ج2.النُّكَت على كتاب ابن الصلاح للحافظ ابن حجر العسقلاني
المجلّد الثاني {المصدر مكتبة مشكاة عن ملتقي أهل الحديث}
النوع الثامن : المقطوع
55- قوله (ص) : (( ويقال في جمعة : المقاطيع والمقاطع )) .
( يعني كالمسانيد والمساند ) .
والمنقول عن جمهور البصريين من النحاة إثبات الياء جزماً وعن الكوفيين والجرمي من البصريين تجويز إسقاطها واختاره ابن مالك .
وذكر الخطيب أن الفائدة في كتابه المقاطيع ليتخير المجتهد من أقوالهم ولا يخرج عن جملتهم والله أعلم
56- قوله (ص) : (( وغيرهما )) عني به الدار قطني والحميدي .
فقد وجد التعبير في كلامهما بالمقطوع في مقام المنقطع . وأفاد شيخنا في منظومته أنه وجد التعبير بالمنقطع ( في كلام البرديجي ) في مقام المقطوع على عكس الأول وسيأتي نقل المصنف لذلك مبهماً لقائله والله أعلم .
57- قوله (ص) : (( قول الصحابي رضي الله عنه : كنا نفعل )) … إلى آخره .
حاصل كلامه حكاية قولين :
1- أحدهما : أنه موقوف جزماً .
2- وثانيهما : التفصيل بين أن يضيفه إلى زمن النبي صلى الله عليه وسلم فيكون مرفوعاً . وبه صرح الجمهور .
ويدل عليه احتجاج أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه على جواز العزل بفعلهم له في زمن نزول الوحي فقال : (( كنا نعزل والقرآن ينزل لو كان شئ ينهى عنه لنهى عنه القرآن )) .
وهو استدلال واضح ، لأن الزمان كان زمان التشريع . وإن لم يضفه إلى زمنه فموقوف .
[ مذاهب العلماء في قول الصحابي كنا نفعل كذا : ]
وأهمل المصنف مذاهب :
الأول : أنه مرفوع مطلقاً وقد حكاه شيخنا وهو الذي اعتمده الشيخان في صحيحهما وأكثر منه البخاري .
والثاني : التفصيل بين أن يكون ذلك الفعل مما لا يخفى غالباً فيكون مرفوعاً أو يخفى فيكون موقوفاً . وبع قطع الشيخ أبو إسحاق الشيرازي . وزاد ابن السمعاني في كتاب القواطع فقال :
(( إذا قال الصحابي : كانوا يفعلون كذا وأضافه إلى عصر النبي صلى الله عليه وسلم وكان مما لا يخفى مثله ، فيحمل على تقرير النبي صلى الله عليه وسلم ويكون شرعاً . وإن كان مثله يخفى فإن تكرر منهم حمل أيضاً على تقريره لأن الأغلب فيما يكثر أنه لا يخفى والله أعلم .
الثالث : إن أورده الصحابي في معرض الحجة حمل على الرفع وإلا فموقوف حكاه القرطبي .
قلت : وينقدح أن يقال إن كان قائل كنا نفعل من أهل الاجتهاد احتمل أن يكون موقوفاً وإلا فهو
مرفوع ولم أر من صرح بنقله .
قلت : ومع كونه موقوفاً فهل هو من قبيل نقل الإجماع أو لا ؟ فيه خلاف مذكور في الأصول جزم بعضهم بأن أن كان في اللفظ ما يشعر به مثل : كان الناس يفعلون كذا فمن قبيل نقل الإجماع وإلا فلا .
تنبيهات
الأول : قول الصحابي رضي الله عنه كنا نرى كذا ينقدح فيها من الاحتمال أكثر مما ينقدح في قوله كنا نقول أو نفعل لأنها الرأي ومستنده قد يكون تنصيصاً أو استنباطاً .
الثاني : قوله : كان يقال : كذا .
قال الحافظ المنذري : اختلفوا هل يلتحق بالمرفوع أو الموقوف ؟
قال : ومما يؤيد أن حكمها الرفع مطلقاً ما رواه النسائي من حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال : (( كذا يقال : صائم رمضان في السفر كالمفطر في الحضر )) .
فإن ابن ماجه رواه من الوجه الذي أخرجه منه النسائي بلفظ (( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم )) . فدل على أنها عندهم من صيغ الرفع والله أعلم .
الثالث : لا يختص جميع ما تقدم بالاثبات ، بل يلتحق بع النفي كقولهم : كانوا لا يفعلون كذا . ومنه قول عائشة رضي الله عنها (( كانوا لا يقطعون اليد في الشئ التافه )) والله أعلم .
58- قوله (ص) : (( وذكر الخطيب نحو ذلك في جامعه ( يعني حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه ) كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرعون بابه بالأظافير )) .
اعترض مغلطاي ،بأن الخطيب ، إنما رواه من حديث أنس رضي الله عنه .
قلت : وهو اعتراض ساقط ، لأن المصنف إنما قصد أن الحاكم والخطيب ذكرا أن ذلك من قبيل الموقوف ، وإن ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فيه . وقد حقق المصنف المناط فيه بما حاصله : أن له جهتين :
(أ) جهة الفعل وهو صادر من الصحابة رضي الله عنهم فيكون موقوفاً .
(ب) وجهة التقرير وهو مضافة إلى النبي صلى الله عليه وسلم من حيث أن فائدة قرع بابه أنه يعلم أنه قرع .
ومن لازم علمه بكونه قرع مع عدم إنكار ذلك على فاعله التقرير على ذلك الفعل فيكون مرفوعاً . لكن يخدش في كلام المصنف أنه يلزمه أن يكون جميع قسم التقرير يجوز أن يسمى موقوفاً ، لأن فاعله غير النبي صلى الله عليه وسلم قطعاً وإلا فما اختصاص حديث القرع بهذا الإطلاق .
تنبيه
الظاهر أنم كانوا يقرعونه بالأظافير تأدباً وإجلالاً .
وقيل : إن بابه لم يكن له حلق يطرق بها قاله السهيلي . والأول أولى والله أعلم .
59- قوله (ص) : وخالف في ذلك فريق منهم : الإسماعيلي ( يعني في كون قول الصحابي رضي الله عنه أمرنا بكذا ونحوه مرفوعاً ) .
قلت : من الفريق المذكور أبو الحسن الكرخي من الحنفية . وعلل ذلك بأنه متردد كونه مضافاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو إلى أمر القرآن أو الأمة أو بعض الأئمة أو القياس أو الاستنباط وسوغ إضافته إلى صاحب الشرع بناء على أن القياس مأمور باتباعه من الشارع . قال : وهذه الاحتمالات تمنع كونه مرفوعاً .
وأجيب بأن هذه الاحتمالات بعيدة ، لأن أمر الكتاب ظاهر للكل فلا يختص بمعرفته الواحد دون غيره . وعلى تقدير التنزل فهو مرفوع ، لأن الصحابي وغيره إنما تلقوه من النبي صلى الله عليه وسلم . وأمر الأمة لا يمكن الحمل عليه لأنهم لا يأمرون أنفسهم . وبعض الأئمة إن أراد الصحابة فبعيد ، لأنه قوله ليس بحجة على غيره منهم .
وإن أراد من الخلفاء فكذلك ، لأن الصحابي في مقام تعريف الشرع بهذا الكلام فيجب حمله على من صدر عنه الشرع .
قلت : إلا أن يكون قائل ليس من مجتهدي الصحابة فيحتمل أن يريد بالأمر أحد المجتهدين منهم والله أعلم . وأما حمله على القياس والاستنباط فبعيد ، لأن قوله : أمرنا بكذا يفهم منه حقيقة الأمر ( لا خصوص الأمر باتباع القياس ) .
تنبيهات
الأول : قيل : محل خلاف في هذه المسألة فيما إذا كان قائل ذلك من الصحابة غير أبي بكر رضي الله عنه وعنهم . أما إذا قال أبو بكر رضي الله عنه فيكون مرفوعاً قطعاً .
لأن غير النبي صلى الله عليه وسلم لا يأمره ولا ينهاه ، لأنه تأمر بعد النبي صلى الله عليه وسلم ووجب على غيره امتثال أمره . حكى هذا المذهب أبو السعادات ابن الأثير في مقدمة جامع الأصول وهو مقبول .
الثاني : لا اختصاص لذلك بقوله : أمرنا أو نهينا . بل يلحق به ما إذا قال : أمر فلان بكذا أو نهى فلان عن كذا أو أمر أو نهى بلا إضافة وكذا مثل قول عائشة رضي الله تعالى عنها (( كنا نؤمر بقضاء الصوم … )) الحديث .
وأما إذا قال الصحابة رضي الله عنه أوجب علينا كذا أو حرم علينا كذا أو أبيح لنا كذا ، فهو
مرفوع . ويبعد تطرق الاحتمالات المتقدمة إليه بعداً قوياً جداً .
الثالث : إذا قال : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا أو سمعته يأمر بكذا ، فهو مرفوع بلا خلاف ، لانتفاء الاحتما لالمتقدم . لكن حكى القاضي أبو الطيب وغيره عن داود وبعض المتكلمين أنه لا يكون حجة حتى ينقل لفظه لاختلاف الناس في صيغ الأمر والنهي فيحتمل أن يكون سمع صيغة ظنها أمراً أو نهياً وليس كذلك في نفس لأمر .
وأجيب بأن الظاهر من حال الصحابة رضي الله عنه مع عدالته ومعرفته بأوضاع اللغة أنه لا يطلق ذلك إلا فيما تحقق أنه أمر أو نهي من غير شك نفياً للتدليس عنه بنقل ما يوجب على سامعه اعتقاد الأمر والنهي فيما ليس هو أمر ولا نهي .
الرابع : نفي الخلاف المذكور عن أهل الحديث ، فقال البيهقي : لا خلاف بين أهل النقل أن الصحابي رضي الله تعالى عنه إذا قال : أمرنا أو نهينا أو من السنة كذا أنه يكون حديثاً مسنداً والله أعلم .
[ قول الصحابي من السنة كذا : ]
60- قوله (ص) : (( وهكذا قول الصحابي رضي الله عنه (( من السنة كذا فالأصح أنه مرفوع … )) إلى آخره .
قال القاضي أبو الطيب : هو ظاهر مذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه .
وقال ابن عبد البر : (( إذا أطلق الصحابي رضي الله تعالى عنه السنة فالمراد بها سنة النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يضعفها إلى صاحبها كقولهم : سنة العمرين . ومقابل الأصح خلاف الصيرفي من الشافعية والكرخي والرازي من الحنفية وابن حزم الظاهري . بل حكاه إمام الحرمين في البرهان عن المحققين . وجرى عليه ابن القشيري ، وجزم بن فورك وسليم الرازي وأبو الحسين بن القطان والصيدلاني من الشافعية بأنه الجديد من مذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه . وكذا حكاه المازري في شرح البرهان .
وحكوا كلهم أن الشافعي رضي الله تعالى عنه كذا في القديم يراه مرفوعاً وحكوا تردده ذلك [ في ] الجديد ، لكن نص الشافعي رضي الله عنه في الأم وهو من الكتب الجديدة على ذلك . فقال في باب عدد الكفن بعد ذكر ابن عباس والضحاك بن قيس رضي الله عنهما : (( رجلان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : لا يقولان السنة إلا السنة إلا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم )) .
وروى في الأم أيضاً عن سفيان عن أبي الزناد قال : سئل سعيد بن المسيب عن الرجل لا يجد ما ينفق على امرأته ؟ قال : يفرق بينهما .
قال أبو الزناد : فقلت : سنة ؟
فقال سعيد : سنة .
قال الشافعي : الذي يشبه قول سعيد سنة أن يكون أراد سنة النبي صلى الله عليه وسلم . انتهى . وحينئذ قله في الجديد قولان . وبه جزم الرافعي . ومستندهم أن اسم السنة متردد بين سنة النبي صلى الله عليه وسلم وسنة غيره . كما قال صلى الله عليه وسلم : (( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين )) . وأجيب بأن احتمال إرادة النبي صلى الله عليه وسلم أزهر لوجهين :
1- أحدهما : أن إسناد ذلك إلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم هو المتبادر إلى الفهم ، فكان الحمل عليه أولى .
2- الثاني : أن سنة النبي صلى الله عليه وسلم أصل . وسنة الخلفاء الراشدين تبع لسنته .
والظاهر من مقصود الصحابي رضي الله تعالى عنه إنما هو بيان الشريعة ونقلها ، فكان إسناد ما قصد بيانه إلى الأصل أولى من إسناده إلى التابع والله أعلم . وما يؤيد مذهب الجمهور : ما رواه البخاري في صحيحه عن الزهري عن سالم بن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما .
أن الحجاج عام نزل بابن الزبير رضي الله تعالى عنهما سأل عبد الله ( يعني ابن عمر رضي الله تعالى عنهما ) كيف يصنع في الموقف يوم عرفة ، فقال سالم رضي الله تعالى عنه : إن كنت تريد السنة فهجر بالصلاة يوم عرفة .
فقال ابن عمر رضي الله عنهما : صدق .
قال الزهري : فقلت لسالم : أفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟
قال : وهل يتبعون في ذلك ( إلا سنته ) صلى الله عليه وسلم ؟ . واستدل ابن حزن على أن قول الصحابي رضي الله عنه . من السنة كذا ليس بمرفوع بما في البخاري من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما .
قال : أليس حسبكم سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم إن حبس أحدكم في الحج فطاف بالبيت وبالصفا والمروة ، ثم حل من كل شئ حتى يحج قابلاً فيهدي أو يصوم إن لم يجد هدياً .
قال ابن حزم : (( لا خلاف بين أحد من الأمة أنه صلى الله عليه وسلم إذ صد عن البيت لم يطف به ولا بالصفا والمروة بل حيث كان بالحديبية ، وإن هذا الذي ذكره ابن عمر رضي الله تعالى عنه لم يقع منه قط .
قلت : إن أراد بأنه لم يقع من فعله ، فمسلم ولا يفيده وإن أراد لم يقع من قوله فممنوع . وما المانع منه ؟ بل الدائرة أوسع من القول أو الفعل وغيرهما وبه ينتقض استدلاله ويستمر ما كان على ما كان
تنبيهات
أحدها : إذا أضاف الصحابي رضي الله عنه السنة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومثل ذلك بقول عمر رضي الله عنه للصبي بن معبد هديت لسنة نبيك )) . وجزم شيخنا شيخ الإسلام في محاسن
قال : فارفعها مثل قول ابن عباس رضي الله عنهما : الله أكبر سنة بأبي القاسم صلى الله عليه وسلم
ودونها قول عمرو بن العاص رضي الله عنه : (( لا تلبسوا علينا سنة نبينا صلى الله عليه عدة أم الوليد كذا )) . ودونها قول عمر رضي الله عنه لعقبة بن عامر رضي الله عنه : (( أصبت السنة )) .
إذ الأول أبعد احتمالاً والثاني أقرب احتمالاً ، والثالث لا إضافة فيه .
ثانيها : نفي البيهقي الخلاف ، عن أهل النقل في ذلك كما تقدم قبل وسبقه إلى ذلك الحاكم فقال: في الجنائز من المستدرك أجمعوا على أن قول الصحابي رضي الله عنه السنة كذا حديث مسند .
[ حكم ما ينسب الصحابي فاعله إلى الكفر والعصيان : ]
ثالثها : لم يتعرض ابن الصلاح إلى بيان حكم ما ينسب الصحابي فاعله إلى الكفر أو العصيان ، كقول ابن مسعود رضي الله عنه : (( من أتى عرافاً أو كاهناً أو ساحراً فصدقه بما يقول ، فقد كفر بما أنزل على [ قلب ] محمد صلى الله عليه وسلم )) .
وفي رواية ؟: بما أنزل الله على محمد صلى اله عليه وسلم . وكقول أبي هريرة رضي الله عنه : (( ومن لم يحب الدعوة ، فقد عصى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم )) . وقوله في الخارج من المسجد بعد الأذان : (( أما هذا فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم )) . وقول عمار بن ياسر رضي الله عنه : (( من صام اليوم الذي يشك فيه ، فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم )) . فهذا ظاهره أن له حكم الرفع ، ويحتمل أن يكون موقوفاً لجواز إحالة الإثم على ما ظهر من القواعد . والأول أظهر بل حكى ابن عبد البر الإجماع على أنه مسند . وبذلك جزم الحاكم في علوم الحديث والإمام فخر الدين في المحصول .
[ ما يعد مسنداً من تفسير الصحابي : ]
61- قوله (ص) : (( ما قيل من أن تفسير الصحابي رضي الله عنه مسند إنما هو في تفسير يتعلق بسبب نزول آية أو نحو ذلك )) .
قلت : تبع المصنف في ذلك الخطيب ، وكذا قال الأستاذ أبو منصور البغدادي : (( إذا أخبر الصحابي رضي الله عنه عن سبب وقع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أو أخبر عن نزول آية له بذلك مسند .
لكن أطلق الحاكم النقل عن البخاري ومسلم أن تفسير الصحابي رضي الله عنه الذي شهد الوحي والتنزيل حديث مسند . والحق أن ضابط ما يفسره الصحابي رضي الله عنه إن كان مما لا مجال للاجتهاد [ فيه ] ولا منقولاً عن لسان العرب فحكمه الرفع وإلا فلا ، كالإخبار عن الأمور الماضية من بدء الخلق وقصص الأنبياء وعن الأمور الآتية :
كالملاحم والفتن والبعث وصفة الجنة والنار والإخبار عن عمل يحصل به ثواب مخصوص أو عقاب مخصوص ، فهذه الأشياء لا مجال للاجتهاد [ فيها ] فيحكم لها بالرفع .
قال أبو عمر الداني :
(( قد يحكي الصحابي رضي الله عنه قولاً يوقفه ، فيخرجه أهل الحديث في المسند ، لامتناع أن يكون الصحابي رضي الله عنه قاله إلا بتوقيف ، كما روى أبو صالح السمان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : (( نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات لا يجدن عرف الجنة … )) الحديث . لأن مثل هذا لا يقال : بالرأي ، فيكون من جملة المسند .
وأما إذا فسر آية تتعلق بحكم شرعي فيحتمل أن يكون ذلك مستفاداً عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن القواعد ، فلا يجزم برفعه وكذا إذا فسر مفرداً فهذا نقل عن اللسان خاصة فلا يجزم برفعه وهذا التحرير الذي حررناه هو معتمد خلق كثير من كبار الأئمة كصحابي الصحيح والإمام الشافعي وأبي جعفر الطبري وأبي جعفر الطحاوي وأبي بكر بن مردويه في تفسيره المسند والبيهقي وابن عبد البر في آخرين .
[ إذا كان الصحابي في الإسرائيليات فلا يعطى تفسيره حكم الرفع : ]
إلا أن يستثنى من ذلك ما كان المفسر له من الصحابة رضي الله تعالى عنهم من عرف بالنظر في الإسرائيليات ، كمسلمة أهل الحديث مثل عبد الله بن سلام وغيره . وكعبد الله بن عمرو بن العاص
فإنه كان حصل له في وقعة اليرموك كتب كثيرة من ( كتب ) أهل الكتاب فكان يخبر بما فيها من الأمور المغيبة حتى كان بعض أصحابه ربما قال له : حدثنا عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا تحدثنا عن الصحيفة ، فمثل هذا لا يكون حكم ما يخبر (به) من الأمور التي قدمنا ذكرها الرفع ، لقوة الاحتمال والله أعلم .
تنبيه
إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم حكماً يحتاج إلى شرح ، فشرحه الصحابي رضي الله عنه سواء كان من روايته أو من رواية غيره هل يكون ذلك مرفوعاً أم لا ؟
ذهب الحاكم إلى أنه مرفوع ، فقال :
(عقب) حديث أورده عن عائشة رضي الله تعالى عنها في تفسير التميمة : هذا ليس بموقوف ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد ذكر التميمة في أحاديث كثيرة ، فإذا فسرتها عائشة رضي الله تعالى عنها كان ذلك حديثاً مسنداً . والتحقيق أنه لا يجزم بكون جميع ذلك يحكم برفعه . بل الاحتمال فيه واقع ، فيحكم برفع ما قامت القرائن الدالة على رفعه وإلا فلا والله أعلم .
وهكذا إذا كان اللفظ معنيان فحمله الصحابي رضي الله عنه على أحدهما كتفسير ابن عمر رضي الله عنه التفرق بالأبدان دون الأقوال .
وقال القاضي أبو الطيب : يجب قبوله على المذهب . وكذا حمل عمر رضي الله عنه قوله صلى الله عليه وسلم : (( الذهب بالذهب ربا إلا هاء وهاء )) على القبض في المجلس . وتردد في ذلك الشيخ أبو إسحاق والله أعلم .
62- قوله (ص) : (( من قبيل المرفوع ( ما قيل ) عند ذكر الصحابي رضي الله عنه : يرفعه أو يبلغ به أو بتمية أو رواية )) .
قلت : وكذا قوله يرويه أو رفعه أو مرفوعاً أو بسنده . وكذا قوله رواه . رونيا في أمالي المحاملي من طريق ابن عيينة عن ابن جدعان عن أبي نضرة عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه رواه قال :
قول إبراهيم عليه الصلاة والسلام من هذا الوجه ، فقال عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فذكره .وأمثلة باقي ما ذكرنا مشهورة ، فلا نطيل بذكرها .
ومن أغرب ذلك سقوط الصيغة مع الحكم بالرفع بالقرينة كالحديث الذي رويناه من طريق الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : احفظوا عني ولا تقولوا : قال ابن عباس رضي الله عنه إيما عبد حج به أهله ، ثم أعتق فعليه حجة أخرى … الحديث . رواه ابن أبي شيبة من هذا الوجه فزعم أبو الحسن ابن القطان أن ظاهره الرفع وأخذه من نهي ابن عباس رضي الله عنهما لهم عن إضافة القول إليه .
فكأنه قال لهم : لا تضيفوه إلى وأضيفوه إلى الشارع .
لكن يعكر عليه أن البخاري رواه من طريق أبي السفر سعيد بن يحمد قال : سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يقول : يا أيها الناس اسمعوا مني ما أقول لكم واسمعوني ما تقولون ، ولا تذهبوا فتقولوا : قال ابن عباس قال ابن عباس ، فذكر الحديث .
وظاهر هذا أنه إنما طلب منهم أن يعرضوا عليه قوله ليصححه لهم خشية أن يزيدوا فيه أو ينقصوا والله أعلم .
تنبيهان
أحدهما : قد يقال : ما الحكمة في عدول التابعي عن قول الصحابي رضي الله عنه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحوها إلى يرفعه وما ذكر معها .
قال الحافظ المنذري : شيبه أن يكون التابعي مع تحققه بأن الصحابي رفع الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم شك في الصيغة بعينها فلما لم يمكنه الجزم بما قاله له أتى بلفظ يدل على رفع الحديث .
قلت : وإنما ذكر الصحابي رضي الله عنه كالمثال وإلا فهو جار في حق من بعده ولا فرق ، ويحتمل أن يكون من صنع ذلك صنعه طلباً للتخفيف وإيثار للإختصار . ويحتمل أيضاً أن يكون شك في ثبوت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم فلم يجزم بلفظ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا بل كنى عنه تحرزاً وسيأتي إن شاء الله تعالى في النوع الحادي والعشرين .
وما أجاب به المنذري انتزعه من قول أبي قلابة الجرمي لما روي عن أنس رضي الله عنه قال : (( من السنة إذا تزوج البكر عندها سبعاً )) .
( قال أبو قلابة : لو شئت لقلت : أنساً رضي الله عنه رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ) .
( فإن معنى ذلك أنني لو قلت رفعه ) لكنت صادقاً . بناء على الرواية بالمعنى لكنه تحرز عن ذلك ، لأن قوله : من السنة إنما يحكم له بالرفع بطريق نظري . كما تقدم . وقوله رفعه نص في رفعه وليس للرواي أن ينقل ما هو محتمل إلى ما هو نص غير محتمل .
ثانيهما : ذكر المصنف ما إذا قال التابعي عن الصحابي رضي الله عنه يرفعه ولم يذكر ما إذا قال الصحابي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم يرفعه وهو في حكم قوله ( عن الله ) عز وجل
ومثاله : الحديث الذي رواه الدراوردي عن عمرو بن أبي عمرو عن سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه .
قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفعه (( إن المؤمن عندي بمنزلة كل خير يحمدني وأنا أنزع نفسه من بين جنبيه )) .
حديث حسن رواته من أهل الصدق . أخرجه البزار في مسنده وهو من الأحاديث الإلهية ، وقد أفردها جمع بالجمع والله الموفق .
النوع التاسع : المرسل
63- قوله (ص) : (( تعريف المرسل وصورته التي لا خلاف فيها ( حديث التابعي الكبير الذي لقي جماعة من الصحابة وجالسهم ، كعبيد الله بن عدي بن الخيار ثم سعيد بن المسيب وأمثالهما إذا قال ) : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم )) … إلى آخره .
ليس المراد حصر ذلك في القول لو ذكر الفعل أو التقرير بأي صيغة كان داخلاً فيه . وإنما خص القول ، لكونه أكثر . والأولى فيما أرى التعبير بالإضافة ، لكونهما أشمل . والله الموفق .
30- قوله (ع) : (( لأن عبيد الله بن عدي ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينقل أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم )) .
قلت : عدي بن الخيار مات قبل فتح مكة بمدة وابنه عبيد الله كان بمكة لما دخلها النبي صلى الله عليه وسلم وقد وجد في منقولات كثيرة أن الصحابة من النساء والرجال كانوا يحضرون أولادهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم يتبركون بذلك وهذا منهم ، لكن هل يلزم من ثبوت الرؤية له الموجبة لبلوغه شريف التربة بدخوله في حد الصحبة ، أن يكون ما يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعد مرسلاً ؟
هذا محل نظر وتأمل . والحق الذي جزم به أبو حاتم الرازي وغيره من الأئمة أن مرسله كمرسل غيره ، وأن قولهم : مراسيل الصحابة رضي الله تعالى عنهم مقبولة بالاتفاق إلا عند بعض من شذ إنما يعنون بذلك من أمكنة التحمل والسماع أما من لا يمكنه ذلك فحكم حديثه حكم غيره من المخضرمين الذين لم يسمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم والله أعلم .
