعنى قد توقع في الخطأ، وهذا معقول، لكن لا وجه للتهويل، فقد ذكر أبو رية (ص59): (( قال ابن سيرين: كنت أسمع الحديث من عشرة، المعنى واحد والألفاظ مختلفة )) وكان ابن سيرين من المتشددين في أن لا يروى إلا باللفظ ومع هذا شهد للذين سمع منهم أنهم مع كثرة اختلافهم في اللفظ لم يخطيء أحد منهم المعنى- ولهذا لما ذكر له أن الحسن والشعبي والنخعي يروون بالمعنى اقتصر على قوله (( إنهم لو حدثوا كما سمعوا كان أفضل )) انظر الكفاية للخطيب ص206

57

 
ومن تدبر ما تقدم من حال الصحابة وأنهم كانوا كلهم يراعون الرواية باللفظ، ومنهم من كان يبالغ في تحري/ ذلك. وكذا في التابعين وأتباعهم، وأن الحديث الواحد قد يرويه صحابيان أو أكثر، ويرويه عن الصحابي تابعيان فأكثر وهلم جرا، وأن التابعين كتبوا، وأن أتباعهم كتبوا ودونوا، وأن الأئمة اعتبروا حال كل راو في روايته لأحاديثه في الأوقات المتفاوته فإذا وجدوه يروي الحديث مرة بما يحيل معناه في روايته له مرة أخرى جرحوه، ثم اعتبروا رواية كل راوٍ برواية الثقات فإذا وجدوه يخالفهم بما يحيل المعنى جرحوه، ثم بالغ محققوهم في العناية بالحديث عند التصحيح،

 

فلا يصححون ما عرفوا له علة  نعم قد يذكرون في المتابعات والشواهد ما وقعت فيه مخالفة ما وينبهون عليه، من تدبر هذا ولم يعمه الهوى اطمأن قلبه بوفاء الله تعالى بما تكفل به من حفظ دينه، وبتوفيقه علماء الأمة للقيام بذلك، ولله الحمد، ويؤكد ذلك أن أبا رية حاول أن يقدم شواهد على اختلاف ضار وقع بسبب الرواية فكان أقصى جهده ما يأتي:  قال (ص6): (( صيغ التشهدات ))، وذكر اختلافها. أقول: يتوهم أبو رية – أو يوهم – أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما علمهم تشهداً واحداً، ولكنهم أو بعضهم لم يحفظوه فأتوا بألفاظ من عندهم مع نسبتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهذا باطل قطعاً فإن التشهد يكرر كل يوم بضع عشرة مرة على الأقل في الفريضة والنافلة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحفظ أحدهم حتى يحفظ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقريء الرجلين السورة الواحدة هذا بحرف وهذا بآخر، فكذلك علمهم مقدمة التشهد بألفاظ متعددة، هذا بلفظ وهذا بآخر، ولهذا أجمع أهل العلم على صحة التشهد بكل ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأما ذكر عمر التشهد على المنبر، وسكوت الحاضرين فإنما وجهه المعقول تسليمهم أن التشهد الذي ذكره صحيح مجزيء. وقد كان عمر يقرأ في الصلاة وغيرها القرآن ولا يرد عليه أحد، مع أن كثيراً منهم تلقوا عن النبي صلى الله عليه وسلم بحرف غير الحرف الذي تلقى به عمر، ومثل هذا كثير. ومن الجائز أن يكونوا – أو بعضهم – لم يعرفوا اللفظ الذي ذكره عمر، ولكنهم قد عرفوا أن النبي صلى الله عليه وسلم علم أصحابه بألفاظ مختلفة وعمر عندهم ثقة، وأما قول بعضهم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم (( السلام على النبي، بدل (( السلام عليك أيها النبي )) فقد يكون النبي صلى الله عليه وسلم خيره بين اللفظين، وقد يكون فعل ذلك باجتهاد خشية أن يتوهم جاهل أن الخطاب على حقيقته، أما الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فالتحقيق أنها موجودة في التشهدات كلها بلفظ (( ورحمة الله )) والقائل بوجوبها عقب التشهد بلفظ الصلاة لم يجعلها من التشهد بل هي عنده أمر مستقل، والكلام في ذلك معروف، لا علاقة له بالرواية بالمعنى

58

 
/ قال أبو رية (ص64): (( وكلمة التوحيد ))، وذكر ما لا علاقة له بالرواية بالمعنى  ثم قال(66): (( حديث الإسلام والإيمان )) فذكر عن صحيح مسلم حديث طلحة (( جاء رجل من أهل نجد )) وحديث جبريل برواية أبي هريرة، وحديث أبي أيوب (( جاء رجل إلى النبي فقال دلني على عمل الخ ))،وحديث أبي هريرة (( أن اعرابياً جاء الخ )) ثم ذكر عن النووي (( اعلم أنه لم يأت في حديث طلحة ذكر الحج، ولاجاء ذكره في حديث جبريل من رواية أبي هريرة، وكذا غير هذه الأحاديث لم يذكر في بعضها الصوم ولم يذكر في بعضها الزكاة، وذكر في بعضها صلة الرحم، وفي بعضها أداء الخمس، ولم يقع في بعضها ذكر الإيمان... وقد أجاب القاضي عياض وغيره رحمهم الله بجواب لخصه أبو عمرو بن الصلاح وهذبه فقال ((.. . هو من ثقات الرواة في الحفظ والضبط، فمنهم من قصر فاقتصر على ما حفظه.. . ))  

59

 
أقول: أما هذه الأحاديث فلا يتعين فيها ذاك الجواب بل لا يتجه، فإن واقعة حديث جبريل لا علاقة لما ببقية الأحاديث، وذكر الإيمان فيه لأن جبريل أراد بيان جمهرة الدين، وبقية الأحاديث ليس بواجب أن يذكر فيها الإيمان اكتفاء بعلم السائل به مع أن ما في ذكر له ما يستلزمه، وحديث طلحة وحديث أبي هريرة في الأعرابي يظهر أنها واقعة واحدة يحتمل أنها وقعت قبل أن ينزل فرض الحج فلذلك لم يذكر،  وحديث أبي أيوب يحتمل أن  يكون واقعة أخرى وقعت قبل فرض الحج والصوم فلذلك لم يذكرا فيه، وأما صلة الرحم وأداء الخمس فليسا من الأركان العظمى فلا يجب ذكرهما في كل حديث. هذا وحديث جبريل قد ورد من رواية عمر بن الخطاب وثبت في بعض طرقه ذكر الحج، وصحح ابن حجر ذلك في الفتح بأنه قد جاء في رواية أن الواقعة كانت في أواخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم. فعلى هذا فسقوطه من رواية أبي هريرة من عمل بعض الرواة كأنه كان عنده أيضاً حديث أبي هريرة مع الأعرابي وليس فيها ذكر الحج فحمل هذه عليها، والله أعلم. ومثل هذا ليس من الرواية بالمعنى، إنما هو من ترك الراوي شيئاً من الحديث نسيه أو شك فيه، ولا يقتضي تركه إحالة لمعنى الحديث، وكثيراً ما يقع في الكتاب والسنة ترك بيان بعض الأمور في موضع لائق به اعتمادا على بيانه في موضع آخر، وليس هذا بأكثر من مجيء عموم أو إطلاق في القرآن ومجيء تخصيصه أو تقييده في السنة.

 

59

 
/ قال 0(ص68): (( حديث زوجتكها بما معك )) ذكر أنه روى على ثمانية أوجه: (1- قد زوجتكها بما معك من القرآن، 2- زوجتكها على ما معك الخ، 3- أنكحتكها بما الخ، 4- قد ملكتكها بما الخ، 5- قد أملكتكها بما الخ، 6- قد أمكتا كها الخ، 7- أنكحتكها على أن تقرئها وتعلمها، 8- خذها بما معك الخ )

 

أقول: الثامنة لم تذكر في فتح الباري، والسابعة سندها واه،  السادسة صوابها على ما استظهره في الفتح أملكنا كها، والست الأولى معناها واحد، وكذا حكمها عند جمهور أهل العلم. وقال قوم:لا يصح العقد إلا بلفظ التزويج أو الإنكاح كما في الثلاث الأولى،  فأما الثلاث التي تليها فلا يصح التزويج بها. وأجابوا عن هذه الروايات بأن أرجحها وأثبتها عن النبي صلى الله عليه وسلم هي التي بلفظ التزويج،فنحصل من هذا أن الرواية بالمعنى وقعت، ولكن لم يترتب عليها مفسدة،ولله الحمد. على أن المعنى الأهم في الحديث وهو التزويج بتعليم القرآن لم تختلف فيه الروايات.

 

قال (ص68): (( حديث الصلاة في بني قريظة )) ذكر أنه وقع عند البخاري (( لا يصلين أحدكم العصر إلا.. . )) وعند غيره: لا يصلين أحدكم الظهر إلا.. .. )) مع اتحاد المخرج

 

 

أقول: في الفتح إن الذي عند أهل المغازي (( العصر )) وكذلك جاء من حديث عائشةومن حديث كعب بن مالك. ووراه جويرية بن أسماء عن نافع عن ابن عمر، قال أبو حفص السلمي عن جويرية: (( العصر )) وقال أبو غسان عن جويرية: (( الظهر )). ورواه أبو عبد الله بن محمد بن أسماء عن جويرية، فقال البخاري عنه: العصر وقال مسلم وغيره عنه:  الظهر فذكر ابن حجر احتمالين:  حاصل الأول بزيادة  أن جويرية قال مرة (( العصر )) كما رواه أبو حفص السلمي، ومرة (( الظهر )) كما رواه عنه أبو غسان، وكتبه عبد الله بن محمد بن أسماء عن جويرية على الوجهين فسمعه البخاري من عبد الله على أحدهما، ومسلم وغيره على الآخر. وكأن البخاري راجع عبد الله في ذلك ففتش عبد الله أصوله فوجد الوجه  الذي فيه العصر فأخذ به البخاري لعلمه أنه الصواب.  الاحتمال الثاني أن يكون البخاري إنما سمعه من عبد الله بلفظ (( الظهر )) ولم يكتبه البخاري إلا بعد مدة من حفظه(( العصر )) أخطأ لفظ شيخه وأصاب الواقع

أما ما ذكر أن البخاري كان يحفظ ثم يكتب من حفظه فإن صح ذلك فهذا صحيحه فيه آلاف الأحاديث وقل حديث منها إلا وقد رواه جماعة غيره عن شيخه وعن شيخ شيخه، وقد تتبع ذلك المستخرجون عليه وشرا حه فإذا لم يقع له خطأ إلا هذا الموضع- على فرض أنه أخطأ- كان هذا من أدفع الحجج لتشكيك أبي رية

قال أبو رية (ص69): ((وبلغ من أمرهم أنهم كانوا يروون الحديث بألفاظهم وأسانيدهم، ثم يعزونه إلى كتب السنة ))

60

 
أقول: حاصله أن البيهقي يروى عن كتبه الأحاديث بأسانيده إلى شيخ البخاري أو شيخ شيخه ومن فوقه، ويقع/ في لفظه مخالفة للفظ البخاري مع اتفاق المعنى، ومع ذلك يقول ((أخرجه البخاري عن فلان))ولا يبين اختلاف اللفظ، وكذا يصنع البغوي. وأقول: العذر في هذا واضح، وهو اتفاق المعنى مع جريان العادة بوقوع الاختلاف في بعض الألفاظ، وكتاب البخاري متواتر فأقل طالب حديث يشعر بالمقصود

 

وذكر قول النووي في حديث الأئمة من قريش (( أخرجه الشيخان )) مع أن لفظها (( لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان )). أقول: المعنى قريب، وقد يكون النووي رحمه الله وهم، ومثل هذا لا يقدم ولا يؤخر، لأن الصحيحين متواتران

قال أبو رية (ص70): (( ضرر رواية الحديث بالمعنى )) وساق عبارة طويلة لابن السيد البطليوسي في أسباب الاختلاف. وفيها (ص72-73) ما يخشى منها،وقد قدمنا ص21-22-و55 ما فيه الكفاية

 

وذكر (ص74) حديث (( إن يكن الشؤم ففي ثلاث )) وسيأتي النظر فيه بعد النظر في عدالة الصحابة الذي ذكره أبو رية في كتابه ص 310-327

وقال (ص75) (( ضرر الرواية بالمعنى من الناحية اللغوية والبلاغية... )) أقول: قد قدمت ما يعلم منه أن من الأحاديث ما يمكن أن يحكم العارف بأنه بلفظ النبي صلى الله عليه وسلم، ومنها ما يمكن أن يحكم بأنه بلفظ الصحابي، ومنها ما يمكن أن يحكم بأنه على لفظ التابعي، فهذه يمكن الاستفادة منها في العربية، وما عدا ذلك ففي القرآن وغيره ما يكفي

 

وذكر (ص78): (( تساهلهم فيما يروي في الفضائل، وضرر ذلك ))

 

أقول: معنى التساهل في عبارة الأئمة هو التساهل بالرواية، كان من الأئمة من إذا سمع الحديث لم يروه حتى يتبين له أنه صحيح أو قريب من الصحيح أو يوشك أن يصح إذا وجد ما يعضده، فإذا كان دون ذلك لم يروه البتة، ومنهم من إذا وجـد

 

 

الحديث غير شديد الضعيف وليس فيه حكم ولا سنة، إنما هو في فضيلة عمل متفق عليه كالمحافظة على الصلوات في جماعة ونحو ذلك لم يمتنع من روايته، فهذا هوالمراد بالتساهل في عباراتهم. غير أن بعض من جاء بعدهم فهم منها التساهل فيما يرد في فضيلة لأمر خاص قد ثبت شرعه في الجملة كقيام ليلة معينة فإنها داخلة في جملة ما ثبت من شرع قيام الليل. فبنى على هذا جواز أو استحباب العمل بالضعيف، وقد بين الشاطبي في الاعتصام خطأ هذا الفهم، ولي في ذلك رسالة لا تزال مسودة.

 

61

 
على أن جماعة من المحدثين جاوزوا في مجامعيهم ذاك الحد، فأثبتوا فيهاكل حديث سمعوه ولم يتبين لهم عند كتابته أنه باطل، وأفرط آخرون فجمعوا كل ما سمعوه، معتذرين بأنهم لم يلتزموا إلا أن يكتبوا ما سمعوه ويذكروا سنده، وعلى الناس أن لا يثقوا بشيء من ذلك حتى يعرضوه على أهل المعرفة بالحديث ورجاله،ثم جاء المتأخرون فزادوا الطين بلة بحذف الأسانيد. والخلاص من هذا أسهل. وهو أن تبين للناس الحقيقة، ويرجع إلى أهل العلم و التقوى والمعرفة. لكن المصيبة حق المصيبة إعراض الناس عن هذا العلم العظيم، ولم يبق إلا أفراد يلمون بشيء من ظواهره، ومع ذلك فالناس لا يرجعون إليهم، بل في الناس من يمقتهم وببغضهم ويعاديهم ويتفنن في سبهم عند كل مناسبة ويدعي لنفسه ما يدعي، ولا ميزان عنده إلا هواه لا غيره، وما يخالف هواه لا يبالي به ولو كان في الصحيحين عن جماعة من الصحابة، ويحتج بما يحلو له من الروايات في أي كتاب وجد، وفيما يحتج به الواهي والساقط والموضوع، كما ترى التنبيه عليه في مواضع من كتابي هذا والله المستعان

 

الوضع

وقال أبو رية (ص80-89): (( الوضع في الحديث وأسبابه.. . ))

 

 

أقول: نقل عبارات في هذا المعنى، وهو واقع في الجملة، ولكن المستشرقين والمنحرفين عن السنة يطولون في هذا ويهولون ويهملون ما يقابله، ومثلهم مثل من يحاول منع الناس من طلب الحقيقي الخالص من الأقوات والسمن والعسل والعقاقير والحرير والصوف والذهب والفضة واللؤلؤ والمسك والعنبر وغير ذلك بذكر ما وقع من التزوير والتلبيس والتدليس والغش في هذه الأشياء، ويطيل في ذلك. والعاقل يعلم أن الحقيقي الخالص من هذه الأشياء لم يرفع من الأرض، وأن في أصحابها وتجارها أهل صدق وأمانة، وأن في الناس أهل خبرة ومهرة يميزون الحقيقي الخالص من غيره فلا يكاد يدخل الضرر إلا على من لا يرجع إلى أهل الخبرة من جاهل ومقصر ومن لا يبالي ما أخذ، والمؤمن يعلم أن هذه ثمرة عناية الله عزوجل بعباده في دنياهم، فما الظن بعنايته بدينهم؟ لابد أن تكون أتم وأبلغ، ومن تتبع الواقع وتدبره وأنعم النظر تبين له ذلك غاية البيان

 

62

 
أما الصحابة فقد زكاهم الله في كتابه وعلى لسان رسوله، والأحاديث إنما ثبتت من رواية من زكاه الله ورسوله عينا، أو لا ريب في دخوله فيمن زكاه الله ورسوله جملة. نعم جاءت أحاديث قليلة عن بعض من قد يمكن الشك فيه، لكن أركان الدين من سلف هذه الأمة تدبروا أحاديث هذا الضرب واعتبروها، فوجدوها قد ثبتت هي أو معناها برواية غيرهم، وبعد طول البحث والتحقيق تبين لأئمة السنة أن الصحابة كلهم عدول في الرواية، وسيأتي مزيد لهذا في فصل (( عدالة الصحابة ))

 

وأما التابعون فعامة من وثقه الأئمة منهم ممن كثرت أحاديثه هم ممن زكاه الصحابة ثم زكاه أقرانه من خيار التابعين،ثم اعتبر الأئمة أحاديثه وكيف حدث بها في الأوقات المتفاوتة، واعتبروا أحاديثه بأحاديث  غيره من الثقات، فاتضح لهم بذلك كله صدقه وأمانته وضبطه. وهكذا من بعدهم

 

وكان أهل العلم يشددون في اختيار الرواة أبلغ التشديد، جاء عن بعضهم – أظنه الحسن بن صالح بن حي– أنه قال: كنا إذا أردنا أن نسمع الحديث من رجل سألنا عن حاله حتى يقال: أتريدون أن تزوجوه؟ وجاء جماعة إلى شيخ ليسمعوا منه فرأوه خارجاً وقد انفلتت بغلته وهو يحاول إمساكها وبيده مخلاة يريها إياها، فلاحظوا أن المخلاة فارغة، فرجعوا ولم ييسمعوا منه. قالوا هذا يكذب على البغلة فلا نأمن أن يكذب في الحديث. وذكروا أن شعبة كان يتمنى لقاء رجل مشهور ليسمع منه. فلما جاءه وجده يشتري شيئاً ويسترجح في الميزان. فامتنع شعبة من السماع منه.وتجد عدة نظائر لهذا ونحوه في كفاية الخطيب (ص110-114).وكان عامة علماء القرون الأولى وهي قرون الحديث مقاطين للخلفاء والأمراء، حتى كان أكثرهم لا يقبل عطاء الخلفاء والأمراء ولا يرضى بتولي القضاء، ومنهم من كان الخلفاء يتطلبونهم ليكونوا بحضرتهم ينشرون العلم. فلا يستجيبون، بل يفرون ويستترون. وكان أئمة النقد لا يكادون يوثقون محدثاً يداخل الأمراء أو يتولى لهم شيئاً، وقد جرحوا بذلك كثيراً من الرواة ولم يوثقوا ممن داخل الأمراء إلا أفراد علم الأئمة يقيناً سلامة دينهم وأنه لا مغمز فيهم البتة. وكان محمد بن بشر الزنبري محدثاً يسمع منه الناس، فاتفق أن خرج أمير البلد لسفر فخرج الزنبري يشيعه، فنقم أهل الحديث عليه ذلك وأهانوه ومزقوا ما كان كتبوا عنه. وكثيراً ما كانوا يكذبون الرجل ويتركون حديثه لخبر واحد يتهمون فيه. وتجد من هذا كثيراً في ميزان الذهبي وغيره. وكذلك إذا سمعوه حدث بحديث ثم حدث به بعد مدة علىوجه ينافي الوجه الأول، وفي الكفاية (ص113) عن شعبة قال (( سمعت من طلحة بن مصرف حديثاً واحداً وكنت كلما مررت به سألته عنه..  أردت أن أنظر إلى حفظه، فإن غير فيه شيئاً تركته )) وكان أحدهم يقضي الشهر والشهرين يتنقل في البدلان يتتبع رواية حديث واحد كما وقع لشعبة في حديث عبد الله بن عطاء عن عقبة بن عامر، وكما وقع لغيره في الحديث الطويل في فضائل السور. ومن تتبع كتب

 

 

التراجم / وكتب العلل بأن له من جدهم واجتهادهم ما يحير العقول

 

63

 
وكان كثير من الناس يحضرون أولادهم مجالس السماع في صغرهم ليتعودوا ذلك ثم يكبر أحدهم فيأخذ في السماع في بلده. ثم يسافر إلى الأقطار ويتحمل السفر الطويل والمشاق الشديدة، وقد لايكون معه إلا جراب من خبز يابس يحمله على ظهره، يصبح فيأخذ كسرة ويبلها بالماء ويأكلها ثم يغدو للسماع، ولهم في هذا قصص كثيرة، فلا يزال أحدهم يطلب ويكتب إلى أن تبلغ سنة الثلاثين أو نحوها فكون أمنيته من الحياة أ، يقبله علماء الحديث ويأذنوا للناس أن يسمعوا منه، وقد عرف أنهم إن اتهموه في حديث واحد أسقطوا حديثه وضاع مجهوده طول عمره وربح سوء السمعة واحتقار الناس، وتجد جماعة من ذرية أكابر الصحابة قد جرحهم الأئمة، وتجدهم سكتوا عن الخلفاء العباسيين وأعمامهم لم يرووا عنهم شيئاً مع أنهم قد كانوا يروون أحاديث، ومن تتبع أخبارهم وأحوالهم لم يعجب من غلبة الصدق على الرواة في تلك القرون بل يعجب من وجود كذابين منهم ومن تتبع تشدد الأئمة في النقد ليعجب من كثرة من جرحوه وأسقطوا حديثه، بل يعجب من سلامة كثير من الرواة وتوثيقهم لهم مع ذلك التشدد

 

وبالجملة فهذا الباب يحتمل كتاباً مستقلاً.وأرجو أن يكون فيما ذكرته ما يدفع ما يرمي إليه المستشرقون وأتباعهم – بإفاضتهم في ذكر الوضع من تشكيك المسلمين في دينهم وإيهامهم أن الله تعالى أخل بما تكفل به من حفظ دينه، وأن سلف الأمة لم يقوموا بما عليهم أو عجزوا عنه فاختلط الحق بالباطل، ولم يبق سبيل إلى تمييزه.كلا بل حجة الله تعالى لم تزل ولن تزال قائمة، وسبيل الحق مفتوحاً لمن يريد أن يسلكه ولله الحمد. وفي تهذيب التهذيب (152:1) (( قال إسحاق بن إبراهيم: أخذ الرشيد زنديقاً فأراد قتله، فقال: أين أنت من ألف حديث وضعتها؟ فقال لـه:  أين أنت يا

 

عدو الله من أبي إسحاق الفزاري وابن المبارك ينخلانها حرفاً حرفاً )). وفي فتح المغيث (ص109): (( قيل لابن المبارك: هذه الأحاديث المصنوعة؟ قال:تعيش لها الجهابذة، ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون )

وذكر (ص91) أحاديث فيها إنها موضوعة، ولم يذكر من حكم بوضعها من أهل العلم والحديث. وذكر فيها حديث (( فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على [سائر] الطعام )) وقد افترى من زعم هذا موضوعاً،بل هو في غاية الصحة، أخرجه الشيخان في الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري ومن حديث أنس رضي الله عنهما

 

64      /

 
معاوية الشام

وقال ص91 (( معاوية والشام...))