وبالجملة فإن تمثيل ابن الصلاح بعبيد الله بن عدي معترض ، لأنه كان يمكنه أن يحفظ عن النبي صلى
الله عليه وسلم وهو تابع في ذلك لابن عبد البر فإنه قال لما ذكر المرسل :
(( هذا الاسم واقع بالإجماع على حديث التابعي الكبير عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل أن يقول عبيد الله بن عدي بن الخيار أو أبو أمامة بن سهل ومن كان مثلهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم . وكذلك دون هؤلاء كسعيد بن المسيب … إلى آخر كلامه .
قلت : ولو مثل بمحمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهما الذي ما أدرك من حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ثلاثة أشهر لكان أولى وقول شيخنا : (( لكونهم عاصروه على القول الضعيف في حد الصحابة رضي الله تعالى عنهم )) . سيأتي إن شاء الله تعالى في معرفة الصحابة رضي الله عنهم قدح في ثبوت هذا القول عن أحد الأئمة مطلقاً إن شاء الله تعالى .
64- قوله (ص) : (( والمشهور التسوية بين التابعين )) .
أقول : لم يمعن المؤلف في الكلام على المرسل في حكاية الخلاف في حده والتفريغ عليه .
[ جمع الحافظ لأقوال أهل العلم في المرسل : ]
وقد جمعت كثيراً من أقوال أهل العلم فيه يحتاج إليه المحدث وغيره .
أما أصله : فقيل مأخوذ من الإطلاق وعدم المنع كقوله تعالى : ( إنا أرسلنا الشياطين على الكافرين ) . فكأن المرسل أطلق الإسناد .
وقيل : مأخوذ من قولهم : (( جاء القوم أرسالاً أي متفرقين )) ، لأن بعض الإسناد منقطع عن بقيته وقيل : مأخوذ من قولهم : (( ناقة رسل )) أي سريعة السير كأن المرسل للحديث أسرع فيه فحذف بعض إسناده .
[ حد المرسل اصطلاحاً : ]
وأما حده : فاختلفت عباراتهم فيه على أربعة أوجه :
الأول : هو ما أضافه التابعي الكبير إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيخرج بذلك ما أضافه صغار التابعين ومن بعدهم .
والثاني : هو ما أضافه التابعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم من غير تقييد بالكبير .
وهذا الذي عليه جمهور المحدثين ، ولم أر تقييده بالكبير صريحاً عن أحد ، لكن نقله ابن عبد البر عن قوم ، بخلاف ما يوهمه كلام المصنف . نعم قيد الشافعي المرسل الذي يقبل إذا اعتضد بأن يكون من رواية التابعي الكبير . ولا يلزم من ذلك ، أن لا يسمى مار واه التابعي الصغير مرسلاً .
والشافعي مصرح بتسمية رواية من دون كبار التابعين مرسلة وذلك في قوله : (( ومن نظر في العلم بخبرة وقلة غفلة استوحش من مرسل كل من دون كبار التابعين بدلائل ظاهرة )) .
والثالث : ما سقط منه رجل وهو على هذا هو المنقطع سواء . وهذا مذهب أكثر الأصوليين .
قال الأستاذ أبو منصور :
(( المرسل : ما سقط من إسناده واحد ، فإن سقط أكثر من واحد فهو معضل )) .
وقال أبو الحسن بن القطان :
((المرسل : أن يروي بعض التابعين عن النبي صلى الله عليه وسلم خبراً أو يروي رجل عمن لم يره )) قلت : وهذا اختيار أبي داود في مراسيله ، والخطيب وجماعة ، لكن الذي قبله أكثر في الاستعمال .
والرابع : قول غير الصحابي رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وبهذا التعريف أطلق ابن الحاجب وقبله الآمدي والشيخ الموفق وغيرهم ، فيدخل في عمومه كل من لم تصح له صحبة ولو تأخر عصره .
وقال الغزالي : (( وصورة المرسل أن يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من لم يعاصره )) .
وهذا أخص قليلاً من الذي قبله ، لأنه يدخل فيه من سمع من النبي صلى الله عليه وسلم في حال الكفر ، ثم استمر كافراً فلم يسلم إلا بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم فإن هذا لا تصح له صحبة وهو على تعريف الغزالي لا يكون حديثه مرسلاً .
وقال الحافظ العلائي :
(( إطلاق ابن الحاجب وغيره ، يظهر عند التأمل في أثناء استدلالهم أنهم لا يريدونه ، بل إنما مرادهم ما سقط منه التابعي مع الصحابي أو ما سقط منه اثنان بعد الصحابي ونحو ذلك ، ويدل عليه قول إمام الحرمين في (( البرهان )) : مثاله : أن يقول الشافعي رضي الله تعالى عنه : قال رسول الله صل الله عليه وسلم كذا .
قال : ولم أر من صرح بحمله على إطلاقه إلا بعض المتأخرين من غلاة الحنفية . وهو اتساع غير مرضي ، لأنه يلازم منه بطلان اعتبار الاسناد الذي هو من خصائص هذه الأمة ، وترك النظر في أحوال الرواة ، والإجماع في كل عصر على خلاف ذلك فظهور فساده ( غنى ) عن الإطالة فيه )) .
قلت : ويؤيده قول الأستاذ أبي إسحاق الاسفرائيني في كتابه [ في الأصول ] : (( المرسل رواية التابعي عن النبي صلى الله عليه وسلم أو تابع التابعي ( عن الصحابي ) فأما إذا قال تابع التابعي أو واحد منا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يعد شيئاً ، ولا يقع به ترجيح [ فضلاً ] عن الاحتجاج به . وهذا ظاهر كلام ابن برهان أيضاً . وممن قيد الإطلاق الأستاذ أبو بكر ابن فورك ، فقال : (( المرسل : قول التابعي : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا . نقله عنه المازري .
فإن قيل ما احترز به الغزالي رحمه الله تعالى كما قدمته ، قد ينقدح منه قدح في صحة التعريف الذي أخبرت أنه قول الجمهور ، وذلك لأن قولهم : المرسل ما أضافه التابعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم يدخل فيه ما سمعه بعض الناس في حال كفره من النبي صلى الله عليه وسلم ( ثم أسلم ) بعده وحدث عنه بما سمعه منه ، فإن هذا والحالة هذه تابعي قطعاً وسماعه منه صحيح متصل وهو داخل في حد
المرسل الذي ذكرته .
[ تعريف الحافظ للمرسل : ]
قلت : وهذا عندي نقض صحيح واعتراض وارد لا محيد عنه ولا انفصال منه إلا أن يزاد في الحد ما يخرجه ، وهو : أن يقول : المرسل : ما أضافه التابعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم مما سمعه من غيره
[ أقوال العلماء في حكم المرسل : ]
وأما حكم المرسل :
فاختلفوا في الاحتجاج به على أقوال :
أحدها : الرد مطلقاً حتى لمراسيل الصحابة رضي الله تعالى عنهم وحكي ذلك عن الأستاذ أبي إسحاق الاسفرائيني .
وظن قوم أنه تفرد بذلك ، فاحتجوا عليه بالإجماع ، وليس بجيد لأن القاضي أبا بكر الباقلاني قد صرح في التقريب بأن المرسل لا يقبل مطلقاً حتى مراسيل الصحابة رضي الله عنهم لا لأجل الشك في عدالتهم ، بل لأجا أنهم قد يروون عن التابعين . قال : إلا أن يخبر عن نفسه بأنه لا يروي إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن صحابي فحينئذ يجب العمل بمرسله .
قلت : نقل عنه الغزاي في المنخول أن المختار عنده ، أن الإمام العدل إذا قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أخبرني الثقة قبل . فأما الفقهاء والمتوسعون في كلامهم فقد يقولونه لا عن تثبت فلا يقبل منهم ، لأن الرواية قد كثر وطال البحث واتسعت الطرق ، فلا بد من ذكر اسم الرجل ))
قال الغزالي : والأمر كما ذكر ، لكن لو صادفنا في زماننا متقناً في نقل الأحاديث مثل مالك قبلنا قوله ولا يختلف ذلك بالإعصار ( يعني أن الحكم لا يختلف جوازاً ) وأن الواقع أن الأعصار المتأخرة ليس فيهم من هو بتلك المثابة وقد قال القاضي عبد الجبار رضي الله تعالى عنه إذا قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا قبل إلا أن علم أنه أرسله )) . وهذا النقل مخالف للمشهور من مذهب الشافعي .
فقد قال ابن برهان في الوجيز : (( مذهب الشافعي : إن المراسل لا يجوز الاحتجاج بها إلا مراسيل الصحابة رضي الله عنهم ومراسل سعيد بن المسيب وما انعقد الإجماع على العمل به .
وكذا ما نقله ابن بطال في أوائل شرح البخاري عن الشافعي أن المرسل عنده ليس بحجة حتى مرسل الصحابة .
ثم اغرب ابن برهان فقال في الأوسط : إن الصحيح أنه لا فرق بين مراسيل الصحابة رضي الله تعالى عنهم ومراسيل غيرهم .
فتلخص من هذا أن الأستاذ أبا إسحاق لم ينفرد برد مراسيل الصحابة رضي الله عنهم وأن مأخذه في ذلك احتمال كون الصحاب رضي الله عنه أخذه عن تابعي .
وجوابه : أن الظاهر فيما رووه أنهم سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم أو من صحابي سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم . وأما روايتهم عن التابعي فقليلة نادرة ، فقد تتبعت وجمعت لقلتها .
قلت : وقد سردها شيخنا رحمه الله في النكت فأفاد وأجاد ..
ثانيها : القبول مطلقاً في جميع الأعصار والأمصار ، كما قدمنا حكايته ورده .
ثالثها : قبول مراسيل الصحابة رضي الله عنهم فقد ورد ما عداها مطلقاً حكاه عبد الجبار في شرح كتاب العمدة .
قلت : وهو الذي عليه عمل أئمة الحديث . واحتجوا بأن العلماء قد أجمعوا على طلب عدالة المخبر . وإذا روى التابعي عمن لم يلقه لم يكن بد من معرفة الواسطة .
ولم يتقيد التابعون بروايتهم عن الصحابة رضي الله عنهم بل رووا عن الصحابة وغيرهم . ( ولم يتقيدوا ) بروايتهم عن ثقات التابعين بل رووا عن الثقات والضعفاء . فهذه النكتة في رد المرسل قاله بمعناه ابن عبد البر .
وقال صاحب المحصول : (( الحجة في رد المرسل أن عدالة الأصل غير معلومة ، لأنه لم يوجد إلا من رواية الفرع منه .ورواية الفرع عنه لا تكون بمجردها تعديلاً ، لأنهم قد أرسلوا عمن سئلوا عنه فجرحوه أو توقفوا فيه .
قال : وعلى تقدير أن يكون تعديلاً ، فلا يقتضي أن يكون عدلاً في نفس الأمر ، لاحتمال أنه لو سماه لعرف بالجرح فتبين أن العدالة غير معلومة )) .
فإن قيل : إن أردتم نفي العلم القطعي ، فالعلم القطعي بثبوت عدالة الراوي غير مشروط ، بل يكفي غلبة الظن وهي حاصلة لأن ظاهر حال الراوي أنه لما روى عنه وسكت كان عدلاً عنده وإلا كان ذلك قدحاً فيه . وإذا كان معتقداً عدالة من أرسل عنه فالظاهر أنه كذلك في نفس الأمر .
والجواب : المنع بإنه إذا اعتقد عدالته يكون عدلاً في نفس الأمر وسنده عدم التلازم بينهما بل الواقع خلافه .
قال القاضي أبو بكر : (( من المعلوم أن المحدثين لم يتطابقوا على أن لا يحدثوا إلا عن عدل . بل نجد الكثير منهم يحدثون عن رجال ، فإذا سئل الواحد عنهم عن ذلك الرجل قال : لا أعرف حاله بل ربما جزم بكذبه فمن أين يصح الحكم على الراوي أنه لا يرسل إلا عن ثقة عنده )) . انتهى كلامه .
فقد اختار رد المرسل مع كونه مالكياً ، لكن تعليله يقتضي أن من عرف من عادته أو صريح عبارته أنه لا يرسل إلا عن ثقة أنه يقبل . وسيأتي تقرير هذا المذهب آخراً .
وما قاله القاضي صحيح فإن كثيراً من الأئمة وثقوا خلقاً من الرواة بحسب اعتقادهم فيهم وظهر لغيرهم فيهم الجرح المعتبر وهذا بيّن واضح في كتب الجرح والتعديل . فإذا كان مع التصريح بالعدالة فكيف مع السكوت عنها . وقد فتشت كثير من المراسيل فوجدت عن غير العدول . بل سئل كثير منهم عن مشايخهم ، فذكروهم بالجرح كقول أبي حنيفة : ما رأيت أكذب من جابر الجعفي وحديثه عنه موجود .
وقول الشعبي : حدثني الحارث الأعور وكان كذاباً وحديثه عنه موجود . فمن أين يصح الحكم ( على ) الراوي أنه لا يرسل إلا ع ثقة عنده على الإطلاق .
رابعها : قبول مراسيل الصحابة وكبار التابعين .
ويقال : أنه مذهب أكثر المتقدمين . وهو مذهب الشافعي رضي الله عنه لكن شرط في مرسل كبار التابعين أن يعتضد بأحد الأوجه المشهورة .
خامسها : كالرابع لكن من غير قيد بالكبار وهو قول مالك وأصحابه واحدى الروايتين عن أحمد .
سادسها : كالخامس ، لكن بشرط أن يعتضد ونقله الخطيب عن أكثر الفقهاء .
سابعها : إن كان الذي أرسل من أئمة النقل المرجوح إليهم في التعديل والتجريح قبل مرسله وإلا فلا ، وهو قول عيسى بن أبان من الحنفية واختاره أبو بكر الرازي منهم ، وكثير من متأخيرهم والقاضي عبد الوهاب من المالكية ، بل جعله أبو الوليد الباجي شرطاً عند من يقبل المرسل مطلقاً .
ثامنها : قبول مراسيل الصحابة رضي الله عنهم وبقية القرون الفاضلة دون غيرهم وهو محكي عن محمد بن الحسن ويشير إليه تمثيل إمام الحرمين بما قال فيه الشافعي : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم .
تاسعها : كالثامن بزيادة من كان من أئمة النقل أيضاً .
عاشرها : يقبل مراسيل من عرف منه النظر في أحوال شيوخه والتحري في الراوية عنه دون من لم يعرف منه ذلك .
حادي عشرها : لا يقبل المرسل إلا إذا وافقه الإجماع فحينئذ يحصل الاستغناء عن السند ويقبل المرسل قاله ابن حزم في الأحكام .
ثاني عشرها : إن كان المرسل موافقاً في الجرح والتعديل قبل مرسله وإن كان مخالفاً ي شروطها لم يقبل . قاله ابن برهان وهو غريب .
ثالث عشرها : إن كان المرسل عرف من عادته أو صريح عبارته أنه لا يرسل إلا عن ثقة قبل وإلا فلا .
قال الحافظ صلاح الدين العلائي في مقدمة كتاب الأحكام ما حاصله : (( إن هذا المذهب الأخير أعدل المذاهب في هذه المسألة ، فإن قبول السلف للمراسيل مشهور إذا كان المرسل لا يرسل إلا عن عدل . وقد بالغ ابن عبد البر فنقل اتفاقهم على ذلك فقال : لم يزل الأئمة يحتجون بالمرسل إذا تقارب عصر المرسل والمرسل عنه ولم يعرف المرسل بالرواية عن الضعفاء .
ونقل أبو الوليد الباجي الاتفاق في الشق الآخر فقال : (( لا خلاف أنه لا يجوز العمل بالمرسل إذا
كان مرسله غير متحرز يرسل عن الثقات وعن غير الثقات )) .
وهذا وإن كان في صحة نقل الاتفاق من الطرفين نظر فإن قبول مثل ذلك عن جمهورهم مشهور ، وكذا مقابله ففي مقدمة صحيح مسلم عن محمد بن سيرين قال : (( كانوا لا يسألون عن الإسناد فلما وقعت الفتنة سألوا عنه ليتجنبوا رواية أهل البدع )) .
وفيها أيضاً عن ابن عباس رضي الله تعال عنهما أنه أنكر على بشير بن كعب أحد التابعين أحاديث أرسلها وقال : كنا نقبل الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من كل أحد ، فلما ركب الناس الصعب والذلول لم نقبل منه إلا ما نعرف .
وكذا أنكر الزهري على إسحاق بن أبي فروة أحاديث أرسلها فقال : تأتينا بأحاديث لا خطم لها ولا أزمة ألا تسند حديثك ؟ .
ونقل إمام الحرمين أن ذلك مذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه أعني التفصيل السابق فقال : إذا كان المرسل من كبار التابعين وعادته الرواية عن الدل فليس بحجة وإن لم يرو إلا عن العدل فحجة . قال : ولذلك قبل الشافعي مراسيل سعيد بن المسيب ، لأنه تفرد بهذه المزية .
قلت : وهذا مقتضى ما علل به الشافعي قبوله لمراسيل سعيد فإنه قال في جواب سائل سأله فقال له : كيف قبلتم عن ابن المسيب منقطعاً ولم تقبلوه عن غيره ؟ فقال : لأنا لا نحفظ لسعيد منقطعاً إلا وجدنا ما يدل على تسديده ولا أثره عن أحد عرفنا عنه إلا عن ثقة معروف . فمن كان بمثل حاله أحببنا قبول مرسله .
فهذا يدل على أنه قبل مراسيل سعيد بن المسيب ، لكونه كان لا يسمي إلا (عن) ثقة ، وأما غيره ، فلم يتبين له ذلك منه ، فلم يقبله مطلقاً وأحال الأمر في قبوله على وجود الشرط المذكور .
وقال الغزالي في (( المستصفى )) :
(( المختار على قياس رد المرسل أن التابعي إذا عرف بصريح خبره أو عادته أنه يروي إلا عن صحابي قبل مرسله وإلا فلا ، لأنهم قد يروون عن غير الصحابة رضي الله عنهم )) .
قلت : (ويؤيد) ذلك نقل ابن حبان الاتفاق على قبوله عنعنة سفيان بن عيينة ، مع أنه كان يدلس ، لكنه كان مع ذلك لا يدلس إلا عن ثقة ، فقبلوا عنعنته لذلك . وقد تقدم عن القاضي أبي بكر وغيره ما يعضد ذلك والله أعلم . وبهذا المذهب يحصل الجمع بين الأدلة (لطرفي) القبول والرد والله أعلم .
[ أسباب الإرسال : ]
فإن قيل : فما الحامل لمن كان لا يرسل إلا عن ثقة على الإرسال ؟ قلنا : إن لذلك أسباباً منها :
أن يكون سمع الحديث عن جماعة ثقات وصح عنده ، فيرسله اعتماداً على صحته عن شيوخه . كما
صح عن إبراهيم النخعي أنه قال : ما حدثتكم عن ابن مسعود رضي الله عنه فقد سمعته من غير واحد
وما حدثتكم فسميت فهو عمن سميت .
ومنها : أن يكون نسي من حدثه به وعرف المتن ، فذكره مرسلاً لأن أًل طريقته أنه لا يحمل إلا عن ثقة .
ومنها : أن لا يقصد التحديث بأن يذكر الحديث على وجه المذاكرة أو على جهة الفتوى ، فيذكر المتن ، لأنه المقصود في تلك الحالة دون السند ولا سيما إن كان السامع عارفاً بمن طوى لشهرته أو غير ذلك من الأسباب . وهذا كله في حق من لا يرسل إلا عن ثقة .
وأما من كان يرسل عن كل أحد فربما كان الباعث له على الإرسال ضعف من حدثه ، لكن هذا يقتضي القدح في فاعله لما تترتب له عليه من الخيانة والله أعلم .
فإن قيل : فهل عرف أحد غير ابن المسيب لا يرسل إلا عن ثقة . قلنا : نعم . فقد صحح الإمام أحمد مراسيل إبراهيم النخعي لكن خصه غيره بحديثه عن ابن مسعود رضي الله عنه كما تقدم . وأما مراسيله عن غيره ، فقال يحيى القطان : (( كان شعبة مرسل إبراهيم النخعي عن علي رضي الله عنه .
وقال يحيى بن معين : مراسيل إبراهيم النخعي صحيحه إلا حديث تاجر البحرين وحديث القهقهة ))
قلت : وحديث القهقهة مشهور رواه الدار قطني وغيره من طريقه . وقد أطنب البيهقي في الخلافيان في ذكر طرقه وعلله .
وأما حديث تاجر البحرين ، فأشار به إلى ما رواه أبو بكر بن أبي شيبة في (( مصنفه )) عن وكيع عن الأعمش ، عن إبراهيم النخعي قال : إن رجلاً قال يا رسول الله ! إني رجل تاجر اختلف إلى البحرين فأمره أن يصلي ركعتين .
وقال البيهقي : (( من المعلوم أن إبراهيم ما سمع من أحد من الصحابة فإذا حدث عن النبي صلى الله عليه وسلم يكون بينه وبينه اثنان أو أكثر فيتوقف في قبوله من هذه الحثيثة ، وأما إذا حدث عن الصحابة ، فإن كان ابن مسعود رضي الله عنه فقد صرح هو بثقة شيوخه عنه وأما عن غيره فلا والله أعلم . وصحح ابن عبد البر مراسيل محمد بن سيرين قال : (( لأنه كان يتشدد في الأخذ ولا يسمع إلا من ثقة )) .
وقوى يحيى القطان مراسيل سعيد بن جبير ومراسيل عمرو بن دينار . والمحفوظ عن كثير من الأئمة في مقابل ذلك شئ كثير لا يسعه هذا المختصر ومن أراد التبحر في ذلك فليراجع مختصري لتهذيب الكمال والله الموفق .
[ هل يجوز تعمد الإرسال : ]
فإن قيل : هل يجوز تعمد الإرسال أو يمنع ؟
قلنا : لا يخلو المرسل أن يكون شيخ من أرسل الذي حدث به :
(أ) عدلاً عنده وعند غيره .
(ب) أو غير عدل عنده وعند غيره .
(ج) أو عدلاً عنده لا عند غيره .
(د) أو غير عدل عنده عدلاً عند غيره .
هذه أربعة أقسام :
الأول : جائز بلا خلاف .
والثاني : ممنوع بلا خلاف .
وكل من الثالث والرابع يحتمل الجواز وعدمه . وتردد بينهما بحسب الأسباب الحاملة عليه والله سبحانه وتعالى أعلم .
31- قوله (ع) : (( وما ذكر في حق من سمى من صغار التابعين أنهم لم يلقوا من الصحابة رضي الله عنهم إلا الواحد والاثنين ليس بصحيح بالنسبة إلى الزهري )) .
قلت : تمثيله بالزهري في صغار التابعين صحيح . فإنه لا يلزم من كونه لقي كثيراً من الصحابة رضي الله تعالى عنهم أن يكون من لقيهم من كبار الصحابة حتى يكون هو من كبار التابعين فإن جميع من سموه من مشايخ الزهري من الصحابة كلهم من صغار الصحابة أو ممن لم يلقهم الزهري وإن كان روى عنهم أو ممن لم تثبت له صحبة ، وإن ذكر في الصحابة أو من ذكر فيهم بمقتضى مجرد الرؤية ولم يثبت له سماع ، فهذا حكم جميع من ذكر من الصحابة في مشايخ الزهري إلا أنس بن مالك رضي الله عنه وإن كان من المكثرين ، فإنما لقيه ، لأنه عمر وتأخرت وفاته .
ومع ذلك فليس الزهري من المكثرين عنه ، أيضاً عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه فتبين أن الزهري ليس من كبار التابعين لا كلهم ، لأن أكثرهم مات قبل أن يطلب هو العلم . وهذا بين لمن نظر في أحوال الرجال والله الموفق .
65- قوله (ص) : (( وأبي حازم )) .
اعترض عليه مغلطاي وتبعه شيخنا شيخ الإسلام في (( محاسن الاصطلاح )) بأنه ليس من صغار التابعين ، فإنه سمع من الحسن بن علي بن أبي طالب وأبي هريرة وعبد الله بن عمر وغيرهم رضي الله تعالى عنهم .
قلت : وهو اعتراض فيه نظر ، لأن ابن الصلاح إنما أراد أبو حازم سلمة بن دينار المدني وهو لم يلق من الصحابة سوى سهل بن سعد وأبي أمامة ابن سهل رضي الله تعالى عنهما فقط ، وأرسل عن من لم يلقه من الصحابة ، وجل روايته عن التابعين وأما الذي سمع من الحسن بن علي رضي الله عنهما فهو أبو حازم الأشجعي مولى عزة واسمه : سلمان وهو من مشايخ الزهري وإنما حصل الاشتباه لأن المصنف لم يذكر أبا حازم سلمة بصفة تميزه عن أبي حازم سلمان لكن قرائن الحال ( تقضي ) أنه إنما
عناه ولو لم يكن إلا في تقديمه الزهري عليه في الذكر ، فإن أبا حازم الأشجعي في منزلة شيوخ
الزهري في الطبقة والله أعلم .
66- قوله (ص) : (( وهذا المذهب فرع لمذهب من لا يسمي المنقطع مرسلاً )) .
يعني مذهب من بعد رواية صغار التابعين منقطعة . اعترض عليه شيخنا شيخ الإسلام فقال : (( هذا فيه نظر بل هو أصل يتفرع عليه ما ذكر أنه يتفرغ منه )) .
وأقول : وهذا من ( مشترك الإلزام ) .
ويظهر لي أن ابن الصلاح لما رأى كثرة القائلين من المحدثين بأن المنقطع لا يسمى مرسلاً ، لأن المرسل يختص بما ظن منه سقوط الصحابي فقط جعل قول من قال منهم : إن رواية التابعي الصغير إنما تسمى منقطعة لا مرسلة مفرعاً عنه ، لأنه مما يظن ( أنه سقط ) منه الصحابي والتابعي أيضاً .
فإن قيل : فعلى هذا كان ينبغي لهم تسميته معضلاً لا منقطعاً كما سيأتي في تعريف المعضل أنه الذي سقط منه اثنان فصاعداً .
قلنا : ذاك حيث يتحقق ذلك أما مع الاحتمال فلا يسمى معضلاً . والتحرير أنه لا يسمى منقطعاً أيضاً فرجع إلى قول جمهورهم أنه لا فرق بين التابعي الكبير والصغير في إطلاق اسم الإرسال على مروي كل منهما والله أعلم .
[ هل سمي الإسناد منقطعاً إذا كان فيه مبهم : ]
67- قوله (ص) : (( إذا قيل في الإسناد عن رجل أو عن شيخ ونحوه . فالذي ذكره الحاكم أنه لا يسمى مرسلاً بل منقطعاً )) .
فيه أمران :
أحدهما : أنه لم ينقل كلام الحاكم على وجهه بل أخلّ منه بقيد وذلك أن كلام الحاكم يشير إلأى تفصيل فيه وهو : إن كان لا يروى إلا من طريق واحدة مبهمة ، فهو يسمى منقطعاً . وإن كان روي من طريق مبهمة وطريق مفسرة ، فلا تسمى منقطعة لمكان الطريق المفسرة . وذلك لأنه قال في نوع المنقطع : (( وقد يروى الحديث وفي إسناده رجل ليس بمسمى فلا يدخل في المنقطع ، مثاله : رواية سفيان الثوري عن داود بن أبي هند قال : حدثنا شيخ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي عل الناس زمان يخير الرجل فيه بين العجز والفجور فمن أدرك ذلك الزمان فليختر العجز )) .
قال : ورواه وهب بن خالد وعلي بن عاصم عن داود بن أبي هند قال : حدثني رجل من جديلة يقال له : أبو عمرو عن أبي هريرة رضي الله عنه به .
قال الحاكم : (( فهذا النوع الوقوف علي متعذر إلا على الحفاظ المتبحرين )) .
قلت : فتبين بهذه الرواية المفسرة أنه لا انقطاع في رواية سفيان وأما إذا جاء في رواية واحدة مبهمة
فلم يتردد الحاكم في تسميته منقطعاً وهو قضية صنيع أبي داود في (( كتاب المراسيل )) وغيره .
الثاني : لا يخفى أن صورة المسألة أن يقع ذلك من غير التابعي أما لو قال التابعي عن رجل ، فلا يخلو إما أن يصفه بالصحبة أم لا . إن لم يصفه بالصحبة فلا يكون ذلك متصلاً لاحتمال أن يكون تابعياً آخر بل هو مرسل على بابه . وإن وصفه بالصحبة ، فقد حكى شيخنا كلام أبي بكر الصيرفي في ذلك وأقره . وفيه نظر لأن التابعي إذا كان سالماً من التدليس عنعنته على السماع وإن قلت هذا إنما يتأتى في [حق] كبار التابعين الذي جل روايتهم عن الصحابة بلا واسطة ، وأما صغار التابعين الذي جل روايتهم عن التابعين فلا بد من تحقق إدراكه لذلك الصحابي والفرض أنه لم يسمعه حتى يعلم هل أدركه أم لا ؟ فينقدح صحة ما قال الصيرفي .
قلت : سلامته من التدليس كافية في ذلك إن مدار هذا على قوة الظن به وهي حاصلة في هذا المقام والله أعلم .
32- قوله (ع) : (( بل زاد البيهقي ، فجعل ما رواه التابعي عن رجل من الصحابة لم يسم مرسلاً وليس هذا بجيد منه ، اللهم إلا أن كان يسميه مرسلاً ، ويجعله حجة كمراسل الصحابة رضي الله عنهم فهو قريب )) .
قلت : يريد شيخنا أن يجعل الخلاف من البيهقي لفظياً وهو توجيه جيد وقد صرح البيهقي بذلك في (( كتاب المعرفة )) في الكلام على القراءة خلف الإمام ، لكنه خالف ذلك في (( كتاب السنن )) فقال : في حديث حميد عن عبد الرحمن الحميري حدثني رجل من أًحاب النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن الوضوء بفضل المرأة : (( هذا حديث مرسل )) .
أورد ذلك في معرض رده معتذراً عن الأخذ به ولم يعلله إلا بذلك وهذا مصير منه إلى أن عدم تسمية الصحابي يضر في اتصال الإسناد . فإن قيل : هذا خاص فكيف يستنبط منه العموم في كل ما هذا سبيله ؟
قلت : لأنه لم يذكر للحديث علة سوى ذلك ولو كن له علة غير هذا لبينها ، لأنه في مقام البيان . وقد بالغ صاحب الجوهر النقي في الإنكار على البيهقي بسبب ذلك وهو إنكار متجه والله أعلم .
68- قوله (ص) : (( حكم المرسل حكم الحديث الضعيف )) .
اعترض عيله بأنه قرر في النوع الأول أن البخاري إذا هلق الحديث جازماً على من علقه دل على صحة الإسناد بينه وبين من علقه عنه .
وقضية ذلك أن من يجزم من أئمة التابعين عن النبي صلى الله عليه وسلم بحديث يستلزم صحة ما بينه وبينه ، فكيف أطلق بالضعف على جميع المراسيل ؟
والجواب : أن يقال : إنما اختص البخاري بذلك ، لأنه التزم الصحة في كتابه بخلاف غيره من أئمة
التابعين ، فإنهم لم يلتزموا ذلك ، فلا يقال : لم يطرد المصنف ذلك في حق البخاري ، لأنه قال فيما
أورده في كتابه بضيغة التمريض أن ليس فيه حكم بالصحة على من علقه عنه ، لأنا لا نسلم ذلك له ، بل كل ما أورده البخاري في كتابه مقبول إلا أن درجاته متفاوتة في الصحة ولتفاوتها خالف بين العبارتين في الجزم والتمريض إلا في مواضع يسيرة جداً أوردها وتعقبها بالتضعيف أو التوقف في صحتها كما سبق موضحاً والله أعلم .
69- قوله (ص) : (( إلا أن يصح مخرجه بمجيئه من وجه آخر )) … إلى آخره .
قد استنكر هذا جماعة من الحنفية ومال معهم طائفة من الأصوليين كالقاضي أبي بكر وطائفة من الشافعية . وحجتهم ن الذي يأتي من وجه إما أن يكون مرسلاً أو مسنداً . إن كان مرسلاً فيكون ضعيف انضم إلى ضعيف فيزداد ضعفاً . وجواب هذا ظاهر على قواعد المحدثين على ما مهدناه في الكلام على الحديث الحسن .
وحاصله : أن المجموع حجة لا مجرد المرسل وحده ولا المنضم وحده فإن حالة الاجتماع تثير ظناً وهذا شأن لكل ضعيفين اجتمعا كما تقدم . ونظيره خبر الواحد إذا اختفت به القرائن يفيد العلم عند قوم كما تقدم .
ومع أنه لا يفيد ذلك بمجرده ولا القرائن بمجردها . قالوا : وإن كان مسنداً فالاعتماد عليه فيقع المرسل لغواً وقد قوى ابن الحاجب الإيراد الثاني . وقد أجاب عنه المصنف بقوله : أنه بالمسند يتبين صحة الإسناد الذي فيه الإرسال حتى يحكم له مع إرساله بكووه صحيحاً . وأجاب عنه الشيخ محي الدين بجواب آخر ذكره شيخنا وهو أنه يفيد [قوة] عند التعارض .
قلت : وظهر لي جواب آخر وهو : أن المراد بالمسند الذي يأتي من وجه آخر ليعضد المرسل ليس هو المسند الذي يحتج ه على انفراده . بل هو الذي يكون فيه مانع من الاحتجاج به على انفراده مع صلاحيته للمتابعة . فإذا وفقه مرسل لم يمنع من الاحتجاج به لا إرساله عضد كل منهما الآخر ، وتبين بهذا أن فائدة مجئ هذا المسند لا يستلزم أن يقع المرسل لغواً والله الموفق .
وقد كنت أتبجح بخذا الجواب وأظن أنني لم أسبق إلى تحريره حتى وجدت نحوه في المحصول للإمام فخر الدين . فإذا ذكر هذه المسألة ثم قال : (( خذا في سند لم تقم به الحجة في إسناده )) .
قلت : فازددت لله شكراً على هذا الوارد والله الموفق .
70- قوله (ص) : (( وما ذكرناه من سقوط الاحتجاج بالمرسل هو المذهب الذي استقر عليه آراء جماهير حفاظ أهل الحديث )) … إلى آخره .
اعترض عليه مغلطاي بأن أبا جعفر محمد بن جرير الطبري ذكر أن التابعين أجمعوا بأسرهم على قبول المرسل ولم يأت عنهم إنكاره ولا عن أحد من الأئمة بعدهم إلى رأس المائتين .
قال ابن عبد البر : يشير أبو جعفر بذلك إلى الشافعي رضي الله تعالى عنه انتهى .
وكذا نقل ابن الحاجب في مختصره إجماع التابعين على قبول المرسل ، لكنه مردود على مدعيه ، ، فقد قال سعيد بن المسيب وهو من كبار التابعين : إن المرسل ليس بحجة .
نقله عنه الحاكم ، وكذا تقدم نقله عن محمد بن سيرين وعن الزهري وكذا كان يعيبه شعبة وأقرانه والآخذون عنه كيحيى القطان وعبد الرحمن بن مهدي وغير واحد وكل هؤلاء قبل الشافعي . ونقله الترمذي عن أكثر أهل الحديث .
وكذا ما وقع في رسالة أبي داود إلى أهل مكة في وصف السنن قال : (( وأما المراسيل ، فقد كان يحتج بها العلماء فيما مضى مثل سفيان الثوري ومالك والأوزاعي حتى جاء الشافعي فتكلم فيه وتابعه على ذلك أحمد بن حنبل وغيره )) .
قلت : فبان أن دعوى الإجماع مطلقاً أو إجماع التابعين مردودة . وغايته أن الاختلاف كان من التابعين ومن بعدهم . وما نقله أبو داود عن مالك ومن معه معارض بما نقلناه عن شعبة ومن معه ، ولم يزل الخلاف موجوداً ، لكن المشهور عن أهل الحديث خاصة عدم القول بالمرسل والله أعلم .
تنبيه
تقدم النقل عن ابن عبد البر وغيره أن من قال بالمرسل لا يقول به على الإطلاق ، بل شرطه أن يكون المرسل ممن يحترز في الرواية ، أما من كان يكثر الرواية عن الضعفاء أو عرف من شأنه أنه يرسل عن الثقات والضعفاء ، فلا يقبل مرسله مطلقاً . وممن حكاه أيضاً أبو بكر الرازي من الحنفية .
وهذا وارد على إطلاق المصنف النقل عن المالكية والحنفية أنهم يقبلون المرسل مطلقاً ، وكذا نقل الحاكم عن مالك أن المرسل عنده ليس بحجة ، وهو نقل مستغرب ، والمشهور خلافه والله أعلم .
ثم لا يخفى أن محل قبول المرسل عند من يقبله إنما هو حيث يصح باقي الإسناد أما إذا اشتمل على علة أخرى فلا يقبل ، فهذا واضح ولم يذكر المصنف مذهب أحمد بن حنبل في المرسل والمشهور عنه الاحتجاج به لأنه في رسالة أبي داود كما ترى أن أحمد وافق الشافعي على عدم الاحتجاج به . واقتضى إطلاق المصنف النقل عن المالكية والحنفية أنهم ( يقبلونه ) مطلقاً وليس كذلك ، فإن عيسى بن أبان وابن الساعاتي وغيرهما من الحنفية وابن الحاجب ومن تبعه من المالكية لا يقبلون منه إلا ما أرسله إمام من أئمة النقل ، بل رده القاضي الباقلاني مطلقاً ونازع في قبوله إذا اعتضد أيضاً .
وقال : الصواب رده مطلقاً وهو من أئمة المالكية والله أعلم .
33- قوله (ع) : (( بل الصواب أن يقال : لأن أكثر رواياتهم يعني الصحابة عن الصحابة رضي الله عنهم إذ قد سمع جماعة من الصحابة من بعد التابعين )) .
قلت : وهو تعقب صحيح ، لكن ألزم بعض الحنفية من يرد المرسل بأنه يلزم على أصلهم عدم قبول مراسيل الصحابة رضي الله تعالى عنهم .
وتقرير ذلك أنه إذا لم يعلم أنه سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم احتمل أن يكون سمعه منه أو من
صحابي آخر أو من تابعي ثقة أو من تابعي ضعيف فكيف يجعل حجة والاحتمال قائم ؟
والانفصال عن ذلك أن يقال : قول الصحابي : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ظاهر في أنه سمعه منه أو من صحابي آخر ، فالاحتمال أن يكون سمعه من تابعي ضعيف نادر جداً لا يؤثر في الظاهر ، بل حيث رووا عن من هذا سبيله وأوضحوه .
وقد تتبعت روايات الصحابة رضي الله عنهم عن التابعين وليس فيها من رواية صحابي عن تابعي ضعيف في الأحكام شئ يثبت فهذا يدل على ندور أخذهم عن من يضعف من التابعين والله أعلم .
34- قوله (ع) : (( فإن المحدثين وإن ذكروا مراسيل الصحابة رضي الله عنهم فإنهم لم يختلفوا في الاحتجاج بها )) .
قلت : في إطلاق هذا النفي عن المحدثين نظر . فإن أبا الحسن ابن القطان صاحب (( بيان الوهم والإيهام )) منهم وقد رد أحاديث من مراسيل عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم ليست لها علة إلا ذلك .
منها : حديث جابر في صلاة جبريل عليه الصلاة والسلام بالنبي صلى الله عليه وسلم وغير ذلك والله أعلم .
35- قوله (ع) : (( ودعوى الاتفاق مردود بقول الأستاذ أبي إسحاق رحمه الله )) .
قلت : قد صرح غيره بأن الاتفاق كان حاصلاً قبل الأستاذ فجعل الأستاذ محجوباً بذلك . وفي ذلك نظر ، فقد قدمنا قبل في الكلام على المرسل عن جماعة من أئمة الأصول بما يقتضي موافقة الأستاذ وفيهم من هو قبله ، فلم ينفرد بذلك في الجملة والله أعلم .
النوع العاشر : المنقطع
71- قوله (ص) : بعد أ ذكر في أمثلة المنقطع رواية عبد الرزاق عن الثوري عن أبي إسحاق … الحديث .
فهذا الإسناد إذا تأمله ظنه متصلاً إلى آخره وفيه أمران :
1-أحدهما : أن هذا المثال إنما يصلح للحديث لمدلس لأنه كل راو من رواته قد لقي فيه وسمع منه وإنما طرأ الانقطاع فيه من قبل التدليس .والأولى في مثال المنقطع أن يذكر ما انقطاعه فيه من عدم اللقاء كمالك عن ابن عمر رضي الله عنهما ، والثوري عن إبراهيم النخعي وأمثال ذلك .
2- الثاني : قوله : : أن الحديثي إذا تأمله ظنه متصلاً يريد بقوله الحديثي المبتدي في طلب الحديث . وقد ظن بعضهم أنه أراد به المحدث ، فقال : كان ينبغي أن يقول : غير الحديثي ، لأن المحدث إذا نظر في إسناد فيه مدلس قد عنعنة لم يحمله على الاتصال من أجل التدليس فالأليق حمل كلامه على
أنه أراد الحديثي المبتدي والله أعلم .
72- قوله (ص) : (( ومنها : ما حكاه الخطيب عن بعض أهل العلم بالحديث أن المنقطع ما روي عن التابعي أو من دونه مرفوعاً عليه )) .
قلت : والمبهم المذكور هو : الحافظ أبو بكر : أحمد بن إبراهيم البرديجي ، ذكر ذلك في جزء له لطيف تكلم فيه على المرسل والمنقطع .
وفات المصنف من حكاية في المنقطع ما قاله أبو الحسن ألكيا الهراسي في تعليقه ، فإنه ذكر فيه : أن مصطلح المحدثين أن المنقطع ما يقول فيه الشخص : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير إسناد أصلاً .
والمرسل : ما يقول فيه حدثني فلان عن رجل .
قال ابن الصلاح في فوائد رحلته : هذا لا يعرف عن أحد من المحدثين ولا عن غيرهم وإنما هو من كيسه والله أعلم . ثم إن المصنف لم يتعرض لحكم المنقطع كما تعرض لحكم المرسل وحكاية الخلاف في قبوله ورده .
وقد قال ابن السمعاني : (( من منع من قبول المرسل ، فهو أشد منعاً لقبول المنقطعات ، ومن قبل المراسيل اختلفوا )) .
قلت : وهذا على مذهب من يفرق بين المرسل والمنقطع ، أما من يسمي الجميع مرسلاً على ما سبق تحريره فلا والله أعلم .
وكذلك لم يذكر المصنف مادرك الانقطاع ، وقد ذكر منه شيئاً في (( النوع الثامن والثلاثين )) وهو : المراسيل الخفي إرسالها وسأذكر ذلك هناك إن شاء الله والله أعلم .
النوع الحادي عشر : المعضل
73- قوله(ص):المعضل اصطلاحاً : (( وهو عبارة عما سقط منه اثنان فصاعداً … إلى آخره )) .
قلت : وجدت التعبير بالمعضل في كلام الجماعة من أئمة الحديث فيما لم يسقط منه شئ البتة . فمن ذلك : ما قال محمد بن يحيى الذهلي في الزهريات :
حدثنا أبو صالح الهراني ثنا ابن ليهعة عن يزيد بن أبي حبيب عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قال : (( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف فيمر بالمريض فيسلم عليه ولا يقف )) قال الذهلي : هذا حديث معضل لا وجه له إنما هو فعل عائشة رضي الله تعالى عنه ليس للنبي فيه ذكر والوهم فيما نرى من ابن ليهعة )) .
ومن ذلك : قال النسائي في اليوم والليلة :
ثنا يزيد بن سنان ثنا مكي بن إبراهيم ، عن مالك ، عن نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال : (( متعتانكانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم … )) الحديث .
قال النسائي : هذا حديث معضل لا أعلم من رواه غير مكي ، لا بأس به ، لا أدري من أنبأني به . ومن ذلك قال أبو إسحاق : إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني في ترجمة ضبارة بن عبد الله أحد الضعفاء : (( روى حديثاً معضلاً (( وهو متصل الإسناد .
وقال ابن عدي في ترجمة زهير بن مرزوق في (( الكامل )) :
قال ابن معين : (( لا أعرفه )) .
قال : وإنما قال ابن معين ذلك لأنه ليس له إلا حديث واحد معضل وساقه ، وإسناده متصل . وقال الحاكم أبو أحمد في ترجمة الوليد بن محمد الموقري : (( كتبنا له عن المسيب بن واضح أحاديث مستقيمة ، ولكنه حاجب ابن الوليد وعلي بن حجر حدثنا عنه بأحاديث معضلة .
وقال ابن عبد البر في حديث رواه عبد الجبار أحمد السمرقندي عن محمد بن عبد الله المنقري عن ابن عيينة عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً : (( من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه )) . لا مدخل لسعيد ولا لأبي هريرة رضي الله تعالى عنه في هذا الحديث ، وإنما رواه الزهري عن علي بن الحسين رضي الله عنهما وهذا مما أخطأ فيه عبد الجبار وأعضله .
قال أبو الفتح الأزدي في ترجمة محمد بن عبد الله بن زياد الأنصاري : (( روى عن مالك بن دينار معاضيل )) . ونسخة هذا الرجل هي عن مالك بن دينار عن أنس رضي الله تعالى عنه وغيره ولا انقطاع فيها .
فإذا تقرر هذا فإما أن يكونوا يطلقون المعضل لمعنيين ، أو يكون المعضل الذي عرف به المصنف وهو المتعلق بالإسناد بفتح الضاد ، وهذا الذي نقلناه من كلام هؤلاء الأئمة بكسر الضاد ويعنون به المستغلق الشديد . وفي الجملة فالتنبيه على ذلك كان متعيناً .
فإن قيل : فمن سلف المصنف في نقله أن هذا النوع يختص بما سقط من إسناده اثنان فصاعداً ؟
قلنا : سلفه في ذلك علي بن المديني ومن تبعه . وقد حكاه الحاكم في علوم الحديث عنهم . فإنهم قالوا : المعضل : أن يسقط بين الرجل وبين النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من رجل والفرق بينه وبين المرسل مختص بالتابعين دون غيرهم والله الموفق .
74- قوله (ص) : (( ولا التفات في ذلك إلى معضل بكسر الضاد )) .
اعترض عليه مغلطاي بماء على ما فهمه من كلامه أن مراده نفي جواز استعمال معضل بكسر الضاد فقال : (( كأنه يريد أن كسر الضاد ليس غريباً . وليس كذلك فإن صاحب الموعب حكاها . وفي الأفعال : عضل الشئ عضلاً : أعوج يعني فهو معضل )) .
قلت : ولم يدر ابن الصلاح نفي ذلك مطلقاً ، وإنما أراد أنه لا يؤخذ منه معضل بفتح الضاد ، لأن معضل بكسر الضاد من باعي قاصر والكلام إنما هو في رباعي متعد .
وعضيل : يدل عليه ، لأنه فعيلاً بمعنى مفعل إنما يستعمل في المتعدي . وقد فسر عضيل بمستغلق بفتح
اللام فتبين أنه رباعي نتعد وذلك يقتضي صحة قولنا معضل بفتح الضاد ، وهو المقصود . فكذا قرره شيخنا شيخ الإسلام .
ثم قال : (( وفي الجملة فالأحسن أن يكون من أعضلته إذا صيرت أمره معضلاً )) .
قلت : فكأن المحدث الذي حدث به على ذلك الوجه أعضله فصار معضلاً ، وبهذا التقرير يندفع الإشكال والله أعلم .
75- قوله (ص) : (( وإذا روى تابع التابع عن التابع حديثاً موقوفاً وهو متصل مسند … إلى آخره .
مراده بذلك تخصيص هذا القسم الثاني من قسمي المعضل بما اختلف الرواة فيه على التابعي ، بأن يكون بعضهم وصله مرفوعاً ، وبعضهم وقفه على التابعي . بخلاف القسم الأول ، فإنه أعم من أن يكون له إسناد آخر متصل أم لا .
تنبيه
قال الجوزجاني في مقدمة كتابه في الموضوعات :
(( المعضل أسوأ حالاً من المنقطع ، والمنقطع أسوأ حالاً من المرسل والمرسل لا تقوم به حجة )) .
قلت : وإنما يكون المعضل أسوأ حالاً من المنقطع إذا كان الانقطاع في موضع واحد من الإسناد ، وأما إذا كان في موضعين أو أكثر ، فإنه يساوي المعضل في سوء الحال والله تعالم أعلم .
36- قوله (ع) : (( وقد استشكل كون هذا الحديث معضلاً لجواز أن يكون الساقط بين مالك وبين أبي هريرة رضي الله تعالى عنه واحداً … إلى آخره .
أقول : بل السياق يشعر عدم السقوط ، لأن ( معنى ) قوله بلغني يقتضي ثبوت مبلغ فعلي متصل في إسناده مبهم لا أنه منقطع .
وقول الشيخ في الجواب : (( إنا عرفنا منه سقوط اثنين )) فيه نظر على اختياره ، لأنه يرى أن الإسناد الذي فيه مبهم لا يسمى منقطعاً كما صرح به ، فعلى هذا لم يسقط من الإسناد بعد التبين سوى واحد .
وأما أبو نصر الذي نقل أنه يسمى معضلاً ، فجرى على طريقة من يسمي الإسناد إذا كان فيه بهم منقطعاً والله أعلم .
37- قوله أ (ع) : (( في الإسناد المعنعن والصحيح أنه من قبيل الإسناد المتصل وكاد أبو عمر ابن عبد البر أن يدعي إجماع أئمة النقل على ذلك )) .
إنما عبر هنا بقوله : كاد ، لأن عبد البر إما جزم بإجماعهم على قبوله ، ولا يلزم منه إجماعهم على أنه من قبيل المتصل .
76- قوله ب (ص) : (( فيه : وادعى أبو عمرو الداني إجماع أهل النقل على قبوله )) .
قلت : إنما أخذه الداني من كلام الحاكم ، ولا شك أن نقله عنه أولى لأنه من أئمة الحديث ، وقد صنف في علومه وابن الصلاح كثير النقل من كتابه ، فالعجب كيف نزل عنه إلى النقل عن الداني .
قال الحاكم : (( الأحاديث المعنعنة التي ليس فيها تدليس متصلة بإجماع أئمة النقل )) . وأعجب من ذلك أن الخطيب قاله في الكفاية التي (هي) معول المصنف في هذا المختصر ، فقال : أهل العلم مجمعون ععلى أن قول المحدث : حدثنا عن فلان صحيح معمول به إذا كان شيخه الذي ذكره يعرف أنه قد أدرك الذي حدث عنه ولقيه وسمع منه ، ولم يكن هذا المحدث مدلساً .
( ولا يعلم أنه يستجيز ) إذا حدثه عن بعض من أدركه حديثاً نازلاً فسمى بينهما في الإسناد من حدثه به أن يسقط شيخ شيخه ويروي الحديث عالياً بعد أن يسقط الواسطة .
قلت : ومراد الخطيب بهذا الاحتراز أن لا يكون المعنعن مدلساً ولا مسوياً ، لكن في نقل الإجماع بعد هذا كله نظر ، فقد ذكر الحارث المحاسبي وهو من أئمة الحديث والكلام في كتاب سماه (( فهم السنن )) ما ملخصه : أن أهل العلم اختلفوا فيما يثبت به الحديث على ثلاثة أقوال :
1- الأول : أنه لا بد أن يقول كل عدل في الإسناد : حدثني أو سمعت إلى أن ينتهي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فإذا لم يقولوا كلهم ذلك أو لم يقله بعضهم ، فلا يثبت ، لأنهم عرف من عادتهم الرواية بالعنعنة فيما لم يسمعوه .
2- الثاني : التفرقة بين المدلس وغيره ، فمن عرف لقيه وعدم تدليسه قبلا وإلا فلا .
3- الثالث : من عرف لقيه وكان يدلس لكن كان لا يدلس إلا عن ثقة وإلا فلا .