ذكر عن أئمة السنة إسحاق بن راهوية وأحمد بن حنبل والبخاري والنسائي، ثم ابن حجر، ماحاصله أنه لم يصح في فضل معاوية حديث

أقول: هذا لا ينفي الأحاديث الصحيحة التي تشمله وغيره، ولا يقتضى أن يكون كل ما روي في فضله خاصة مجزوماً بوضعه.وبعد ففي القضية برهان دامغ لما يفتريه أعداء السنة على الصحابة وعلى معاوية وعلى الرواة الذين وثقهم أئمة الحديث، وعلى أئمة الحديث، وعلى قواعدهم في النقد

أما الصحابة رضي الله عنهم ففي هذه القضية برهان على أنه لا مجال لاتهام أحد منهم بالكذب على النبي صلى الله عليه وسلم وذلك أن معاوية كان عشرين سنة أميراً على الشام وعشرين سنة خليفة، وكان في حزبه وفيمن يحتاج إليه جمع كثير من الصحابة منهم كثير ممن أسلم ويوم فتح مكة أوبعده وفيهم جماعة من الأعراب وكانت الدواعي إلى التعصب له والتزلف إليه متوفرة فلو كان ثم مساغ لأن يكذب على النبي صلى الله عليه وسلم أحد لقيه وسمع منه مسلماً لأقدم بعضهم على الكذب في فضل معاوية وجهر بذلك أما أعيان التابعين فينقل ذلك جماعة ممن يوثقهم أئمة السنة فيصح عندهم ضرورة. فإذا لم يصح خبر واحد ثبت صحة القول بأن الصحابة كلهم عدول في الرواية وأنه لم يكن منهم أحد مهما خفت منزلته وقوي الباعث له محتملاً منه أن يكذب على النبي صلى الله عليه وسلم

وأما معاوية فكذلك، فعلى فرض أنه كان يسمح بأن يقع كذب على النبي صلى الله عليه وسلم ما دام في فضيلة له وأنه لم يطمع في أن يقع ذلك من أحد غيره ممن له صحبة، أو طمع ولكن لم يجده ترغيب ولا ترهيب في حمل أحد منهم على ذلك فقد كان في وسعه أن يحدث هو عن النبي صلى الله عليه وسلم فقد حدث عدد كبير من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم بفضائل لأنفسهم وقبلها منهم الناس ورووها وصحتها أئمة السنة.ففي تلك القضية برهان على أن معاوية كان من الدين والأمانة بدرجة تمنعه من أن يفكر في أن الكذب أو يحمل غيره على الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم مهما اشتدت حاجته إلى ذلك. ومن تدبر هذا علم أن عدم صحة حديث عند أهل الحديث في فضل معاوية أدل على فضله من أن تصح عندهم عدة أحاديث

65

 
وأما الرواة الذين وثقهم أئمة الحديث فقد كان من حزب معاوية والموالين له عدد منهم كان في وسعهم أن يكذبوا على بعض الصحابة الذين لقوهم ورووا عنهم فيرووا عنه حديثاً أو أكثر في فضل معاوية / وينشروا ذلك فيمن يليهم من الثقات فيصححه أهل الحديث فعدم وقوع شيء من ذلك يدل على أن الرواة الذين يوثقهم أئمة الحديث ثقات في نفس الأمر

وأما أئمة الحديث فهم معروفون بحسن القول في الصحابة عامة وخصوصهم ينقمون عليهم ذلك كما تراه في فصل عدالة الصحابة من كتاب أبي رية، ويرمونهم بالنصب ومحبة أعداء أهل البيت والتعصب لهم. وتلك القضية براءة لهم فلو كانوا من أهل الهوى لأمكنهم أن يصححوا عدة أحاديث في فضل معاوية،أو يسكتوا على الأقل عن التصريح بأن كل ماروي في ذلك غير صحيح

 

وأما قواعدهم في النقد فلا ريب أن نجاحها في هذا الأمر- وهو من أشد معتركات الأهواء- من أقوى الأدلة على وفائها بما وضعت له

وأما الشام فلا ريب أن الموضوعات في فضلها كثيرة ولكن ليس من الحق في شيء أن تعد دلالة الخبر على فضلها دليلاً على وضعه، فإن فضلها ثابت بالقرآن، وكذلك الحال في بيت المقدس قال الله تعالى (17: سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله ) وأخبر الله عزوجل عن الشام بقوله ( الأرض التي باركنا فيها ) اقرأ (136:7) و (71:21 و 81) وبقوله (81:34 القرى التي باركنا فيها ). وكذلك من الباطل أن تعد دلالة الخير على أمر بأنه سيقع دليلاً علىوضعه ما دمنا نؤمن بأن محمداً رسول الله يطلعه الله من غيبه على ما يشاء، فأما أن يكون مثل هذا مما يسترعى النظر ليبحث عن الخبر من جهة إسناده وما يتصل به ليحكم عليه بحسب ذلك فلا بأس، وحديث ((الخلافة بالمدينة والملك بالشام)) رواه هشيم ( وهو ثقة يدلس ) عن العوام بن حوشب (وهو ثقة) عن سلميان بن أبي سليمان عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى لاله عليه وسلم أخرجه الحاكم في المستدرك 72:3 وقال (( صحيح على شرط مسلم )) تعقبه الذهبي فقال (( سليمان وأبوه مجهولان )) وهو في فتح البخاري 3/ 2/ 17 ذكر الجملة الأولى فقط

وقال ص94 (( أصل فرية الأبدال ))

 

أقول: سترى الكلام على تلك الأخبار في موضوعات الشوكاني وتعليقي عليه إن شاء الله

 

66

 
قال (( روى الواقدي أن معاوية لما عاد من الشام... ))

 

/ أقول: كرهت إثبات الخبر لفرط سماجته، وأبو رية يتظاهر بالشكوى من الموضوعات ثم يحتج بهذا الموضوع الذي إن لم يكن كذباً فليس في الدنيا كذب. أما سنده فعزاه أبو رية إلى شرح النهج لابن أبي الحديد، وابن أبي الحديد حاله معروفة، ولا ندري ما سنده إلى الواقدي بل أكاد أقطع أن الواقدي لم يقل هذا وأما الخبر نفسه فكذب مكشوف لا يخفى على من يعرف معاوية وعقل معاوية ودهاء معاوية وتحفظ معاوية ولو معرفة بسيطة، وقد تقدم ما علمت

وقال ص101 (( كيف استجازوا وضع الأحاديث.. . ))

ثم قال (( أخرج الطحاوي في المشكل عن أبي هريرة.. . ))

أقول لم أظفر به في مشكل الآثار للطحاوي المطبوع، وإنما عزي في كنز العمال 323:5 إلى الحكيم الترمذي، وقد ذكر أبو رية هذا الخبر من مصدر آخر ص164 كما ذكر الخبرين الذين عقبه وسأنظر في ذلك هناك إن شاء الله تعالى ويتبين براءة أبي هريرة منها كلها

وقال ص102 (( الوضاع الصالحون....... وقالوا نحن نكذب لا عليه. وإنما الكذب على من تعمده

 

أقول قوله (( وإنما الكذب على من تعمده )) ليست من قولهم ولا تتعلق بهم وقال ص 104 الوضع بالإدراج 000 إلى أن قال 000في حديث الكسوف وهو في الصحيح إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته – فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى ذكر الله والصلاة..  قال العراقي هذه الزيادة لم يصح نقلها فوجب تكذيبب قائلها ))

 

أقول تحصل من كلامه أن (( فإذا رأيتم الخ )) طعن فيها العراقي وقال ما قال. وهذا من تخليط أبي رية إنما الكلام في زيادة أخرى وقعت عند ابن ماجه لفظها (( إن

 

 

الله إذا تجلى لشيء خشع له )) والطاعون فيهاهو الغزالي لا العراقي راجع توجيه النظر ص172 وفتح الباري 445:2 وبهذا وغيره يتبين أن أبا رية غير موثوق بنقله. ولم أتمكن من مراجعة جميع مصادره مع أنه كثيراً ما يهمل ذكر المصدر. وإنما ذكرت هذا لئلا يغتر بسكوتي عن بعض ما ينقله

67

 
ثم قال (( هل يمكن معرفة الموضوع؟ ذكر المحققون أموراً كلية.. ...))

/ أقول كان عليه أن ينص على من ذكر هذه الأمور ويبين مصدرها. ومن الأمور التي ذكرها مايحتاج إلىبيان وإيضاح ومخالفة ظاهر القرآن قد تقدم ما يتعلق بها ص14. والاشتمال علىتواريخ الأيام المستقبلة علامة إجمالية تدعو إلى التثبت لكثرة ماوضع في هذا الباب، وإلا فقد أطلع الله تعالى رسوله علىكثير من الغيب وأخبره به، وتجارب العلم الثابتة، إنما يعتد بها إذا كانت قطعية وناقضت الخبر مناقضة محققة ولعله يأتي ما يتعلق بها

وقال ص105 (( وأخرج البيهقي بسنده.. .. ))

أقول لم يبين أبو رية من كتاب أخذ هذا الأمر، وأحسب البيهقي نفسه قد بين سقوطه من جهة السند، أما المتن فسقوطه واضح، راجع ص14

وذكر ص105 (( هل يمكن معرفة الموضوع بضابط )) ثم ذكر ص106 (( للقلب السليم إشراف الخ ))

أقول: ينبغي مراجعة الأصول التي نقل عنها

 

الإسرائيليات

ذكرها أبو رية ص108 وذكر فيها كعب الأخبار ووهب بن منبه، وسيأتي ما يتعلق بها

ثم ذكر ص110 عن أحمد أمين (( اتصل بعض الصحابة بوهب بن منبه وكعب

الأحبار وعبد الله بن سلام واتصل التابعون بابن جريج وهؤلاء كانت لهم معلومات يروونها عن التوراة والإنجيل الخ )) ثم قال أبو رية ((..  أخذ أولئك الأحبار يثبتون في الدين الإسلامي أكاذيب وترهات يزعمون مرة أنها في كتابهم ومن مكنون عليهم ويدعون أخرى أنها مما سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الحقيقة من مفترياتهم ))

أقول:أما عبد الله بن سلام فصحابي جليل أسلم مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وشهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة كما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث سعد بن أبي وقاص وغيره وحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم قليلاً جداً  وقلماذكر عن كتب أهل الكتاب وما ثبت عنه من ذلك فهو مصدق به حتماً وإن لم يوجد في كتب أهل الكتاب الآن إذ قد ثبت أن كثيرا ً من كتبهم أنقرض. ولا يسئ الظن بعبد الله بن سلام إلا جاهل أو مكذب لله ورسوله.

68

 
وأما وهب بن منبه فولد في الإسلام سنة 34هـ وأدرك بعض الصحابة ولم يعرف أن أ حداً منهم سمع منه أوحكى عنه وإنما يحكي عنه من بعدهم. وسيأتي بيانه حاله

/ وأما كعب فأسلم في عهد عمر وسمع منه ومن غيره من الصحابة وحكى عنه بعضهم وبعض التابعين ويأتي بيان حاله. وأما ابن جريج فيأتي ص148 أنه (( الذي مات سنة 150 )) وهو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج (( وإنما هو من أتباع التابعين ولا شأن له بالاسرائيليات، وكأن الدكتور اغتر باسم (( جريج )) فحشرة في زمن هؤلاء، فجاء حاطب الليل فقال ص148 (( وممن كان يبث في الدين الإسلامي مما يخفيه قلبه ابن جريج الرومي الذي مات سنة 150 وكان البخاري لا يوثقه وهو على حق في ذلك )) وهذا مخالف للواقع فلم يعرف ابن جريج بالاسرائيليات إلا أن يروي شيئا عمن تقدمه وهو إ مام جليل يوثقه ويحتج به البخاري وغيره ولم يجد أبو رية ما يحكيه عنه مما زعمه. ومن العجائب قوله في حاشية ص216 (( ابن جريج كان من النصارى )) هكذا يكون العلم. ثم قال ص110 ((.. .. وتلقى الصحابة ومن تبعهم كل ما يلقيه هؤلاء الدهاة بغير نقد أو تمحبص معتبر ين أنه صحيح لا ريب فيه )) أقول: وهذا مخالف للواقع، فقد علم الصحابة وغيرهم من كتاب الله عزوجل أن أهل الكتاب قد حرفوا كتبهم وبدلوا. ورووا عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله (( لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم )) كما في صحيح البخاري عن أبي هريرة. وفيه عن ابن عباس أنه قال (( كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء وكتابكم الذي أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدث، تقرؤنه محضاً لم يشب، وقد حدثكم أن أهل الكتاب بدلوا كتاب الله وغيروه )) وفيه أن معاوية ذكر كعب الأحبار فقال (( إن كان من أصدق هؤلاء المحدثين عن أهل الكتاب، وإن كنا من ذلك لنبلو عليه الكذب، وكان عند عبد الله بن عمرو بن العاص صحيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسميها (( الصادقة ))تميزاً لها عن صحف كانت عنده من كتب أهل الكتاب. وزعم كعب أن ساعة الإجابة إنما تكون في السنة مرة أو في الشهر مرة، فرد عليه أبو هريرة وعبد الله بن سلام بخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها في كل يوم جمعة[انظر سنن النسائي في أبواب الجمعة] وبلغ حذيفة أ ن كعباً يقول: إن السماء تدورعلى قطب كقطب الرحي، فقال حذيفة    (( كذب كعب.... ))[ترجمة كعب من الإصابة]وبلغ ابن عباس أن نوفاً البكالي – وهو من أ صحاب كعب – يزعم أن موسى صاحب الخضر غير موسى بن عمران،فقال ابن عباس (( كذب عدو الله.. .)) [صحيح البخاري تفسير سورة الكهف]ولذلك نظائر. أما ما رواه كعب ووهب عن النبي صلى الله عليه وسلم فقليل جداً، وهو مرسل لأنهما لم يدركاه، والمرسل ليس بحجة، وقد كان الصحابة ربما توقف بعضهم عن قبول خبر بعض إخوانه من الصحابة حتى يستثبت فما بالك بما يرسله كعب، فأما وهب فمتأخر، وأما ما روياه عن بعض الصحابة أو التابعين / فإن أهل العلم نقدوه كما ينقدون رواية سائر التابعين، ويأتي لهذا مزيد 

69

 
قال(ص111): (( كعب الأحبار ))

أقول: لكعب ترجمة في تهذيب التهذيب، وليس فيها عن أحد من المتقدمين توثيقه، إنما فيها ثناء بعض الصحابة عليه بالعلم، وكان المزي علم عليه علامة الشيخين مع أنه إنما جرى ذكره في الصحيحين عرضاً لم يسند من طريقه شيء من الحديث فيهما. ولا أ عرف له رواية يحتاج إليها أهل العلم..  فأما ما كان يحكيه عن الكتب القديمة فليس بحجة عند أحد من المسلمين، وإن حكاه بعض السلف لمناسبته عنده لما ذكر في القرآن، وبعد فليس كل ما نسب إلى كعب في الكتب بثابت عنه، فإن الكذابين من بعده قد نسبوا إليه أشياء كثيرة لم يقلها. وما صح عنه من الأقوال ولم يوجد في كتب أهل الكتاب الآن ليس بحجة واضحة على كذبه. فإن كثيراً من كتبهم انقرضت نسخها ثم لم يزالوا يحرفون ويبدلون، وممن ذكر ذلك السيد رشيد رضا في مواضع من التفسير وغيره. واتهامه بالاشتراك في المؤامرة على قتل عمر لا يثبت، وكعب عربي النسب، وإن كان قبل أن يسلم يهودي النحلة. وقول أبي رية (( فاستصفاه معاوية وجعله من مستشاريه )) من عندياته،والذي عند ابن سعد وغيره أنه سكن حمص حتى مات بها سنة 32، وذكر أبو رية في الحاشية (( قال لقيس بن خرشة، ما من الأرض شبر.. .. ))

أقول: هذه الحكاية منقطعة حاكيها عن كعب ولد بعده بنحو عشرين سنة وأول الحكاية أن كعبا مر بصفين فوقف ساعة ثم قال (( لا إله إلا الله، ليهراقن بهذه البقعة من دماء المسلمين شيء لا يهراق ببقعة في الأرض.. .)) وكان ذلك قبل وقع صفين بسنتين، فهل يصدق أبو رية ها كما صدق بقية الحكاية؟ على أن فيها غريبة أخرى لا أراه يصدق بها.  قال (ص112) (( افتجر هذا الكاهن لاسلامه سبباً عجيباً.. .. قد أخرج ابن سعد بسند صحيح.. . فقال: إن أبي كتب لي كتاباً من التواراة.. .وختم على سائر كتبه.. . ففتحتها فإذا صفة محمد وأمته، فجئت الآن مسلماً ))

70

 
 أقول: أما السند فليس بصحيح، فيه علي بن زيد وهو كما قال ابن حجر

في التقريب (( ضعيف )) ولم يخرج له أحد من الشيخين إلا أن مسلماً أخرج حديثاً عن حماد بن سلمة عن ثابت البناني وعلي بن زيد. والاعتماد على ثابت وحده، / لكن لما وقع في سياق السند ذكر علي بن زيد لم ير مسلم أن يحذفه، ولمسلم من هذا نظائر. وأما القصة فلا أدري ما ينكر المسلم منها وهو يقرأ قول الله عزوجل في كتابه (157:7 الذين يتبعون الرسل النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوارة والإنجيل ) الآية[انظر تفسير المنار 230:9-300] وقوله سبحانه (29:48 محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود، ذلك مثلهم في التوارة)الآية: وآيات أخرى معروفة، فلينظر المسلم من الأولى بأن يقال: فجر وافتجر؟

ثم ذكر حكاية عن حياة الحيوان، وحسبها أنه لم يجد لها مصدراً إلى حياة الحيوان، على أن الحكاية نفسها ليس فيها ما ينكره المؤمن بالقرآن

ثم قال (ص113): (( ووهب بن منبه.. ... ))

أقول: قد قدمت شيئاً من حال وهب، وقد وثقه الحفاظ وضعفه عمرو ابن علي الفلاس، أخرج البخاري حديثاً من طريقه ثم قال (( تابعه معمر )) وله في صحيح مسلم شيء تابعه عليه معمر أيضاً، ومعمر هو ابن راشد أحد الأئمة المجمع عليهم

وقال: (( روى عنه كثير من الصحابة، منهم أبوهريرة وعبد الله بن عمرو وابن عباس وغيرهم ))

 

أقول هذه من مجازفات أبي رية، وإنما ذكر أهل العلم أن وهبا روى عنه هؤلاء، وإنما ولد سنة 34 كما مر، وإنما اشتهر بعد وفاة هؤلاء

 

قال (( أخرج الترمذي عن عبد الله بن سلام – وهو أحد أحبار اليهـود الذين

أسلموا- إنه مكتوب في التوراة في السطر الأول: محمد رسول الله عبده المختار، مولده مكة مهاجره طيبة.وأخرج كذلك: مكتوب في التوراة صفة النبي وعيسى بن مرييم يدفن معه ))

 

أقول:لم أجد الخبر الأول في جامع الترمذي،ولا ذكره صاحب ذخائر المواريث، وسيأتي ما يتعلق به. وأما السند ففي سنده عثمان بن الضحاك مجهول، ومحمد بن يوسف بن عبد الله، ولم يوثقا توثيقاً يعتد به، وقد ذكر البخاري في ترجمة محمد من التاريخ 2631:1 طرفاً من هذا الخبر وقال (( هذا لا يصح عندي، ولا يتابع عليه ))

 

71

 
قال أبورية (( وهذا.. . قد أحكمه الداهية كعب، فقد روى الدارمي عنه في صفة النبي في التوارة قال: في السطر الأول: محمد رسول الله عبده المختار، مولده مكة ومهاجره طيبة وملكه الشام/ وقد بحثنا عن السطر الثاني من هذه الأسطورة حتى وجدناه في سنن الدارمي كذلك عن الداهية الأكبر كعب فقد روى ذكوان عنه: في السطر الأول محمد رسول- الله عبده المختار...، وهذا الكلام قد أورده ابن سعد في طبقاته عن ابن عباس في جواب لكعب، وقد أمتدت هذه الخرافة إلى أحد تلاميذ كعب، عبد الله بن عمرو بن العاص فقد روى البخاري من عبد الله[الصواب عن هلال]بن يسار.،وزاد ابن كثير: قال ابن يسار: ثم لقيت كعبا الخبر فسألته فما ا ختلفا في حرف )) قال أبو رية (( وكيف يختلفان وكعب هو الذي علمه ))

 