ففي حكاية القول الأول خدش في دعوى الإجماع السابق إلا أن يقال أن الإجماع راجع إلى ما استقر عليه الأمر بعد انقراض الخلاف السابق فيخرج على المسألة الأصولية في قبول الوفاق بعد الخلاف . ومع ذلك فقد قال القاضي أبو بكر ابن الباقلاني : (( إذا قال الصحابي رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا أو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال كذا أو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كذا ، لم يكن ذلك صريحاً في أنه سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم بل هو محتمل لأن يكون قد سمعه منه أو من غيره عنه .
فقد حدث جماعة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم بأحاديث ، ثم ظهر أنه سمعوها من بعض الصحابة رضي الله عنهم .
قلت : وهذا بعينه هو البحث في مرسل الصحابي رضي الله تعالى عنه وقد قدمت ما فيه ، وأن الجمهور على جعله حجة .
وإنما الكلام هنا في أن العنعنة ولو كانت من غير مدلس هل تقتضي السماع أم لا فكلام القاضي يؤيد ما نقله الحارث المحاسبي عن أهل القول الأول والله أعلم .
تنبيه
حاصل كلام المصنف أن للفظ (( عن )) ثلاثة أحوال :
1- أحدها : أنها بمنزلة حدثنا وأخبرنا بالشرط السابق .
2- الثاني :أنه ليست بتلك المنزلة إذا صدرت عن مدلس وهاتان (الحالتان) مختصتان بالمتقدمين .
وأما المتأخرون وهو من بعد الخمسمائة وهلم جرا فاصطلحوا في الكلام عليها للإجازة ، فهي بنزلة أخبرنا ، لكنه إخبار جملي كما سيأتي تقريره في الكلام على الإجازة ، وهذه هي الحالة الثالثة . ولأجل هذا قال المصنف : لا يخرجها ذلك (من) قبيل الاتصال ، إلا أن الفرق بينهما وبين الحالة الأولى مبني على الفرق فيما بين السماع والإجازة ، لكون السماع أرجح والله أعلم .
وإذا تقرر هذا فقد فات المصنف حالة أخرى لهذه اللفظة وهي خفية جداً قل من نبه عليها ، بل لم ينبه عليها أحد من المصنفين في علوم الحديث مع شدة الحاجة إليها وهي أنها ترد ولا يتعلق بها حكم باتصال ولا انقطاع بل يكون المراد بها سياق قصة سواء أدركها الناقل أو لم يدركها ويكون هناك شئ محذوف مقدر ومثال ذلك :
ما أخرجه ابن أبي خيثمة في (( تأريخه )) عن أبيه قال : ثنا أبو بكر بن عياش : ثنا أبو إسحاق عن أبي الأحوص أنه خرج عليه خوارج فقتلوه . فهذا لم يرد أبو إسحاق بقوله عن أبي الأحوص أنه أخبره به وإنما فيه شئ محذوف تقديره عن قصة أبي الأحوص أو عن شأن أبي الأحوص أو ما أشبه ذلك ، لأنه لا يمكن أن يكون أبو الأحوص حدثه بعد قتله .
ونظير ذلك : ما رواه ابن مندة في المعرفة في ترجمة معاوية بن معاوية الليثي قال : أنا محمد بن يعقوب : ثنا ابن أبي داود ثنا يونس بن محمد ثنا صدقة بن أبي سهل ، عن يونس بن عبيد عن الحسن عن معاوية بن معاوية رضي الله تعالى عنه قال :
(( إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان غازياً بتبوك ، فأتاه جبريل عليه الصلاة والسلام ، فقال : يا محمد : هل لك في جنازة معاوية بن معاوية ؟ قال صلى الله عليه وسلم : نعم . فقال جبريل عليه الصلاة والسلام هكذا بيده ، ففرج له عن الجبال والأكام )) فذكر الحديث .
قال ابن مندة : هكذا قال يونس بن محمد عن معاوية والصواب مرسل .
قلت : ووجه الإشكال فيه أن معاوية رضي الله تعالى عنه مات في حياة النبي صلى الله عليه وسلم (كما ترى) ، فكيف يتهيأ للحسن أن يسمع منه قصة موته ، ويحدث بها عنه . وما المراد إلا ما ذكرت أنه لم يقصد بقوله : ((عن معاوية)) الرواية وإنما يحمل على محذوف تقديره عن قصة معاوية بن معاوية رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى آخره . فيظهر حينئذ الإرسال .
ونظير ذلك : ما ذكره موسى بن هارون الحمال ، ونقله عنه أبو عمر ابن عبد البر في كتاب التمهيد
فقال : روى مالك عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن محمد بن إبراهيم التيمي عن عيسى بن طلحة
عن عمير بن سلمة عن البهزي قال :
(( إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يريد مكة وهو محرم حتى إذا كان بالروحاء إذا حمار وحشي عقير ، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : دعوه ، فإنه يوشك أن يأتي صاحبه فجاء البهزي وهو صاحبه ، فقال : شأنكم به )) .. الحديث هكذا رواه مالك وتابعه غيره .
وظاهر هذا يعطي أن عمير بن سلمة رواه عن البهزي وليس كذلك بل عمير بن سلمة حضر القصة وشاهدها كلها ، فقد رواه الليث بن سعد عن يزيد بن الهاد عن محمد بن إبراهيم بن عيسى بن طلحة عن عمير بن سلمة قال : بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر هذا الحديث . وكذا رواه عبد ربه بن سعيد عن محمد بن إبراهيم . وكذا رواه حماد بن زيد وغير واحد عن يحيى بن سعيد شيخ مالك .
قال موسى بن هارون : (( والظاهر أن قوله : عن البهزي من زيادة يحيى بن سعيد كان أحياناً يقولها ، وأحياناً لا يقولها ، وكان هذا جائزاً عند المشيخة الأولى أن يقولوا : عن فلان ، ولا يريدون بذلك الرواية وإنما معناه عن قصة فلان )) . انتهى كلام موسى بن هاورن ملخصاً . وهو صريح فيما قصدناه .
وقال ابن عبد البر في حديث بسر بن سعيد عن أبي سعيد الخدري عن أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه في قصة الاستئذان ثلاثاً : (( ليس المقصود من هذا رواية أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه لهذا الحديث عن أبي موسى ، لأن أبا سعيد سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم وشهد بذلك لأبي موسى عن عمر رضي الله تعالى عنه وإنما وقع هذا على سبيل التحرز : والمراد عن أبي سعيد ، عن قصة أبي موسى رضي الله تعالى عنهما .
قلت : وأمثلة هذا كثيرة ومن تتبعها وجد سبيلاً إلى التعقب على أصحاب المسانيد ، ومصنفي الأطراف ، في عدة مواضع يتعين الحمل فيها على ما وصفنا من المراد بهذه العنعنة والله أعلم .
77- قوله (ص) : (( فروينا عن مالك أنه كان يرى (( عن فلان )) و (( أن فلاناً )) سواء وعن أحمد بن حنبل أنهما ليسا سواء )) .
قلت : ليس كلام كل منهما على إطلاقه ، وذلك يتبين من نص سؤال كل منهما عن ذلك . أما مالك ، فإنه سئل عن قول الراوي : (( عن فلان أنه قال : كذا وأن فلاناً قال : كذا . فقال : هما سواء . وهذا واضح . وأما أحمد فإنه قيل له : أن رجلاً قال : عن عروة عن عائشة ، وعن عروة أن عائشة رضي الله تعالى عنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم هل هما سواء ؟ فقال : كيف يكونان سواء ؟ ليسا سواء . فقد ظهر الفرق بين مراد مالك وأحمد .
وحاصله أن الراوي إذا قال : (( عن فلان )) فلا فرق أن يضيف إليه القول أو الفعل في اتصال ذلك
عند الجمهور بشرطه السابق . وإذا قال : (( أن فلاناً )) ففيه فرق .
وذلك أن ينظر ، فإن كان خبرها قولاً لم يتعد لمن لا يدركه التحقت بحكم (( عن )) بلا خلاف . كأن يقول التابعي : أن أبا هريرة رضي الله عنه قال : سمعت كذا ، فهو نظير ما قال : عن أبي هريرة أنه قال : سمعت كذا . وإن كان خبرها فعلاً نظر إن كان ( الراوي ) أدرك ذلك التحقت بحكم (عن) وإن كان لم يدركه لم تلتحق بحكمها . فكون يعقوب بين شيبة قال في رواية عطاء عن أبي الحنفية : أن عماراً مر بالنبي صلى الله عليه وسلم : هذا مرسل .
إنما هو من جهة كونه أضاف إلى الصيغة الفعل الذي لم يدركه ابن الحنفية ، وهو مرور عمار .إذ لا فرق أن يقول ابن الحنفية : أن عماراً مر بالنبي صلى الله عليه وسلم وأن النبي صلى الله عليه وسلم مر بعمار ، فكلاهما سواء في ظهور الإرسال . ولو كان أضاف إليها القول كأن يقول : عن ابن الحنفية أن عماراً قال : مررت بالنبي صلى الله عليه وسلم لكان ظاهر الاتصال .
وقد نبه شيخنا على هذا الموضع فأردت زيادة أيضاحه ، ثم إن نقل عن ابن المواق تحرير ذلك ، واتفاق المحدثين على الحكم بانقطاع ما هذا سبيله ، وهو كما قال ، لكن في نقل الاتفاق نظر .
وقد قال ابن عبد البر في الكلام على حديث ضمرة عن عبد الله بن عبد الله قال : (( إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سأل أبا واقد الليثي ماذا كان يقرأ به النبي صلى الله عليه وسلم في الأضحى والفطر .. الحديث . قال : قال قوم : هذا منقطع ، لأن عبيد الله لم يلق عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وقال قوم : بل هو متصل ، لأن عبيد الله لقي أبا واقد .
قلت : وهذا وإن كنا لا نسلمه لأبي عمر ، فإنه يخدش في نقل الاتفاق وقد نص ابن خزيمة على انقطاع حديث عبيد الله هذا .
ونظيره : مار واه ابن خزيمة أيضاً قال : حدثنا محمد بن حسان ثنا عبد الرحمن بن مهدي ، عن سفيان عن عاصم عن أبي عثمان ، عن بلال رضي الله عنه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم (( لا تسبقني بآمين )) .
قال ابن خزيمة : هكذا أملاه علينا . والرواة يقولون في هذا الإسناد : عن أبي عثمان أن بلالاً رضي الله تعالى عنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم . فإن كان محمد بن حسان حفظ في هذا الاتصال فهو غريب . وأمثلة ذلك كثيرة .
78- قوله (ص) : (( عن أب بكر البرديجي )) .
قال المصنف في حاشية كتابه :
(( برديج على وزن فعليل بفتح أوله بليدة بينها وبين بردعة نحو أربعة عشر فرسخاً ، ولهذا يقال
الحافظ البرديجي والبردعي قال : ومن نحا بها نحو أوزان كلام العرب كسر أولها نظر إلى أنه ليس في
كلامهم فعليل بفتح الفاء وكأنه يشير بذلك إلى ما وقع في العباب للصاغاني . فإنه قال فيه : ((
برديج بكسر أوله بليدة بأقصى أذربيجان والعامة يفتحون باءها )) .
فأراد المصنف أن من نطق بها على مقتضى تسميتها العجمية فتح الباء على الحكاية ، ومن سلك بها مسلك أهل العربية كسر الباء والله أعلم .
79- قوله (ص) : حكاية عن عبد البر الإجماع على أن الإسناد المتصل بالصحابي )) .
سواء قال فيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال أو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال أو سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول .
قلت : حذف ابن الصلاح فيه كلام ابن عبد البر .
80- قوله (ص) : (( وقد قيل : إن القول الذي رده مسلم هو الذي عليه أئمة هذا العلم : علي بن المديني والبخاري وغيرهما )) .
قلت : ادعى بعضهم أن البخاري إنما التزم ذلك في جامعه لا في أصل الصحة . وأخطأ في هذه الدعوى ، بل هذا شرط في أصل الصحة عند البخاري ، فقد أكثر من تعليل الأحاديث في تاريخه بمجرد ذلك . وهذا المذهب هو مقتضى كلام الشافعي رضي الله تعالى عنه فإنه قال في (( الرسالة )) في باب خبر الواحد : (( فإن قيل : فما بالك قبلت ممن لا تعرفه بالتدليس أن يقول : (( عن )) وقد يمكن فيه أن يكون لم يسمعه ؟
فقلت له : المسلمون العدول أًحاء الأمر وحالهم في أنفسهم غير حالهم في غيرهم ألا ترى أني إذا عرفتهم بالعدالة في أنفسهم قبلت شهادتهم ، وإذا شهدوا على شهادة غيرهم لم أقبل حتى أعرف حاله . وأما قولهم عن أنفسهم ، فهو على الصحة حتى يستدل من فعلهم بما يخالف ذلك ، فنحترس منهم في [ الموضع ] الذي خالف فعلهم فيه ما يجب عليهم .
ولم أدرك أحداً من أصحابنا يفرق بين أن يقول حدثني فلان أو سمعت فلاناً أو عن فلان إلا فيمن دلس فمن كان بهذه المثابة قبلنا منه ومن عرفناه دلس مرة ، فقد أبان لنا عورته ، فلا نقبل منه حديثاً حتى يقول : حدثني أو سمعت … إلى آخر كلامه .
فذكر أنه إنما قبل العنعنة لما ثبت عنده أن المعنعن غير مدلس وإنما يقول عن فيما سمع فأشبه ما ذهب إليه البخاري من أنه إذا ثبت اللقي ولو مرة حملت عنعنة غير المدلس على السماع مع احتمال أن لا يكون سمع بعض ذلك أيضاً والحامل للبخاري على اشتراط ذلك تجويز أخل ذلك العصر للإرسال فلو لم يكن مدلساً ، وحدث عن بعض من عاصره لم يدل ذلك على أنه سمع من ، لأنه وإن كان غير مدلس ، فقد يحتمل أن يكون أرسل عنه لشيوخ الإرسال بينهم ، فاشترط أن يثبت أنه لقيه وسمع منه ليحمل ما يرويه عنه بالعنعنة على السماع ، لأنه لو لم يحمل على السماع لكان مدلساً والغرض السلامة من التدليس . فتبين رجحان مذهبه .
وأما احتجاج مسلم على فساد ذلك بأن لنا أحاديث اتفق الأئمة على صحتها ، ومع ذلك ما رويت
إلا معنعنة ولم يأت في خبر قط أن بعض رواتها لقي شيخه ، فلا يلزم من نفي ذلك عنده نفيه في نفس الأمر . وقد ذكر علي بن المديني في (( كتاب العلل )) أن أبا عثمان النهدي لقي عمر وابن مسعود وغيرهما ، وروى عن أبي بن كعب وقال في بعض حديثه : حدثني أبي بن كعب ، انتهى .
وقد قطع مسلم بأنه لم يوجد في رواية بعينها أنه لقي أبي بن كعب أو سمع منه . وأعجب من ذلك أنا وجدنا بطلان ما نفاه في نفس صحيحه . من ذلك : قوله : (( وأسند النعمان بن أبي عياش عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ثلاثة أحاديث )) . وقال : في آخر كلامه : فكل هؤلاء التابعين الذين نصبنا روايتهم عن الصحابة رضي الله عنهم الذين سميناهم لم يحفظ عنهم سماع ما علمناه منهم في رواية بعينها ولا أنهم لقوهم في نفس خبر بعينه ، انتهى .
وقد روى في صحيحه في كتاب المناقب من طريق أبي حازم ، عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال : (( سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : (( أنا فرطكم على الحوض .. )) الحديث إلى أن قال : ثم يحال بيني وبينهم . قال أبو حازم : فسمعني النعمان بن أبي عياش وأنا أحدث بهذا الحديث فقال : أهكذا سمعت سهلاً يقول ؟ فقلت : نعم . قال : فأنا أشهد على أبي سعيد الخدري رضي الله عنه لسمعته يقول : إنهم مني فيقال : إنك لا تدري نا عملوا بعدك فأقول سحقاً لمن بدل بعدي .
وأخرج أيضاً عن أبي حازم عن سهل بن سعد رضي الله تعالى عنه في الكتاب المذكور حديث (( إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها )) .
فقال النعمان : حدثني أبو سعيد رضي الله تعالى عنه بلفظ : يسير الراكب الجواد المضمر السريع . فهذه الثلاثة الأحاديث التي أشار إليها قد ذكرها هو في كتابه مصرحاً فيها بالسماع ، فكيف لا يجوز ذلك في غيرها . وإنما كان يتم له النقضض والإلزام لو رأى في صحيح البخاري حديثاً معنعناً لم يثبت لقي راويه لشيخه فيه ـ فكان ذلك وارداً عليه ، وإلا فتعليل البخاري لشرطه المذكور متجه والله أعلم .
81- قوله (ص) : (( وهذا الحكم لا أراه يستمر بعض المتقدمين فيما وجد من المصنفين … )) إلى آخره .
يعني المصنفين غير المحدثين ، فتبين أن ما وجد في عبارات المتقدمين من هذا الصيغ ، فهو محمول على السماع بشرطه إلا من عرف من عادته استعمال اصطلاح حادث ، فلا والله أعلم .
82- قوله (ص) : في الكلام على التعليق : (( والبخاري قد يفعل ذلك ، لكون ذلك الحديث معروفاً من جهة الثقات عن ذلك الشخص الذي علقه عنه )) .
اعترض عليه مغلطاي بأن هذا الكلام يحتاج إلى تثبت فيه فإني لم أره لغيره .
قلت : قد سبقه إلى ذلك الإسماعيلي ، ومنه نقل ابن الصلاح كلامه فإنه قال في المدخل إلى
المستخرج الذي صنفه على صحيح البخاري ما نصه : (( كثيراً ما يقول البخاري : قال فلان وقال
فلان عن فلان )) فيحتمل أن يكون إعراضه عن التصريح بالتحديث لأوجه .
[ أوجه تعليقات البخاري : ]
1- أحدها : أن لا يكون قد سمعه عالياً وهو معروف من جهة الثقات عن ذلك المروي عنه ، فيقول : قال فلان مقتصراً على صحته وشهرته من غيره جهته .
2- الثاني : أن يكون قد ذكره في موضع آخر بالتحديث ، فاكتفى عن إعادته ثانياً .
3- والثالث : أن يكون سمعه ممن ليس هو على شرط كتابه فنبه على الخبر المقصود بذكر من رواه لا على وجه التحديث به عنه )) .
قلت : ومن تأمل تعاليق البخاري حيث لم تتصل لم يجدها تكاد أن تخرج عن هذه الأوجه التي ذكرها الإسماعيلي ولكن بقي عليه أن يذكر السبب الحامل له على إيراد ما ليس على شرطه في أثناء ما هو على شرطه وقد بينت مقاصده في ذلك في مقدمة تعليق التعليق وأشرت في أوائل الفوائد إلى طرف من ذلك وحاصله أنه أيضاً على أوجه :
1- أحدها : أن يكون كرره وهذا قد تداخل مع الأوجه التي ذكرها الإسماعيلي .
2- وثانيها : أن يكون أوردها في معرض المتابعة والاستشهاد لا على سبيل الاحتجاج ولا شك أن المتابعات يتسامح فيها بالنسبة إلى الأصول ، وإنما يعلقها وإن كانت عنده مسموعة ، لئلا يسوقها مساق الأصول .
3- وثالثها : أن يكون إيراده لذلك منبهاً على موضع يوهم تعليل الرواية التي على شرطه ، كأن يروي حديثاً من طريق سفيان الثوري عن حميد عن أنس رضي الله عنه ويقول بعده : قال يحيى بن أيوب عن حميد سمعت أنساً رضي الله عنه فمراده بهذا لتعليق أن هذا مما سمعه حميد لئلا يتوهم متوهم أن الحديث معلول بتدليس حميد . فإن قيل : فلم لم يسبقه من طريق يحيى بن أيوب السالم من هذه العلة ويقتصر عليه ؟
قلنا : لأن يحيى بن أيوب ليس على شرطه ولو كان فالثوري أجل وأحفظ فنزل كلا منهما منزلته التي يستحقها . ذاك في الاحتجاج به ، وهذا في المتابعة القوية والله أعلم .
83- قوله (ص) : (( وبلغني عن بعض المتأخرين من أهل المغرب أنه جعله قسماً من التعليق ثانياً وأضاف إليه مثل قول البخاري : وقال لي فلان فوسم ذلك بالتعليق المتصل من حيث الظاهر المنفصل من حيث المعنى … )) إلى آخر كلامه .
قلت : لم يصب هذا المغربي في التسوية بين قوله : قال فلان وبين قوله قال لي فلان ، فإن الفرق بينهما ظاهر لا يحتاج إلى دليل فإن (( قال لي )) مثل التصريح في السماع و (( قال )) المجردة ليست صريحة أصلاً .
وأما ما حكاه عن أبي جعفر ابن حمدان وأقره أن البخاري إنما يقول قال لي في العرض والمناولة ففيه
نظر فقد رأيت في الصحيح عدة أحاديث قال فيها قال لنا فلان وأوردها في تصانيفه خارج الجامع بلفظ حدثنا . ووجدت في الصحيح عكس ذلك . وفيه دليل على أنهما مترادفان .
والذي يتبين بالاستقراء من صنيعه أنه لا يعبر في الصحيح بذلك إلا في الأحاديث الموقوفة أو المستشهد بها فيخرج ذلك حيث يحتاج إليه عن أصل مساق الكتاب . ومن تأمل في كتابه وجده كذلك والله الموفق .
37- قوله (ع) : (( والبخاري ليس مدلساً )) .
أقول : لا يلزم من كونه يفرق في مسموعاته بين صيغ الأداء من أجل مقاصد تصنيفه أن يكون مدلساً . ومن هذا الذي صرح أن استعمال (( قال )) إذا عبر بها المحدث عما رواه أحد مشايخه [ مستعملاً لها ] فيما لم يسمعه منه يكون تدليساً . لم نرهم صرحوا بذلك إلا في العنعنة .
وكأن ابن الصلاح أخذ ذلك من عموم قولهم : إن حكم عن وأن وقال وذكر واحد . وهذا على تقدير تسليمه لا يستلزم التسوية بينها من كل جهة ، كيف وقد نقل ابن الصلاح عن الخطيب أن كثيراً من أهل الحديث لا يسوون بين قال وعن في الحكم .
فمن أين يلزم أن يكون حكمهما عند البخاري واحداً . وقد بينا الأسباب الحاملة للبخاري على التعاليق . فإذا تقرر ذلك لم يستلزم التدليس لما وصفنا .
وأما قول ابن مندة : (( أخرج البخاري )) قال : (( وهو تدليس )) فإنما يعني أن حكم ذلك عنده هو حكم التدليس ولا يلزم أن يكون كذلك حكمه عند البخاري .
وقد جزم العلامة ابن دقيق العي بتصويب الحميدي في تسميته ما يذكره البخاري عن شيوخه تعليقاً إلا أنه ( وافق ابن الصلاح في الحكم بالصحة لما جزم بع وهو ) موافق لما قررناه على أن الحميدي لم يخرج ذلك فقد سبقه إلى نحوه أبو نعيم شيخ شيخه ، فقال في المستخرج عقب كل حديث أورده البخاري عن شيوخه بصيغة قال فلان كذا : (( ذكره البخاري بلا رواية )) ، والله الموفق .
تنبيه
قال ابن حزم في (( كتاب الإحكام )) :
(( اعلم أن العدل إذا روى عمن أدركه من العدول ، فهو على اللقاء والسماع سواء قال : أخبرنا أو حدثنا أو عن فلان أو قال ، فكل ذلك محمول على السماع منه )) . انتهى .
فيتعجب منه مع هذا في رده حديث المعازف ودعواه عدم الاتصال فيه والله الموفق .
84- قوله (ص) : (( وكأن هذا التعليق مأخوذ من تعليق الجدار أو تعليق الطلاق ونحوه لما يشترك الجميع فيه من قطع الاتصال )) .
تعقبه شيخنا شيخ الإسلام بأن أخذه من تعليق الجدار ظاهر قال : وأما تعليق الطلاق ونحوه ، فليس
التعليق هناك لأجل قطع الاتصال ، بل لتعليق أمر على أمر بدليل استعماله في الوكالة والبيع وغيرهما .
ثم قال : إلا أن يريد به قطع اتصال حكم التنجيز باللفظ لو كان منجزاً .
قلت : وهذا هو الذي يتعين مراداً للمصنف فيكون فيه تشبيه أمر معنوي [ بأمر معنوي ] أو يكون مراده بالقطع الدفع لا الرفع ، فإن التعليق منع من الاتصال كما أن الطلاق منع من الوصلة . ويأتي هذا أيضاً في تعليق الجدار ، فإنه منع من اتصاله بالأرض ووجه مناسبته أن سقوط الراوي منه منع من الحكم باتصاله والله أعلم .
85- قوله (ص) : في ذكر الحديث الذي رواه بعض الثقات مرسلاً وبعضهم متصلاُ (( فحكى الخطيب أن أكثر أصحاب الحديث يرون الحكم في هذا وأشباهه للمرسل … )) إلى آخر كلامه .
وقد تبع الخطيب أبو الحسن ابن القطان على اختيار الحكم للرفع أو الوصل مطلقاً . وتعقبه أبو الفتح ابن سيد الناس قائلاً بأن هذا ليس بعيداً من النظر إذا استويا في رتبة الثقة والعدالة أو تقاربا لأن الرفع زيادة على الوقف وقد جاء عن ثقة فسبيله القبول ، فإن كان ابن القطان قال هذا على سبيل النظر فهو صحيح وإن كان قال نقلاً تقدمه ، فليس لهم في ذلك عمل مطرد )) .
قلت : قد صرح ابن القطان بأنه قال ذلك على سبيل الاختيار فإنه حكى هذا المذهب وقرره ، ثم قال : (( هذا هو الحق في هذا الأصل ، وهو اختيار أكثر الأصوليين وكذا اختاره من المحدثين طائفة منهم : أبو بكر البزار ، لكن أكثر ( يعني المحدثين ) على الرأي الأول ( يعني تقديم الإرسال على الوصل ) .
وما اختاره ابن سيد الناس سبقه إلى ذلك شيخه ابن دقيق العيد فقال في مقدمة شرح الإلمام : (( من حكى عن أهل الحديث أو أكثرهم أنه إذا تعارض رواية مرسل ومسند أو رافع وواقف أو ناقص وزائد أن الحكم للزائد فلم يصب في هذا الإطلاق ، فإن ذلك ليس قانوناً مطراً وبمراجعة أحكامهم الجزئية يعرف صواب ما نقول )) .
وبهذا جزم الحافظ العلائي فقال :
(( كلام الأئمة المتقدمين في هذا الفن كعبد الرحمن بن مهدي ويحيى بن سعيد القطان وأحمد بن حنبل والبخاري وأمثالهم يقتضي أنهم لا يحكمون في هذه المسألة بحكم كلي بل عملهم في ذلك دائر مع الترجيح بالنسبة إلى ما يقوي عند أحدهم في كل حديث حديث )) .
قلت : وهذا العمل الذي حكاه عنهم إنما هو فيما يظهر لهم فيه الترجيح وأما ما لا يظهر فيه الترجيح ، فالظاهر أنه المفروض في أصل المسألة وعلى هذا فيكون في كلام ابن الصلاح إطلاق في موضع التقييد وسيكون لنا عودة إلى هذا في الكلام على زيادة الثقة إن شاء الله تعالى ، والله الموفق .
86- قوله (ص) : (( الحديث الذي رواه بعض الثقات متصلاً وبعضهم مرسلاً … )) إلى آخره .
ما أدري ما وجه إيراد هذا في تفاريع المعضل . بل هذا قسم مستقل وهو : تعارض الإرسال
والاتصال والرفع والوقف . نعم ، لو ذكره في تفاريع الحديث المعلل ، لكان حسناً وإلا فمحل الكلام [فيه] في زيادة الثقات كما أشار إليه .
وقد أجبت عنه بأنه لما قال : تفريعات أراد أن تنعطف على جميع الأنواع المتقدمة ومن جملتها : الموصول والمرسل والمرفوع والموقوف ، فعلى هذا فالتعارض بين أمرين فرع عن أصلهما والله أعلم .
87- قوله (ص) : (( مثاله : لا نكاح إلا بولي )) .
اعترض عليه : بأن التمثيل بذلك لا يصح ، لأن الرواة لم تتفق على إرسال شعبة وسفيان له عن أبي إسحاق ، بل رواه النعمان بن عبد السلام عن شعبة وسفيان جميعاً عن أبي إسحاق عن أبي بردة عن أبي موسى رضي الله عنه موصولاً . أخرجه الحاكم في المستدرك من طريقه .
والجواب : أن حديث النعمان هذا شاذ مخالف الأثبات من أصحاب شعبة وسفيان والمحفوظ عنهما أنهما أرسلاه لكن الاستدلال بأن الحكم للواصل دائماً على العموم من صنيع البخاري في هذا الحديث الخاص ليس بمستقيم ، لأنه البخاري لم يحكم فيه بالاتصال من أجل كون الوصل زيادة ، وإنما حكم له بالاتصال لمعان أخرى رجحت عنده حكم الموصول .
منها : أن يونس بن إسحاق وابنيه إسرائيل وعيسى رووه عن أبي إسحاق موصولاً . ولا شك أن آل الرجل أخص به من غيرهم .
ووافقهم على ذلك أبو عوانة وشريك النخعي وزهير بن معاوية وتمام المعشرة من أصحاب أبي إسحاق ، مع اختلاف مجالسهم في الأخذ عنه وسماعهم إياه من لفظه . و أما رواية من أرسله وهما شعبة وسفيان ، فإنما أخذاه عن أبي إسحاق في مجلس واحد .
فقد رواه الترمذي قال :
حدثنا محمود بن غيلان : ثنا أبو داود حدثنا شعبة قال : سمعت سفيان الثوري يسأل أبا إسحاق أسمعت أبا بردة رضي الله عنه يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( لا نكاح إلا بولي فقال : نعم )) . فشعبة وسفيان إنما أخذاه (معاً) في مجلس واحد عرضاً كما ترى ولا يخفى رجحان ما أخذ من لفظ المحدث في مجالس متعددة على ما أخذ عنه عرضاً في محل واحد .
هذا إذا قلنا : حفظ سفيان وشعبة في مقابل عدد الآخرين مع أن الشافعي رضي الله عنه يقول : (( العدد الكثير أولى بالحفظ من الواحد )) .
فتبين أن ترجيح البخاري لوصل هذا الحديث بل إرساله لم يكن لمجرد أن الواصل معه زيادة ليست مع المرسل ، بلب بما يظهر من قرائن الترجيح . ويزيد ذلك ظهوراً تقديمه الإرسال في مواضع أخر .
مثاله : ما رواه الثوري عن محمد بن أبي بكر بن حزم عن عبد الملك عن أبي بكر بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن أم سلمة رضي الله تعالى عنها قال : إن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( إن شئت سبعت لك )) .
ورواه مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن الحارث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأم سلمة رضي الله عنها :
قال البخاري في تأريخه : (( الصواب قول مالك )) مع إرساله . فصوب الإرسال هنا لقرينة ظهرت له فيه ، وصوب المتصل هناك لقرينة ظهرت له فيه . فتبين أنه ليس له عمل مطرد في ذلك والله أعلم
38- قوله (ع) : (( والذي صححه الأصوليون هو : أن الاعتبار بما وقع منه أكثر … )) إلى آخره .
هذا قول بعض الأصوليين كالإمام فخر الدين ، وقد ذكر البيضاوي المسألة في المنهاج ومال إلى ترجيح القبول مطلقاً . ونقل الماوردي عن مذهب الشافعي في مسألة الوقف والرفع أن الوقف يحمل على أنه رأي الراوي والمسند على روايته .
قلت : ويختص هذه بأحاديث الأحكام أما ما لا مجال للرأي فيه فيحتاج إلى نظر . وما نقله الماوردي عن مذهب الشافعي قد جزم به أبو الفرج ابن الجوزي وأبو الحسن ابن القطان ، وزاد أن الرفع يترجح بأمر آخر وهو : تجويز أن يكون الواقف قد قصر في حفظه أو شك في رفعه .
قلت : وهذا غير ما فرضناه في أصل المسألة والله أعلم . ثم إنه يقابل بمثله فيترجح الوقف بتجويز أن يكون الرافع تبع العادة وسلك الجادة .
ومثال ذلك ما رواه محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو بالحزورة : (( والله إني لأعلم أنك خير أرض الله … )) الحديث .
ورواه الزهري عن أبي سلمة عن عبد الله بن عدي بن الحمراء رضي الله تعالى عنه وهو المحفوظ والحديث حديثه وهو مشهور به .
وقد سمعه الزهري أيضاً من محمد بن جبير بن مطعم عن عبد الله بن عدي رضي الله عنه وسلك محمد بن عمرو الجادة ، فقال عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه واعلم أن هذا كله إذا كان للمتن سند واحد . أما إذا كان له سندان ، فلا يجري فيه هذا الخلاف .
وقد روى البخاري في صحيحه من طريق ابن جريج عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( إذا اختلطوا فإنما هو التكبير والإشارة بالرأس … )) الحديث . وعن ابن جريج عن ابن كثير ، عن مجاهد موقوفاً . فلم يتعارض الوقف والرفع هنا ، لاختلاف الإسنادين والله أعلم .
88- قوله (ص) : (( وما صححه (أي الخطيب) فهو الصحيح في الفقه وأصوله )) .
أقول : الذي صححه الخطيب شرطه أن يكون الراوي عدلاً ضابطاً وأما الفقهاء والأصوليون ، فيقبلون ذلك من العدل مطلقاً وبين الأمرين فرق كثير . وهنا شئ يتعين التنبيه عليه وهو : أنهم شرطوا في الصحيح أن لا يكون شاذاً ، وفسروا الشاذ بأنه ما رواه الثقة فخالفه من هو أضبط منه أو أكثر عدداً ثم قالوا : تقبل الزيادة من الثقة مطلقاً . وبنوا على ذلك أن من وصل معه زيادة فينبغي تقديم خبرة على من أرسل مطلقاً .
فلو اتفق أن يكون من أرسل أكثر عدداً أو أضبط حفظاً أو كتاباً على من وصل أيقبلونه أم لا ؟ أم هل يسمونه شاذاً أم لا ؟ لا بد من الاتيان بالفرق أو الاعتراف بالتناقض . والحق في هذا أن زيادة الثقة لا تقبيل دائماً ، ومن أطلق ذلك عن الفقهاء والأصوليين ، فلم يصب . وإنما يقبلون ذلك إذا استووا في الوصف ولم يتعرض بعضهم لنفيها لفظاً ولا معنى .
وممن صرح بذلك الإمام فخر الدين وابن الأيباري شارح البرهان وغيرهما وقال ابن السمعاني : (( إذا كان راوي الناقصة لا يغفل أو كانت الدوارعي تتوفر على نقلها أو كانوا جماعة لا يجوز عليهم أن يغفلوا عن تلك الزيادة وكان المجلس واحداً فالحق أن لا يقبل رواية راوي الزيادة هذا الذي ينبغي . انتهى .
وإنما أردت بإيراد هذا بيان أن الأصوليين لم يطبقوا على القبول مطلقاً ، بل الخلاف بينهم . وسأحكي إن شاء الله تعالى كلام أئمة الحديث وغيرهم في ذلك في النوع السادس عشر حيث تكلم المصنف على زيادات الثقات والله أعلم .
النوع الثاني عشر : معرفة التدليس
89- قوله (ص) : (( التدليس قسمان )) .
قلت : هو مشتق من الدلس وهو : الظلام . قاله ابن السيد . وكأنه أظلم أمره على الناظر لتغطية وجه الصواب فيه .
90- قوله (ص) : (( وهو أن يروي عن من لقيه ما لم يسمعه منه موهماً أنه سمعه منه أو عمن عاصره ولم يلقه موهماً أنه قد لقيه وسمعه منه )) . انتهى .
وقوله : عمن عاصره ليس من التدليس في شئ ، وإنما هو : المرسل الخفي . كما سيأتي تحقيقه عند الكلام عليه .
وقد ذكر ابن القطان في أواخر البيان له تعريف التدليس بعبارة غير معترضة قال : (( ونعني به أن يروي المحدث عمن [قد] سمع منه ما لم يسمعه من غير أن يذكر أنه سمعه منه . والفرق بينه وبين الإرسال هو أن الإرسال روايته عمن لم يسمعه منه ، ولما كان في هذا قد سمعه منه جاءت روايته عنه بما لم يسمعه منه كأنها إيهام سماعه ذلك الشئ ، فلذلك سمي تدليساً )) . انتهى .
وهو صريح في التفرقة بين التدليس والإرسال . وأن التدليس مختص بالرواية عمن له عنه سماع ، بخلاف الإرسال والله أعلم . وابن القطان في ذلك متابع لأبي بكر البزار . وقد حكى شيخنا كلامهما ، ثم قال : (( إن الذي ذكره المصنف في حد التدليس هو المشهور عن أهل الحديث ، وأنه إنما حكى كلام البزار وابن القطان لئلا يغتر به )) .
قلت : ولا غرور هنا ، بل كلامهما هو الصواب على ما يظهر لي في التفرقة بين التدليس والمرسل الخفي وإن كانا مشتركين في الحكم . هذا ما يقتضيه النظر . وأما كون المشهور عن أهل الحديث خلاف ما قالاه ففيه نظر . فكلام الخطيب في باب التدليس من (( الكفاية )) يؤيد ما قاله ابن القطان قال الخطيب : (( التدليس متضمن للإرسال لا محالة ، لإمساك المدلس عن ذكر الواسطة ، وإنما يفارق حال المرسل بإيهامه السماع ممن لم يسمعه فقط وهو الموهن لأمره ، فوجب كون التدليس متضمناً للإرسال ، والإرسال لا يتضمن التدليس ، لأنه لا يقتضي إيهام السماع ممن لم يسمعه منه ))
ولهذا لم يذم العلماء من أرسل وذموا من دلس والله أعلم .
91- قوله (ص) : في تدليس الشيوخ : (( وهو : أن يروي عن شيخ فيسميه أو يكتبه أو ينسبه أو يصفه بما لا يعرف به كيلا يعرف )) .
قلت : ليس قوله بما لا يعرف به قيداً بل إذا ذكره بما يعرف به إلا أنه لم يشتهر به كان ذلك تدليساً كقول الخطيب : أخبرنا علي بن أ[ي علي البصري ومراده بذلك أبو القاسم علي بن أبي علي المحسن بن علي التنوخي ، وأصله من البصرة فقد ذكره بما يعرف به لكنه لم يشتهر بذلك وإنما اشتهر بكنيته واشتهر أبوه باسمه واشتهرا بنسبتهما إلى القبيلة لا إلى البلد ، ولهذا نظائر ، كصنيع البخاري في الذهلي فإنه تارة يسميه فقط بقوله : حدثنا محمد بن عبد الله فينسبه إلى جده ، وتارة يقول : حدثنا محمد ابن خالد فينسبه إلى والد جده . وكل ذلك صحيح إلا أن شهرته إنما هي : محمد بن يحيى الذهلي والله الموفق .
39- قوله (ع) : (( ترك المصتف قسماً ثالثاً من أنواع التدليس وهو شر الأقسام … )) إلى آخره .
أقول : فيه مشاحة وذلك أن ابن الصلاح قسم التدليس إلى قسمين :
1- أحدهما : تدليس الإسناد .
2- والآخر : تدليس الشيوخ .
والتسوية على تقدير تسليم تسميتها هي من قبيل القسم الأول وهو : تدليس الإسناد . فعلى هذا لم يترك قسماً ثالثاُ ، إنما ترك تفريع القسم الأول . أو أخل بتعريفه ، ومشى على ذلك العلائي فقال (( تدليس السماع نوعان )) (فذكره) .
وقد فاتهم معاً من تدليس الإسناد فرع آخر وهو : تدليس العطف ، وهو : أن يروي عن شيخين من شيوخه ما سمعاه من شيخ اشتركا فيه ، ويكون قد سمع ذلك من أحدهما دون الآخر ، فيصرح عن الأول بالسماع ويعطف الثاني عليه ، فيوهم أنه حدث عنه بالسماع أيضاً وإنما حدث بالسماع عن الأول ، ثم نوى القطع فقال : وفلان أي حدث فلان .
مثاله : ما رويناه في (( علوم الحديث )) للحاكم قال :
(( اجتمع أصحاب هشيم فقالوا : لا تكتب عنه اليوم شيئاً مما يدلسه ففطن لذلك ، فلما جلس قال : حدثنا حصين ومغيرة عن إبراهيم ، فحدث بعده أحاديث فلما فرغ قال : هل دلست لكم شيئاً ؟ قالوا : لا ، فقال : بلى كل ما حدثتكم عن حصين فهو سماعي ولم أسمع من مغيرة من ذلك شيئاً ))
وفاتهم أيضاً فرع آخر وهو تدليس القطع مثاله ما رويناه في (( الكامل )) لأبي أحمد بن عدي وغيره
عن عمر بن عبيد الطنافسي أنه كان يقول : حدثنا ، ثم يسكت ينوي القطع ، ثم يقول : هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها .
[ التسوية أعم من التدليس : ]
وقد يدلسون بحذف الصيغ الموهمة عن المصرحة ، كما كان ابن عيينة يقول : عمرو بن دينار سمع جابراً رضي الله عنه ونحو ذلك ولكن هذا كله داخل في التعريف الذي عرف به ابن الصلاح وهو قوله أن يروي عمن لقيه ما لم يسمعه منه موهماً أنه سمعه بخلاف التسوية وهي أعم من أن يكون هناك تدليس أو لم يكن .
فمثال : ما يدخل في التدليس ، فقد ذكره الشيخ .
ومثال : ما لا يدخل في التدليس ما ذكره ابن عبد البر وغيره أن مالكاً سمع من ثور بن زيد أحاديث عن عكرمة ، عن ابن عباس رضي الله عنهما ثم حدث بها عن ثور عن ابن عباس وحذف عكرمة ، لأنه كان لا يرى الاحتجاج بحديثه .
فهذا [مالك] قد سوى الإسناد (بإبقاء) من هو عنده ثقة وحذف من ليس عنده بثقة . فالتسوية قد تكون بلا تدليس وقد تكون بالإرسال فهذا تحرير القول فيها . وقد وقع هذا لمالك في مواضع أخرى
1- فإنه روى عن عبد ربه بن سعيد عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام عن عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما في الصائم يصبح جنباً وإنما رواه عبد ربه عن عبد الله بن كعب الحميري عن أبي بكر بن عبد الرحمن رضي الله عنه كذا جزم به ابن عبد البر وكذا أخرجه النسائي من رواية عمر بن الحارث عن عبد ربه .
2- وروى مالك عن عبد الكريم الجزري ، عن ابن أبي ليلى عن كعب بن عجرة رضي الله عنه في القدية وإنما رواه عبد الكريم عن مجاهد عن ابن أبي ليلى قال ابن عبد البر أيضاً .
3- وروى مالك عن عمرو بن الحارث ، عن عبيد بن فيروز ، عن البراء رضي الله عنه في الأضاحي ، وإنما رواه عمرو ، عن سليمان بن عبد الرحمن عن عبيد ، كذا رواه ابن وهب ، عن عمرو بن عمرو بن الحارث ، وهو مشهور من حديث سليمان المذكور . حدث به عنه شعبة ، والليث وابن ليهعة وغيرهم . فلو كانت التسوية تدليساً لعد مالك في المدلسين ، وقد أنكروا على من عده فيهم .
قال ابن القطان : (( ولقد ظن بمالك على بعده عنه عمله )) .
وقال الدار قطني : (( أن مالكاً ممن عمل به وليس عيباً عندهم )) . وإذا تقرر ذلك ، فقول شيخنا في تعريف التسوية : وصورة هذا القسم أن يجئ المدلس إلى حديث قد سمعه من شيخ ثقة وقد سمعه ذلك الشيخ الثقة من شيخ ضعيف ، وقد سمعه ذلك الشيخ الضعيف عن شيخ ثقة ، فيسقط المدلس الشيخ الضعيف ويسوقه بلفظ محتمل ، فيصير الإسناد كلهم ثقات ، ويصرح هو بالاتصال عن شيخه لأنه قد سمعه منه ، فلا يظهر حينئذ في الإسناد ما يقتضي رده … )) إلى آخر كلامه . تعريف غير جامع ، بل حتى العبارة أن يقول : أن يجئ الراوي ليشمل المدلس وغيره إلى حديث قد سمعه من شيخ وسمعه ذلك الشيخ من آخر عن آخر ، فيسقط الواسطة بصيغة محتملة ، فيصير الإسناد عالياً وهو في الحقيقة نازل ومما يدل على أن هذا التعريف لا تقييد فيه بالضعيف أنهم ذكروا في أمثلة التسوية : ما رواه هشيم عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن الزهري ، عن عبد الله بن الحنفية ، عن أبيه عن علي رضي الله عنه في تحريم لحوم الحمر الأهلية .
قالوا : ويحيى بن سعيد لم يسمعه من الزهري ، إنما أخذه عن مالك عن الزهري . هكذا حدث به عبد الوهاب الثقفي وحماد بن زيد وغير واحد عن يحيى بن سعيد عن مالك ، فأسقط هشيم ذكر مالك منه وجعله عن يحيى ابن سعيد ، عن الزهري . ويحيى فقد سمع من الزهري ، فلا إنكار في روايته عنه إلا أن هشيماً قد سوى هذا الإسناد وقد جزم بذلك ابن عبد البر وغيره .
فهذا كما ترى لم يسقط في التسوية شيخ ضعيف ، وإنما سقط شيخ ثقة ، فلا اختصاص لذلك بالضعيف والله أعلم .
تنبيه
قسم الحاكم في علوم الحديث وتبعه أبو نعيم التدليس إلى ستة أقسام :
1- الأول : من دلس عن الثقات .
2- الثاني : من سمى من دلس عنه لما حوقق وروجع فيه .
3- الثالث : من دلس عن من لا يعرف .
4- الرابع : من دلس عن الضعفاء .
5- الخامس : من دلس القليل عن من سمع منه الكثير .
6- السادس : من حدث من صحيفة من لم يلقه .
قلت : وليست هذه الأقسام متغايرة ، بل هي متداخلة وحاصلها يرجع إلى القسمين اللذين ذكرهما ابن الصلاح . لكن أحببت التنبيه على ذلك . لئلا يعترض به من لا يتحقق .
تنبيه آخر
ذكر شيخنا ممن عرف بالتسوية جماعة ، وفاته أن ابن حبان قال في ترجمة بقية إن أصحابه كانوا يسوون حديثه . وقال في ترجمة إبراهيم بن عبد الله المصيصي : كان يسوي الحديث والله أعلم .
40- قوله (ع) :((وما ذكره المصنف في حد التدليس( هو: المشهور بين أهل الحديث يعني أن من جملة التدليس أن يروي عمن عاصره ما لم يسمعه منه موهماً أي سواء كان قد لقيه أو لم يلقه )) .
قلت : والذي يظهر من تصرفات الحذاق منهم أن التدليس مختص باللقي ، فقد أطبقوا على أن رواية المخضرمين مثل : قيس بن أبي حازم وأبي عثمان النهدي وغيرهما عن النبي صلى الله عليه وسلم من قبيل المرسل لا من قبيل المدلس .
وقد قال الخطيب في باب المرسل من كتابه الكفاية :
(( لا خلاف بين أهل العلم أن إرسال الحديث الذي ليس بمدلس وهو : رواية الراوي عن من لم يعاصره أو لم يلقه ، ثم مثل للأول بسعيد بن المسيب وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم وللثاني بسفيان الثوري وغيره عن الزهري . ثم قال : والحكم في الجميع عندنا واحد )) . انتهى .
فقد (بين) الخطيب في ذلك أن من روى عمن لم يثبت لقيه ولو عاصره أن ذلك مرسل لا مدلس . والتحقيق فيه التفصيل وهو : أن من ذكر التدليس أو الإرسال إذا ذكر بالصيغة الموهمة عمن لقيه ، فهو تدليس أو عمن أدركه ولم يلقه فهو المرسل الخفي . أو عمن لم يدركه ، فهو مطلق الإرسال .
واعلم أن التعريف الذي ذكرناه للمرسل ينطبق على يرويه الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم مما لم يسمعوه منه وإنما لم يطلقوا عليه اسم التدليس أدباً على أن بعضهم أطلق ذلك .
روى أبو أحمد ابن عدي في الكامل عن يزيد بن هارون عن شعبة قال : (( كان أبو هريرة رضي الله عنه ربما دلس )) . والصواب ما عليه الجمهور من الأدب في عدم إطلاق ذلك والله الموفق .
92- قوله (ص) : (( وإنما يقول : قال فلان أو عن فلان … )) إلى آخره .
قد تقدم ما في ((قال)) من الخلاف . وقد يقع التدليس بحذف الصيغ كلها . كما في المثال الذي ذكره المصنف وإنما نبهت عليه ، لأنه ليس داخلاً في عبارته ، والله أعلم .
93- قوله (ص) : (وإن ما) رواه المدلس بلفظ حكمه حكم المرسل )) .
اعترض عليه بأن البزار الحافظ ذكر في الجزء الذي جمعه فيمن يترك ويقبل : إن من كان لا يدلس إلا عن الثقات كان تدليسه عند أهل العلم مقبولاً . وبذلك صرح أبو الفتح الأزدي ، وأشار إليه الفقيه أبو بكر الصيفي في (( شرح الرسالة )) .
وجزم بذلك أبو حاتم ابن حبان وأبو عمر ابن عبد البر وغيرهما في حق سفيان بن عيينة وبالغ ابن حبان في ذلك حتى قال : (( إنه لا يوجد له تدليس قط إلا وجد بعينه ، قد بين سماعه فيه من ثقة ))
وفي سؤالات الحاكم للدار قطني : أنه سئل عن تدليس ابن جريج فقال : يجتنب ، وأما ابن عيينة فغنه يدلس عن الثقات .
تنبيه
قال أبو الحسن ابن القطان : (( إذا المدلس قبل بلا خلاف وإذا لم يصرح ، فقد قبله قوم لم يتبين في حديث بعينه أنه لم يسمعه وروده آخرون ما لم يتبين أنه سمعه .
قال : فإذا روى المدلس حديثاً بصيغة محتملة ، ثم رواه بواسطة تبين انقطاع الأول عند الجميع )) .
قلت : وهذا بخلاف غير المدلس ، فإن غير المدلس يحمل غالب ما يقع منه من ذلك على أنه سمعه من الشيخ الأعلى ، وثبته فيه الواسطة . لكن في إطلاق ابن القطان نظر ، لأنه قد يدلس الصيغة فيرتكب المجاز . كما يقول مثلاً : حدثنا وينوي حديث قومنا أو أهل قريتنا ونحو ذلك .
وقد ذكر الطحاوي منه أمثلة من ذلك :
حديث مسعر عن عبد الملك بن ميسرة عن النزال بن سبرة قال قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( أنا وإياكم ندعى بن عبد مناف … )) الحديث .
قال : وأراد بذلك أنه صلى الله عليه وسلم قال لقومه وأما هو فلم ير النبي صلى الله عليه وسلم .
وقال طاووس : (( قدم علينا معاذ بن جبل رضي الله عنه اليمن )) . وطاووس لم يدرك معاذاً رضي الله عنه وإنما أراد قدم بلدنا .
وقال الحسن : (( خطبنا عتبة بن غزوان )) . يريد أنه خطب أهل البصرة ، والحسن لم يكن بالبصرة لما خطب عتبة .
قلت : ومن أمثلة ذلك قول ثابت البناني : (( خطبنا عمران بن حصين رضي الله عنه )) .
وقوله : (( خطبنا ابن عباس رضي الله عنهما )) والله أعلم .
41- قوله (ع) : (( حكاية عن أبي نصر ابن الصباغ : (( وإن كان لصغر سنه فيكون ذلك رواية عن مجهول )) .
في نظر ، لأنه لا يصير بذلك مجهولاً إلا عند من لا خبرة له بالرجال وأحوالهم وأنسابهم إلى قبائلهم وألقابهم وكناهم وكذا الحال في آبائهم . فتدليس الشيوخ دائر بين ما وصفنا ، فمن أحاط علماً بذلك لا يكون الرجل المدلس عنده مجهولاً . وتلك أنزل مراتب المحدث .
وقد بلغنا أن كثيراً من الأئمة الحفاظ امتحنوا طلبتهم المهرة (بمثل ذلك) فتشهد لهم بالحفظ لما يسرعوا بالجواب عن ذلك .