أقول: خبر عبد الله بن عمرو نسبه بعضهم إلى عبد الله بن سلام كما ذكره البخاري، وذكر ابن حجر أنه لا مانع من صحته عنهما. وقد بحثت عن هذا الخبر بطرقه المذكورة هنا وغيره ونظرت في الأسانيد، فترجح عندي صحته عن عبد الله

 

 

بن عمرو، فأما نسبته إلى عبد الله بن سلام ففي صحتها نظر، وكذلك نسبته إلى كعب، وبيان ذلك يطول، وهذا الذي ظهر لي هو الظاهر من صنيع البخاري[وفي خبر عبد الله بن عمرو أجل والله إنه لموصوف..  علق عليه أبو رية (( هكذا يورطه أستاذه حتى يقسم بالله )) وهذا من افتراء أبي رية فإن عبد الله بن عمرو كان عنده جملة من صحف أهل الكتاب كما اعترف به أبو رية، فإقسامه يدل على أنه شاهد تلك ا لصفة في تلك الصحف]هذا وفي بعض روايات الخبر أنه من التوراة، فإن صح ذلك في الرواية فقد يراد به الكتب المنسوبة إلى موسى وقد يراد به ما يعم كتبه وكتب أنبياء بني إسرائيل وهو ما يسمى عند القوم (( العهد القديم )) وذلك إطلاق شائع كما يؤخذ من إظهار الحق 1: 38 وفي تفسير ابن كثير7:7  56يقع في كلام كثير من السلف إطلاق التوارة على كتب أهل الكتاب، وقد ورد في بعض الأحاديث ما يشبه هذا )). وعلى كل حال فالرويات تعطي وجود معنى تلك العبارة في بعض كتب أهل الكتاب، وأبو رية يزعم أن الخبر (( أسطورة، خرافة )) فإن بنى ذلك على ا متناع أن يكون في كتب الأنبياء السابقين أخبار بأمور مستقبلة كبعثة محمد صلى الله عليه وسلم وصفته فهذا تكذيب صريح للقرآن وتكذيب بكتب الله ورسله، فإن كان أبو رية ينطوي على هذا فليجهر به حتى يخاطب بحسبه. وإن بنى على استبعاد صحة الخبر لأنه لا يوجد في كتب أ هل الكتاب الآن ما يؤدي ذاك المعنى، ولم يكن موجوداً فيها منذ ألف سنة تقريباً عندما شرع بعض علماء المسلمين يطلعون عليها وينقلون عنها، فهذا يبنيء عن جهل أو تجاهل بتاريخ كتب أهل الكتاب وأحوالهم فيها، واقتصر هنا على عبارات عن كتاب (( إظهار الحق )) للشيخ رحمة الله الهندي ففيه 220:1 عن الدكتور كني كات وهو من أعظم محققي كتب العهدين قال (( إن نسخ العهد العتيق التي هي موجودة كتبت ما بين ألف وألف وأربعمائة.. .)) وقال (( إن جميع النسخ التي كانت كتبت في المائة السابعة ( الميلادية ) أو الثامنة أعدمت بأمر محفل

72

 
الشورى لليهود لأنها كانت تخالف مخالفة كثيرة للنسخ التي كانت معتمدة عندهم)) وحكى عن ( والتن) ما يوافق ذلك.و يعلم منه أن اليهود / تتبعوا نسخ كتبهم التي كتبت قبل الإسلام أو في صدر الإسلام إلى نحو مائتي سنة فأتلفوها لمخالفتها الكثيرة لما يهوونه.وانظر إ ظهار الحق 242:1-245 وفيه 227:1-229 إن لأهل الكتاب نحو عشرين كتاباً مفقودة،وبعضها منسوب إلى موسى فيكون من التوارة الحقيقة عندهم. وقد تكون ثم كتب أخرى مفقودة لم يعثر المتأخرون على أسمائها. وذكر من شيوع التحريف القصدي في اليهود والنصارى قديماً وحديثاً ما يجاوز الوصف.وحق على من يبتلى بسماع شبهات دعاة النصرانية والإلحاد أن يقرأ ذاك الكتاب ( إظهار الحق) ليتضح له غاية الوضوح أن الفساد لم يزل يعترى كتب أهل الكتاب جملة وتفصيلا، ومحققوهم حيارى ليس بيدهم إلا التظنى والتمني والتحسر والتأسف، ومن ثم يتبين السر الحقيقي لمحاولتهم الطعن في الأحايث النبوية، لأن دهاتهم حاولوا الطعن في القرآن فتبين لهم أنه ما إلى ذلكم من سبيل، فأقبلوا على النظر في الأحاديث فوجدوا أنه قد روي في جملة ما روي كثير من الموضوعات، وحيرهم المجهود العظيم الذي قام به علماء الأمة لاستخلاص الصحيح ونفي الواهي والساقط والموضوع حتى قال بعضهم (( لتفتخر المسلمين بعلم حديثهم ما شاءوا )). ولكنهم اغتنموا انصراف المسلمين عن  علم الحديث وجهل السواد الأعظم منهم بحقيقته فراحوا يشككون ويتهجمون، ولا غرابة أن يوقعهم الحسد في هذا وأكثر منه، وإنما الغرابة في تقليد بعض المسلمين لهم نعم اتضح ما تقدم عن إظهار الحق أنه لا مانع من أنه كان في كتب أهل الكتاب عند ظهور الإسلام ما تواطئوا بعد ذلك على تحريفه أو إسقاطه أو فقد ذاك الكتاب باتلافهم عمداً أو غيره. وقد كان اليهود في بلاد العرب منذ زمن طويل قبل الإسلام فلا يستبعد أنه كان بقي عندهم مالم يكن عند النصارى،[ومن الهين جداً على اليهود حين قرووا إتلاف النسخ أن يتلقوا جميع ما كان تبقى منها بأيدي المسلمين من أعقاب كعب ووهب وغيرهما لأنها تصير إلى مسلم لا يحسن قراءتها وقد يكره بقاءها عنده فقد يتلفها وقد يعطيها يهودياً بغير ثمن أو بثمن بخس، ويتأكد ذلك عند سعي اليهود في جمعها، وحسبك برهاناً على ذلك وما في معناها فقد النسخ من العالم سوى ما بأيدي اليهود من النسخ الحديثة] وإذا لا مانع وقد صحت الرواية فالواجب تصديقها، ومن تدبر القرآن ومحاورات النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لليهود وما حكي عنهم قبل البعثة وما حكاه من أسلم منهم بان له صحة ما قلناه.وقد صحت الرواية عن عبد الله بن عمرو وهو صحابي فاضل، وقدكان عارفاً بكتب أهل الكتاب، ووقعت له عدة منها. فالظاهر أنه أخذ العبارة منها. وإن صحت عن عبد الله بن سلام فالأمر أوضح، فإنه كان من أحبار اليهود وأسلم مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وكان من خيار الصحابة وشهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة كما رواه كبار الصحابة وإن صحت عن كعب فالظاهر صدقه لأنه إذا كان صادق الإسلام / نقياً كما هو الظاهر ولم يتيبن خلافه فالأمر واضح، وإن كان كما زعمه بعضهم منافقا مصراً على الباطن على اليهودية متعصباً لها فليس من المعقول أن يكذب للمسلمين بما يزيدهم ثباتاً على الإسلام وحنقا على اليهود، وما يقال إن كعباً كان يستدرج المسلمين ليثقوا به ليس بشيء، لأنه يعلم أن غاية ما يفيده وثوقهم هو تصديقهم له في أن ما يحكيه عن كتب أهل الكتاب موجود فيها، وماذا يفيده هذا وإن كان منافقاً وقد علم أنهم يعتقدون أن كتب أهل الكتاب محرفة مبدلة، وقد تقدم إيضاح ذلك. وما يزعمه أبو رية من مكايد كعب لم يتحقق منها شيء. والله والمستعان

 

73

 
ثم ذكر (ص115) حكايات معضلة لا تعرف أسانيدها، ومثل ذلك لا يصح أن يبنى عليه شيء

 

مكيدة مهولة

ثم قال (( لما قدم كعب إلى المدينة في عهد عمر وأظهر إسلامه أخـذ يعمل في

دهاء ومكر لما أسلم من أ جله من إفساد الدين وافتراء الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم.. .. )) [قوله على النبي صلى الله عليه وسلم هذا أساس المكيدة المهولة الآتية] أقول: هذه مكيدة مهولة يكاد بها الإسلام والنسة، اخترعها بعض المستشرقين فيما أرى ومشت على بعض الأكابر وتبناها أبو رية وارتكب لترويجها ما ارتكب كما ستعلمه، وهذا الذي قاله هنارجم بالغيب وتظن للباطل وحط لقوم فتحوا العالم ودبروا الدنيا أحكم تدبير إلى أ سفل درجات التغفيل، كأنهم رضي الله عنهم لم يعرفوا النبي صلى الله عليه وسلم ودينه وسنته وهديه فقبلوا ما يفتريه عليه وعلى دينه إنسان لم يعرفه، وقد ذكر أبورية في مواضع حال الصحابة في توقف بعضهم عما يخبره أخوه الذي يتيقن صدقه وإيمانه وطول صحبته للنبي صلى الله عليه وسلم،فهل تراهم مع هذا يتهالكون على رجل كان يهودياً فأسلم بعد النبي صلى الله عليه وسلم بسنين فيقبلون منه ما يخبرهم عن النبي صلى الله عليه وسلم مما يفسد دينه؟ كان الصحابة رضي الله عنهم في غنى تام بالنسبة إلى سنة نبيهم، إن احتاج أحد منهم إلى شيء رجع إلى إخوانه الذين صحبوا النبي صلى الله عليه وسلم وجالسوه، وكان كعب أعقل من أن يأتيهم فيحدثهم عن نبيهم فيقولوا: من أخبرك؟ فإن ذكر صحابياً سألوه فيبين الواقع، وإن لم يذكر أحدا كذبوه ورفضوه، إنما كان كعب يعرف الكتب القديمة فكان يحدث عنها بآداب وأشياء في الزهد والورع أو بقصص وحكايات تناسب أشياء في القرآن أو السنة، فما وافق الحق قبلوه، وما رأوا باطلاً قالوا: من أكاذيب أهل الكتاب، وما رأوه محتملاً أخذوه على الاحتمال كما أمرهم نبيهم صلى الله عليه وسلم ذلك كان فن كعب وحديثه. ولم يرو عنه أحد من الصحابة إلا ما كان من هذا القبيل. نعم ذكر أصحاب التراجم أنه سئل عن النبي صلى الله عليه وسلم وروى عن عمر وصهيب وعائشة. وعادتهم أن يذكروا مثل ذلك وإن كان خبراً واحداً في صحته عن كعب نظر / فهذه كتب الحديث والآثار موجودة لا تكاد تجد فيها خبراً يروى عن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم فإن وجد فلن تجده إلا من رواية بعض التابعين عن كعب، ولعله مع ذلك لا يصح عنه. وكذا روايته عن عمر. وكذا روايته عن صهيب وعائشة مع أنه مات قبلها بزمان.وعامة ما روي عنه حكايات عن أهل الكتاب ومن قوله

قال (( ومما أغراه بالرواية أن عمر بن الخطاب كان في أول أمره يستمع إليه، فتوسع في الرواية الكاذبة ما شاء أن يتوسع، قال ابن كثير: لما أسلم كعب في الدولة العمرية جعل يحدث عمر رضي الله عنه، فربما استمع له عمر، فترخص الناس في استماع ما عنده و نقلوا ما عنده من غث وسمين )) [عزاه أبو رية إلى تفسير ابن كثير 17:4 ولم أجده هناك فلينظر]

أقول: الذي عنده هو الحكايات عن صحف أهل الكتاب وأشياء من قوله في الحكمة والموعظة، وقوله (( الرواية الكاذبة )) لا ريب أن في صحف أهل الكتاب التي كان كعب يحكي عنها ما هو كذب، فمن صحفهم ما أصله من كتب الأنبياء ولكن حرف وزيد فيه ونقص، ومنها ما هو منسوب إلى بعض الأنبياء كذباً، وعندهم عدة كتب كذلك، ومنها ما هو من كتب أحبارهم، فأما أن يكون كعب كذب فهذا لم يثبت، وسيأتي الكلام فيه

قال (( ثم لم يلبث عمر أن تفطن لكيده وتبين له سوء دخلته، فنهاه عن الرواية عن النبي[قوله عن النبي عن رسول الله هو أساس المكيدة كما مرت الإشارة إلى مثله ص73 يحاول أبو رية أن يمكنه] وتوعده إن لم يترك الحديث عن رسول الله أو ليحقنه بأرض القردة ))

أقول: هذا من دجل أبي رية، لم يتبين لعمر من كعب كيد  ولا سوء دخلة، ولا كان كعب يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم، ,إنما كان يحكي عن صحف أهل الكتاب، فإن كان عمر نهاه فعن ذلك. وا لحكاية التي تشبث بها أبورية عزاها إلى البداية والنهاية 106:8 وهي هناك (( وقال لكعب الأحبار: لتتركن الحديث عن الأول أو لألحقنك بأرض القردة )) قال (( عن الأول )) فأبدلها الشاطر أبو رية بقوله

 

(( عن النبي – عن رسول الله )).[وهكذا يزور أبو رية لتمكين أساس تلك المكيدة] ومعها في البداية والنهاية كلمة تتعلق بأبي هريرة ذكرها أبو رية ص163 وسيأتي هناك بيان سقوط هذه الرواية مع الكشف عن بعض أفاعيل أبي رية

75

 
على أن كلام أبي رية متناقض، فسيحكي قريباً أن عمر لم يزل إلى آخر حياته معتداً بكعب، والصحيح أن كعباً كان رجلاً عريباً ذا رأي، قد قرأ الكتب واستفاد منها أشياء في الحكمة والزهد والورع، وهذه كانت وسيلته إلى عمر. ويحكي الناس عنه أشياء من الأخبار عن الأمور المستقبلة مسنداً له إلى صحف / أهل الكتاب، ولا أدري ما يصح عنه من ذلك

قال (( على أن عمر ظل يترقب هذا الداهية بحزمه وحكمته وينفذ إلى أغراضه الخبيثة بنور بصيرته كما نرى في قصة الصخرة ))

 

أقول: قد سرح عمر من المدينة إلى العراق نصر بن حجاج لغير ذنب إلا أنه كان بارع الجمال وكان بالمدينة كثير من النساء، يغيب أزواجهن في الجهاد وقد ذكرت إحداهن نصرا في شعر لها، وجلد عمر صبيغ بن عسل ونفاه إلى العراق وكتب أن لا يجالسه أحد لأمر واحد وهو أنه يكثر من السؤال عن كلمات من القرآن لا تتعلق بالأحكام، ونصر سلمى وصبيغ تميمي لم يكن لهما عرق في يهودية ولا نصرانية. وكعب حميري حديث العهد باليهودية لا منعة له و لاحاجة بالمسلمين إليه، فهل يعقل أن يشعر الفاروق منه بأن إسلامه مدخول وأنه داهية ذو أغراض خبيثة ثم يدعه معه بالمدينة يدخل إليه مع أصحابه ويتكلم في مجلسه وربما يستشيره لا يحذره ولا يحذر الناس منه؟ أما قصة الصخرة فرواها الإمام أحمد من طرق حماد بن سلمة عن أبي سنان [عيسى بن سنان القسملي] عن عبيد بن آدم قال (( سمعت عمر يقول لكعب: أين ترى أن أصلي؟ قال: إن أخذت عني صليت خلـف الصخـرة،

 

 

وكانت القدس كلها بين يديك. فقال عمر: ضاهيت اليهودية، لا، ولكن أصلى حيث صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم

عبيد هذا لم يذكر له راو إلا أبو سنان، وأبو سنان ضعفه الإمام أحمد نفسه وابن معين وغيرهما، وقال أبو زرعة (( مخلط ضعيف الحديث))، ولا ينفعه ذكر ابن حبان في الثقات لماعرف من تساهل ابن حبان، ولا قول العجلي (( لا بأس به )) فإن العجلي قريب من ابن حبان أو أشد، عرفت ذلك بالاستقرار. ومع هذا فليس في القصة ما يشعر بسوء دخيله،عرف كعب فضيلة بيت المقدس في الإسلام بنص القرآن، وعلم أنه كان قبلة المسلمين أولاً فظن أنه الأفضل للمصلى هناك أن يجعله كله بينه وبين الكعبة، ورأى عمر أن في هذا مضارعة أي مشابهة لليهودية، فيما علم من الإسلام خلافه، وهو صلاة النبي صلى الله عليه وسلم. هذا على فرض صحة الرواية. وذكر أبورية (ص126-127) رواية أخرى عن تاريخ الطبري. وهي في التاريخ منقطعة الأول وا لآخر، إنما قال (( وعن رجاء بن حيوة عمن شهد )) والسند إلى رجاء مجهول، وشيخ رجاء مجهول، ومثل هذا لا يثبت به شيء

76

 
قال أبو رية (( فإن شدة دهاء هذا اليهودي غلبت على فظنه عمر وسلامة نيته )) كذا رجع أبورية فسلب عمر ما ذكره أولا بقوله (( بحزمه وحكمته وينفذ.. . بنور بصيرته ))، وهذا شأن من يتظنى الباطل[والملجئ لأبي رية إلى هذا هو محاولته بالتمكين لتلك المكيدة

/ قال (( فظل يعمل بكيده في السر والعلن ))

 

أقول كلمة (( العلن )) هذه تأتي على بقية ما جعله لعمر سابقاً وتبين أن مقصوده بقوله (( سلامة نيته )) الغفلة. قال (( حتى انتهى الأمر بقتل عمر بمؤامرة اشترك فيها هذا الدهي ))

ذكر بعد هذا ما حكى عن المسور بن مخرمة، وعزاها إلى تاريخي ابن جرير وابن

الأثير، والثاني مستمد من الأول، وأرى أن أحكيها كما هي عند ابن جرير في أخبار سنة 23قال (( حدثني سلمة (الصواب: سلم )) بن جنادة قال حدثنا سليمان بن عبد العزيز بن أبي ثابت [عمران]ابن عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف قال:حدثنا أبي عن عبد الله بن جعفر عن أبيه عن المسور بن مخرمة.. . قال: خرج عمر بن الخطاب يطوف في السوق فلقيه أبو لؤلؤة.. . قال [أبو لؤلؤة]: لئن سلمت لأعملن لك رحى يتحدث بها من بالمشرق والمغرب، ثم انصرف. فقال عمر: لقد توعدني العبد آنفاً. قال ثم انصرف عمر إلى منزله فلما كان من الغد جاء كعب الأحبار فقال له: يا أمير المؤمنين اعهد فإنك ميت في ثلاثة أيام. قال: وما يدريك؟ قال: أجده في كتاب الله عزوجل التوراة. قال عمر: آلله أنك لتجد عمر بن الخطاب في التوراة؟ قال: اللهم لا، ولكن أجد صفتك وحليتك... فلما كان من الغد جاء كعب فقال:.. . بقي يومان. قال: ثم جاء من غد الغد فقال:.. .بقي يوم وليلة وهي لك إلى صبيحتها.. . )) وقال فيه (( فضرب عمر ست ضربات )) وفي آخرها (( ثم توفي ليلة الأربعاء لثلاث بقين من ذي الحجة ))

77

 
أقول: هل يسمع عمر هذا الوعيد الشديد من عبد كافر ثم لا يحترس منه ولا يأمر بالقبض عليه وسجنه أو ترحيله من المدينة؟ أو على الأقل يضع عليه عيوناً تراقبه، فقد كان لعمر عيون على الناس ترقب أقل من هذا، وكان له عيون على عماله في البلدان البعيدة، أو ليس عمر هو الذي رجع عن بلد الطاعون فقال له أبو عبيدة: أفراراً من قدر الله؟ فقال عمر: لو غيرك يا أبا عبيدة قالها. نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله. هب أن عمر لم يبال نفسه، أفلم يكن بقاء ذلك العبد الكافر بين ظهراني المسلمين خطراً عليهم، وقد جاهر الخليفة بالتوعد، فما عسى أن يكون حاله مع غيره؟ قد يقال يمكن أن تكون وضعت عليه عيون راقبته مدة فلم ير منه ما ينكر، قترك. لكن / هذه الحكاية تجعل التوعد يوم الجمعة 22 ذي الحجة سنة 23 والقتل بعد ذلك بأربعة أيام.

أضف إلى ذلك أنه قد ثبت أن عمر قال في خطبته في تلك الجمعة  (( رأيت ديكا نقرني ثلاث نقرات، ولا أراه إلى حضور أجلي )) وفي بعض الروايات أنه ذكر أن الرؤيا عبرت بأن رجلاً من الأعاجم يعتدي عليه. راجع فتح الباري 50:7 هل يخبر عمر بهذه الرؤيا في اليوم الذي توعده فيه الأعجمي ثم لا يحترس ولا يقبض على ذاك الأعجمي؟

وفوق هذا تزعم الحكاية أن كعباً جاء إلى عمر بعد الإخبار بالرؤيا وإيعاد الأعجمي بيوم واحد فقال لعمر ما تقدم. أفلم يكن في اقتران هذه الثلاثة ما يدعو إلى الاحتراس؟

أمر آخر: تقدم (ص46) تشديد عمر على أبي موسى لما أخبر بخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم، فهل يعقل أن عمر هذا الذي شدد على أخيه المؤمن الصادق المهاجر القديم الإسلام لا يشدد على كعب حديث العهد باليهودية ولا صحبة ولا هجرة، مع أن خبره أولى وأحق بأن يستنكر؟

أمر ثالت: عهدنا بهذا الحميري داهياً فهل يعقل أن يكون واقفاً على المؤامرة ثم يقع منه ما حكته الحكاية؟ المعقول أن يسكت إن كان له هوى في قتل عمر، وأن يخبره بالمؤامرة على وجهها إن لم يكن له هوى في قتله. أما السكوت فخشية أن يؤدي كلامه إلى حبوط المؤامرة بأن يحترس عمر ويقبض على أبي لؤلؤة، وقد يجر إلى اكتشاف المؤامرة ووقوع كعب نفسه، وأما الإخبار بالمؤامرة على وجهها فلأنه بذلك يكون له يد عند عمر والمسلمين ينال بها جاها ومكانه. وكلا هذين الغرضين أهم وأعظم من حبه إيهام اطلاعه على بعض أمور المستقبل، على أن هذا قد كان حاصلاً في الجملة، فقد كانوا يعرفون معرفته بصحف أهل الكتاب ويعرفون أن فيها أشياء من ذلك.

ومن قابل هذه الحكاية بالروايات الصحيحة وجد مخالفة: منها عدد الطعنات،

 

اتفقت الروايات الصحيحة على أنها ثلاث فقط، ووقع في هذه الحكاية أنها ست

78

 
فأنت ترى أن النظر في متن هذه الحكاية يبين أنها مدخولة لا يمكن الاعتماد عليها في شيء، ويؤكد ذلك سقوط سندها، فإن سليمان مجهول لم نجد له ترجمة وأبوه ساقط الحديث كما بينه جمع من الأئمة، وعبد الله بن جعفر لا بأس به، فأما أبوه جعفر بن المسور فلا يعرف برواية أصلاً،ولا يدرى أدرك أباه أم لا

/ وقال ص 117: (( ووقع في رواية أبي إسحاق عند ابن سعد: وأتى كعب عمر فقال: ألم أقل لك إنك لا تموت إلا شهيداً، وإنك تقول من أين وإني في جزيرة العرب ))

أقول: هي عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون وأبو إسحاق مشهور بالتدليس ولم يذكر سماعا وروى غيره القصة عن عمرو بن ميمون كما في صحيح البخاري وغيره بدون هذه الزيادة. ومع هذا فأي شيء فيها؟ أما الشهادة فقد كان عمر مبشراً بها يقيناً، ففي الصحيحين وغيرهما من حديث أنس (( أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد أحداً وأبو بكر وعمر وعثمان، فرجف بهم فقال: اثبت أحد، فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان )). وصح معناه من حديث عثمان وبريدة وأبي هريرة وسهل بن سعد. راجع فتح الباري 32:7

 

وفي الصحيحين وغيرهما سؤال عمر لحذيفة عن الفتنة،وقول حذيفة (( لا بأس عليك يا أمير المؤمنين، إن بينك وبينها بابا ًمغلقاً )) قال عمر (( يفتح الباب أو يكسر )) ؟ قال حذيفة (( لا بل يكسر )). قيل لحذيفة (( علم عمر بالباب ))؟قال ((نعم، كما أن دون غد الليلة، إني حدثته حديثاً ليس بالأغاليط )) ثم بين حذيفة أن الباب هو عمر نفسه. فالمراد بقوله (( يفتح أو يكسر )): يموت أو يقتل

وثم أخبار أخرى كرؤيا عوف بن مالك في عهد أبي بكر، وفيها في ذكر عمر

 

 

((شهيد مستشهد )). وفي صحيح البخاري أن عمر قال (( اللهم ارزقني شهادة في سبيلك وموتاً في بلد رسولك )) وراجع فتح الباري 86:4 و 446:6 ولا ريب أن كعبا كان عارفاً بصحف أهل الكتاب وأن فيها أخباراً عن المستقبل، وأنه كان يوجد في صحفهم في عهد الإسلام ما لا يوجد عندهم الآن، راجع ما تقدم ص72. وشأن عمر من أعظم الشئون في العالم وأحقها أن يبشر به الأنبياء السابقون عند تبشيرهم بالنبي صلى الله عليه وسلم، ومع هذا فليس في رواية أبي إسحاق ذكر التوراة، فقد يكون استند إلى تلك الأخبار الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم

قال أبو رية (( وإليك خبراً عجيباً من أخبار ذلك الكاهن لعله يمتلخ منك عرق الشك في اشتراكه في هذه المؤامرة، فقد أخرج الخطيب عن مالك أن عمر دخل على أم كلثوم بنت علي وهي زوجته فوجدها تبكي، فقال: ما يبكيك؟ قالت: هذا اليهودي- أي كعب الأحبار – يقول إنك من أبواب جهنم. فقال عمر: ما شاء الله. ثم خرج فأرسل إلى كعب، فجاءه فقال: ياأمير المؤمنين والذي نفسي بيده لا ينسلخ ذو الحجة حتى تدخل الجنة، فقال عمر: ما هذا؟ مرة في الجنة ومرة في النار! قال كعب: إنا لنجدك في كتاب الله على باب من أبوب جهنم تمنع الناس أن يقتحموا فيها، فإذا مت اقتحموا وقد صدقت يمينه.. . فقد قتل عمر في ذي الحجة سنة 23هـ

79

 
أقول: ذكر ابن حجر في فتح الباري هذه الحكاية في شرح حديث حذيفة الذي فيه وصف عمر بأنه باب مغلق دون الفتنة، وقد تقدم قريباً. وفي الفتح أيضاً 446:2 حديث فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى عمر وقال: هذا غلق الفتنة، لا يزال بينكم وبين الفتنة باب شديد الغلق ما عاش، وأن أبا ذر قال لعمر (( يا غلق الفتنة )) فغير منكر أن يكون في صحف أهل الكتاب إشارة إلى هذا المعنى بنحو ما في الحكاية – إن صحت- وإنما الذي يستنكر أن يكون فيها بيان وقت موت عمر على

التحديد. وقد كان عمر في شهر ذي الحجة سنة23 حاجاً واتفق هناك علامات تؤذن بقرب موته، منها أن رجلاً ناداه يا خليفة. فقال آخر من حزاةالعرب: إنا لله،ناداه باسم ميت. ثم لما كان يرمي الجمرات أصابت حصاة جهة عمر فأدمته، فقال ذاك الحازي: إنا لله، أشعر أمير المؤنين. والإشعار تدمية البعير الذي يهدى لينحر. وجاء عن عائشة أنها سمعت عقب ذاك الحج منشداً ينشد:

لا الأرض العضاء باسوق

أبعد قتيل بالمدينة أظلمت

يد الله في ذاك الأديم الممزق..

عليك سلام من إمام وباركت

ولما انصرف عمر من الحج دعا الله تعالى فقال (( اللهم كبرت سني وضعفت قوتي وانتشرت رعيتي، فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفرط )). فلما قدم المدينة خطب الناس وقال في خطبته (( رأيت ديكاً نقرني ثلاث نقرات، ولا أراه إلا حضور أجلي ))

فمن الجائز إن صحت تلك الحكاية أن يكون كعب استند إلى بعض هذه العلامات أو شبهها، وقد يكون مع ذلك وجد في صحفه إشارة فهم منها بطريق الرمز مع النظر إلى القرائن والعلامات السابقة أن عمر لا يعيش في تلك السنة

وبعد فسند الحكاية غير صحيح، تفرد بها عن مالك رجل يقال له (( عبد الوهاب بن موسى )) لا يكاد يعرف وليس من رجال شيء من كتب الحديث المشهورة، ولا ذكر في تاريخ البخاري ولا كتاب ابن أبي حاتم، بل قال الذهبي في الميزان (( لا يدري من ذا الحيوان الكذاب )) وفي مقدمة صحيح مسلم (( الذي نعرف من مذهبهم في قبول ما يتفرد به المحدث من الحديث أن يكون قد شار ك الثقات من أهل العلم والحفظ في بعض ما رووا وأمعن في ذلك على الموافقة لهم، فإذا وجد كذلك ثم زاد بعد ذلك شيئا ًليس عند أصحابه قبل منه.. . ))

وهذا الرجل لم يمعن في المشاركة فضلاً عن أن يكون ذلك على / الموافقة. لكن هذا الشرط لا يتقيد به بعض المتأخرين كابن حبان والدارقطني،ومن ثم- الله أعلم - وثق الدارقطني عبد الوهاب هذا وزعم أن الخبر صحيح عن مالك. أما بقية سنده عن مالك فهو عن عبد الله بن دينار عن سعد الجاري، وسعد الجاري غير مشهور ولا موثق، ولا يدرى أدركه عبد الله بن دينار أم لا

ومقطع الحق أن ليس بيد من يتهم كعباً بالمؤامرة غير كلمات يروي أن كعباً قالها لعمر. وقد كان عمر والصحابة أ علم بالله ورسوله وكتبه منا، وأعلم بعد أن طعن عمر بالمؤامرة وقد انكشفت وهو حي، وأعلم بحال كعب لأنه صحبهم وجالسهم. والمعقول أنه لو كان في ما خطب به عمر ما يوجب اتهامه لاتهموه، وقد علمنا أنهم لم يتهموه لا قبل انكشاف المؤامرة ولا بعده، فوجب الجزم بأنه لم يقع منه ما يقتضي اتهامه

قال أبورية ص118 (( حديث الاستسقاء.. ))

حكى أن كعباً في عام الرمادة قال لعمر (( إن بني إسرائيل كانوا إذا أصابهم مثل هذا استسقوا بعصبة الأنبياء ))

أقول لم يعز إل كتاب لينظر في سنده.. . ولا أراه إلا ساقطا

قال (( ومما لا مراء فيه أن هذا اليهودي قد أراد بقوله هذا أن يخدع عمر عن أول أساس جاء عليه الدين الإسلامي وهو التوحيد الخالص، ليزلقه إل هوة التوسل الذي هو الشرك بعينه ))

أقول: أما المسلمون الذي يعرفون الإسلام فالذي لا مراء فيه عندهم أن أبا رية مجازف، وأنه على فرض صحة هذه الحكاية ليس فيها ما يدل على سوء طوية كعب، وإن استسقاء عمر بالعباس رضي الله عنهما لا علاقة بالشرك البتة، بل هو أمر يقره الشرع إجماعاً، ويؤيده الكتاب والسنة، قال الله تعالى (64:4 ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيماً ))

 

 

وقال سبحانه (5:63 وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رءوسهم ورأيتهم يصدون وهم مستكبرون)) وقال تعالى في يعقوب وبنيه97:12- قالوا ياأبانا استغفر لنا ذنوبنا إناكنا خاطئين: قال سوف أ ستغفر لكم ربي إنه هو الغفور الرحيم )) وتواتر في السنة طلب الصحابة من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو لهم بالسقيا وغيرها، وأمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نسلم عليه في التشهد، وبالصلاة عليه والدعاء له عقب الأذان، وغير ذلك مما صورته طلب الدعاء.

81

 
ثم ذكر خبر أنس الذي في صحيح البخاري أن عمر قال (( اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا صلى الله عليه وسلم / فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا )) وزعم أنه لا يصح، وعارضه بروايات منها عن خوات قال (( خرج عمر يستسقي بهم فصلى ركعتين فقال: اللهم إنا نستغفرك ونستسقيك، فما برح من مكا نه حتى مطروا ))

أقول: لا أدري ما سنده، ولو صح فلا يعارض خبر أنس، فقد تكون واقعة أخرى، فإن عمر لبث خليفة عشر سنين، وقد تكون واقعة واحدة اختصر خوات في ذكرها

قال (( وعن الشعبي قال: خرج عمر يستسقي بالناس فما زاد على الاستغفار ))

أقول: الشعبي لم يدرك عمر، وعمر لبث خليفة عشر سنين، فلم يكن استسقاؤه مرة واحدة

قال (( وقال الجاحظ:ولما صعد (عمر) على المنبر قابضاً على يد العباس.. . )) فذكر نحو خبر الشعبي، وذكر أبو رية أن الطبري أخرجه في تفسيره، وأن ابن قتيبة ذكره في الشعر والشعراء

أقول: نعم، ولكن لم يقل أحد (( قابضاً على يد العباس )) إلا الجاحظ، فأراه زادها توهما قال (( قال معاوية لكعب.. .. )) عـزا هذا إلى تفسير ابن كثير 101:3

وإنما هو فيه 323:5 قال في سنده (( ابن لهيعة حدثني سالم بن غيلان عن سعيد بن أبي هلال أن معاوية الخ )) وابن لهيعة ضعيف، وسعيد بن أبي هلال ولد بعد موت كعب بنحو أربعين سنة

قال (( وذكر القرطبي في تفسير سورة غافر عن خالد بن معدان عن كعب ..))

أقول: قال القرطبي (( قال ثور بن زيد عن خالد.... )) ولا أدري كيف السند إلى ثور، وخالد لم يدرك كعبا

قال (( وفي التفسير أن عبد الله بن قلابة الخ ))

أقول: عبد الله بن قلابة مجهول لا ذكر له إلا في هذه الحكاية، وفي السند إليه عبد الله بن لهيعة وهو ضعيف كثير التخليط

قال ص121 (( وأخرج أبو الشيخ في العظمة عن كعب.. .. ))

أقول: كتاب العظمة تكثر فيه الرواية عن الكذابين والساقطين والمجاهيل

قال (( وعن وهب بن منبه: أربعة أملاك يحملون العرش.. .. ))

82

 
أقول: وهذا أيضاً من كتاب العظمة

/ قال (( وقرأ معاوية الخ ))

أقول: في سنده سعيد بن مسلمة بن هشام، قال فيه البخاري (( منكر الحديث فيه نظر ))، وهذا من أشد الجرح في اصطلاح البخاري، وفي سياق القصة ما يشعر بانقطاع آخرها

قال ص122 (( وذكر الحافظ ابن حجر أن كعب الأحبار روى أن باب السماء الذي يقال له مصعد الملائكة يقابل بيت المقدس، فأخذ منه بعض العلماء أن الحكمة في الإسراء إلى بيت المقدس قبل العروج ليحصل العروج مستويا.. . )) قال أبو رية (( وهكذا تنفذ الاسرائيليات إلى معتقداتنا ))

أقول: الحكاية عن كعب لا ندري ما سندها، وذاك الأخذ إنما هو احتمـال لا

 

تثبت به عقيدة ولا تنتفي

قال (( وقال ابن حجر بعد أن أورد تلك الخرافة.. . ))

أقول: من أين لك أنها خرافة؟

قال (( وروى كعب أن في الجنة ملكا الخ ))

أقول: ذكر بنحو ما هنا ابن القيم في حادى الأرواح المطبوع مع أعلام الموقعين 314:1 وهو من رواية شمر بن عطية عن كعب، وشمر لم يدرك كعباً وليس في الحكاية ما يستنكره المسلم

قال (( ومما يدلك على أن الصحابة كانوا يرجعون إليه[هذا من محاولات أبي رية تمكين تلك المكيدة التي مرت ص73]حتى فيما هو من علمهم، وبخاصة عند ما قال: ما من شيء إلا وهو مكتوب في التوراة. أن أبا عبد الرحمن محمد بن الحسين النيسابوري ذكر أن عمر قال لكعب – وذكر الشعر- يا كعب هل تجد للشعر ذكراً في التوراة.... ))

أقول: عزاه إلى كتاب العمدة لابن رشيق، وابن رشيق لم يلق النيسابوري والنيسابوري ضعيف جداً حتى اتهم بالوضع، تجد ترجمته في لسان الميزان 140:5 وبينه وبين عمر أكثر من ثلاثمائة سنة، وهب أن القصة صحت فأي شيء فيها يدل على تلك ا لدعوى الفاجرة؟ وما نسبه إلى كعب من قوله (( ما من شيء الخ )) لم يعزه

قال (( وروى البيهقي في الأسماء والصفات بسند صحيح عن ابن عباس [قال].. . في كل أرض نبي كنبيكم وآدم كآدمكم ونوح كنوح وإبراهيم كإبراهيم وعيسى كعيسى ))

83

 
أقول: أما هذا فليس سنده صحيح، لأنه من طريق شريك عن عطاء بن السائب عن أبي الضحى عن / ابن عباس، وشريك يخطئ كثيراً ويدلس، وعطاء بن السائب

اختلط قبل موته بمدة وسماع شريك منه بعد الاختلاط. لكن أخرج البيهقي عقب هذا بسند آخر من طريق (( آدم بن أبي إياس حدثنا شعبة عن عمرو بن مرة عن أبي الضحى عن ابن عباس في قوله عزوجل (خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن ) قال: في كل أرض نحو إبراهيم )) ثم قال البيهقي (( إسناد هذا عن ابن عباس صحيح، وهو شاذ بمرة لا أعلم لأبي الضحى عليه متابعاًَ )) وأخرجه ابن جرير عن عمرو بن علي عن غندر عن شعبة فذكره بنحوه، وزاد (( ونحو ما على الأرض من الخلق ))

وعلى هذا فالمعنى والله أعلم أن في كل أرض خلقاً كنحو بني آدم، وفيهم من يعرف الله تعالى بالنظر في آياته كما عرف إبراهيم عليه السلام، وهذا القول قد يتوصل إليه بالنظر في الآية المذكورة وسياقها وقوله تعالى ( وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق )) وقوله ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون )) وغيرها على أن بعضهم قد فسر ماجاء في الرواية الأخرى التي تقدمت أنها لا تصح، ففي روح المعاني (( لامانع عقلا ًولا شرعأً من صحته، والمراد أن في كل أرض خلقاً يرجعون إلى أصل واحد رجوع بني آدم في أرضنا إلى آدم عليه السلام، وفيهم أفراد ممتازون على سائرهم كنوح وإبراهيم فينا )) أما ما في البداية (( محمول إن صح نقله عنه على أنه أخذه ابن عباس رضي الله عنه عن الاسرائيليات )) فغير مرضي، فابن عباس – كما مر ويأتي – كان ينهى عن سؤال أهل الكتاب، فإن كان مع ذلك قد يسمع من بعض من أسلم منهم أو يسأله فإنما ذلك شأن العالم يسمع ما ليس بحجة لعله يجد فيه ما ينبهه ويلفت نظره إلى حجة، وسيأتي تمام هذا إن شاء الله  وقال ص123 (( وفي تفسير الطبري أن ابن عباس سأل كعباً عن سدرة المنتهى. فقال:إنها على رءوس حملة العرش، وإليها ينتهي علم الخلائق، وليس لأحد وراءها علم، ولذلك سميت سدرة المنتهى لانتهاء العلم بها )) أقول هو من طريق الأعمش عن شمر بن عطية عن هلال بن يساف قال سأل ابن عباس كعباً وأنا حاضر )) كــذا قال،

 

والأعمش مشهور بالتدليس، وهلال بن يساف لم يدرك كعباً

قال أبو رية (( هذا ما قاله لتلميذه الثاني، أما تلميذه الأول فهو أبو هريرة... ))

84

 
أقول: لم يتعلما من كعب شيئاً،وإنما سمعا منه شيئاً محتملاً فحكياه، أو سألاه سؤال خبير ناقد لينظرا ما يقول، ولا يضرهما تهكم أبي رية كما لم يضر النبي صلى الله عليه وسلم قول المشركين (( إنما يعلمه بشر ))

/ قال: ففي حديث له أنها شجرة من أصلها أنهار الخ ))

أقول: هذا رواه أبو جعفر الرازي، وشك فيه فقال (( عن الربيع بن أ نس عن أبي العالية عن أبي هريرة أو غيره )) وأبو جعفر والربيع فيهما كلام، وقال ابن حبان في الربيع (( الناس يتقون من حديثه ما كان من رواية أبي جعفر عنه، لأن في أحاديثه عنه اضطراباً كثيراً ))

قال (( وفي حديث المعراج: أنه لما فرض الله خمسين صلاة على العباد في النهار وفي الليل ولم يستطع أحد من الرسل جميعاً غير موسى أن يفقه استحالة أ دائها على البشر، فهو وحده الذي فطن ذلك.. . وكأن الله سبحانه.. .. كان لا يعلم مبلغ قوة احتمال عباده.. . وكذلك لا يعلم محمد.. . حتى بصره موسى. وهكذا ترى الاسرائيليات تنفذ إلى ديننا.. . ولا تجد أحداً إلا قليلاً يزيفها.. . ))

أقول إن كانت الاسرائيليات  تشمل عند أبي رية كل خبر فيه فضيلة لموسى عليه السلام ففي القرآن كثيرمنها، بل في عدة آيات منها ذكر تفضيل بني إسرائيل على العالمين وغير ذلك. وإن كانت خاصة بما ألصق بالإسلام وليس منه من مقولات أهل الكتاب فلم يزل أهل العلم يتتبعونها ويزيفونها. أما سكوتهم عن محاولة تزييف ما ثبت في أحاديث الإسراء فعذرهم واضح، وهو أنه لم يبلغ أحد منهم في العلم والعقل والحياء مبلغ أبي رية. ودونك الجواب:

 

 

كانت الصلاة قبل الهجرة ركعتين ركعتين كما ثبت في الصحيح، فخمسون صلاة مائة ركعة،وليس أداة مائة ركعة في اليوم والليلة بمستحيل، وفي الناس الآن من يصلي في اليوم والليلة نحو مائة ركعة، ومنهم من يزيد، وفي تراجم كثيرمن كبار المسلمين أن منهم من كان يصلي أكثر من ذلك بكثير، بل إن أداء مائة ركعة في اليوم والليلة ليس بعظيم المشقة في جانب ما لله عزوجل من الحق وما عنده من عظيم الجزاء في الدنيا والآخرة، نعم قال الله تعالى (45:3 واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين، الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم وأنهم إليه راجعون )). وما وقع في كلام موسى (( إن أمتك لا تطيق )) وفي رواية (( لا تستطيع )) ليس معناه أن ذلك مستحيل، وإنما معناه أن ذلك يشق عليها، ولهذا أطلق هذه العبارة بعد بيان رجوع الصلاة إلى خمس، قال موسى (( إن أمتك لا تستطيع خمس صلوات كل يوم)) راجع مفرات / الراغب ( طوع ) و ( طوف )

85

 
فأما الله تعالى فالفرض في علمه خمس صلوات فقط. ولكنه سبحانه إذا أراد أن يرفع بعض عباده إلى مرتبه هيأ له ما يستحق به المرتبة، ومن ذلك أن يهيئ ما يفهم منه العبد أنه مكلف بعمل معين شاق فيقبل التكليف ويستعد لمحاولة الأداء فحينئذ يعفيه الله تعالى من ذلك العمل ويكتب له جزاء قبوله ومحاولة الوفاء به أو الاستعداد لذلك ثواب من عمله، ومن هذا القبيل قصة إبراهيم في ذبح ابنه

وأما محمد صلى الله عليه وسلم فكان يعلم أن الأداء ممكن كما مر، وكان في ذلك المقام الكريم مستغرقاً في الخضوع والتسليم ووفقه الله عزوجل لقبول ما فهمه في فرض خمسين والاستعداد لأدائها ليكون هذا القبول والاستعداد مقتضياً لاستحقاق ما أراد الله عزوجل أن يعطيه وأمته من ثواب خمسين صلاة، وقبوله واستعداده عنه وعن أمته في حكم قبول الأمة فإنها تبع له وكان هو النائب عنها، على أنه ما من مؤمن من أمته يطلع على الحديث ويراجع نفسه إلا رأى أنه لو كان

المفروض خمسين صلاة لبذل وسعه في أدائها والوفاء بها، فأما المراجعة للتخفيف بعد مشورة موسى فإنما كانت بعد أن استقر القبول والعزم على الأداء وعلى وجه الرجاء إن خفف فذاك وإلا فالقبول والاستعداد بحاله

ولم يذكر في الحديث أن أحداً من الرسل اطلع على فرض الصلاة وإنمافيه أنه لما مر بموسى عليهما السلام سأله موسى فأخبره فقال موسى (( إن أمتك لا تستيطع خمسين صلاة كل يوم، وإني والله قد جربت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك )) واختص موسى بالعناية لأنه أقرب الرسل حالاً إلى محمد لأن كلاًً منها رسول منزل عليه كتاب تشريعي سائس لأمة أريد لها البقاء لا أن تصطلم بالعذاب، وقضى لمحمد أن تطول معالجته لأمته كما طالت معالجة موسى لأمته، ووجوه الشبة كثيرة، ولهذا أتى القرآن بذكر موسى في مواضع كثيرة منها عقب آية الإسراء، قال الله تعالى ( سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلىالمسجد ا لأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير. وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل ألا تتخذوا من دوني وكيلا) هذا وحديث الاسراء ثابت مستفيض عن رواية جماعة من الصحابة وعليه إجماع الأمة ولايضره أن يجهل بعض الناس حكمة عالم الغيب والشهادة في بعض مااشتمل عليه، ولا أن يكفر به من يكفر. والله الموفق

86

 
قال أبورية ص124 (( هل يجوز رواية الاسرائيليات؟

 

أقول: المعلوم ديناً وعقلاً أن الأخبار إنما تحظر روايتها إذا ترتبت عليها مفسدة، وقد كثر في القرآن والسنة حكاية ما هوحق من الاسرائيليات وحكاية ما هو باطل مع بيان بطلانه، فدل ذلك على جواز ما كان من هذا القبيل، وبقي المحتمل، وما لا تظهر مفسدة في روايته على أنه محتمل.