وأقر ما وقع من ذلك أن بعض أصحابنا كان ينظر إلى (( كتاب العلم )) (لأبي بكر بن أبي عاصم) فوقع في أثنائه حدثنا الشافعي . حدثنا ابن عيينة فذكر حديثاً ، فقال : لعله سقط منه شئ ، ثم التفت إلى فقال : ما تقول ؟ فقلت : الإسناد متصل ، وليس الشافعي هذا محمد بن إدريس الإمام بل هو ابن عمه إبراهيم بن محمد بن العباس . ثم استدللت على ذلك بأن ابن أبي عاصم معروف بالرواية عنه وأخرجت من الكتاب المذكور روايته عنه وقد سماه .
(ولقد كان) ظن الشيخ في السقوط ، لأن مولد ابن أبي عاصم بعد وفاة الإمام الشافعي بمده .
وما أحسن ما قال ابن دقيق العيد :
(( إن في تدليس الشيخ الثقة مصلحة وهي امتحان الأذهان في استخراج ذلك وإلقائه إلى من يراد اختبار حفظه ومعرفته بالرجال وفيه مفسدة من جهة أنه قد يخفي فيصير الراوي المدلس مجهولاً لا يعرف فيسقط العمل بالحديث مع كونه عدلاً في نفس الأمر .
قلت : وقد نازعته في كونه يصير مجهولاً عند الجميع ، لكن من مفسدته أن يوافق ما يدلس به شهرة راو ضعيف يمكن ذلك الراوي الأخذ عنه ، فيصير الحديث من أجل ذلك ضعيفاً وهو في نفس الأمر صحيح وعكس هذا في حق من يدلس الضعيف ليخفي أمره فينتقل عن رتبة من يرد خبره مطلقاً إلى رتبة من يتوقف فيه . فإن صادف شهرة راو ثقة يمكن ذلك الراوي الأخذ عنه فمفسدته أشد . كما وقع لعطية العوفي في تكنيته محمد بن السائب الكلبي أبا سعيد ، فكان إذا حدث عنه يقول : حدثني أبو سعيد فيوهم أنه أبو سعيد الخدري الصحابي رضي الله عنه لأن عطية كان لقيه وروى عنه . وهذا أشد ما بلغنا من مفسدة تدلس الشيوخ .
وأما ما عدا ذلك من تدليس الشيوخ ، فليس فيه مفسدة تتعلق بصحة الإسناد وسقمه ، بل فيه مفسدة دينية فيما إذا كان مراد المدلس إيهام تكثير الشيوخ لما فيه من التشييع والله أعلم . ونظيره في تدليس الإسناد أن يوهم العلو وهو عنده بنزول والله أعلم .
95- قوله (ص) : (( وكان شعبة من أشدهم ذماً (له) … )) إلى آخره .
هو : معروف بذلك . قال القاضي أبو الفرج المعافى النهرواني في (( كتاب الجليس والأنيس )) له ، في المجلس الثالث والخمسين منه : كان شعبة ينكر التدليس ويقول فيه ما يتجاوز مع كثرة روايته عن المدلسين ومشاهدته من كان مدلساً من ( الأعلام ) ، كالأعمش والثوري وغيرهما ، إلى أن قال : ومع ذلك ، فقد وجدنا لشعبة مع سوء قوله في التدليس تدليساً في عدة أحاديث رواها ، وجمعنا ذلك في موضع آخر ، انتهى .
وما زلت متعجباً من هذه الحكاية شديد التلفت إلى الوقوف على ذلك ولا ازداد إلا استغراباً لها واستبعاداً إلى أن رأيت في (( فوائد أبي عمرو بن أبي عبيد الله بن مندة )) وذلك فيما قرأت على أم الحسن بنت المنجا ، عن عيسى بن عبد الرحمن بن مغالى ، قال : قرئ على كريمة بنت عبد الوهاب ونحن نسمع عن أبي الخير الباغيان . أنا عمرو بن أبي عبيد الله بن مندة . ثنا أبو عمر بن عبد الله بن محمد بن أحمد بن عبد الوهاب إملاء . حدثنا أبو عبد الله أحمد بن موسى بن إسحاق . ثنا أحمد بن محمد بن الأصفر ثنا النفيلي . ثنا مسكين بن بكير . ثنا شعبة قال : سألت عمرو بن دينار عن رفع الأيدي عند رؤية البيت فقال : قال أبو قزعة حدثني مهاجر المكي أنه سأل جابر بن عبد الله رضي الله عنه أكنتم ترفعون أيديكم عند رؤية البيت ؟ ، فقال : (( قد كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فهل فعلنا ذلك ؟
قال الأصفر : ألقيته على أحمد بن حنبل فاستعادني ، فأعدته عليه فقال : ما كنت أظن أن شعبة يدلس . حدثنا محمد بن جعفر عن شعبة عن أبي قزعة بأربعة أحاديث هذا أحدها يعني ليس فيه عمرو بن دينار .
قلت : هذا الذي قاله أحمد في سبيل الظن ، وإلا فلا يلزم منه مجرد هذا أن يكون شعبة دلس في هذا الحديث ، لجواز أن يكون سمعه من أبي قزعة بعد أن حدثه عمرو عنه ، ثم وجدته في (( السنن )) لأبي داود عن يحيى بن معين ، عن غندر ، عن شعبة قال : سمعت أبا قزعة .. فذكره فثبت أنه ما دلسه . والظاهر : الذي زعن المعافى أنه جمعه كله من هذا القبيل وإلا فشعبة من أشد الناس تنفيرا عنه
وأما كونه : كان يروي عن المدلسين ، فالمعروف عنه أنه كان لا يحمل عن شيوخه المعروفين بالتدليس إلا ما سمعوه ، فقد روينا من طريق يحيى القطان عنه أنه كان يقول : (( كنت أنظر إلى فم قتادة ، فإذا قال : سمعت وحدثنا حفظته وإذا قال : عن فلان رويناه في المعرفة للبيهقي وفيها عن شعبة أنه قال : كفيتكم تدليس ثلاثة : الأعمش وأبو إسحاق وقتادة .
وهي قاعدة حسنة تقبل أحاديث هؤلاء إذا كان عن شعبة ولو عنعنوها . وألحق الحافظ الإسماعيلي بشعبة في ذلك يحيى بن سعيد القطان فقال في كتاب الطهارة من (( مستخرجه )) عقب حديث يحيى القطان عن زهير أبي إسحاق ، عن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه عن عبد الله بن مسعود في الاستجمار بالأحجار : (( يحيى القطان لا يروي عن زهير إلا ما كان مسموعاً لأبي إسحاق )) . هذا أو معناه .
وكذا ما كان من رواية الليث بن سعد ، عن أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه فإنه مما لم يدلس فيه أبو الزبير كما هو معروف في قصة مشهورة .
وقال البخاري : (( لا يعرف لسفيان الثوري عن حبيب بن أبي ثابت ولا عن سلمة بن كهيل ، ولا عن منصور ، ولا عن كثير من مشايخه تدليس ما أقل تدليسه )) . وقد ذم التدليس جماعة من أقران شعبة وأتباعه . فروينا عن عبد الصمد بن عبد الوارث عن أبيه قال : (( التدليس ذل )) .
وحكى عبدان عن ابن المبارك أن ذكر بعض من يدلس ، فذمه ذماً شديداً وقال : (( دلس للناس أحاديث ، والله لا يقبل تدليساً )) .
رويناه في (( علوم النبيل قال : أقل حالات المدلس عندي أنه يدخل في حديث النبي صلى الله عليه وسلم : (( المتشيع بما لم يعط كلابس ثوبي زور ، والله الموفق .
42- قوله (ع) : (( وقد حكاه الخطيب عن قرين من الفقهاء )) .
قلت : حكاه القاضي عبد الوهاب في (( الملخص )) فقال : (( التدلس جرح وإن من ثبت أنه كان يدلس لا يقبل حديثه مطلقاً قال : وهو الظاهر من أصول مالك )) .
وقال ابن السمعاني في القواطع :
(( إن كان إذا استكشف لم يخبر باسم من يروى عنه ، فهذا يسقط الاحتجاج بحديثه ، لأن التدليس تزوير وإيهام لما لا حقيقة له وذلك يؤثر في صدقه ، وإن يخبر ، فلا )) . هكذا قال . والصواب الذي عليه جمهور المحدثين خلاف ذلك .
قال يعقوب بن شيبة : سألت يحيى بن معين عن التدليس فكرهه وعابه . قلت له : فيكون المدلس حجة فيما روى ؟ قال : لا يكون حجة في ما دلس . وأود الخطيب هنا أنه ينبغي أن لا يقبل من المدلس أخبرنا لأن بعضهم يستعملها في غير السماع . وأجاب أن هذه اللفظة ظاهرها السماع ، والحمل على غيره مجاز ، والحمل على الظاهر أولى .
وما أجاب به جيد فيمن لم يوصف بأنه كان يدلس الصيغ أيضاً فقد ثبت عن أبي نعيم الأصبهاني أنه كان يقول في الإجازة : (( أخبرنا )) وفي السماع (( حدثنا )) . وكذا يصنع كثير من حفاظ المغاربة فيحتاج إلى التنبيه لذلك . ومثل ما أجاب به الخطيب شيخنا شيخ الإسلام . ثم قال : ولا يرد على هذا قول الرجل الذي يقتله الدجال . (( أنت الدجال الذي أخبرنا عنك رسول الله صلى الله عليه وسلم . لأن الكلام إنما هو حيث كان السماع ممكناً ، وأما إذا كان غير ممكن فيتعين الحمل على المجاز بالقرينة .
كقول أبي طلحة : إني سمعت الله تعالى يقول : ( لن تناولا البر ) الآية ، فإن مراده سمعت كلام الله عز وجل على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم .
وقد حكى القاضي عبد الوهاب في (( الملخص )) عن الشافعي أنه لا يقبل من المدلس إلا إذا صرح بقوله : حدثني أو سمعت ، دون قوله : عن أو أخبرني . وهو ظاهر نقل ابن السمعاني ، لكن نصه في (( الرسالة )) . فقلنا لا نقبل من مدلس حديثاً حتى يقول : حدثني أو سمعت هذا نصه ، وهو محتمل أن يريد اقتصار على هاتين الصيغتين كما فهم القاضي عبد الوهاب وغيره ، ويحتمل أن يكون ذكرها على سبيل المثال ليلحق بهما ما أشبههما من الصيغ المصرحة وهذا هو الصحيح .
وقد حكى المعافى في (( الجليس )) عن الشافعي رضي الله عنه أنه كان لا يرى رواية المدلس حجة إلا أن يقول في روايته حدثنا أو أخبرنا أو سمعت ، انتهى . وهذا يؤيد ما صححناه .
96- قوله (ص) : (( وفي الصحيحين وغيرهما من الكتب المعتمدة من حديث هذا الضرب كثير جداً … )) إلى آخره .
أورد المصنف هذا محتجاً به على قبول رواية المدلس إذا صرح ، وهو يوهم أن الذي في الصحيحين وغيرهما من الكتب المعتمدة من حديث المدلسين مصرح في جميعه وليس كذلك ، بل في الصحيحين (وغيرهما) جملة كثيرة من أحاديث المدلسين بالعنعنة ، وقد جزم المصنف في موضع آخر وتبعه النووي ( و غيره بأن ما كان في الصحيحين وغيرهما ) من الكتب الصحيحة عن المدلسين ، فهو محمول على ثبوت سماعه من جهة أخرى وتوقف في ذلك عن المتأخرين الإمام صدر الدين ابن المرحل ، وقال في (( كتاب الأنصاف )) : (( إن في النفس من هذا الاستثناء غصة ، لأنها دعوى دليل عليها ، ولا سيما أنا قد وجدنا كثيراً من الحفاظ يعللون أحاديث وقعت في الصحيحين أو أحدهما بتدليس رواتها )) . وكذلك استشكل ذلك قبله العلامة ابن دقيق العيد فقال : (( لا بد من الثبات على طريقة واحدة ، إما القبول مطلقاً في كل كتاب أو الرد مطلقاً في كل كتاب . وأما التفرقة بين ما في الصحيح من ذلك وما خرج عنه ، فغاية ما يوجه به أحد أمرين :
إما أن يدعي أن تلك الأحاديث عرف صاحب الصحيح صحة السماع فيها ، قال : وهذا إحالة على جهالة ، وإثبات أمر بمجرد الاحتمال ، وإما أن يدعي أن الإجماع على صحة ما في الكتابين دليل على وقوع السماع في هذه الأحاديث ، وإلا لكان أهل الإجماع مجمعين على الخطأ وهو ممتنع .
قال : لكن هذا يحتاج إلى إثبات الإجماع الذي يمتنع أن يقع في نفس الأمر خلاف مقتضاه .
قال : وهذا فيه عسر . قال : ويلزم على هذا أن لا يستدل بما جاء من رواية المدلس خارج الصحيح ولا يقال : هذا على شرط مسلم مثلاً لأن الإجماع الذي يدعي ليس موجوداً في الخارج )) ، انتهى ملخصاً . وفي أسئلة الإمام تقي الدين السبكي أبي الحجاج المزي (( وسألته عن ما وقع في الصحيحين من حديث المدلس معنعناً هل نقول : انهما اطلعا على اتصالها ؟
فقال : كذا يقولون ، وما فيه إلا تحسين الظن بهما . وإلا ففيهما أحاديث من رواية المدلسين ما توجد من غير تلك الطريق التي في الصحيح )) .
قلت : وليست الأحاديث التي في الصحيحين بالعنعنة عن المدلسين كلها في الاحتجاج ، فيحمل كلامهم هنا على ما كان منها في الاحتجاج فقط . أما ما كان في المتابعات في تخريجها كغيرها . وكذلك المدلسون الذين خرج حديثهم في الصحيحين ليسوا في مرتبة واحدة في ذلك ، بل هم على مراتب :
الأولى : من لم يصف بذلك إلا نادراً وغالب رواياتهم مصرحة بالسماع ، والغالب : أن إطلاق من أطلق ذلك عليهم فيه تجوز من الإرسال إلى التدليس . ومنهم من يطلق ذلك بناء على الظن ، ويكون التحقيق بخلافه كما بينا ذلك في حق شعبة قريباً وفي حق محمد بن إسماعيل البخاري في الكلام على التعليق والله أعلم ؟
فمن هذا الضرب :
1- أيوب السختياني .
2- وجرير بن حازم .
3- والحسين بن واقد .
4- وحفص بن غياث .
5- وسليمان التيمي .
6- وطاووس .
7- وأبو قلابة .
8- وعبد الله بن وهب .
9- وعبد ربه بن نافع أبو شهاب .
10- والفضل بن دكين أبو نعيم .
11- وموسى بن عقبة .
12- وهشام بن عروة .
13- وأبو مجلز لاحق بن حميد .
14- ويحيى بن سعيد الأنصاري .
رحمة الله عليهم .
الثانية : من أكثر الأئمة من إخراج حديثه إما لإمامته أو لكونه قليل التدليس في جنب ما روى من الحديث الكثير أو أنه كان لا يدلس إلا عن ثقة . فمن هذا الضرب :
15- إبراهيم بن يزيد النخعي .
16- وإسماعيل بن أبي خالد .
17- وبشير بن المهاجر .
18- والحسن بن ذكوان .
19- والحسن البصري .
20- والحكم بن عتيبة .
21- وحماد بن أسامة .
22- وزكريا بن أبي زائدة .
23- وسالم بن أبي الجعد .
24- وسعيد بن أبي عروبة .
25- وسفيان الثوري .
26- وسفيان بن عيينة .
27- وشريك القاضي .
28- وعبد الله بن عطاء المكي .
29- وعكرمة بن خالد المخزومي .
30- ومحمد بن خازم أبو معاوية الضرير .
31- ومخرمة بن بكير .
32- ويونس بن عبيد .
رحمة الله تعالى عليهم .
الثالثة : من أكثروا من التدليس وعرفوا به وهم :
33- بقية بن الوليد .
34- وحبيب بن أبي ثابت .
35- وحجاج بن أرطأة .
36- وحميد الطويل .
37- وسليمان الأعمش .
38- وسويد بن سعيد .
39- وأبو سفيان المكي .
40- وعبد الله بن أبي نجيح .
41- وعباد بن منصور .
42- وعبد الرحمن المحاربي .
43- وعبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد .
44- وعبد الملك بن عبد العزيز بن جريج .
45- وعبد الملك بن عمير .
46- وعبد الوهاب بن عطاء الخفاف .
47- وعكرمة بن عمار .
48- وعمر بن عبيد الطنافسي .
49- وعمر بن علي المقدمي .
50- وعمرو بن عبد الله أبو إسحاق السبيعي .
51- وعبيسى بن موسى غنجار .
52- وقتادة .
53- ومبارك بن فضالة .
54- ومحمد بن إسحاق .
55- ومحمد بن عبد الرحمن الطقاوي .
56- ومحمد بن عجلان .
57- ومحمد بن عيسى بن الطباع .
58- ومحمد بن مسلم بن تدرس أبو الزبير .
59- ومحمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب الزهري .
60- ومروان بن معاوية الفزاري .
61- والمغيرة بن مقسم .
62- ومكحول الشامي .
63- وهشام بن حسان .
64- وهشان بن بشير .
65- والوليد بن مسلم الدمشقي .
66- ويحيى بن أبي كثير .
67- وأبو حرة الرقاشي .
رحمة الله تعالى عليهم أجمعين .
فهذه أسماء من ذكر بالتدليس من رجال الصحيحين ممن أخرجا أو أحدهما له أصلاً أو استشهاداً أو تعليقاً على مراتبهم في ذلك وهو بضعة وستون نفساً . (وإذا سردنا) ذلك فلا بأس بسرد أسماء بأقي الموصوفين بالتدليس من باقي رواة الحديث لتمام الفائدة ولتمييز أحاديثهم . فقد سرد المصنف أسامي من ذكر بالاختلاط ليتميز حديثه وقد ذكرتهم على قسمين :
أحدهما : من وصف بذلك مع صدقه .
وثانيهما : من ضعف منهم بأمر آخر غير التدليس والله الموفق . فمن الأول :
68- جنيد بن العلاء بن أبي وهرة .
69- وحميد بن الربيع الخزار .
70- وإسماعيل بن عياش .
71- وسلمة بن تمام الشقري .
72- وشباك الضبي .
73- وشعيب بن أيوب الصبرنيني .
74- وعبد الله بن مروان الحراني .
75- وعبد العزيز بن عبد الله البصري .
76- وعبد الجليل بن عطية القيسي .
77- وعبيدة بن الأسود .
78- وعثمان بن عمر الحنفي .
79- وعطية العوفي .
80- وغلي بن غراب .
81- ومحمد بن الحسين البخاري .
82- ومحمد بن صدقة الفدكي .
83- ومحمد بن عبد الملك الواسطي أبو إسماعيل .
84- ومحمد بن عيسى بن سميع .
85- ومحمد بن يزيد بن خنيس العابد .
86- ومحرز بن عبد الله الجزري أبو رجاء .
87- ومصعب بن سعيد أبو خيثمة .
88- وميمون بن موسى المرئي .
89- ويزيد بن أبي زياد .
90- ويزيد بن عبد الرحمن بن أبي مالك .
91- ويزيد بن عبد الرحمن أبو خالد الدالاني .
92- ومن المتأخرين محمد بن محمد بن سليمان الباغندي .
93- والحسن بن مسعود أبو علي ابن الوزير الدمشقي .
94- وعمر بن علي بن أحمد بن الليث أبو مسلم البخاري رحمة الله تعالى عليهم .
ومن القسم الثاني :
95- إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى .
96- وإسماعيل بن خليفة أبو إسرائيل الملائي .
97- وبشير بن زاذان .
98- وتليد بن سليمان .
99- وجابر بن يزيد الجعفي .
100- والحسن بن عمارة .
101- والحسيبن بن عطاء بن يسار .
102- وخارجة بن مصعب .
103- وسعيد بن المرزيان أبو سعيد البقال .
104- وعبد الله بن معاوية بن عاصم الزبيري .
105- وعبد لله بن زياد بن سمعان .
106- وعبد الله بن واقد أبو قتادة الحراني .
107- وعبد الله ب ليهعة المصري .
108- وعبد الرحمن بن زياد بن أنعم .
109- وعلي بن غالب البصري .
110- ومالك بن سليمان الهروي .
111- والهيثم بن علي الطائي .
112- ويحيى بن أبي حية أبو جناب الكلبي .
رحمة الله تعالى عليهم .
هذه أسماء من وقفت عليه ممن وصف بالتدليس (أي تدليس الإسناد) . أنا تدليس الشيوخ ، فلا تحصى أسماء أهله ، مع أنهم ليسوا من غرضنا هنا . وقد أفرد الحافظ صلاح الدين العلائي أسماء المدلسين في كتابه (( جامع التحصيل )) وسردهم على حروف المعجم مبيناً أحوالهم وجملة من اجتمع عنده منهم سبعون نفساً ، وقد زدت عليه أربعين نفساً .
فكل من عليه صورة ((ز)) فهو زائد على من ذكر وقد أفردتهم بالتصنيف في جزء لطيف ، بينت في أحوالهم بياناً شافياً ولله الحمد على ذلك . وقد أفردهم من المتقدمي الحسين بن علي الكرابيسي صاحب الشافعي ، وأبو عبد الرحمن النسائي ، وأبو الحسن الدار قطني رحمهم الله تعالى فجمعت ما ذكروه ، وزدت عليه ما وقع لي من كلام غيرهم ، بعون الله تعالى .
وكل من ذكر هذا ، فهو بحسب ما رأيت التصريح بوصفه بالتدليس من أئمة هذا الشأن ، على التفصيل . وإلا فلو أخذنا به من حيث الجملة لتضاعف هذا العدد جداً فقد روينا عن يزيد بن هارون أنه قال : (( لم أر من أهل الكوفة إلا وهو يدلس إلا مسعراً وشريكاه )) .
قلت : وقد ذكر شريك في المدلسين أيضاً . فما سلم منهم على رأي يزيد بن هارون إلا مسعراً ، ولكن هذا بحسب ما رآهم هو .
وقال الحاكم : أكثر أهل الكوفة يدلسون ، والتدليس في أهل الحجاز قليل جداً . وفي أهل بغداد نادر والله أعلم .
تنبيه
ويلتحق قسم تدليس الشيوخ تدليس البلاد ، كما إذا قال المصري : (( حدثني فلان بالأندلس )) وأرد موضعاً بالفراقة .
أو قال : (( بزقاق حلب )) وأراد موضعاً بالقاهرة .
أو قال البغدادي (( حدثني فلان بما وراء النهر )) وأراد نهر دجلة .
أو قال (( بالرقة )) وأراد بستاناً على شاطئ دجلة .
أو قال الدمشقي (( حدثني بالكرك )) وأراد كرك نوح وهو بالقرب من دمشق .
ولذلك أمثلة كثيرة ، وحكمه لكراهة لأنه يدخل في باب التشبع وإيهام الرحلة في طلب الحديث إلا إن كان عناك قرينة تدل على عدم إرادة التكثير فلا كراهة . والله الموفق …
النوع الثالث عشر :
قوله معرفة الشاذ
قلت : هو في اللغة التفرد ، قال الجوهري : شد يشذ بضم الشين وكرها أي تفرد عن الجمهور .
97- قوله (ص) : (( روينا عن يونس بن عبد الأعلى قال : قال لي الشافعي رضي الله عنه … )) إلى آخره .
أسنده الحاكم من طريق ابن خزيمة عن يونس ، والحاصل من كلامهم أن الخليلي يسوي بين الشاذ والفرد المطلق ، فيلزم على قوله أن يكون [في] الشاذ الصحيح وغير الصحيح فكلامه أعم ، وأخص منه كلام الحاكم ، لأنه يقول : إنه تفرد الثقة ، فيخرج تفرد غير الثقة فيلزم على قوله أن يكون في الصحيح الشاذ وغير الشاذ وأخص منه كلام الشافعي ، لأنه يقول (( إنه تفرد الثقة بمخالفة من هو أرجح منه )) . ويلزم عليه ما يلزم على قول الحاكم لكن الشافعي صرح بأنه مرجوح ، وأن الرواية الراجحة أولى ، لكن هل يلزم من 1لك عدم الحكم عليه بالصحة . محل توقف قد قدمت التنبيه عليه في الكلام على نوع الصحيح ؟
وقول المصنف : (( لا إشكال فيه )) . فيه نظر لما أبديته آخراً ، وعلى المصنف إشكال أشد منه وذلك أنه يشترط في الصحيح أن لا يكون شاذاً كما تقدم ويقول : إنه لو تعارض الوصل والإرسال ( قدم الوصل مطلقاً سواء كان رواة الإرسال ) أكثر أو أقل ، حفظ أم لا ، ويختار في تفسير الشاذ أنه الذي يخالف رواية من هو أرجح منه . وإذا كان راوي الإرسال أحفظ ممن روى الوصل مع اشتراكهما في الثقة ، فقد ثبت كون الوصل شاذاً فكيف يحكم له بالصحة مع شرطه في الصحة أن لا يكون شاذاً ؟
هذا في غاية الإشكال . ويمكن أن يجاب عنه بأن اشتراط نفي الشذوذ يف شرط الصحة إنما يقوله المحدثون . وهم القائلون بترجيح رواية الأحفظ إذا تعرض الوصل والإرسال ، والفقهاء وأهل الأصول لا يقولون بذلك ، والمصنف قد صرح باختيار ترجيح الوصل على الإرسال ولعله يرى بعدم اشتراط نفي الشذوذ في شرط الصحيح لأنه هناك لم يصرح عن نفسه باختيار شئ ( بل اقتصر ) على نقل ما عند المحدثين .
وإذا انتهى البحث إلى هذا المجال ارتفع الإشكال وعلم منه أن مذهب أهل الحديث أن شرط الصحيح أن لا يكون الحديث شاذاً وأن من أرسل من الثقات إن كان أرجح ممن وصل من الثقات قدم وكذا بالعكس ، ويأتي فيه الاحتمال عن القاضي ، وهو أن الشذوذ يقدح في الاحتجاج لا في التسمية والله أعلم .
43- قوله (ع) : (( ولكن الخليلي يجعل تفرد الثقة شاذاً صحيحاً )) .