 

قال أبو رية (( روى أحمد عن جابر بن عبد الله أن عمر بن الخطاب أتى النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب أصابه من بعض أ هل الكتاب فقرأه على النبي صلى الله عليه وسلم فغضب وقال: أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب؟ والذي نفسي بيده لو أن موسى كان حيا ما وسعه إلا أن يتبعني. وفي رواية فغضب وقال: جئتكم بها بيضاء نقية. لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به أو بباطل فتصدقوا به ))

أقول: هذا من رواية مجالد عن الشعبي عن جابر، ومجالد ليس بالقوي، وأحاديث الشعبي عن جابر أكثرها لم يسمعه الشعبي من جابر كما مر ص38 وعلى فرض صحته فالغضب من المجئ بذاك الكتاب كان لسبببين الأول إشعاره بظن أن شريعتهم لم تنسخ، ولهذا دفع ذلك بقوله (( لو أن موسى كان حياً ما وسعه إلا أن يتبعني )). والثاني أنه قد سبق للمشركين قولهم في القرآن والنبي صلى الله عليه وسلم ( أسأطير الأولين اكتتبها وهي تملى عليه بكرة وأصيلا ) وفي اعتياد الصحابة الاتيان بكتب أهل الكتاب وقراءتها على النبي صلى الله عليه وسلم ترويج لذاك التكذيب، والسببان منتفيان عمن اطلع على بعض كتبهم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم كعبد الله بن عمرو أما قوله (( لا تسألوا الخ )) فقد بين أن العلة هي خشية الكذب بحق أو التصديق باطل، والعالم المتكن من معرفة الحق من الباطل ومن المحتمل بمأمن من هذه الخشية، يوضخ ذلك أن عمر رضي الله عنه وهو صاحب القصة كان بعد النبي صلى الله عليه وسلم يسمع من مسلمي أهل الكتاب وربما سألهم، وشاركه جماعة من الصحابة ولم ينكر ذلك أحد

قال (( وروى البخاري عن أبي هريرة: لا تصدقوا الخ ))

87

 
أقول الذي في صحيح البخاري: (( عن أبي هريرة قال: كان أهل التكاب يقرؤن التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم الخ )) / فلم ينه عن السماع والاستماع، وإنما نهى عن التصديق والتكذيب، ولا ريب أن النهي عنه هو التصديق المبني على حسن الظن بصحفهم، والتكذيب المبني على غير حجة، فلو قامت حجة صحيحة وجب العمل بها

قال (( وروى البخاري... عن ابن عباس أنه قال: كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء وكتابكم الذي أنزل الله على رسول الله أحدث الكتب تقرؤنه محضاً لم يشب، وقد حدثكم أن أهل الكتاب بدلوا كتاب الله وغيروه الخ ))

أقول: هذا من قول ابن عباس، وقد علمنا أنه كان يسمع ممن أسلم من أهل الكتاب وقد روي أنه سأل بعضهم، وأبورية يسرف في هذا حتى يرمي ابن عباس بأنه (( تلميذ لكعب ))، وبالتدبير يظهر مقصوده، ففي بقية عبارته (( لا والله ما رأينا رجلاً منهم يسألكم عن الذي أنزل إليكم )) فدل هذا أن كلامه في أهل الكتاب الذين لم يسلموا، فأما الذي أسلموا فعمل ابن عباس يقتضي أنه لا بأس للعالم المحقق مثله أن يسأل أحدهم

قال (ص125): وروى ابن جرير عن عبد الله بن مسعود قال (( لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا. إما أن تكذبوا بحق أو تصدقوا بباطل ))

أقول: في سنده نظر، فإن صح فقد تقدم معناه في حديث جابر وأثر ابن عباس قال (( ولكن ما لبث الأمر أن انقلب بعد أن اغتر بعض المسلمين بمن أسلم من أحبار اليهود خدعة (؟) فظهرت أحاديث رفعوها إلى النبي تبيح الأخذ وتنسخ ما نهى عنه، فقد روى أبو هريرة وعبد الله بن عمرو بن العاص وغيرهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ))

أقول: صح هذا من حديث أبي هريرة وعبد الله بن عمرو وأبي سعيد الخدري، وليس بمخالف لما تقدم، كيف والحجة مما تقدم إنما هي في حديث أبي هريرة، فأمـا

حديث جابر فلم يصح، وأثر ابن عباس من قوله. وقد بينه سياقه وفعله، وأثر ابن مسعود إن صح فقد تقدم حمله، ولو كان مخالفاً لكان رأى صحابي قد خالفه غيره، فالحجة في حديث أبي هريرة فقط، وهو بين في الإذن بالسماع والاستماع، ولم ينه إلا عن التصديق أو التكذيب بلا حجة، والرواية إما في معنى السماع والاستماع فيدل الحديث على الإذن فيها، وإما مسكوت عنها فتبين أن حديث (( حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج )) غير مخالف لحجة، ولو كان مخالفاً فإيما أولى أن يؤخذ به؟ أدلة المنع قد عرفت حالها، أما أدلة الجواز فصنيع القرآن والسنن الثابتة، وحديث صحيح صريح يرويه جماعة من الصحابة، وعمل عمر وعثمان وجماعة من الصحابة

88

 
قال (( وأبو هريرة وعبد الله بن عمرو من تلاميذ كعب الأحبار ))\

أقول لما يتعلما من كعب شيئاً وأنما سمعا منه شيئاً من الحكايات ظناً أو جوزا صحتها فنقلاها، والذي يصح عنها من ذلك شيء يسير، وكأن أبا رية يريد أنهما لما سمعا من كعب أحبا أن يرويا عنه فخافا أن ينكر الناس عليهما فافتريا- والعياذ بالله – على النبي صلى الله عليه وسلم ذاك الحديث يدفعان به إنكار الناس، وساعدهما على ذلك غيرهما من الصحابة كأبي سعيد الخدري. كأن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم جماعة من اللصوص لا يزعهم دين ولا حياء وكأن صحبتهم له ومجالستهم وحفظهم للقرآن والسنن ومحافظتهم على الطاعة طول عمرهم لم تفدهم في دينهم وأخلاقهم شيئاً بل زادتهم وبالا، فقد كانوا في جاهليتهم يتحاشون من الكذب. ولا ريب أن مثل هذا لا يقوله مسلم عاقل يعرف محمداً صلى الله عليه وسلم ويؤمن بالقرآن وما فيه من الثناء البالغ على الصحابة ويعرف الصحابة أنفسهم. ولو أريد من ثلاثة معروفين من أصحاب السيد رشيد رضا أن يتفقوا على الكذب عليه لغرض من الأغراض لعز ذلك مع الفارق العظيم بين هذا وذاك من وجوه عديدة، ذا وسبيل المؤمنين الذي جرى عليه العمل في حياة النبي صلى الله عليه

وسلم وفي عهد أصحابه قبول خبر الصحابي الواحد، فإن عرض احتمال خطأ أو نحو فقام صحابي آخر فأخبر بمثل ذاك لم يبق إلا القبول، كما يروى في خبر محمد بن مسلمة بمثل ماأخبره به المغيرة في ميراث الجدة فأمضاه أبو بكر، وكشهادة أبي هريرة لحسان بانشاده الشعر في المسجد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم فأقره عمر، وكخبر أبي سعيد الخدري بمثل خبر أبي موسى في الاستئذان فاطمأن إليه عمر، وقد قال الله تبارك وتعالى (114:4 ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا )

قال أبورية ( وقد جاءت الأخبار بأن الثاني وهو عبد الله بن عمرو بن العاص أصاب يوم اليرموك زاملتين من علوم أ هل الكتاب فكان يحدث منها بأشياء كثيرة من الاسرائيليات، وقد قال فيهما الحافظ ابن كثير: إن منها المعروف والمشهور، والمنكور والمردود ))

89

 
أقول: هو نفسه رضي الله عنه لم يكن يثق بها، ولهذا كان يسمى صحيفته عن النبي صلى الله عليه وسلم ((الصادقة)) تميزا لها على تلك الصحف وإنما كان يحكي من تلك الصحف، ماقام دليل على صدقة كصفة النبي صلى الله عليه وسلم، أو كان محتملاً فيحكيه على الاحتمال

قال ((رواية بعض الصحابة عن أحبار اليهود،كان من أثر وثوق الصحابة بمسلمة أهل الكتاب واغترارهم بهم أن صدقوهم فيما يقولون ويروون عنهم ما يفترون ))

أقول: إن أراد بالتصديق أن كعباً مثلاً كان إذا قال إني أجد في التوارة كيت وكيت، صدقوه في أن ذلك في التوراة التي بأيدي أهل الكتاب حينئذ وقد عرفوا أن فيها كثيراً من التحريف والتبديل، فهذا محتمل، لأن كعباً أسلم ثم تعلم الإسلام وبقي محافظاً على الإسلام مجتنباً للكبائر متمسكاً بالعبادة والتقوى، فكان عدلاً عندهم فيما يظهر، فعاملوه بحسب ذلك، وهذا هو الحق عليهم وإن أراد بالتصديق أن كعباً مثلاً كان لو قال: إن من صفة الله تعالى كذا، لاعتقدوا – بناء على قوله أو صحفه – أن تلك صفة الله تعالى حقاً، فهذا كذب عليهم (راجع ص68) أما أن مسلمي أهل الكتاب كانوا يفترون، فهذه دعوى يعرف حالما مما مر ويأتي

قال (( وقد نص رجال الحديث في كتبهم أن العبادلة الثلاثة وأبا هريرة ومعاوية وأنس وغيرهم قد رووا عن كعب الأحبار وإخوانه ))

أقول: أما الرواية عن كعب فقد ذكرت لهؤلاء ولعمر ولعلي ولابن مسعود كما في فتح المغيث للسخاوي ص405، وعادة أهل الحديث أن يقولوا (( روى عنه فلان، روى عنه فلان )) ولو لم يكن المروي إلا حكاية واحدة، وهذا هو الحال هنا تقريباً، فأنك لا تجد لهؤلاء عن كعب إلا الحرف والحرفين ونحوها، وكثير من ذلك يأتي ذكر كعب فيه عرضا، راجع ص69. وأما روايتهم عن إخوانه فمن هم؟ راجع ص70

 

قال ص 126 (( وكان أبو هريرة الخ ))

أقول ستأتي ترجمة أبي هريرة رضي الله عنه وتعلم براءته

قال: (( وقد استطاع أن يدس من الخرافات والأوهام والأكاذيب في الدين ما امتلأت به كتب التفسير والحديث والتاريخ فشوهها وأدخلت الشك إليها ))

 

أقول: إنما كعب يخبر عن صحف أهل الكتاب، وقد عرف المسلمون قاطبة أنها مغيرة مبدلة، فكل ما نسب إليه في الكتب فحكمه حكم تلك الصحف، فإن كان بعض الآخذين عنه ربما يحكي قوله ولا يسميه فغايته أن يعد قولاً للحاكي نفسه وقوله غير حجة، وماجاوز هذا من شطحات أبي رية زيفته في غير هذا الموضع (راجع ص 73)

قال تكذيب الصحابة لكعب.. .. نهى عمر كعباً عن التحديث.. . وقـال له:

 

لتتركن الحديث [عن الأول] أو لألحقنك بأرض القردة ))

أقول:مر ما فيه ص47 وقد أسقط أبو رية هنا كلمة ((عن الأول)) لحاجة في نفس إبليس[هي المكيدة التي تقدمت الإشارة إليها ص73و 74و 75و 82و 89] سيأتي شرحها في الكلام على ص163

قال (( وكان علي يقول إنه لكذاب ))

90

 
أقول: لم يعز أبورية هذا إلى كتاب، ولا عثرت عليه، ولو كان له أصل لذكر في ترجمة كعب من كتب الجرح والتعديل / وذكر عن معاوية أنه   (( ذكر كعباً فقال: إنه من أصدق هؤلاء المحدثين عن أهل الكتاب، وأن كنا مع ذلك لنبلو عليه الكذب )) وعلق على كلمة (( أصدق )) أن في رواية أمثل وإنما وقع بلفظ (( أمثل )) في عبارة نقلها ص128 عن اقتضاء الصراط المستقيم وعلق هناك أنها هي الرواية الصحيحة، أما رواية (( أصدق )) (( فيبدو أنها محرفة )) كذا يجازف هذا المسكين، وصاحب الاقتضاء يورد في مؤلفاته الأحايث من حفظه،وإنما الرواية (( أصدق )) كما في صحيح البخاري وغيره. هذا وقد بين أهل العلم أن مقصود معاوية بالكذب الخطأ.راجع فتح الباري 282:13 وتهذيب التهذيب، والسياق يوضح ذلك، فالكلام إنما هو في التحديث عن أهل الكتاب، أي عن كتبهم، ولم يكن معاوية ينظر في كتبهم، وإنما كان كعب وغيره يحكون تنبؤات عما يستقبل من الأمور فيعلم الصدق أو الكذب بوقوعها وعدمه، والظاهر أنه كان عند كعب صحف فيها تنبؤات من غيره، ومن أعجب ما جاء في ذلك ما جرى له مع ابن الزبير، والذي يصح عنه من ذلك قليل، غير أن الوضاعين بعده استغلوا شهرته بذلك فكذبوا عليه كثيراً لأغراضهم، وكان الكذب عليه أيسر عليهم من الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم

قال (( قصة الصخرة بين عمر وكعب الخ ))

 

أقول: قد تقدم النظر فيها ص75

قال ص127 ((..  روى بعضهم عن كعب الأحبار أنه ذكر عند عبد الملك بن مروان وعروة بن الزبير حاضر أن الله قال للصخرة: أنت عرشي الأدنى ))

أقول: واضع هذا جاهل،فإن قوله (( عند عبد الملك بن مروان )) يعني في خلافته، وإنما ولى سنة 65 بعد وفاة كعب ببضع وثلاثين سنة

قال ص128 (( وفي مرآة الزمان لسبط ابن الجوزي:. . . وكان – أي عمر – يضربه بالدرة ويقول له: دعنا من يهوديتك

أقول: لم يسند السبط هذه الحكاية، وهو معروف بالمجازفة

قال (( الاسرائيليات في فضل بيت المقدس ))

 

ذكر أخبار عن كعب منها خبر ((أنت عرشي الأدنى)) المار قريباً ونسبها إلى بعض كتب الأدب وقد قال هو نفسه ص129(( بعد بناء قبة الصخرة ظهرت أحاديث في فضلها وفضل المسجد الأقصى )) وإنما/ بنيت قبة الصخرة بعد وفاة كعب ببضع وثلاثين سنة. وفي كتاب ( فضائل الشام ) للربعي سبع عشرة حكاية عن كعب قال فيها مخرجه الشيخ ناصر الدين الأرناؤط (( كل الأسانيد لا تصح )) وفي هذا تصديق لما قلته مراراً أن غالب ما يروى عن كعب مكذوب عليه. وبعد فلو صح شيء من ذلك فإنما كان كعب يخبر عن صحف اليهود، ومعقول أن يكون فيها أمثال ذلك

91

 
قال (( وعن أبي هريرة الخ ))

 

أقول هذا كذب مفترى على أبي هريرة رضي الله عنه، وقد قال أبو رية ص129 (( بعد بناء قبة الصخرة ظهرت أحاديث الخ )) وإنما بنيت بعد وفاة أبي هريرة بعدة سنين. وقوله (( تلميذ كعب الأحبار )) يطلقها ظالماً على أبي هريرة وابن عباس

 

 

وابن عمرو وغيرهم من الصحابة الذين قال الله تعالى فيهم (( ليغيظ بهم الكفار ))

قال ص129(( وفي حديث: أن الطائفة من أمته..  إنهم في بيت المقدس وأكنافه ))

أقول: روى هذا من حديث أبي أمامة بسند ضعيف، وعلى فرض صحته فليس المراد أنهم هناك دائماً، كيف ولم يكن هناك في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أحد من المسلمين، وإنما المعنى أنهم يكونون هناك في آخر الزمان حين يأتي أمر الله

وقال ((ما قيل في المسجد الأقصى:كانت الأحاديث الصحيحة أول الأمر في فضل المسجد الحرام ومسجد رسول الله، ولكن بعد بناء قبة الصخرة ظهرت أحاديث في فضلها وفضل المسجد الأقصى ))

أقول: أما الصخرة فنعم لا يثبت في فضلها نص، وأما المسجد ففضله ثابت بالكتاب والسنة والإجماع

قال (( وقد روى أبو هريرة [مرفوعاً]: لا تشد الرحال إلى إلا ثلاثة مساجد الخ ))

أقول الحديث ثابت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة، وأبي سعيد الخدري، و أبي بصرة الغفاري، وجاء من حديث ابن عمر رضي الله عنهم

وذكر قول ميمونة لامرأة نذرت أن تصلي في بيت المقدس (( اجلسي وصلي في مسجد رسول الله، فإني سمعت رسول الله يقول: صلاة فيه أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا مسجد الكعبة ))

 

قال أبو رية (( ولو أن المسجد الأقصى كان قد ورد فيه تلك الأحاديث لما منعت ميمونة هذه المرأة من أن توفي نذرها ))

 

 

/ أقول رأت ميمونة أن الصلاة في مسجد المدينة أفضل فلم تر فائدة لسفر وعناء لأجل صلاة يمكن أداء أفضل منها بدونها. وهذا لا ينفى أن يكون للمسجد الأقصى فضل في الجملة كما هو ثابت، وأن يكون للصلاة فيه فضل دون فضل الصلاة في مسجد المدينة. وهذا واضح

قال ص130 (( اليد اليهودية في تفضيل الشام:..  إن الشام ما كان لينال من الإشادة بذكره والثناء عليه إلا لقيام دولة بني أمية فيه..  فكان جديراً بكهنة اليهود أن ينتهزوا الفرصة.. . وكان من هذه الأكاذيب أن بالغوا في مدح الشام ))

أقو: أما فضل الشام فقد ثبت بكتاب الله عزوجل كما مر ص65، والعقل يتقبل ذلك لأنها كانت منشأ غالب الأنبياء والمرسلين، كما يتقبل أن ينوه النبي صلى الله عليه وسلم بفضلها تبياناً للواقع وترغبياً للمسلمين في فتحها والرباط فيها، أما الأخبار الكثيرة الواهية في فضل الشام وبيت المقدس والصخرة فانتظر في أسانيدها يبين أنها إنما اختلقت بعد كعب بزمان لأغراض أخرى غير اليهودية

قال (( مر بك ذرو مما قال الكهنة في أن ملك النبي سيكون بالشام ))

أقول: جاء هذا عن كعب، فإن صح فالظاهر أنه كذلك كان في صحف أهل الكتاب، فقد أثبت القرآن ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فيها، ومن أبرز الأمور في شأنه ظهور ملك أصحابه بالشام. وراجع ص71

قال (( وأن معاوية قد زعم الخ ))

أقول: هذا باطل. راجع ص64.

قال: ص131 (( في الصحيحين: لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك )) ثم قال (( روى البخاري: هم بالشام )).

أقول: الذي في صحيح البخاري ذكر الحديث من طريـق عمير عن معـاوية

مرفوعاً ثم قال (( قال عمير فقال مالك بن يخامر قال معاذ: وهم بالشام )) وليس لمالك بن يخامر في الصحيح سوى هذا، وجعله من قول معاذ فيما يظهر لا من الحديث، والواو فيه هي واو الحال أي أنه يأتي أمر الله وهم بالشام، وإتيان أمر الله يكون آخر الزمان وليس المراد أنهم يكونون دائماً بالشام، كيف ولم يكن بها في عهد النبي صلى الله عليه وسلم. والبخاري يحمل الطائفة على أهل العلم، ومعلوم أن معظمهم لم يكونوا بالشام في عصره ولا قبله

93

 
/ قال (( وفي مسلم عن أبي هريرة أن النبي قال: لا يزال أهل الغرب ظاهرين [على الحق] حتى تقوم الساعة ))

أقول: إنما هو في صحيح مسلم عن سعد بن أبي وقاص، وليس عن أبي هريرة، والظاهر أن أبا رية تعمد خلاف الرواية، ولا أدري لماذا أسقط (( على الحق ))

قال (( قال أحمد وغيره: هم أهل الشام ))

أقول: قد قيل وقيل، وأقرب الأقوال أن المراد بالغرب الحدة والشوكة في الجهاد، ففي حديث جابر بن سمرة (( لا يزال هذا الدين قائماً تقاتل عليه عصابة الخ )) وفي حديث جابر بن عبد الله ((.. .. طائفة من أمتي يقاتلون )) ونحوه في حديث معاوية وحديث عقبة بن عامر. أما ما يحكى أن بعضهم قال (( المغرب )) فخطأ محض

قال (( وفي كشف الخفا الخ ))

أقول قد تقدم أن كعباً توفي وسط خلافة عثمان، وأنه لم يصح عنه ما نسب إليه في (( فضائل الشام )) شيء

قال (( ومن أحاديث الجامع الصغير للسيوطي التي أشير عليها بالصحة ))

أقول ليست تلك الإشارة معتمدة دائماً

وذكر حديث (( الشام صفوة الله الخ، وهو في المستدرك 509:4 قال الحـاكم

 

 

((صحيح الإسناد )) تعقبه الذهبي فقال (( كلا وعفير هالك )) يعني أحد رجال سنده.

وذكر حديث (( طوبى للشام الخ )) وهذا جاء من حديث زيد بن ثابت وصححه الحاكم وغيره من المتأخرين، وفي صحته نظر

وذكر حديث (( ليبعثن الله من مدينة الشام الخ )) وهذا روي من حديث عمر، وفي سنده أبو بكر بن عبد الله بن أبي مريم ضعيف مختلط

وقال في حاشية ص132 (( هذا هو الحديث الصحيح الخ ))

أقول: راجع ص86

وذكر ص134 فصلا لصاحب المنار في الحط على كعب ووهب، وقد تقدم ما يكفي

94

 
وفيه ص135 ((.. . فمن المعتاد المعهود من طباع البشر أن يصدقوا كل خبر لا يظهر لهم دليل على تهمة قائله فيه ولا بطلانه في نفسه، فإذا صدق بعض الصحابة كعب الأحبار في بعض مفترياته التي كان يوهمهم/ أنه أخذها من التوراة أو من غيرها من كتب أنبياء بني إسرائيل وهو من أحبارهم أو في غير ذلك فلا يستلزم هذا إساءة الظن بهم ))

أقول: أما من أسلم من أهل الكتاب وظهر حسن إسلامه وصلاحه فأخبر عن صحف أهل الكتاب بشيء فلا إشكال في تصديق بعض الصحابة له في ذلك بمعنى ظن أن معنى ذاك الخبر موجود في صحف أهل الكتاب، وإنما المدفوع تصديق الصحابة ما في صحف أهل الكتاب حينئذ مع علمهم بأنها قد غيرت وبدلت وقول النبي صلى الله عليه وسلم:(( لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم )) وقد مر كلام ابن عباس وغيره في ذلك (راجع ص68و 89) فالحق أنهم لم يكونوا يصدقونها إلا أن يوجد دليل على صدقها، وذلك كخبر عبد الله بن عمرو عن صفة النبي صلى الله عليه وسلم في التوراة ولذلك أقسم عليه (راجع ص71)، فأما ماعدا ذلك فغاية

الأمر أنهم إذا وجدوا الخبر لا يدفعه العقل ولا الشرع ولا هو من مظنة اختلاف أهل الكتاب وتحريفهم أنسوا به، فإن كان مع ذلك مناسباً في الجملة لآية من القرآن أو حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم مالوا إلى تصديقه، وإخبار الإنسان عما يعلم السامعون أنه لم يدركه لا يعطي أنه جازم تصديقه، لأن مثل هذا الخبر كالمتضمن لقوله (( بلغني.. . ))

قال أبو رية ص137 (( الكيد السياسي الخ ))

ثم ذكر قصة عبد الله بن سبأ، وقد نقدها الدكتور طه حسين في (( الفتنة الكبرى )) فأجاد

وقال ص138 (( وقد وضع كعب يده في يد ابن سبأ الخ ))

أقول: هذا تخيل صرف

قال (( فقد روى وكيع عن الأعمش عن أبي صالح الخ ))

أقول: ينظر السند إلى وكيع، والأعمش مدلس، وأبو صالح لم يتبين إدراكه للقصة، ولو صحت لما دلت إلا على أحد أمرين: إما أن كعباً وجد ذلك في صحفه كما يشهد له ما أخبر به ابن الزبير، وإما أنه كان عميق النظر وبعيده

قال ص139 (( وصفوة القول في هؤلاء اليهود الخ ))

 

أقول: الكيد اليهودي المحقق كيد جولدزيهر وإخوانه المستشرقين المحاولين تصوير الصحابة في صورة مغفلين خرافيين يتلاعب بهم كعب، وأبو رية ممن سقط فريسة لهذا الكيد ثم عاد فارساً من فرسانه

 

95

 
المسيحيات

/ وذكر ص140 (( المسيحيات في الحديث الخ ))

وذكر تميما الداري رضي الله عنه فافترى عليه، وعلق في الحاشية أن تحـوله إلى

 

الشام بعد قتل عثمان كان لتمكين الفتنة، والناس يعرفون أنه إنما أتاها لأنها وطنه

وذكر ص141 حديث الجساسة وكلام صاحب المنار فيه وقوله (( النبي صلى الله عليه وسلم ماكان يعلم الغيب.. . وكثيراً ما صدق المنافقين والكفار الخ ))

أقول: قد مر ص199 أنه لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم صدق كاذباً، وإنما كان إذا احتمل عنده خبر إنسان أن يكون صادقاً وأن يكون كاذباً ينبي على احتمال صدقه مالا يرى ببنائه عليه بأساً،والفرق بين القضايا التي تقدمت هناك وبين خبر الجساسة عظيم جداً، والأحاديث الثابتة في شأن الدجال كثيرة، ويعلم منها أن كثيراً من شأنه خارج عن العادة، وكما أن الملائكة قد يأذن الله تعالى لهم فيتمثلون بشراً يراهم من حضر، ثبت ذلك بالقرآن في قصى الملائكة مع إبراهيم ومع لوط وفي تمثل الملك لمريم وغير ذلك، وثبت في السنة في عدة أحاديث، فكذلك قد يأذن الله تعالى للشياطين- لحكمة خاصة- فيتمثلون في صور يراها من حضر، فأما الجساسة فشيطان وأما الدجال فقد قال بعضهم إنه شيطان،وعلى هذا فلا إشكال، كشف الله تعالى لتميم وأصحابه فرأوا الدجال وجساسته وخاطبوهما ثم عاد حالهما إلى طبيعة الشياطين من الإستتار،وإن كان الدجال إنساناً فلا أرى ذلك إلا شيطاناً مثل في صورة الدجال لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في أواخر حياته (( أرأيتكم ليلتكم هذه، فإن رأس مائة سنة لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد )) انظر فتح الباري 61:2 والحكمة في كشف الله تعالى لتميم وأصحابه عما كشف لهم عنه أن يخبروا بذلك فيكون موافقاً لماكان النبي صلى الله عليه وسلم يخبر به فيزداد المسلمون وثوقاً به وهذا بين في الحديث إذ قال النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذكره لتميم (( وحدثني حديثاً وافق الذي كنت أحدثكم عن مسيح الدجال )) ثم قال (( ألا هل كنت حدثتكم ذلك ))؟ فقال الناس: نعم. فقال (( فإنه أعجبني حديث تميم أنه وافق الذي كنت أحدثكم عنه وعن المدينة ومكة ))

96

 
وقال ص144 (( ومن المسيحيات في الحديث مارواه البخاري عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كل بني آدم يطعن الشيطان في جنبه حين يولد غير عيسى ابن مريم، ذهب يطعن فطعن / في الحجاب. وفي رواية..  إلا يمسه الشيطان حين يولد فيستهل صارخاً، غير مريم وابنها )) ثم قال ((وفقه هذا الحديث الذي سمعه الصحابي الجليل 0000000 حتى الرسل نوح وابراهيم وموسى وغيرهم وخاتمهم محمد صلوات الله عليهم وعلى جميع النبيين. فانظر واعجب ))

أقول أما المؤمن فيعجب من جرأة أبي رية وتحكمه بجهله على رب العالمين أحكم الحاكمين عالم الغيب والشهادة. إن هؤلاء الرسل نبئوا بعد أن بلغ كل منهم أربعين سنة، وقد آتى الله تعالى يحيى وعيسى النبوة في صباهما، وقال الله تعالى في مريم وعيسى ( 29:19- فأشارت إليه، قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبياً، قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا، وجعلني مباركاً أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا، وبراً بوالدتي ولم يجعلني جباراً شقيا. والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا ) هل يجحد أبو رية هذا؟ أم يجحد قول الله تعالى (75:6 وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من المؤمنين، فلما جن عليه الليل رأى كوكباً - ) الآيات؟ وقول الله تعالى لخاتم النبيين صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين (52:42 وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا، وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم ) ونحوها من الآيات ؟ أما المؤمنون فيؤمنون بهذا كله، ويؤمنون بأنبياء الله كلهم، لا يفرقون بين أحد منهم ولا يخوضون في المفاضلة بينهم اتباعاً للهوى، وأرجو أن لا يكون من ذلك ما يلجئ إليه مقتضى الحال هنا مما يأتي:

إن الفضل الذي يعتد كمالاً تاماً للإنسان هو ما كـان بسعيه واجتهاده، ومن

هنا كان فضل الخليلين إبراهيم ومحمد عليهما وعلى سائر الأنبياء الصلاة والسلام. أما طعن الشيطان بيده فليس من شأنه أن يثاب العبد على سلامته منه ولا أن يعاقب على وقوعه له، بل إن كان من شأنه أن يورث في نفس الإنسان استعداداً ما لو سوسته فالذي يناله ذلك ثم يجاهد بسعيه ويخالف الشيطان ويتغلب علىه أولى بالفضل ممن لم ينله

97

 
ثم ذهب قاتله الله يسخر من حديث شق صدره صلى الله عليه وسلم، قال (( ولم يقفوا عند ذلك / بل كان من رواياتهم أن النبي لم ينج من نخسة الشيطان إلا بعد أن نفذت إلى قلبه، وكا ن ذلك بعملية جراحية.. .وكأن العملية الأولى لم تنجح فأعيد شق صدره.. . ))

أقول: لم يكن شق الصدر لا زالة أثر النخسة كما زعم، وإنما كان لتطهير القلب من شيء يخلق لكل إنسان بمقضتى أنه خلق ليبتلى، أما تكراره فقد أنكره بعضهم كما في الفتح حملاً لما ورد من ذلك على خطأ بعض الرواة، وفي صحيح مسلم ذكر وقوعه في الطفولة وعند الإسراء وقال في الأول (( أتاه جبريل.. . فاستخرج منه علقة فقال: هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله...)) وقال في حديث الإسراء (( فنزل جبريل ففتح صدري ثم غسله.. . ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانا فأفرغها في صدري )) فليس في الثاني ذكر إخراج القلب ولا إخراج علقة منه، ولا ذكر حظ الشيطان، وإنما فيه ذكر الصدر وزيادة ذكر إفراغ الحكمة والإيمان فيه، فتبين أن المقصود ثانياً غير المقصود أولاً، وأن كلا من المقصودين مناسب لوقت وقوعه، وفي الفتح (( قال ابن أبي جمرة: الحكمة في شق قلبه مع القدرة على أن يمتلئ قلبه إيماناً وحكمة بدون شق: الزيادة في قوة اليقين، لأنه أعطى برؤية شق بطنه وعدم تأثره بذلك ما أمن معه من جميع المخاوف العادية، فلذلك كان أشجع الناس وأعلاهم حالاً ومقالاً، ولذلك وصف بقوله تعالى (( ما زاغ البصر وما طغى ))

أقول: وحكمة عالم الغيب والشهادة سبحانه وتعالى أدق وأخفى من أن يحيط بها البشر

قال أبو رية ص146 (( وإن هذه العملية الجراحية لتشبه من بعض الوجوه عملية صلب السيد المسيح عليه السلام،وهو لم يرتكب ذنباً يستوجب هذا الصلب، وإنما ذكروا ذلك ليغفر الله خطيئة آدم.. . ))

أقول شق الصدر لم يؤلمه صلى الله عليه وسلم البتة، وليس هو تكفير ذنبه ولا ذنب غيره فأين هو – قاتلك الله – من خرافة الصلب؟

قال (( ولئن قال المسلمون.. . ولم لا يغفر الله لآدم خطيئته بغير هذه الوسيلة القاسية.. .، قيل لهم: ولم لا يخلق الله قلب رسوله الذي اصطفاه كما خلق قلوب إخوانه المرسلين ؟

98

 
أقول: أما المسلمون فلا يقولون ما زعمت، وإنما يقولون: كيف يذنب آدم وهو عبد من عبيد الله فيعاقب الله عيسى، وهو عند زاعمي ذلك (( ابن الله الوحيد )) بتلك العقوبة القاسية التي تألم / لها عيسى بزعمهم أبلغ الألم وصرخ بأعلى صوته (( إيلي إيلي، لم شبقتني )) أي إلهي إلهي لم تركتني ؟

ثم من أين علمت أن قلوب سائر المسلمين لم تخلق كما خلق قلب محمد؟ فقد تكون خلقت سواه وخص محمد بهذا التطهير أو طهرت أيضاً بهذه الوسيلة أو غيرها ( والله يعلم وأنتم لا تعلمون )

 

وعلق ص1144بحكاية شيء من هذر القسوس، وفيما تقدم كفاية

وقال ص147 (( ولا أدري والله أين ذهبوا مما جاء في سورة الحجر الخ ))

أقول: فأين يذهب أبو رية من تدلية الشيطان لآدم إلى أن كان ما ذكره الله تعالى بقوله (( وعصى آدم ربه فغوى)) ومن قـول موسى بعد قتله القبطي (15:28

 

قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين، قال رب إ ني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم ) ومن قول أيوب (41:38 مسني الشيطان بنصب وعذاب ) وقول الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم (198:7 خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين، وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم، إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون ) أما آية الحجر فعلى المشهور أن المراد بقوله ( إن عبادي ) عباده المخلصون خاصة، فقوله ( ليس لك عليهم سلطان ) معناه والله أعلم:لن تسلط على إغوائهم الإغواء اللازم، لأن الكلام فيه لتقدم قوله ( لأغوينهم أجمعين ) وهذا لا ينافي أن يسلط على بعضهم لإغواء عارض، أو لإلحاق ضرر لا يضر الدين

ثم ذكر ص147- عن الرازي وغيره –أن الخبر على خلاف الدليل لوجوه (( أحدها أن الشيطان إنما يدعو إلى الشر من يعرف الخير والشر، والصبي ليس كذلك ))

أقول: ومن قال إن النخسة دعاء إلى الشر؟ بل إن كانت للإيلام فقط فذلك من خبث الشيطان مكن منها كما مكن مما أصاب أيوب، وكما يمكن الكفار من قتل المسلمين- حتى الأنبياء – وذبح أطفالهم. وإن كانت لإحداث أمر من شأنه أن يورث القلب قبولا ما للوسوسة بعد الكبر فهذا لا يستدعي معرفة الخير والشر في الحال، والتمكين من هذا كالتمكين من الوسوسة والتزيين، وذلك من تمام أصل الابتلاء

99

 
/ قال (( الثاني أن الشيطان لو تمكن من هذا النخس لفعل أكثر من ذلك من إ هلاك الصالحين وإفساد أحوالهم ))

 

أقول من أين يلزم من التمكن من حمل رجل، التمكن من حمل جبل؟ والشيطان

 

 

لا يتمكن إلا أن مكنه الله تعالى فإذا مكنه الله تعالى من أمر خاص فمن أين يلزم تمكنه من غيره؟

 

قال (( والثالث لم خص بهذا الاستثناء مريم وعيسى.. .. ))؟

أقول: قد تقدم الجواب عن هذا

قال (( الرابع أن ذلك النخس لو جد لبقي أثره، ولو بقي أثره لدام الصراخ والبكاء ))

 

أقول:أ رأيت إذا عركت أذن الطفل فألم وبكى، أيستمر الألم والبكاء؟

ثم ذكر عن الشيخ محمد عبده كلاماً فيه (( فهو من الأخبار الظنية لأنها من رواية الآحاد، ولما كان موضوعها عالم الغيب، والإيمان بالغيب من قسم العقائد وهي لا يؤخذ فيها بالظن لقوله تعالى ( إن الظن لا يغني من الحق شيئا )) كنا غير مكلفين الإيمان بمضمون تلك الأحاديث في عقائدنا ))

 

أقول: لا نزاع أ ن الدليل الظني لا يوجب الإيمان القاطع، لكنه يوجب التصديق الظني، وكيف لا وظن ثبوت الدليل يوجب ضرورة ظن ثبوت المدلول. أما قوله تعالى (إن الظن لا يغني من الحق شيئا ) فلى فيه بحث طويل حاصله أن الظن لا يدفع شيئاً من الحق، وبعبارة أهل الأصول: الظني لا يعارض القطعي [وانظر ما يأتي ص 176]

قال ص148 (( ابن جريج الخ ))

 

أقول: راجع ص68

ثم قال (( ومن شاء أن يستزيد من معرفة الاسرائيليات والمسيحيات وغيرها في

 

 

الدين الإسلامي فليرجع إلى التفسير والحديث والتاريخ، وإلى كتب المستشرقين أمثال جولد زيهز وفرون كريمر وغيرهما ))

100

 
أقول: هذا موضع المثل (( صدقني من بكره )) وقوله (( في الدين الإسلامي )) لما مغزاها، فأبو رية – كما تعطيه هذه الكلمة والله أعلم – يرى في القرآن نحو ماجهر به من الحديث، وتقديمه لجولد زيهز اليهودي يؤيد ما قدمته ص94، وكتب جولدزيهر في الطعن في الإسلام والقرآن والنبي صلى الله عليه وسلم معروفة، وقد أحالك أبو رية عليها، والله المستعان /

 

أبو هريرة

وقال أبو رية ص151 (( أبو هريرة: لو كانت أحاديث رسول الله كلها من الدين العام كالقرآن لا يقوم إلا عليها ولا يؤخذ إلا منها، وأنه يجب على كل مسلم أن يعرفها ويتبع ما فيها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر أصحابه أن يحفظوا هذه الأحاديث لكي تؤثر بعده، لكان أكثر الصحابة رواية لها أعلهام درجة في الدين.. .. ))

أقول: قدمنا الكلام في نظرية ((دين عام ودين خاص)) ص117-14، وص 31-35. ولم يوجب الله تعالى علىكل مسلم معرفة القرآن نفسه سوى الفاتحة لوجوبها في الصلاة، وأما الاتباع فطريقته أن العلماء يعرفون ويجتهدون، والعامة تسألهم عند الحاجة فيفتونهم بما علموا من الكتاب والسنة وكان الصحابة مأمورين بأن يبلغ كل منهم عند الحاجة ما حفظه، والذين حفظوا القرآن كله في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ليسوا من أكابر الصحابة، وقد مات أ بو بكر وعمر قبل أن يستوفي كل منهما القرآن حفظاً، وكان هناك عملان الأول التلقي من النبي صلى الله عليه وسلم، الثاني الأداء، فأما التلقي فلم يكن في وسع الصحابة أن يلازموا النبي صلى الله علي وسلم ملازمة مستمرة، وإذا كان أنس وأبو هريرة ملازمين للنبي صلى الله عليه وسلم لخدمته فلابد أن يتلقيا من الأحاديث أكثر مما تلقاه المشتغلون بالتجارة والزراعة، على أن أبا هريرة لحرصه على ا لعلم تلقى ممن سبقه إلى الصحبة ما عندهم من الأحاديث، فربما رواها عنهم وربما قال فيها (( قال النبي صلى الله عليه وسلم.. . )) كما شاركه غيره منهم في مثل هذا الإرسال لكمال وثوق بعضهم ببعض، وقد ثبت أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أسعد الناس بشفاعته يوم القيامة فقال (( لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك لما رأيت من حرصك على الحديث،.. . )) أخرجه البخاري في صحيحه، وتأتي أخبار كثيرة لاثبات هذا المعنى، وأما الأداء فإنما عاش أبو بكر زمن الأداء نحو سنتين مشغولاً عند المسلمين بتدبير أمور المسلمين، وعاش عمر مدة أبي بكر مشغولاً بالوزارة والتجارة، وبعده مشغولاً بتدبير أمور المسلمين. وفي المستدرك 98:1 أن معاذ بن جبل أوصى أصحابه أن يطلبوا العلم وسمى لهم أبا الدرداء وسلمان وابن مسعود وعبد الله ابن سلام، فقال يزيد بن عميرة: وعند عمر بن الخطاب؟ فقال معاذ (( لا تسأله عن شيء، فإنه عنك مشغول )) وعاش عثمان وعلي مشغولين بالوزارة وغيرها ثم الخلافة / ومصارعة الفتن، وكان الراغبون في طلب العلم يتهيبون هؤلاء ونظراءهم، ويرون أن جميع الصحابة ثقات أمناء، فيكتفون بمن دون أولئك وكان هؤلاء الأكابر يرون أنه لا يتحتم عليهم التبليغ إلا عندما تدعو الحاجة، ويرون أنه إذا جرى العمل على ذلك فلن يضيع شيء من السنة، لأن الصحابة كثير، ومدة بقائهم ستطول، وعروض المناسبات التي تدعو الحاجة فيها إلى التبليغ كثير، وفوق ذلك فقد تكفل الله عزوجل بحفظ شريعته، وكانوا مع ذلك يشددون على أنفسهم خشية الغلط، ويرون أنه إذا كان من أحد منهم خطأ وقت وجوب التبليغ فهو معذور قطعاً، بخلاف من حدث قبل الحاجة فأخطأ، وكانوا مع ذلك يحبون أن يكفيهم غيرهم، ومع هذا فقد حدثوا بأحاديث عديدة، وبلغهم عن بعضهم أنه يكثر من التحديث فلم يزعموا أنه أتى منكراً، وإنما حكى عن بعضهم ما يدل أنه يرى الإكثار خلاف الأولى. فأما زعم أبي رية أنهم كانوا (( يرغبون عن رواية الحديث وينهون إخوانهم عنها..  )) فقد تقدم تفنيده ص 30