فيه نظر فإن الخليلي لم يحكم له بالصحة ، بل صرح بأنه يتوقف فيه ولا يحتج به والله أعلم .
98- قوله (ص) : (( وحديث مالك عن الزهري ، عن أنس رضي الله عنه قال : (( إن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة وعلى رأسه المغفر تفرد به مالك عن الزهري )) . انتهى .
تعقبه شيخنا بأنه قد روى من غير طريق مالك فرواه البزار من رواية ابن أخي الزهري وابن سعد في الطبقات وابن عدي فيلا الكامل جميعاً من رواية أبي أويس .
قال : وذكر ابن عدي في الكامل أن معمراً رواه وذكر المزي في الأطراف أن الأوزاعي رواه ثم حكى الشيخ قصة القاضي أبي بكر ابن العربي وأنه قال : (( رويته من ثلاثة عشر طريقاً غير طريق مالك )) وأنه وعد أصحابه بتخريجها ، فما أخرج لهم شيئاً .
وأن ابن مسدي تعقب هذه الحكاية بأنه شيخه فيها كان متعصباً على ابن العربي (يعني فلا يقبل قوله فيه) .
قلت : وهو تعقب غير مرضي ، بل هو على قلة إطلاع بن مسدي ، وهو معذور ، لأن أبا جعفر ابن المرجي راويها في الأصل كان مستبعداً لصحة قول ابن العربي بل هو وأهل البلد . حتى قال قائلهم :
يا أهل حمص ومن بها أوصيكم بالبر والتقوى وصية مشفق
فخذوا عن العري أسمار الدجى وخذوا الرواية عن إمام متقي
إن الفتى ذرب اللسان مهذب إن لم يجد خيراً صحيحاً يخلق
وعنى بأهل حمص أهل أشبيلية ، فلما جكاها أبو العباس البناني لابن مسدي على هذه الصورة ، ولمك يكن عنده على حقيقة ما قاله ابن العربي ، احتاج من أجل الذب عن ابن العربي أن يتهمك البناني ، حاشا وكلا ما علمنا عليه من سوء ، بل ذلك مبلغهم من العلم .
وقد تتبعت طرق هذا الحديث ، فوجدته كما قال ابن العربي من ثلاثة عشر طريقاً عن الزهري غير طريق مالك ، بل أزيد ، فرويناه من طريق الأربعة الذين ذكرهم شيخنا .
5- ومن رواية عقيل ابن خالد .
6- ويونس بن يزيد .
7- ومحمد بن أبي حفصة .
8- وسفيان بن عيينة .
9- وأسامه بن زيد الليثي .
10- وابن أبي ذئب .
11- 12- وعبد الرحمن ومحمد ابني عبد العزيز الأنصاريين .
13- ومحمد بن إسحاق .
14- وبحر بن كنيز السقا .
15- وصالح بن أبي الأخضر .
16- ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي الموالي .
أما رواية ابن أخي الزهري التي عزاها شيخنا لتخريج البزار فقد أخرجها أبو عوانة في صحيحه ، عن أبي إسماعيل محمد بن إسماعيل هو : الترمذي ، حدثنا إبراهيم بن يحيى الشجري ، حدثني أبي عن ابن إسحاق حدثني محمد بن عبد الله بن شهاب ، عن عمه ، عن أنس رضي الله تعالى عنه قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة وعلى رأسه المغفر ورواه الخطيب في تاريخه من طريق أبي بكر النجاد عن الترمذي ، ورواه النسائي في (( مسند مالك )) عن محمد بن نصر ، والبزار في مسنده عن عبد الله بن شبيب كلاهما عن إبراهيم بن يحيى ، وإبراهيم مدني قد أخرج له البخاري في (( الأدب المفرد (( من روايته عن أبيه ولم يذكر في تاريخه فيهما جرحاً . وتكلم فيهما بعضهم من قبل حفظهما والله أعلم .
وأما رواية أبي أويس فقرأت على العماد الفرضي عن القاسم ابن مظفر أن محمد بن هبة الله الفارسي أنبأهم قال : أنبأ علي بن الحسين الحافظ . أنا أبو الفرج بن أبي الرجاء . أنا أبو طاهر بن محمود . أنا أبو بكر ابن المقري في (( معجمه )) , ثنا السلم بن معاذ الدمشقي . حدثنا أحمد بن يحيى الصوفي ثما إسماعيل بن أبان ح ورواه ابن عدي في (( الكامل )) عن محمد بن أحمد بن هارون ، عن أحمد بن موسى البزار عن إسماعيل بن أبان عن أبي أويس عن الزهري عن أنس رضي الله عنه قال : (( إن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة حين افتتحها وعلى رأسه مغفر من حديد )) .
قال ابن عدي : هذا يعرف بمالك ، عن الزهري ، وقد روي عن أبي أويس كما ذكرته وعن ابن أخي الزهري ومعمر .
قلت : وقد وقع من وجه آخر قرء على عبد الله بن عمر بن علي وأنا شاهد أن محمد بن أحمد بن خالد أخبرهم قال : أنا عبد الولي البعلي . أنا حماد بن أبي العميد . أنا عبد الله بن أحمد بن محمد بن عبد القاهر . أنا منصور بن بكر بن محمد بن علي بن حميد أنا جدي أبو بكر بن محمد بن علي . ثنا أبو العباس الأصم . ثنا أبو جعفر بن المنادي ثنا يونس بن محمد . ثنا أبو أويس ، عن ابن شهاب عن أنس رضي الله تعالى عنه
قال : إنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح دخل مكة وعلى رأسه المغفر، فلما نزعه صلى الله عليه وسلم أتاه رجل ، فقال يا رسول الله ! هذا ابن خطل متعلق بأستار الكعبة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( اقتلوه )) .
قلت : ورجال هذا الإسناد ثقات أثبات ، إلا أن في أبي أويس بعض كلام ، وقد جزم جماعة من الحفاظ منهم : البزار أنه كان رفيق مالك في السماع ، وعلى هذا فهذا اللفظ الثاني أشبه أن يكون محفوظاً ، على أن بعض الرواة عن مالك قد رواه عنه باللفظ الأول ، كما بينه الدار قطني في (( غرائب مالك )) رحمه الله تعالى عليهما والله الموفق .
وأما رواية معمر التي لم يعزها شيخنا فرواها أبو بكر بن المقري في معجمه قال : ثنا سعيد بن قاسم ، عن مرثد ، ثنا مؤمل بن اهاب . ثنا عبد الرزاق ح قال ابن المقرئ : وحدثنا محمد بن طيب . ثنا عبد الله بن حمدويه البغلاني ثنا أبو داود السنجي ، ثنا عبد الرزاق ثنا معمر ، عن الزهري عن أنس رضي الله عنه قال : (( إن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة وعلى رأسه المغفر )) . أخبرينه أبو بكر ( ابن إبراهيم ) الفرضي بالإسناد الذي قدمته آنفاً إلى ابن المقرئ .
ورواه داود بن الزبرقان ، عن معمر ، فأدخل بينه وبين الزهري فيه مالكاً . أخرجه الدار قطني في (( غرائب مالك )) . والخطيب في (( الرواة عن مالك )) . والحاكم في (( المستدرك )) بأسانيد ضعيفة إليه . ورواه الواقدي عن معمر ، فلم يذكر مالكاً ، وسيأتي إسناده إن شاء الله تعالى .
وأما رواية الأوزاعي : فرواها تمام بن محمد الرازي في الجزء الرابع عشر من فوائده قال : (( أنا أبو القاسم ابن علي بن يعقوب من أصل كتابه قال : أنا أبو عمرو محمد بن خلف الأطرويشي الصرار ))
وقال أبو عبد الله بن مندة : (( ثنا جمع بن أبان المؤذن . ثنا هشام بن خالد ، ثنا الوليد بن مسلم ، عن الأوزاعي ، عن الزهري ، عن أنس قال : إن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة وعلى رأسه المغفر )) . لفظ تمام ورواته ثقات ، لكني أظن أن الوليد بن مسلم دلس فيه تدليس التسوية ، لأنه الدار قطني ذكر في (( كتاب الموطآت )) أن جماعة من الأئمة الكبار رووه عن مالك فعد فيه الأوزاعي وابن جريج وابن عيينة وغيرهم . ثن وجدته في (( المديح )) للدار قطني أخرجه من طريق المؤمل بن الفضل ، عن الوليد بن مسلم قال ثنا الأوزاعي عن مالك ، عن الزهري .
وهكذا رواه أبو الشيخ في (( الإقران )) من طريق محمد بن كثير عن الأوزاعي ، عن مالك ، فترجح أن الوليد دلسه . وقد وجدته من رواية محمد بن مصعب عن الأوزاعي أيضاً قال الخطيب في تاريخه : (( أنا الحسن بن محمد الخلال . أنا علي بن عمرو بن سهل الحريري . ثنا محمد بن الحسن بن مقسم من أصل كتابه . ثنا موسى بن الحسن بن أبي عباد ثنا محمد بن مصعب القرقساني . ثنا الأوزاعي عن الزهري فذكره قال الخطيب : هذا وهم على محمد بن مصعب ، فإنه إنما رواه عن مالك لا عن الأوزاعي .
قلت : فكأن الراوي عنه سلك الجادة ، لأنه مشهور بالرواية عن الأوزاعي لا عن مالك والله أعلم .
وأما رواية عقيل بن خالد ، فرواها أبو الحسين بن جميع الحافظ في (( معجمه )) قال : ثنا محمد بن أحمد هو الخولاني ، ثنا أحمد بن شدين ( هو أحمد بن محمد بن الحجاج بن رشدين ) حدثني أبي عن أبيه عن ابن ليهعة ، عن عقيل عن ابن شهاب ، عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه دخل مكة عام الفتح وعلر رأسه المغفر فلما نزعه صلى الله عليه وسلم جاءه رجل فقال : ابن خطل متعلق بأستار الكعبة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( اقتلوه )) .
قال ابن شهاب ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ محرماً . رواته معروفون إلا أن فيهم من تكلم فيه ، وليسوا في حد الترك بل يخرج حديثهم في المتابعات والله الموفق .
وأما رواية يونس بن يزيد فقال أبو سعلى الخليلي في (( كتاب الإرشاد )) له حدثني جعفر بن محمد الأندلسي . حدثني أبو بكر : أحمد بن محمد بن إسماعيل المهندس بمصر . حدثني أبي . حدثنا أبو عبيدالله أحمد بن عبد الرحمن بن وهب أنا عمي عبد الله بن وهب عن مالك ويونس بن يزيد ، عن الزهري عن أنس رضي الله عنه قال : (( إن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة وعليه مغفر )) .
قال الخليلي : رواه الحفاظ عن (عبد الله) بن وهب عن مالك وحده ليس فيه يونس . قال لي جعفر : حدثنا به أحمد من أصل كتابه العتيق قال : وأبوه الثقات .
قلت : كلامه يشعر بتفرد ابن أخي ابن وهب عن عمه به وهو كذلك لكن له طريق أخرى عن يونس كما سيأتي إن شاء الله تعالى . وقرأت بخط الحافظ أبي علي البكري ، قال : قرأت بخط الحافظ أبي الوليد بن الدباغ أنا أو محمد بن عتاب . أنا عبد الله بن عائذ اجازة قال : أن أبو بكر : أحمد بن محمد بن إسماعيل فذكره .
وأما رواية محمد بن أبي حفصة ، فقال الخطيب (( في الرواة عن مالك )) : أن أبو بكر محمد نب الفرج بن علي البزار : أنا محمد بن إسحاق القطيعي الحافظ .
حدثني عبدان بن هشيم بن عبدان . ثنا النضر بن هارون السيرافي ثنا أحمد بن داود بن راشد البصري القرشي . ثنا مهدي بن هلال الراسي . ثنا مالك بن أنس ويونس بن يزيد ومحمد بن أبي حفصة عن الزهري ، عن أنس رضي الله عنه قال : إن النبي صلى الله عليه وسلم دخل يوم فتح مكة وعلى رأسه صلى الله عليه وسلم مغفر ، فقيل له : إن ابن خطل متعلق بأستار الكعبة قال صلى الله عليه وسلم اقتلوه . لكن مهدي بن هلال ضعيف جداً . وأشار إلى ذلك الحافظ أبو الوليد الدباغ فقال : (( لم ينفرد به مالك ، بل وقع لي من رواية يونس وابن أبي حفصة ومعمر كلهم عن الزهري )) . وأما رواية سفيان بن عيينة ، فقال أبو يعلى في مسنده ثنا محمد بن عباد المكي . ثنا سفيان هو ابن عيينة، عن الزهري عن أنس رضي الله عنه قال : (( إن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة وعليه مغفر )) . هكذا رويناه في مسند أبي يعلى روايتي ابن المقرئ وابن حمدان . وكذا رويناه في فوائد بشر بن أحمد الاسفرائيني ، عن أبي يعلى ورجاله رجال مسلم .
لكن رواه النسائي من طريق الحميدي عن ابن عيينة عن مالك عن الزهري ، فيحتمل أن يكون ابن عيينة دلسه حين حدث به محمد بن عباد أو سواه محمد بن عباد فقد قدمنا عن الدار قطني أنه عد ابن عيينة في الأكابر الذين رووه عن مالك .
وأما رواية أسامة بن زيد الليثي ، فرواها الحاكم في (( تاريخ نيسابور )) وابن حبان في (( الضعفاء )) من طريق عبدالسلام بن أبي فروة النصيبي عن عبد الله بن موسى عن أسامة بن زيد عن الزهري عن أنس رضي الله تعالى عنه قال : إن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة وعلى رأسه المغفر لكن عبد السلام ضعيف جداً .
وأما رواية ابن أبي ذئب ، فرواها ابن المقري في (( معجمه )) وأبو نعيم في (( الحلية )) عنه ( عن عمرو بن أحمد بن جابر الرملي ) عن محمد بن يعقوب الفرجي عن أحمد بن عيسى ، عن أبي فديك عن ابن أبي ذئب عن الزهري مثله والله تعالى أعلم . لكن أحمد بن عيسى أبو الطاهر ضعيف .
وأما رواية عبد الرحمن ومحمد ابني عبد العزيز فرويناه في فوائد أبي محمد عبد الله بن إسحاق الخراساني ، قال : ثنا أحمد بن الخليلي بن ثابت ثنا محمد بن عمر الواقدي ثنا معمر ومالك ومحمد بن عبد العزيز سمعوا الزهري يخبر عن أنس رضي الله تعالى عنه به . والواقدي ضعيف وعبد الرحمن ضعفه أبو حاتم .
وأما رواية محمد بن إسحاق وبحر بن كنيز السقا ، فذكر الحافظ أبو محمد جعفر الأندلسي نزيل مصر فيما خرجه من حديث أحمد بن محمد بن عمر الجيزي من روايته عن شيوخه المصريين قال بعد أن أخرج هذا الحديث من رواية ابن أخي الزهري : (( اشتهر أن مالكاً تفرد به وقد وقع لنا من رواية بضعة عشر رروه غير مالك ، منهم أبو أويس ومحمد بن إسحاق وبحر بن كنيز السقا وذكر بعض من ذكرنا )) .
قلت : ولم يقع لي روايتها إلى الآن وأخبرني بعض الحفاظ أنه وقف على رواية ابن إسحاق له عن الزهري في (( مسند مالك )) لأبي أحمد بن عدي .
قلت : وقد تقدم في ذكر رواية ابن أخي أن ابن إسحاق رواه عنه عن عمه فالله أعلم .
ثم وقع لي من طريق ابن وهب عن ابن إسحاق عن الزهري لكنه قال عن عروة عن عائشة رضي الله تعالى عنها . رويناه في (( فوائد )) أبي إسماعيل الهروي الحافظ بإسناد ضعيف .
وأما رواية صالح بن أبي الأخضر ، فذكرها الحافظ أبو ذر الهروي عقب رواية البخاري له عن يحيى بن قزعة عن مالك
قال أبو ذر : (( لم يرو حديث المغفر أحد عن الزهري إلا مالك وقد وقع لنا عن صالح بن أبي الأخضر عن الزهري وليس صالح بذاك .
قلت : ولم تقه لي هذه الرواية إلى الآن . وأما رواية محمد بن عبد الرحمن بن أبي الموالي ، فرواها الدار قطني (( الافراد )) وموسى بن عيسى السراج في (( فوائده )) كلاهما عن عبد الله بن أبي داود ، ثنا إسحاق بن الأخيل العنبسي ثنا عثمان بن عبد الرحمن ثنا ابن أبي الموالي ، عن الزهري ، عن أنس رضي الله تعالى عنه .
قال الدار قطني : تفرد به عثمان بن عبد الرحمن بن أبي الموالي واسمه : محمد بن عبد الرحمن بن أبي الموالي .
قلت : وعثمان هو الوقاصي ضعيف جداً . ورويناه أيضاً من طريق يزيد الرقاشي عن أنس رضي الله عنه متابعاً للزهري . رويناه في فوائد أبي الحسن الفراء الموصلي ، نزيل مصر ويزيد ضعيف . ورويناه هذه القصة أيضاً من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها كما تقدم قريباً .
ومن حديث سعد بن أبي وقاص وأبي برزة الأسلمي رضي الله تعالى عنهما وحديثهما في (( السنن )) للدار قطني . ومن حديث علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وهو في (( المشيخة الكبرى )) لأبي محمد الجوهري . ومن طريق سعيد بن يربوع، والسايب بن يزيد رحمة الله تعالى عليهما وهما في مستدرك الحاكم وألفاظهم مختلفة .
فهذه طرق كثيرة غير طريق مالك ، عن الزهري عن أنس رضي الله عنه فكيف يحمل ممن له أن يتهم إماماً من أئمة المسلمين بغير علم ولا اطلاع . ولقد أطلت في الكلام على هذا الحديث ، وكان الغرض منه الذب عن أعراض هؤلاء الحفاظ ، والإرشاد إلى عدم الطعن والرد بغير اطلاع . وآفة هذا كله الإطلاق في موضع التقييد .
فقول من قال من الأئمة : إن هذا الحديث تفرد به مالك عن الزهري ليس على إطلاقه ، وإنما المراد به بشرط الصحة
وقول ابن العربي : إنه رواه من طرق غير طريق مالك إنما المراد به الجملة سواء صح أو لم يصح ، فلا اعتراض ولا تعارض . وما أجود عبارة الترمذي في هذا فإنه قال بعد تخريجه : (( لا يعرف (كبير أحد) رواه عن الزهري غير مالك )) . وكذا عبارة ابن حبان (( لا يصح إلا من رواية مالك ، عن الزهري )) . فهذا التقييد أولى من ذلك الإطلاق .وهذا بعينه حاصل في الكلام على حديث (( الأعمال بالنيات )) والله الموفق .
تنبيه
مثل الحاكم للشاذ بمثال يتجه عليه من الاعتراض أشد مما اعترض به على المصنف ، فإنه أخرج من طريق محمد بن عبد الله الأنصاري قال : حدثني أبي ، عن ثمامة بن عبد الله بن أنس ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : (( كان منزلة قيس بن سعد رضي الله عنه من النبي صلى الله عليه وسلم بمنزلة صاحب الشرطة من الأمير )) .
قال الحاكم : (( هذا الحديث شاذ ، فإن رواته ثقات وليس له أصل عن أنس رضي الله تعالى عنه ولا عن غيره من الصحابة رضي الله تعالى عنهم بإسناد آخر )) .
قلت : وهذا الحديث أخرجه البخاري في صحيحه من هذا الوجه والحاكم موافق على صحته إلا أنه يسميه شاذاً . ولا مشاحة في التسمية . وفي الجملة فالأليق في حد (( الشاذ )) ما عرف به الشافعي والله أعلم .
45- قوله (ع) : (( وقد رواه غير يحيى بن سليم ، عن عبيد الله ، عن نافع ، عن ابن عمر رضي الله عنهما
فذكر رواية يونس ين عبيد عن نافع من عند ابن عدي )) .
قلت : ليس هذا متابعاً ليحيى بن سليم عن عبيد الله وقد وجدت له متابعاً .
قال ابن أبي حاتم في (( العلل )) : سألت أبي عن حديث رواه سعيد بن يحيى الأموي ، عن أبيه عن عبيد الله ، عن نافع وعبد الله بن دينار ، عن ابن عمر قال : (( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الولاء وعن هبته )) .
قال : فقال أبي : وإنما أخذه نافع عن عبد الله بن دينار . وذكر الحافظ عماد الدين ابن كثير أن أبا حاتم الرازي رواه أيضاً عن قبيصة بن عقبة ، عن سفيان الثوري ، عن عبيد الله عن نافع ، عن ابن عمر رضي الله عنهما وقد وهم فيه قبيصة فقد خرجه الشيخان في الصحيحين من حديث الثوري عن عبد الله عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما على المحفوظ .
وعلى تقدير أن يكون محفوظاً ، فقد سقط منه عبد الله بن دينار بين نافع وابن عمر رضي الله تعالى عنهما كما أشار إليه أبو حاتم قبل . وقد رويناه من غير طريق نافع أيضاً .
قال الطبراني في (( الأوسط )) حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى بن حمزة ثنا أبي ، عن أبيه عن سفيان الثوري ، عن عمرو بن دينار أنه سمع ابن عمر رضي الله عنه يقول : فذكره .
قال الطبراني : (( لم يروه عن سفيان عن عمرو إلا يحيى بن حمزة تفرد به ولده عنه )) .
قلت : وهو وهم والمحفوظ من حديث الثوري ، عن عبد الله بن دينار كما تقدم والله أعلم .
99- قوله (ص) : (( وقد قال مسلم للزهري نحو تسعين حرفاً … )) إلى آخره .
هو في الصحيح من كتاب الإيمان والنذور منه ، واختلفت النسخ في العدد والأكثر تقديم التاء على السين والله أعلم .
100- قوله (ص) : (( وإن كان بعيداً من ذلك رددنا ما انفرد به ، وكان من قبيل الشاذ المنكر … )) الخ .
هذا يعطي أن الشاذ والمنكر عنده مترادفان . والتحقيق خلاف ذلك على ما سنبينه بعد إن شاء الله تعالى .
النوع الرابع عشر : المنكر
101- قوله (ص) : (( وإطلاق الحكم على التفرد بالرد أو النكارة أو الشذوذ موجود في كلام كثير من أهل الحديث )) .
قلت : وهذا مما ينبغي التيقظ له ، فقد أطلق الإمام أحمد والنسائي وغير واحد من النقاد لفظ المنكر على مجرد التفرد لكن حيث لا يكون المتفرد في وزن من يحكم لحديثه بالصحة بغير عاضد يعضده .
وأما قول المصنف : والصواب التفصيل الذي بيناه آنفاً في شرح الشاذ ، فليس في عبارته ما يفصل أحد النوعين عن الآخر . نعم هما مشتركان في كون كل منهما على قسمين وإنما اختلافهما في مراتب الرواة فالصدوق إذا تفرد بشئ لا متابع له ولا شاهد ولم يكن عدنه من الضبط ما يشترط في حد الصحيح والحسن ، فهذا أحد قسمي الشاذ فإن خولف من هذه صفته مع ذلك كان أشد في شذوذه ، وربما سماه بعضهم منكراً وإن بلغ تلك الرتبة في الضبط ، لكنه خالف من هو أرجح منه في الثقة والضبط ، فهذا القسم الثاني من الشاذ وهو المعتمد في تسميته .
وأما إذا انفرد المستور أو الموصوف بسوء الحفظ أو المضعف في بعض مشايخه دون بعض بشئ لا متابع له ولا شاهد فهذا أحد قسمي المنكر ، وهو الذي يوجد في إطلاق كثير من أهل الحديث . وإن خولف في ذلك ، فهو القسم الثاني وهو المعتمد على رأي الأكثرين . فإن بهذا فصل المنكر من الشاذ وإن كلاً منهما قسمان يجمعهما مطلق التفرد أو مع قيد المخالفة والله أعلم .
وقد ذكر مسلم في مقدمة صحيحه ما نصه :
(( وعلامة المنكر في حديث المحدث إذا ما عرضت روايته للحديث على رواية غيره من أهل الحفظ والرضى خالفت روايته روايتهم ، أولم تكد توافقها ، فإذا كان الأغلب من حديثه كذلك كان مهجور الحديث غير مقبولة ولا مستعملة )) .
قلت : فالرواة الموصوف بهذا هم المتروكون . فعلى هذا رواية المتروك عند مسلم تسمى منكرة . وهذا هو المختار والله أعلم .
44- قوله (ع) : (( وقد خالف مالكاً في ذلك ابن جريج وابن عيينة وهشيم إلى آخره )) .
أقول : في رواية هشيم مخالفة في المتن شديدة أشد من مخالفة مالك في اسم أحد رواة الإسناد ، فكان التمثيل به أولى لو سلمنا أن مخالفة الثقة توجب النكارة ، وإنما توجب عندنا الشذوذ ، كما حققناه . وبيان مخلفة هشيم أنه رواه عن الزهري بالإسناد المذكور بلفظ (( لا يتوارث أهل ملتين )) .
وقد حكم النسائي وغيره على هشيم بالخطأ فيه . وعندي أنه رواه من حفظه بلفظ ظن أنه يؤدي معناه ، فلم يصب فإن اللفظ الذي أتى به أعم من اللفظ الذي سمعه ، وسبب ذلك أن هشيماً سمع من الزهري بمكة أحاديث ولم يكتبها وعلق بحفظه بعضها فلم يكن من الضابطين عنه ، ولذلك لم يخرج الشيخان من روايته عنه شيئاً والله أعلم .
46- قوله (ع) : (( ولنذكر مثالاً للمنكر )) ، ثم أورد حديث همام ، عن ابن جريج عن الزهري عن أنس رضي الله عنه في وضع الخاتم عند دخول الخلاء )) .