101

 
وذكر أبو رية كثرة حديث أبي هريرة وقال ص152 (( على حين أنه كان من عامة الصحابة، وكان بينهم لا في العير ولا في النفير )) وسيبسط هذا ص184 وننظر فيه

وقال ص152 (( الاختلاف في اسمه الخ ))

أقول: وماذا يضره ذلك ؟ إنما المقصود من الاسم المعرفة وقد عرف بأبي هريرة، وأصح ما قيل في اسمه عبد الله أو عبد الرحمن، وهو على ما نسبه ابن الكلبي وغيره، ابن عامر بن عبد ذي الشرى بن طريف بن عتاب بن أبي صعب بن منبه بن سعد بن ثعلبة بن سليم بن فهم بن غنم بن دوس بن عدثان ابن عبد الله بن زهران بن كعب بن الحارث بن كعب بن عبد الله بن مالك ابن نصر بن الأزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشحب بن يعرب بن قحطان الأزدي ثم الدوسي، وأمه أميمة بنت صفيح بن الحارث بن سابي بن أبي صعب الخ

 

102

 
قال ص153 (( نشأته وأصله... لم يعرفوا شيئاً عن نشأته ولا عن تاريخه قبل إسلامه غير ما ذكر هو عن نفسه....: نشأت يتيماً وهاجرت مسكيناً وكنت أجيراً لبسرة بنت غزوان بطعام بطني وعقبه رحلي، فكنت أخدم إذا نزلوا وأحدوا إذا ركبوا، وكنيت بأبي هريرة بهرة صغيرة كنت ألعب بها ))

 

/ أقول: أما أصله فقد تقدم، وهو من قبيلة شريفة كريمة عزيزة، وأما نشأته فما أكثر الصحابة الذين لا تعرف نشأتهم حتى من خيارهم وكبارهم، وأما قوله: نشأت يتيماً الخ فهذه القصة رويت من أ وجه في إسناد كل منها مقال، ومجموعها يثبت أصل القصة، فأما الألفاظ التي تنفرد بها بعض الروايات فلا، وفي الإصـابة أن بسرة

هذه أخت عتبة بن غزوان السلمي، وبلاد دوس بعيدة جداً عن بلاد بني سليم فيظهر أن أبا هريرة في هجرته إلى النبي صلى الله عليه وسلم مر ببلاد بني سليم أو قريباً منها، فوجد رفقة راحلين نحو المدينة وفيهم بسرة فصحبهم على أن يخدمهم في الطريق ويطعموه ويعقبوه. ولا يدفع هذا ما ثبت في صحيح البخاري من قوله (( لما قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم قلت في الطريق:

على أنها من دارة الكفر نجت

يا ليلة من طولها وعنائها

قال: وأبقى لي غلام في الطريق، فلما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعته، فينا أنا عنده إذ طلع الغلام، فقال: يا أبا هريرة هذا غلامك، فقلت هو حر لوجه الله. فأعتقه )) انظر فتح الباري 79:8 فقد يكون الغلام أبق منه قبل صحبته للرفقة، وبهذا تبين أن في القصة منقبتين له الأولى أن إخدامه لنفسه إنما كان ليبلغ إلى النبي صلى الله عليه وسلم ودار الإسلام، والثانية أنه مع قلة ذات يده أعتق غلامه، شكراً لله تعالى على إبلاغه مقصده، وفي القصة عبرة بالغة، فإنه لما أذل نفسه بخدمة تلك المرأة استعانة على الهجرة في سبيل الله عوضه الله تعالى بأن زوجه إياها تخدمه فوق ما خدمها، ثم كان على طريقته في التواضع والتحدث بالنعمة والاعتبار مع الميل إلى المزاح يذكر هذه القصة ويشير إلى تكليف امرأته بخدمته على نحو ما كانت تكلفه. وقد يكون وقع منه ذلك مرة أو مرتين على سبيل المزاح ومداعبة الأهل وتحقيق العبرة، وقد ثبت عن أبي المتوكل الناجي وهو ثقة (( أن أبا هريرة كانت له أمة زنجية قد غمتهم بعملها، فرفع عليها السوط يوماً ثم قال: لولا القصاص يوم القيامة لأغشيتك به، ولكني سأبيعك ممن يوفيني ثمنك أحوج ما أكون إليه ( يعني الله عزوجل ) اذهبي فأنت حرة لله عزوجل )) انظر البداية 112:8. فمن كانت هذه حالة مع أمه مهينه، فما عسى أن تكون حاله مع امرأته الحرة الشريفة؟ ولكن أبا رية ذكر ص187 بعض الألفاظ التي انفردت بهـا بعض الروايـات،[ منها فكلفتها أن

تركب قائمة وأن تورد حافية وأصح من هذه الرواية ما في كنز العمال 82:7عن عبد الرزاق عن هشام بن حسان عن ابن سيرين فقلت لتوردنه حافية ولتركبنه وهو قائم وأصح من هذا ماأسنده ابن سعد في الطبقات 532:4 عن ابن سيرين.. . ولتركبنه قائمة فلعل بعض الرواة لم يفهم النكتة فغير اللفظ، وأي حرج عليها أن تركب البعير باركا وهي قائمة عند الركوب وتكون حافية وهي راكبة؟ وفي رواية عبد الرزاق قول ابن سيرين وكانت في أبي هريرة مزاحة وقد يكون مازحاً بهذا القول ثم لم يكن إيراد ولا ركوب ] ثم راح يسب أبا هريرة رضي الله عنه ويرميه بما هو من أبعد الناس عنه /

103

 
وهذا مما يوضح أن أبا رية ليس بصدد بحث علمي، إنما صدره محشو براكين من الغيظ والغل والحقد يحاول أن يخلق المناسب للترويح عن نفسه منها، كأنه لا يؤمن بقول الله عزوجل في أصحاب نبيه ( ليغيظ بهم الكفار ) ولا يصدق بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة وأمه أن يحببهما الله إلى عباده المؤمنين كما في ترجمته في فضائل الصحابة من صحيح مسلم

وقال ص153 (( إسلامه. قدم أبو هريرة بعد أن تخطى الثلاثين من عمره ))

أقول كذا زعم الواقدي عن كثير بن زيد عن الوليد بن أبي رباح عن أبي هريرة، والواقدي متروك، وكثير ضعيف، وقد قال الواقدي نفسه: إن أبا هريرة مات سنة 59 وعمره 78، ومقتضى هذا أن يكون عمره عند قدومه سنة سبع نحو ست وعشرين سنة، وهذا أشبه والله أعلم

وفي الصحابة الطفيل بن عمرو الدوسي وهو من رهط أبي هريرة بني ثعلبة بن سليم بن فهم، أسلم قبل الهجرة وقصته مطولة في السيرة وغيرها، وفي ترجمته من الإصابة أنه لما عاد بعد إسلامه إلى قومه – وذلك قبل الهجرة بمدة- دعا قومه إلى الإسلام فلم يجبه إلا أبوه وأبو هريرة، فعلى هذا يكون إسلام أبي هريرة قبل الهجرة، وإنما تأخرت هجرته إلى زمن خبير

وذكر أبورية ص153 مقاولة أبي هريرة وأبان بن سعيد بن العاص وقول أبان (( واعجبا لو بر تدلى علينا من قدوم ضأن )) وعلق في الحاشية (( الوبر دابة والمعنى أن أبا هريرة ملتصق في قريش وشبهه بما يتعلق بوبر الشاة )) وهذا من تحقيق أبي رية‍! وليس أبو هريرة من قريش من شيء لا ملصق ولا غير ملصق، وقوله (( وشبهه )) يقتضي أن الرواية (( وبر )) بالتحريك ولو كان كذلك لما بقي لقوله (( الوبر دابة )) معنى، وعلق أيضاً (( ومما يلفت النظر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤاخذ أبانا بما أغلظ لأبي هريرة )) وأقول: ليس ذاك بإغلاظ مع أنه إنما كان جواباً ومكافأة

104

 
وقال ص154 (( ولفقرة اتخذ سبيله إلى الصفة، فكان أشهر من أمها، ثم صار عريفاً لمن كان يسكنونها )) وعلق عليها عن أبي الفداء تعريفاً لأهل الصفة كما توهم، وقد عرفهم أبو هريرة رضي الله عنه التعريف الحق فقال كما في الصحيحين وغيرهما (( وأهل الصفة أضياف الإسلام / لا يأوون على أهل ولامال الخ )) وقد قال الله تبارك وتعالى ( 273:2 للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضرباً في الأرض )) الآية. كان للأنصار حوائط فيعملون فيها ويأكلون من غلتها، وكان كثير من المهاجرين يتاجرون، ومن الواضح أن التجارة في المدينة وهي محوطة بالمشركين من كل جانب لم تكن لتتسع للمهاجرين كلهم، فبقي بعضهم بالصفة، وكان أهل الصفة يقومون بفروض عظيمة، منها تلقي القرآن والسنن، فكانت الصفة مدرسة الإسلام،ومنها حراسة النبي صلى الله عليه وسلم ومنها الإستعداد لتنفيذ أوامره وحاجاته في طلب من يريد طلبه من المسلمين وغير ذلك كانوا قائمين بهذه الفروض عن المسلمين  فكانت نفقتهم على سائر المسلمين وإن سميت صدقة، وكانوا بجوار النبي صلى الله عليه وسلم يؤثرهم على نفسه وأهل بيته، وقد حدث علي رضي الله عنه أنه قال لفاطمة عليها السلام يوماً (( والله لقد سنوتُ حتى لقد اشتكيت صدري، وقد جاء الله أباك بسبي، فاذهبي فاستخدميه، فقالت: وأنـا والله

لقد طحنت حتى مجلت يداي.. . )) الحديث، وفيه أنهما أتيا النبي صلى الله عليه وسلم فذكرا له ذلك فقال (( والله لا أعطيكما وأدع أهل الصفة تطوى بطونهم لا أجد ما أنفق عليهم.. .. )) الحديث، انظر مسند أحمد الحديث 838. وكان أبو هريرة من بين أهل الصفة يخدم النبي صلى الله عليه وسلم ويدور معه، فلم يكن ليجوع إلا والنبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته جياع، فهل في ذلك الجوع من عيب؟

وأما تعرضه لبعض الصحابة رجاء أن يطعمه فإنما فعل ذلك مرة أو مرتين لشدة الضرورة، ولم يكن في تعرضه سؤال ولا ذكر لجوعه، وقد نقل الله تعالى في كتابه أن موسى والخضر مرا بأهل قرية فاستطعماهم، وانظر تفسير سورة التكاثر من تفسير ابن كثير

هذا وقد عد أهل العلم – كما في الحلية – جماعة من المشاهير في أهل الصفة، منهم سعد بن أبي وقاص وأبو عبيدة وزيد بن الخطاب وعبد الله بن مسعود وصهيب وسليمان والمقداد وغيرهم

105

 
ثم قال أبو رية ص154 (( سبب صحبته للنبي صلى الله عليه وسلم. كان أبو هريرة صريحاً صادقاً في الإبانة عن سبب صحبته للنبي صلى الله عليه وسلم.. . فلم يقل إنه صاحبه للمحبة والهدايا كما كان يصاحبه غيره من سائر المسلمين، وإنما قال: إنه قد صاحبه على ملء بطنه ففي حديث رواه أحمد والشيخان عن سفيان عن الزهري عن عبد الرحمن الأعرج قال سمعت أبا هريرة يقول: إني كنت امرءا مسكينا أصحب رسول الله على ملء بطني )) ورواية مسلم (( أخدم رسول الله )) وفي رواية (( لشبع بطني ))  أقول: حاصل هذا أن الواقع في رواية الإمام أحمد والبخاري (( أصحب )) وهذا خلاف الواقع، فرواية أحمد وهو الحديث 7273 (( حدثنا سفيان عن الزهري عن عبد الرحمن الأعرج، قال سمعت أبا هريرة يقول: إنكم تزعمون أن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله عليه وسلم، والله الموعد، إني كنت امرءا مسكيناً ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ملء بطني وكان المهاجرين يشغلهم الصفق بالأسواق، وكانت الأنصار يشغلهم القيام على أموالهم.. . )) ولفظ البخاري في صحيحه في كتاب الاعتصام – باب الحجة على من قال إن أحكام النبي صلى ا لله عليه وسلم كانت ظاهرة الخ (( حدثنا علي حدثنا سفيان عن الزهري أنه سمع من الأعرج يقول: أخبرني أبو هريرة قال: إنكم تزعمون أن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والله الموعد، إني كنت امرءا مسكيناً ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم الخ )) وأخرجه البخاري في مواضع أخرى من وجوه أخرى عن الزهري وفيه (( ألزم ))، وفي موضع (( أن أبا هريرة كان يلزم )) فأبو هريرة لم يتكلم عن إسلامه ولا هجرته ولا صحبته المشتركة بينه وبين غيره من الصحابة وإنما تكلم عن مزيته وهي لزومه للنبي صلى الله عليه وسلم دونهم، ولم يعلل هذه المزية بزيادة محبته أو زيادة رغبته في الخير أو العلم أو نحو ذلك مما يجعل له فضيلة على إخوانه، وإنما عللها على أ سلوبه في التواضع بقول (( على ملء بطني )) فإنه جعل المزية لهم عليه بأنهم أقوياء يسعون في معاشهم وهو مسكين، هذا والله أدب بالغ تخضع له الأعناق، ولكن أبا رية يهتبل تواضع أبي هريرة ويبدل الكلمة ويحرف المعنى ويركب العنوان على تحريفه ويحاول صرف الناظر عن التحري والتثبت بذكره رواية مسلم ليوهم أنه قد تحرى الدقة البالغة، ويبنى على صنيعه تلك الدعوى الفاجرة،[وقد قال أبو رية في حاشية ص39 لعنة الله على الكاذبين متعمدين وغير متعمدين] وقد تقدم أن أبا هريرة أسلم في بلاده قبل الهجرة: لماذا؟ ثم ترك وطنه للهجرة مؤجراً نفسه في طريقه على طمعته وعقبته، لماذا؟ ولما شاهد النبي صلى الله عليه وسلم وجاء غلامه الذي كان أبق منه أعتقه، لماذا؟ وتقدم ص100 شهادة النبي صلى الله عليه وسلم بأنه أحرص الصحابة على معرفة حديثه، لماذا؟ قال ابن كثير (( وقال سعيد بن أبي هند عن أبي هريرة: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ألا تسألني من هذه الغنائم التي سألني أصحابك ؟ / قال فقلت: أسألك أن تعلمني مما علمك الله..  )) البداية 111:8، لماذا ؟

وتقدم ص 146 قول عمر بن الخطاب : خفي علي هذا من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم  ألهاني عنه الصفق بالأسواق ))

وقال طلحة بن عبيد الله لما سئل عن حديث أبي هريرة (( والله ما نشك انه قد سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم نسمع، وعلم ما لم نعلم، إنا كنا أقوياء أغنياء لنا بيوت وأهلون، وكنا نأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار ثم نرجع، وكان هو مسكيناً لا مال له ولا أهل وإنما كانت يده مع يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يدور معه حيث ما دار، فما نشك أنه قد علم ما لم نعلم وسمع ما لم نسمع )) البداية 109:8 وحدث أبو أيوب – وهو من كبار الصحابة – عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقيل له في ذلك فقال (( إن أبا هريرة قد سمع ما لم نسمع )) البداية 109:8 [والمستدرك 512:3وقال: صحيح على شرط الشيخين، واقتصر الذهبي على أنه على شرط مسلم ] وحدث أبو هريرة بحديث، فاستثبته ابن عمر فاستشهد أبو هريرة عائشة فشهدت، فقال أبو هريرة : إنه لم يشغلني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم غرس الودى ولا صفق بالأسواق، إنما كنت أطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمة يعلمنيها أو أكلة يطعمنيها. فقال ابن عمر: أنت يا أبا هريرة كنت ألزمنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأعلمنا بحديثه )) البداية 109:8[والمستدرك 510:3وقال صحيح، وأقره الذهبي]وقالت عائشة لأبي هريرة:أكثرت الحديث،قال: إني والله ما كانت تشغلني عنه المكحلة والخضاب، ولكني أرى ذلك شغلك عما استكثرت من حديثي، قالت: لعله.البداية 109:8[وانظر المستدرك 509:3وقال صحيح، وأقره الذهبي ] فأنت ترى اعترافهم له، وترى أن أدبه البالغ المتقدم لم يكن تقية، فإنه لما اقتضى الحال صدع صدع الواثق المطمئن ثم ذكر أبو رية ص155 قول أبي هريرة (( كنت أستقريء الرجــل الآية وهـو معي كي ينقلب فيطعمني، وكـان خير النـاس

 

للمساكين جعفر بن أبي طالب ، كان ينقلب بنا فيطعمنا.

ثم قال أبو رية: (( من أجل ذلك كان جعفر هذا في رأي أبي هريرة أفضل الصحابة جميعاً..  أخرج الترمذي والحاكم بإسناد صحيح عن أبي هريرة: ما احتذى النعال ولا ركب المطايا ولا وطيء التراب بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من جعفر بن أبي طالب ))

107

 
أقول : إسناده صحيح إلا أنه غريب، ومن تدبر ترجمة جعفر رضي الله عنه لم يستكثر عليه هذا، وفي / فتح الباري 62:7 في شرح قوله: وكان أخير الناس للمساكين، ما لفظه (( وهذا التقييد يحمل عليه المطلق الذي جاء.. . عن أبي هريرة قال: ما احتذى النعال..  ))

ثم ذكر ص156-157 حكايات عن الثعالبي والبديع الهمذاني وعبد الحسين بن شرف الدين الرافضي وكلها من خرافات الرافضة وأشباههم، لا تمت إلى العلم بصلة

ثم قال آخر ص157 (( وأخرج أبو نعيم في الحلية الخ ))

أقول :هو من طريق فرقد السبخي قال: وكان أبو هريرة الخ، وفرقد ليس بثقة، ولم يدرك أبا هريرة

وقال: ص158 (( وفي الحلية كذلك أن أبا هريرة كان في سفر فلما نزلوا وضعوا السفرة وبعثوا إليه وهو يصلي فقال: إني صائم، فلما كادوا يفرغون، جاء فجعل يأكل الطعام، فنظر القوم إلى رسولهم.. . فقال أبو هريرة: صدق إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: صوم رمضان وصوم ثلاثة أيام من كل شهر صوم الدهر، وقد صمت ثلاثة أيام من أول الشهر، فأنا مفطر في تخفيف الله، صائم في تضعيف الله ))

أقـول: هذه فضيلـة له، وقد وقع مثلها لأبي ذر رضي الله عنه (( مسند أحمد

 

 

150:5 وغيره، وهو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم (( ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر ))

قال (( وفي خاص الخاص للثعالبي الخ ))

أقول : ومن هو الثعالبي حتى يقبل قوله بغير سند ؟

أقول: (( وقد جعل أبو هريرة الأكل من المروءة، فقد سئل: ما المروءة؟ قال: تقوى الله وإصلاح الصنيعة والغداء والعشاء بالأفنية ))

أقول: ليس في هذا جعل الأكل نفسه من المروءة، وإنما فيه أن من المروءة أن يكون الأكل بالأفنية )) يريد بموضع بارز ليدعو صاحب الطعام من مر ويشاركه من حضر، لا يغلق بابه ويأكل وحده

قال (( وقد أضربنا عن أخبار كثيرة لأن في بعضها ما يزيد في إيلام الحشوية الذين يعيشون بغير عقول ))

أقول: أما عقول الملحدين الذي يعيشون بلا دين، ومقلديهم المغرورين، فنعوذ بالله منها

108

 
ثم قال (( حديث: زر غباً تزدد حباً. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة الخ ))

/ أقول : هذا حديث مذكور في الموضوعات، روي عن علي وعائشة وابن عباس بطرق كلها تالفة

ثم قال ص161 (( مزاحه وهذره، أجمع مؤرخو أبي هريرة على أنه كان رجلاً مزاحاً مهذارا ))

أقول: أما المزاح فنعم، ولم يكن في مزاحه ما ينكر، وأما الهذر فأسنده بقوله (( قالت عنه عائشة.. .. في حديث المهراس إنه كان رجلاً مهذارا )) وهذا باطل، لم تتكلم عائشة في حديث المهراس بحرف، انظر التقرير والتحيير لابن أمير الحاج 300:2 ثم رأيت الدكتور مصطفى السباعي قد بسط الكلام في هذا في الجزء 9 في المجلد 10 من مجلة المسلمون ص20

قال أبو رية (( عن أبي رافع قال:كان مروان ربما استخلف أبا هريرة على المدينة فيركب حماراً قد شد عليه برذعة وفي رأسه خلية من ليف، فيسير فيلقي الرجل فيقول: الطريق قد جاء الأمير، وربما أتى الصبيان وهم يلعبون بالليل لعبة الغراب[في البداية الأعراب وهو أمير] فلا يشعرون بشيء حتى يلقي نفسه بينهم ويضرب برجليه فينفر الصبيان فيفرون، وأخرج أبو نعيم في الحلية عن ثعلبة بن [أبي] مالك القرظي قال: أقبل أبوهريرة في السوق يحمل حزمة حطب وهو يومئذ خليفة لمروان على المدينة فقال: أوسع الطريق للأمير يا ابن [أبي] مالك. فقلت له: يكفي هذا. فقال: أوسع الطريق للأمير، والحزمة عليه ))

 

أقول: إنما كان يعتمد هذا التبذ ل والمزاح حين يكون أميراً تهاوناً بالإمارة ومناقضة لما كان يتسم به بعض الأمراء من الكبر والتعالي على الناس، وكانت إمارة أبي هريرة رحمة بأهل المدينة يستريحون إليها من عبية أمراء بني أمية وعنجهيتهم، وكانت إحياء للسنة، فإن الأمير كان هو الذي يؤم الناس، فكان الأمراء يغفلون أشياء من السنة كالتكبير في الصلاة وسجود التلاوة وقراءة السور التي كان يقرؤها النبي صلى الله عليه وسلم وغير ذلك، فكان أبو هريرة إذا ولى كان هو الذي يؤم بالناس، فيحيي ما أهمله الأمراء من السنن ))

 

قال (( ولقد كانوا يتهكمون برواياته ويتندرون عليها لما تفنن فيها وأكثر منها، فعن أبي رافع أن رجلاً من قريش أتى أبا هريرة في حلة وهو يتبختر فيها فقال: يا أبا هريرة إنك تكثر الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهل سمعته يقول في حلتي هذه شيئاً؟ فقال: [والله إنكم لتؤذوننا، ولولا ما أخذ الله على أهل الكتـاب

 

( ليبيننه للناس ولا يكتمونه ) ما حدثكم بشيء [هذه الزيادة من مصدر أبي رية نفسه البداية 108:8] سمعت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم / يقول: إن رجلاً ممن كان قبلكم بينما كان يتبختر في حلة إذ خسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها حتى تقوم الساعة، فوالله ما أدري لعله كان من قومك أو من رهطك ))

أقول :متن الحديث ثابت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة ومن حديث ابن عمر، وهو عند أحمد وغيره من حديث ابن عمرو ، ومن حديث أبي سعيد، وجاء من حديث غيرهم.

وقال الدارمي في (( باب تعجيل عقوبة من بلغه عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث فلم يعظمه ولم يوقره،.. . عن العجلان عن أبي هريرة )) فذكر المتن قال عقبة: فقال له فتى – قد سماه – وهو في حلة له: أهكذا كان يمشي ذلك الفتى الذي خسف به؟ ثم ضرب بيده فعثر عثرة كاد يتكسر منها، فقال أبو هريرة: للمنخرين وللفم ( إنا كفيناك المستهزئين ) ))

أقول : فقد أخزى الله ذاك المستهزيء كما أخزى غيره من المستهزئين بدين الله ورسله وخيار عباده ( وما هي من الظالمين ببعيد )

وقال ص162 (( كثرة أحاديثه )) ثم قال ص163 (( وقد أفزعت كثرة رواية أبي هريرة عمر بن الخطاب فضربه بالدرة وقال له (( أكثرت يا أبا هريرة من الرواية وأحرى بك أن تكون كاذباً ))

أقول: لم يعز هذه الحكاية هنا، وعزاها ص171 إلى شرح النهج لابن أبي الحديد حكاية عن أبي جعفر الأسكافي، وابن أبي الحديد من دعاة الاعتزال والرفض والكيد للإسلام، وحاله مع ابن العلقمي الخبيث معروفة والاسكافي من دعاة المعتزلة والرفض أيضاً في القرن الثالث ولا يعرف له سند، ومثل هذه الحكايات الطائشة توجد بكثرة عند الرافضة والناصبية وغيرهم بما فيه انتقـاص لأبي بكر وعمر وعلي

وعائشة وغيرهم، وإنما يتشبت بها من لا يعقل، وقد ذكر ابن أبي الحديد 360:1 أشياء عن الاسكافي من الطعن في أبي هريرة وغيره من الصحابة وذكر من ذلك شيئاً من مزاح أبي هريرة فقال ابن أبي الحديد (( قلت قد ذكر ابن قتيبة هذا كله في كتاب المعارف في ترجمة أبي هريرة وقوله في حجة  لأنه غير متهم عليه )) وفي هذا إشارة إلى أن الأسكافي متهم. ونحن كما لا نتهم ابن قتيبة قد لا نتهم الاسكافي باختلاف الكذب، ولكن نتهمه بتلقف الأكاذيب من أفاكي أصحابه الرافضة والمعتزلة، وأهل العلم لا يقبلون الأخبار المنقطعة ولو ذكرها كبار أئمة السنة.

فما بالك بما يحكيه ابن أبي الحديد عن الاسكافي عمن تقدمه بزمان !

قال (( وقد أخرج ابن عساكر من حديث السائب بن يزيد: لتتركن الحديث عن رسول الله أو لألحقنك بأرض دوس أو بأرض القردة ))

110

 
أقول: عزاه إل البداية 106:8 ولكن لفظه هناك ((.. . دوس، وقال لكعب الأحبار: لتتركن الحديث عن الأول أو لألحقنك بأرض القردة )) فأسقط أبو رية هنا ذكر كعب، وجمع الكلمتين لأبي هريرة وله في هذه الحكاية فعلة أشنع من هذه. قال ص30 (( وقال لكعب الأحبار: لتتركن الحديث أو لألحقنك الخ )) أسقط قوله (( عن الأول )) لغرضين:

الأول: تقوية / دعواه أن عمر كان ينهى عن الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم. الثاني ترويج دعوى مهولة فاجرة خبيثة وهي دعوى أن كعباً مع أنه لم يلق النبي صلى الله عليه وسلم كان يحدث عنه بما يشاء، وكان الصحابة يسمعون منه تلك الأحاديث ويقبلونها بسذاحة مخجلة ثم لا يكتفون بذلك حتى يذهبوا فيروونها عن النبي صلى الله عليه وسلم رأساً فيوهموا الناس أنهم سمعوها من النبي صلى الله عليه وسلم أو على الأقل من بعض إخوانهم من الصحابة، ولزيادة تفظيع هذا الزعم بالغ في الحط على كعب وزعم أنه كان منافقاً يسعى لهدم الإسلام ويفتري ما شاء من الأكاذيب يرويها عن النبي صلى الله عليه وسلم فيتقبلها الصحابة ويروونها عن النبي صلى الله عليه وسلم رأساً، فعلى هذا يزعم أن كل ما جاء من أحاديث الصحابة ولم يصرح الصحابي بسماعه من النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يحتمل أن يكون مما افتراه كعب (( كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا )) وراجع ص73.[و74و75و 82و 89]

وهذه الخطة الجهنمية من أخطر تخطيط الكيد اليهودي الخاسر الذي مرت الإشارة إليه ص49و 99.وكذا قال ص126 (( قال له: لتتركن الحديث أو لألحقنك )) أسقط قوله (( عن الأول )) أيضاً ليؤكد لك أنه عمداً ارتكب ذلك. ثم لم يكفه حتى قال ص115 (( لما قدم كعب المدينة في عهد عمر وأظهر إسلامه أخذ يعمل في دهاء ومكر لما أسلم من أجله من إفساد الدين وافتراء الكذب على النبي (كذا ؟) ولم يلبث عمر أن فطن لكيده وتبين له سوء دخلته فنهاه عن الرواية عن النبي (كذا؟) وتوعده إن لم يترك الحديث عن رسول الله (كذا؟) أو ليلحقنه بأرض القردة، كذا قال، وعزا ذلك إلى المصدر نفسه وهو البداية والنهاية ج8 لكنه جعل الصفحة 206 والصواب 106 فهل تعمد هذا ليعمي عن فضيحته؟

فليتدبر القارئ،وينظر من الذي يعمل في دهاء ومكر لإفساد الدين وسوء دخلة؟ هذا وسند الخبر غير صحيح، ولفظه في البداية (( قال أبو زرعة الدمشقي حدثني محمد بن زرعة الرعيني حدثنامروان بن محمد حدثنا سعيد بن عبد العزيز عن إسماعيل بن عبد الله بن السائب الخ ))

ومحمد بن زرعة لم أجد له ترجمة، والمجهول لا تقوم به حجة، وكذا إسماعيل إلا أن يكون الصواب إسماعيل بن عبيد الله ( بالتصغير ) بن أبي المهاجر فثقة معروف لكن لا أدري أسمع من السائب أم لا؟

وفي البداية عقبه (( قال أبو زرعة: وسمعت أبا مسهر يذكره عن سعيد بن عبد العزيز نحوا منه لم يسنده )) أقول وسعيد لم يدرك عمر ولا السائب، هذا ومخرج الخبر شامي، / ومن الممتنع أن يكون عمر نهى أبا هريرة عن الحديث البتة ولا يشتهر ذلك في المدينة ولا يلتفت إلى ذلك الصحابة الذين أثنوا على أبي هريرة ورووا عنه وهم كثير كما يأتي، منهم ابن عمر وغيره كما مر ص106، هذا باطل قطعاً، على أن أبا رية يعترف أن كعباً لم يزل يحدث عن الأول حياة عمر كلها، وكيف يعقل أن يرخص له عمر ويمنع أبا هريرة؟ هذا باطل حتماً، وأبو هريرة كان مهاجراً من بلاد دوس والمهاجر يحرم عليه أن يرجع إلى بلده فيقيم بها فكيف يهدد عمر مهاجراً أن يرده إلى البلد التي هاجر منها؟

وقد بعث عمر في أواخر إمارته أبا هريرة إلى البحرين على القضاء والصلاة كما في فتوح البلدان للبلاذري ص 92 –  93 وبطبيعة الحال كان يعلمهم ويفتيهم ويحدثهم

قال أبو رية ص16 (( ومن أجل ذلك كثرت أحاديثه بعد وفاة عمر وذهاب الدرة، إذ أصبح لا يخشى أحداً بعده ))

أقول: لم يمت الحق بموت عمر، وسيأتي تمام هذا

قال (( ومن قوله في ذلك: إني أحدثكم أحاديث لو حدثت بها زمن عمر لضربني بالدرة، وفي رواية: لشج رأسي ))

أقول: يروى هذا عن يحيى بن أيوب عن ابن عجلان عن أبي هريرة، وابن عجلان لم يدرك أبا هريرة. فالخبر منقطع غير صحيح قال (( وعن الزهري عن أبي سلمة سمعت أبا هريرة يقول: ما كنا نستطيع أن نقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قبض عمر، ثم يقول: أفكنت محدثكم بهذه الأحاديث وعمر حي؟ أما والله إذا لأيقنت أن المخفقة ستباشر ظهري، فإن عمر كان يقول: اشتغلوا بالقرآن فإن القرآن كلام الله )) أقول: إنما رواه عن الزهري إنسان ضعيف يقال له صالح بن أبي الأخضر قال فيه الجوزجاني- وهو من أئمة الجرح والتعديل- ((اتهم في حديثه)). وهناك أخباراً وأثاراً تعارض هـذا وأشباهه، إلا أن في أسانيدهـا مقالاً فلم أنشط

 

لذكرها وبيان عللها تجد  بعضها في ترجمة أبي هريرة من الإصابة

وبعد فإن الإسلام لم يمت بموت عمر، وإجماع الصحابة بعده على إقرار أبي هريرة على الإكثار مع ثناء جماعة منهم عليه وسماع كثير منهم منه وروايتهم عنه كما يأتي يدل على بطلان المحكي عن عمر من منعه، بل لو ثبت المنع ثبوتاً لا مدفع له لدل إجماعهم على أن المنع كان على وجه مخصوص أو لسبب عارض أو استحساناً محضاً لا يستند إلى حجة ملزمة. وعلى فرض اختلاف الرأي فإجماعهم بعد عمر أولى بالحق من رأي عمر

112

 
ثم حكى أبورية عن صاحب المنار قال (( لو طال عمر عُمر حتى مات أبو هريرة، لما وصلت إلينا تلك الأحاديث / الكثيرة ))

أقول: وما يدريك لعل عمر لو طال عمره حتى يستحر الموت بحملة العلم من الصحابة لأمر أبا هريرة وغيره بالإكثار وحث عليه وحفظ الله تبارك وتعالى لشريعته، وتدبيره بمقتضى حكمته، فوق عمر وفوق رأي عمر في حياة عمر وبعد موت عمر

ثم قال أبو رية ص164 (( كيف سوغ كثرة الرواية ؟ كان أبو هريرة يسوغ كثرة الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم بأنه ما دام لا يحل حراماً ولا يحرم حلالاً فإنه لا بأس من أن يروي ))

أقول: هذه دعوى من أبي رية، فهل من دليل ؟

قال (( وقد أيد صنيعه هذا بأحاديث رفعها إلى النبي، ومنها مارواه الطبراني في الكبير عن أبي هريرة أن رسول الله قال: إذا لم تحلوا حراماً ولا تحرموا حلالا وأصبتم المعنى فلا بأس ))

أقول : ههنا مآخذ: الأول أن هذا لم يروه أبو هريرة ولا رواه الطبراني عنه، إنما رواه الطبراني من طريق يعقوب بن عبد الله بن سليمان بن أكيمة الليثي عن أبيه عن جده قال: (( أتينا النبي صلى الله عليه وسلم فقلنا له: بآبائنا وأمهاتنا يا رسول الله، إنا نسمع منك الحديث فلا تقدر أن نؤديه كما سمعنا. فقال: إذا لم الخ ))

وهو في مجمع الزوائد 154:1 وقال (( رواه الطبراني في الكبير، ولم أر من ذكر يعقوب ولا أباه ))

الثاني أن هذا الخبر إنما يدل على إجازة الرواية بالمعنى لقوله فيه (( وأصبتم المعنى )) وقد تقدم الكلام في الرواية بالمعنى ص52 فما بعدها ودعوى أبي رية هنا شيء آخر كما يأتي

 

الثالث أن الخبر لا يثبت عن صحابيه لجهالة يعقوب وأبيه، ولهذا أعرضت عنه فلم استشهد به في فضل الرواية بالمعنى وإن كان موافقاً لقولي

قال (( وقال أيضاً إنه سمع الليثي يقول: من حدث حديثاً هو لله عزوجل رضا فأنا قلته، وإن لم أكن قلته روى ذلك ابن عساكر في تاريخه ))

 

أقول: أخذ أبو رية هذا من كنز العمال 22:5 وهناك أن ابن عساكر أخرجه عن البختري بن عبيد عن أبيه عن أبي هريرة. أقول: البختري كذاب، وأبوه مجهول

113

 
قال أبو رية (( وفي الأحكام.. .لابن حزم )) 78:2 أنه روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا / حدثتم عني بحديث يوافق الحق فخذوا به، حدثت به أو لم أحدث ))

 

أقول: إنما ذكره ابن حزم من طريق أشعت بن براز، ثم قال ابن حزم في ذلك الموضع نفسه (( وأشعت بن براز كذاب ساقط ))

 

قال (( وروي عن رسول الله: إذا بلغكم عني حديث يحسن بي أن أقوله فأنا قلته، وإذا بلغكم حديث لا يحسن بي أقوله فليس مني ولم أقله ))

أقول:عزاه إلى توجيه النظر ص278وهناك عقبة قول ابن حاتم ((الحديث منكر، الثقات لا يرفعونه )) يريد لا يصلونه، فإنه ذكره من طريق ابن ابي ذئب عن سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعاً، وقد جاء من وجه آخر عن ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً، ذكره البخاري في التاريخ 2/ 1/ 434 ثم ذكر أ ن بعضهم قال (( عن أبي هريرة )) قال البخاري (( وهو وهم ليس فيه أبو هريرة )). ورواه بعضهم عن عبد الله ابن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة. ذكره ابن حزم في الأحكام عقب الحديث السابق وقال (( عبد الله بن سعيد كذاب مشهور )) وفي ألفاظه في الروايات اختلاف، وسأشرح بقية حاله في التعليق علىموضوعات الشوكاني إن شاء الله تعالى

هذه أدلة أبي رية على دعواه، وعلق على خبر البختري قوله (( ارجع إلى ص101 )) وكان قد ذكر هناك بعض هذه الأخبار تحت عنوان (( كيف استجازوا وضع الأحاديث )) وبهذا يعرف حاصل دعواه هنا ومناسبتها لأدلتها، فإن تكذيب الصديقين لا يتم إلا بتصديق الكذابين

قال ((روى ذلك وغيره ))

أقول: أما (( ذلك )) أي الأخبار المتقدمة فقد تبين أن أبا هريرة لم يرو شيئاً منها، وأما غيره فما هو ؟

 

قال (( على حين أن الثابت عن النبي أنه قال: من نقل عني ما لم أقله فليتبؤا مقعده من النار ))

 

أقول: كذا ذكر الحديث هنا وص 40، والثابت (( من يقل علي ما لم أقل الخ )) رواه أحمد من حديث أبي هريرة، وكذا من حديث سلمة بن الأكوع وكذا جاء في أثناء حديث لأبي قتادة، وكما أن هذا هو الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم فكذلك هو الثابت عن أبي هريرة عنه كمـا ترى، وفي صحيح البخاري وغيره من

حديث مالك عن الزهري عن الأعرج عن أبي هريرة قال (( إن الناس يقولون أكثر أبو هريرة، ولولا آيتان في كتاب الله /ما حدثت حديثاً ثم يتلو ( إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى) إلى قوله ( الرحيم ) الحديث. وذكر مسلم سنده ولم يسق سنده.

وفي الإصابة (( أخرج أحمد من طريق عامر بن كليب عن أيبه سمعت أبا هريرة يبتديء حديثه بأن يقول: قال رسول الله الصادق المصدوق أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: من كذب علي متعمداً فليتبؤا مقعده من النار )) وذكره ابن كثير في البداية 107:8 وقال (( وروي مثله من وجه آخر ))

قال أبو رية (( وقد اضطر عمر أن يذكره بهذا الحديث لما أوغل في الرواية ))

أقول: يريد ما روي عن أبي هريرة قال (( بلغ عمر حديثي فأرسل إلي فقال: كنت معنا يوم كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسم في بيت فلان؟ قال قلت: نعم، وقد علمت لم تسألني عن ذلك. قال: ولم سألتك؟ قلت إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يومئذ: من كذب علي متعمداً فليتبؤا مقعده من النار. قال أما إذاً فاذهب فحدث )) البداية 107:8 وهذا يدل على بطلان ما حكى من منعه أو على أ نه أذن له بعد منع ما، وهذا الخبر من جملة الأخبار التي قدمتُ ص111 أني أعرضت عنها لأن في أسانيدها مقالاً، وذكرته هنا لإشارة أبي رية إليه.. . وحديث (( من كذب علي الخ )) ثابت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة .

 

حقيقة التدليس وانتفاؤها عن الصحابة

قال أبو رية آخر ص164: (( تدليسه ))

 

أقول: قال الخطيب في الكفاية ص357 (( تدليس الحديث الذي لم يسمعه الراوي ممن دلسه عنه بروايته إياه على وجه يوهم أنه سمعه منه )) ومثال هذا أن قتادة

كان قد سمع من أ نس، ثم سمع من غيره عن أنس مالم يسمعه من أنس، فربما بعض ذلك بقوله (( قال أنس.... )) ونحو ذلك، ثم ذكر الخطيب ص358 ما يؤخذ على المدلس، وهاك تلخيصه بتصرف:

أولاً: إيهامه السماع ممن لم يسمع منه

ثانياً: إنما لم يبين لعلمه أن الواسطة غير مرضي

ثالثاً: الأنفه من الرواية عمن حدثه

رابعاً: إيهام علو الإسناد

خامساً: عدول عن الكشف إلى الاحتمال

115

 
أقول: هذه الأمور منتفية فيما كان يقع من الصحابة رضي الله عنهم من قول أحدهم فيما سمعه من / صحابي آخر عن النبي صلى الله عليه وسلم: (( قال النبي صلى الله عليه وسلم )). أما الأول فلأن الإيهام إنما نشأ منذ عنى الناس بالإسناد، وذلك عقب حدوث الفتنة، وفي مقدمة صحيح مسلم (( عن ابن سيرين قال: لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا: سموا لنا رجالكم.. .. )) فمن حينئذ التزم أهل العلم الإسناد فأصبح هو الغالب حتى استقر في النفوس وصار المتبادر من قول من قد ثبت لقاؤه لحذيفة (( قال حذيفة سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول.. . )) أو نحو ذلك أنه أسند، ومعنى الإسناد أنه ذكر من سمع منه فيفهم من ذاك القول أنه سمع من حذيفة، فلو قال قائل مثل ذلك مع إنه لم يسمع ذاك الخبر من حذيفة وإنما سمعه ممن أخبر به عن حذيفة كان موهماً خلاف الواقع وهذا العرف لم يكن مستقراً في حق الصحابة لا قبل الفتنة ولا بعدها، بل عرفهم المعروف عنهم أنهم كانوا يأخذون عن النبي صلى الله عليه وسلم بلا واسطة، ويأخذ بعضهم بواسطة بعض، فإذا قال أحدهم (( قال النبي صلى الله عليه وسلم.... )) كان محتملاً أن يكون سمع النبي صلى الله عليه وسلم وأن يكون سمعه من صحابي آخر عن النبي صلى الله عليه وسلم. فلم يكن في ذلك إيهام

وأما الثاني فلم يكن ثم احتمال لأن يكون الواسطة غير مرضي، لأنهم لم يكن أحد منهم يرسل إلا ما سمعه من صحابي آخر – يثق به وثوقه بنفسه- عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن أحد منهم يرسل ما سمعه من صبي أو من مغفل أو قريب العهد بالإسلام أو من مغموص بالنفاق أو من تابعي

وأما الثالث فلم يكن من شأنهم رضي الله عنهم

وأما الرابع فتبع الأول

وأما الخامس فلا ضرر في الاحتمال مع الوثوق بأنه إذا كان هناك واسطة فهو صحابي آخر

 

قال أبو رية (( ذكر علماء الحديث أن أبا هريرة كان يدلس ))

أقول: إنما جاء في ذلك كلمة شاذة يغلب على ظني أنها مصحفة سيأتي الكلام عليها

 

وذكر ص165 ما حكى عن شعبة في ذم التدليس وقال (( ومن الحفاظ من جرح من عرف بهذا التدليس من الرواة فرد روايته مطلقاً وإن أتى بلفظ الاتصال ))

أقول: بعد أن استحكم العرف الذي مر بيانه نشأ أفراده لا يلتزمونه، وهم ضربان:

 

الضرب الأول من بين عدم التزامه فصار معروفاً عند الصحابة والآخذين عنه أنه إذا قال (( قال فلان )) ونحو ذلك وسمي بعض شيوخه احتمل أن يكون سمع الخبر مع ذاك الشيخ وأن يكون سمعه من غيره عنه. فهؤلاء هم المدلسون الثقات. وكان الغالب أنه إذا دلس أحدهم خبراً مرة أسنده على وجهه أخرى. وإذا دلس فسئل بين الواقع