وقد نوزع أبو داود في حكمه عليه بالنكارة مع أن رجاله أن من رجال الصحيح . والجواب أن أبا داود حكم عليه بكونه منكراً ، لأن هماماً تفرد به عن ابن جريج وهماً وإن كانا من رجال الصحيح ، فإن الشيخين لم يخرجا من رواية همام عن ابن جريج شيئاً ، لأن أخذه عنه كان لما كان ابن جريج بالبصرة ، والذين سمعوا من ابن جريج بالبصرة في حديثهم خلل من قبله ، والخلل في هذا الحديث من جهة أن ابن جريج دلسه عن الزهري بإسقاط الواسطة وهو زياد بن سعد ووهم همام في لفظه على ما جزم به أبو داود وغيره هذا وجه حكمه عليه بكونه منكراً ، وحكم النسائي عليه بكونه غير محفوظ أصوب فإنه شاذ في الحقيقة إذ المنفرد به من شرط الصحيح لكنه بالمخالفة صار حديثه شاذاً .
وأما متابعة يحيى بن المتوكل له عن ابن جريج ، فقد تفيد لكن قول يحيى بن معين : لا أعرفه ، أراد به جهالة عدالته لا جهالة عينه ، فلا يعترض عليه بكونه روى عنه جماعة ، فإن مجرد روايتهم عنه لا تستلزم معرفة حاله .
وأما ذكر ابن حبان له في الثقات ، فإنه قال فيه مع ذلك : كان يخطئ وذلك مما يتوقف به عن قبول أفراده . على أن للنظر مجالاً في تصحيح حديث همام ، لأنه مبني على أن أصله حديث الزهري ، عن أنس رضي الله عنه في اتخاذ الخاتم
ولا مانع أن يكون هذا متن آخر غير ذلك المتن وقد مال إلى ذلك ابن حبان فصححهما جميعاً ، ولا علة له عندي إلا تدليس ابن جريج فإن وجد عنه بالتصريح بالسماع فلا مانع من الحكم بصحته في نقدي والله أعلم .
وإذا تقرر كون هذا أيضاً لا يصلح مثالاً للمنكر فلنذكر مثالاً للمنكر غيره . وقد ذكر الحافظ العلائي في هذا المقام
حديث هشام بن سعد عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : (( جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم أفطر في رمضان … فذكر حديث المواقع أهله في رمضان ، وذكر فيه الكفارة وقوله : (( علي أفقر مني )) وزاد في آخر المتن (( وصم يوماً مكانه واستغفر الله )) .
قال العلائي : (( تفرد به هكذا هشام بن سعد وهو متكلم فيه سئ الحفظ ، وخالف فيه عامة أصحاب الزهري الكبار الحفاظ فمن دونهم فإنه عندهم عنه عن حميد بن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة لا عن أبي سلمة وليست عندهم هذه الزيادة .
قلت : وذكر أبو عوانة في صحيحه حديث هشام بن سعد هذا وقال : غلط هشام بن سعد . وأورده ابن عدي في مناكير هشام بن سعد .
وقال أبو يعلى الخليلي :
(( أنكر الحفاظ حديثه في المواقع في رمضان من حديث الزهري عن أبي سلمة وقالوا : إنما رواه الزهري عن حميد ))
قال : ورواه وكيع عنه عن الزهري عن أبي هريرة رضي الله عنه منقطعاً . قال أبو زرعة الرازي : (( أراد وكيع الستر على هشام بن سعد بإسقاط أبي سلمة )) .
تنبيه
قول العلائي الذي أسلفناه أن الزيادة التي في آخر المتن تفرد بها هشام بن سعد ليس كما قال ، فقد تابعه عليها الليث بن سعد وعبد الجبار بن عمر الأيلي كما أخرجه أبو عوانة في صحيحه والبيهقي والله أعلم .
وأما حديث أبي زكير في أكل البلح بالتكر ، فقد أورده الحاكم في (( المستدرك )) لكنه لم يحكم له بالصحة ولا غيرها . وأما ابن الجوزي أبو الفرج ، فكذره في (( الموضوعات )) . والصواب فيها ما قال النسائي وتبعه ابن الصلاح : (( إنه منكر )) . باعتبار تفرد الضعيف به على إحدى الروايتين . وقد جزم ابن عدي بأنه تفرد به .
وقول الخليلي : إنه شيخ صالح أراد به في دينه لا في حديثه لأن من عادتهم إذا أرادوا وصف الراوي بالصلاحية في الحديث قيدوا ذلك ، فقالوا : صالح الحديث . فإذا أطلقوا الصلاح ، فإنما يريدون به في الديانة . والله أعلم .
النوع الخامس عشر : معرفة الاعتبار
102- قوله (ص) : (( معرفة الاعتبار والمتابعات والشواهد )) .
قلت : هذه العبارة توهم أن الاعتبار قسيم للمتابعة والشاهد وليس كذلك ، بل الاعتبار هو : الهيئة الحاصلة في الكشف عن المتابعة والشاهد .
وعلى هذا فكان حق العبارة أن يقول : معرفة الاعتبار للمتابعة والشاهد . وما أحسن قول شيخنا في منطومته :
(( الاعتبار سبرك الحديث هل تابع راو غيره فيما حمل ))
فهذا سالم من الاعتراض والله أعلم .
103- قوله (ص) : (( مثال للمتابع والشاهد )) فذكر حديث سفيان عن عمرو عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما حديث (( لو أخذوا اهابها )) .
وذكر أن شاهده عن عبد الرحمن بن وعلة عن ابن عباس رضي الله عنهما حديث (( أيما اهاب دبغ فقد ظهر )) .
وهذا فيه أمران :
أحدهما : أنه ليس مثالاً للمتابعة التامة إذ ( من شرط التامة عنده أن يتابع نفس الراوي لا شيخه كما قال ) ألاً أن يروي الحديث بعينه عن أيوب غير حماد .
قال : فهذه المتابعة تامة ، وأن شيخ الراوي إذا توبع أو شيخ شيخه ، قد يطلق اسم المتابعة ، لكن من تقصر عن الأولى بحسب البعد . وإذا تقرر هذا ، فالمثال ليس مطابقاً للمتابعة التامة . لأن سفيان بن عيينة لم يتابعه أحد عن عمرو على ذكر الدباغ وإنما توبع شيخه عمرو ، عن عطاء .
الثاني : أنه ليس بمطابق أيضاً لما تقدم من أن المتابعة (لمن) دون الصحابي . وأن الشاهد أن يروي حديث آخر بمعناه يعني من حديث صحابي آخر وأن إطلاق الشاهد على غير ذلك قليل ، لأن كلاً من المتابع والشاهد اللذين أوردهما من حديث صحابي واحد وهو ابن عباس رضي الله تعالى عنهما .
وفي الحقيقة عبد الرحمن بن وعلة قد تابع عطاء في روايته عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما هذا الحكم . وإذا تقرر هذا ، فلنذكر مثالاً للمتابعة والشاهد سالماً من هذا الاعتراض وهو ما رواه الشافعي في ((الأم)) عن مالك عن عبدالله بن دينار عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( الشهر تسع وعشرون فلا تصوموا حتى تروا الهلال ، ولا تفطروا حتى تروه ، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين )) .
فإن الحديث المذكور في جميع الموطآت عن مالك بهذا الإسناد بلفظ ، (( فإن غم عليكم فاقدروا له )) .
فأشار البيهقي إلى الشافعي تفرد بهذا اللفظ عن مالك فنظرنا فإذا البخاري قد روى الحديث في صحيحه فقال : حدثنا عبد الله بن مسلمة القعني ، حدثنا مالك ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر رضي الله عنهما فساقه باللفظ الذي ذكره الشافعي سواء والعجب من البيهقي كيف خفيت عليه ؟
ودل [هذا] على أن مالكاً رواه عن عبد الله باللفظين معاً . وقد توبع عليه عبد الله بن دينار من
وجهين عن ابن عمر رضي الله عنهما .
1- أحدهما : أخرجه مسلم من طريق أبي أسامة ، عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر فذكر الحديث وفي آخره بلفظ (( فإن غم عليكم فاقدروا ثلاثين )) .
2- والثاني : أخرجه ابن خزيمة في صحيحه من طريق عاصم بن محمد بن زيد عن أبيه عن ابن عمر رضي الله عنهما بلفظ (( فإن عن عليكم فكملوا ثلاثين )) فهذه متابعة أيضاً لكنا ناقصة . وأما شاهده فله شاهدان :
شاهد لحديث الشافعي :
1- أحدهما : من حديث أبي هريرة رضي الله عنه رواه البخاري عن آدم عن شعبة عن محمد بن زياد عن أبي هريرة رضي الله عنه ولفظه (( فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين )) .
2- وثانيهما : من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أخرجه النسائي من رواية عمرو بن دينار عن محمد بن حنين عن ابن عباس رضي الله عنهما بلفظ حديث ابن دينار عن ابن عمر رضي الله عنها .
فهذا مثال صحيح بطرق صحيح للمتابعة التامة والمتابعة الناقصة والشاهد باللفظ والشاهد بالمعنى والله الموفق سبحانه .
النوع السادس عشر :
معرفة زيادات الثقات
104- قوله (ص) : (( وقد كان أبو بكر النيسابوري )) وذكر غيره مذكورين بمعرفة زيادات الألفاظ الفقيهة في الأحاديث )) إلى آخره .
مراده بذلك الألفاظ التي يستنبط منها الأحكام الفقهية لا ما زاده الفقهاء دون المحدثين في الأحاديث ، فإن تلك تدخل في المدرج لا في هذا . وإنما نبهت على هذا وإن كان ظاهراً ، لأن العلامة مغلطاي استشكل ذلك على المصنف ودل على أنه ما فهم مغزاه فيه ، والله تعالى أعلم .
تنبيه
قال ابن حبان في مقدمة الضعفاء : (( لم أر على أديم الأرض من الأرض يحسن صناعة السنن ويحفظ الصحاح بألفاظها ويقوم بزيادة كل لفظة تزاد في الخبر ثقة حتى كأن السنن كلها نصب عينيه إلا محمد بن إسحاق بن خزيمة فقط )) . والله تعال أعلم .
105- قوله (ص) وقد رأيت تقسيم الزيادات إلى ثلاثة أقسام :
1- أحدها : ما يقع منافياً لما رواه الثقات وهذا حكمه الرد يعني لأنه يصير شاذاً .
2- والثاني : أن لا يكون منافاة ، فحكمه القبول ، لأنه جازم بما رواه وهو ثقة ولا معارض لروايته ، لأن الساكت عنها لم ينفها لفظاً ولا معنى لأن مجرد سكوته عنها لا يدل على أن راويها وهم فيها
3- والثالث : ما يقع بين هاتين المرتبتين مثل زيادة لفظه في حديث لم يذكرها سائر من روى ذلك الحديث .
يعني وتلك اللفظة توجب قيداً في إطلاق أو تخصصاً لعموم ففيه مغايرة في الصفة ونوع مخالفة يختلف الحكم بها . (( فهو يشبه القسم الأول من هذه الحثيثة ويشبه القسم الثاني من حيث أنه لا منافاة في الصورة )) .
قلت : لم يحكم ابن الصلاح على هذا الثالث بشئ . والذي يجري على قواعد المحدثين أنهم لا يحكمون عليه بحكم مستقل من القبول والرد ، بل يرجحون بالقرائن كما قدمناه في مسألة تعار الوصل والإرسال . على أن القسم الأول الذي حكم عليه المصنف بالرد مطلقاً ، قد نوزع فيه وجزم ابن حبان والحاكم وغيرهما بقبول زيادة الثقة مطلقاً في سائر الأحوال سواء اتحد المجلس أو تعدد ، سواء أكثر الساكتون أو تساووا . وهذا قول جماعة من أئمة الفقه والأصول ، وجرى على هذا الشيخ محي الدين النووي في (( مصنفاته )) .
وفيه نظر كثير ، لأنه لا يرد عليهم الحديث الذي يتحد فيرويه جماعة من الحفاظ الأثبات على وجه
ويريه ثقة دونهم في الضبط والاتقان على وجه ( يشتمل على زيادة ) تخالف ما رووه إما في المتن وإما
في الإسناد ، فكيف تقبل زيادته وقد خالفه من لا يغفل مثلهم عنها لحفظهم أو لكثرتهم ، ولا سيما
إن كان شيخهم ممن يجمع حديثه ويعتني بمروياته كالزهري وأضرابه بحيث يقال : إنه لو رواها لسمعها منها حفاظ أصحابه ولو سمعوها لرووها ولما تطابقوا على تركها ، والذي يغلب على الظن في هذا وأمثاله تغليط راوي الزيادة ، وقد نص الشافعي في (( الأم )) على نحو هذا فقال في زيادة مالك ومن تابعه في حديث (( فقد عتق منه ما عتق )) : إنما يغلط الرجل بخلاف من هو أحفظ منه أو بأن يأتي بشئ يشركه فيه من لم يحفظه عنه ، وهم عدد وهو منفرد )) .
فأشار إلى أن الزيادة متى تضمنت مخالفة الأحفظ أو الأكثر عدداً أنها تكون مردودة . وهذه الزيادة التي زادها مالك لم يخالف فيها من هو أحفظ منه ولا أكثر عدداً فتقبل ، وقد ذكر الشافعي رضي الله عنه هذا في مواضع وكثيراً ما يقول : (( العدد الكثير أولى بالحفظ من الواحد )) .
وقال ابن خزيمة في صحيحه :
(( لسنا ندفع أن تكون الزيادة مقبولة من الحفاظ ، ولكنا نقول : إذا تكافأت الرواة في الحفظ والاتقان فروى حافظ بالأخبار زيادة في خبر قبلت زيادته . فإذا تواردت الأخبار ، فزاد وليس مثلهم في الحفظ زيادة لم تكن تلك الزيادة مقبولة )) .
وقال الترمذي في أواخر الجامع : (( وإنما تقبل الزيادة ممن يعتمد على حفظه )) .
وفي سؤالات السهمي للدار قطني :
(( سئل عن الحديث إذا اختلف فيه الثقات ؟
قال : ينظر ما اجتمع غليه ثقتان فيحكم بصحته ، أو ما جاء بلفظة زائدة ، فتقبل تلك الزيادة من متقن ، ويحكم لأكثرهم حفظاً وثبتاً على من دونه )) .
قلت : وقد استعمل الدار قطني ذلك في (( العلل )) و (( السنن )) كثيراً فقال : في حديث راوه يحيى بن أبي كثير عن أبي عياش عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه في النهي عن بيع الرطب بالتمر نسيئة : (( قد رواه مالك وإسماعيل وأسامة بن زيد والضحاك بن عثمان عن أبي عياش ، فلم يقولوا : نيسئة ، واجتماعهم على خلاف ما رواه يحيى يدل على ضبطهم ووهمه )) .
وقال ابن عبد البر في (( التمهيد )) : (( إنما تقبل الزيادة من الحافظ إذا ثبت عنه وكان أحفظ وأتقن ممن قصر أو مثله في الحفظ ، لأنه كأنه حديث آخر مستأنف . وأما إذا كانت الزيادة من غير حافظ ، ولا متقن ، فإنها لا يلتفت إليها . وسيأتي إن شاء الله كلام الخطيب بنحو هذا .
فحاصل كلام هؤلاء الأئمة أن الزيادة إنما تقبل ممن يكون حافظاً متقناً حيث يستوي مع من زاد عليهم في ذلك ، فإن كانوا أكثر عدداً منه أو كان فيهم من هو أحفظ منه أو كان غير حافظ ولو كان في الأصل صدوقاً فإن زيادته لا تقبل .
وهذا مغاير لقول من قال : زيادة الثقة مقبولة وأطلق والله أعلم . واحتج من قبل الزيادة من الثقة بأن
الراوي إذا كان ثقة وانفرد بالحديث من أصله كان مقبولاً ، فكذلك انفراده بالزيادة وهو احتجاج مردود ، لأنه ليس كل حديث تفرد به أي ثقة كان يكون مقبولاً كما سبق بيانه في نوع الشاذ .
ثم إن الفرق بين تفرد الراوي بالحديث من أصله وبين تفرده بالزيادة ظاهر ، لأن تفرده بالحديث لا يلزم منه تطرق السهو والغفلة إلى غيره من الثقات إذ لا مخالفة في روايته بخلاف تفرده بالزيادة إذا لم يروها من هو أتقن منه حفظاً وأكثر عدداً فالظن غالب بترجيح روايتهم على روايته . ومبنى هذا الأمر على غلبة الظن .
واحتج بعض أهل الأصول بأنه من الجائز أن يقول الشارع كلاماً في وقت ، فيسمعه شخص ويزيده في وقت آخر فيحضره غير الأول ، ويؤدي كل منهما ما سمع ( وبتقدير اتحاد المجلس فقد يحضر أحدهما في أثناء الكلام فيسمع ) ناقصاً ويضبطه الآخر تاماً أو ينصرف أحدهما قبل فراغ الكلام ويتأخر الآخر ، وبتقدير حضورها فقد يذهل أحدها أو يعرض له ألم أو جوع أو فكر شاغل ، أو غير ذلك من الشواغل ولا يعرض لمن حفظ الزيادة ، ونسيان الساكت محتمل والذاكر مثبت .
والجواب عن ذلك أن الذي يبحث فيه أهل الحديث في هذه المسألة ، إنما هو في زيادة ( بعض الرواة ) من التابعين فمن بعدهم . أما الزيادة الحاصلة من بعض الصحابة على صحابي آخر إذا صح السند إليه فلا يختلفون في قبولها ( كحديث ) أبي هريرة رضي الله عنه الذي في (( الصحيحين )) في قصة آخر من يخرج من النار ، وإن الله تعالى يقوله له بعد أن يتمنى ما يتمنى لك ذلك ومثله معه ، وقال أبو سعيد الخدري : أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لك ذلك وعشرة أمثاله .
وكحديث ابن عمر رضي الله عنهما (( الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء )) . متفق عليه . وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما عند البخاري (( فأبردوها بماء زمزم )) .
وإنما الزيادة التي يتوقف أهل الحديث في قبولها من غير الحافظ حيث يقع في الحديث الذي يتحد مخرجه ، كمالك عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما إذا روى الحديث جماعة من الحفاظ الأثبات العارفين بحديث ذلك الشيخ وانفرد دونهم بعض رواته بزيادة ، فإنها لو كانت محفوظة لما غفل الجمهور من رواته عنها . فتفرد واحد عنه بها دونهم ، مع توفر ( دواعيهم ) على الأخذ عنه وجمع حديثه يقتضي ريبة توجب التوقف عنها .
وأما ما حكاه ابن الصلاح عن الخطيب ، فهو وإن نقله عن الجمهور من الفقهاء وأصحاب الحديث ، فقد خالف في اختياره فقال بعد ذلك : (( والذي نختاره أنالزيادة مقبولة إذا كان راويها عدلاً حافظاً ومتقناً ضابطاً )) .
قلت : وهو توسط بين المذهبين ، فلا ترد الزيادة من الثقة مطلقاً ولا نقبلها مطلقاً . وقد تقدم مثله عن ابن خزيمة وغيره وكذا قال ابن طاهر : إن الزيادة إنما تقبل عند أهل الصنعة من الثقة المجمع عليه
تنبيه
سبق المؤلف إلى التفصيل الذي فصله إمام الحرمين في البرهان فقال : بعد أن حكى عن الشافعي وأبي حنيفة رضي الله عنهما : (( قبول زيادة الثقة فقال : (( هذا عندي فيما إذا سكت الباقون ، فإن صرحوا بنفي ما نقله هذا الراوي مع إمكان إطلاعهم فهذا يوهن قول قائل الزيادة )) .
وفصل أبو نصر ابن الصباغ في (( العدة )) تفصيلاً آخر بين أن يتعدد المجلس ، فيعمل بهما ، لأنهما كالخبرين أو يتحد ، فإن كان الذي نقل الزيادة واحداً والباقون جماعة لا يجوز عليهم الوهم سقطت الزيادة ، وإن كان بالعكس ، وكان كل من الفريقين جماعة فالقبول ، وكذا إن كان كل منهما واحداً حيث يستويان وإلا فراوية الضابط منهما أولى بالقبول .
وقال الإمام فخر الدين : (( إن كان الممسك عن الزيادة أضبط من الراوي لها فلا تقبل . وكذا إن صرح بنفيها وإلا قبلت )) .
وقال الآمدي وجرى عليه بن الحاجب :
(( إن اتحد المجلس فإن كان من لم يروها ، قد انتهوا إلى حد لا تقتضي العادة غفلة مثلهم عن سماعها والذي رواها واحد فهي مردودة وإن لم ينتهوا إلى هذا الحد فاتفق جماعة الفقهاء والمتكلمين على قبول الزيادة خلافاً لجماعة من المحدثين )) .
قلت : وللأصولين تفاصيل غيره هذه ، فقال بعضهم : تقبل إن كانت غير مغيرة للإعراب .
وقال بعضهم : تقبل ممن لم يكن مشتهراً برواية الزيادة في الوقائع .
وقال بعضهم : تقبل الزيادة إن لم تشتمل على حكم شرعي ويفصل فيها إن اشتملت .
وقال أبو نصر القشيري :
(( إن رواه مرة ، ( ثم نقله ) أخرى وزاد فلا تقبل زيادته وأما إذا أسند زيادة دائماً فتقبل )) .
فائدة
حكى ابن الصلاح عن الخطيب فيما إذا تعارض الوصل والإرسال إن الأكثر من أهل الحديث يرون أن الحكم لمن أرسل . وحكى عنه هنا أن الجمهور من أئمة الفقه والحديث يرون أن الحكم لمن أتى بالزيادة إذا كان ثقة . وهذا ظاهره التعارض ومن أبدى فرقاً بين المسألتين فلا يخلو من تكلف وتعسف .
وقد جزم ابن الحاجب أن الكل بمعنى واحد ، فقال : (( وإذا أسند الحديث وأرسلوه أو رفعه ووقفوه أو وصله وقطعوه ، فحكمه حكم الزيادة في التفصيل السابق )) .
ويمكن الجواب عن الخطيب ، بأنه لما حكى الخلاف في المسألة الأولى عن أهل الحديث خاصة عبر بالأكثر وهو كذلك ، ولما حكى الخلاف في المسألة الثانية عنهم وعن أهل الفقه والأصول صار الأكثر في جانب مقابله ولا يلزم من ذلك دعوى فرق بين المسألتين والله أعلم .
ونقل الحافظ العلائي في شيخه ابن الزملكاني أنه فرق بين مسألتي تعارض الوصل والإرسال والرفع والوقف بأن الوصل في السند زيادة من الثقة فتقبل وليس الرفع زيادة في المتن فتكون علة وتقرير ذلك أن المتن إنما هو قول النبي صلى الله عليه وسلم فإذا كان من قول صحابي فليس بمرفوع فصار منافياً له
لأن دونه من قول الصحابي مناف لكونه من كلام النبي صلى الله عليه وسلم وأما الموصول والمرسل فكل منهما موافق للآخر في كونه من كلام النبي صلى الله عليه وسلم
قال العلائي : (( وهذه التفرقة قد تقوى في بعض الصور أكثر من بعض ، فأما إذا كان الخلاف في الوقف والرفع على الصحابي بأن يرويه عنه تابعي مرفوعاً ويوقفه عليه تابعي آخر لم يتجه هذا البحث لاحتمال أن يكون حين وقفه أفتى بذلك الحكم وحين رفعه رواه إلا أن يتبين أنهما مما سمعاه منه في مجلس واحد فيفزع حينئذ إلى الترجيح والله أعلم .
106- قوله (ص) : (( فذكر أبو عيسى الترمذي أن مالكاً تفرد من بين الثقات بزيادة قوله من المسلمين )) .
[ اعتراض النووي على ابن الصلاح : ]
اعترض عليه الشيخ محي الدين بقوله :
(( لا يصح التمثيل بهذا الحديث ، لأنه لم ينفرد به ، بل وافقه في الزيادة عمر بن نافع بن عمر والضحاك بن عثمان . والأول في صحيح البخاري ، والثاني في صحيح مسلم )) .
[ تعقب التبريزي على النووي : ]
وتعق الشيخ تاج الدين التبريزي كلام الشيح محي الدين بقوله : (( إنما مثل به حكاية عن الترمذي فلا يرد عليه شئ )) . انتهى .
[ تعقب الحافظ على التبريزي : ]
وهذا التعقب غير مرضي ، لأن الإيراد على المصنف من جهة عدم مطابقة المثال للمسألة المفروضة ولو كان حاكياً ، لأنه أقره فرضية وعلى تقدير عدم الورود من هذه الحثيثة ، فيرد عليه من جهة تعبيره لعبارة الترمذي ، لأن الترمذي لم يطلق تفرد مالك به كما بينه شيخنا عنه .
ثم راجعت كتاب الترمذي فوجدته في كتاب الزكاة قد أطلق كما حكاه عنه المصنف . ولفظه : (( حديث ابن عمر رضي الله عنهما رواه مالك عن نافع ، عن ابن عمر رضي الله عنهما نحو حديث أيوب ، وزاد فيه : (( من المسلمين )) . ورواه غير واحد عن نافع ولم يذكر فيه (( من المسلمين )) .
وفي كتاب (( العلل المفرد )) قد قيد كما حكاه عنه شيخنا . فكأن ابن الصلاح نقل كلامه من كتاب الزكاة ولم يراجع كلامه في العلل والله أعلم .
وأما قول شيخنا : اختلف في زيادتها على عبيد الله بن عمر وعلى أيوب وأحال في بيان ذلك على شرح الترمذي ، فقد رأيت بيان ذلك هنا .
قال ابن عبد البر :
(( ذكر أحمد بن خالد أن بعض أصحابه حدثه عن يوسف بن يعقوب القاضي عن سليمان بن حرب عن حماد بن زيد عن أيوب وقال فيه : (( من المسلمين )) .
وقال ابن عبد البر : وهو خطأ على أيوب والمحفوظ فيه عنه من رواية الحمادين وابن علية وسلام بن أبي مطيع . وعبد الوارث وعبد الله بن شوذب وغيرهم وليس فيه (( من المسلمين )) .
قلت : بل رواية عبد الله بن شوذب عن أيوب قال فيها (( من المسلمين )) . كذلك رواه ابن خزيمة في صحيحه عن الحسن بن عبد الله بن منصور الأنطاكي عن محمد بن كثير عنه .
ثم قال ابن عبد البر :
(( ورواه سعيد بن عبد الرحمن الجمحي عن عبيد الله بن عمر رضي الله عنهما : فزاد فيه (( من المسلمين )) . ثم ساقه من طريقه بإسناده وقال : رواه يحيى القطان وبشر بن المفضل وأبو أسامة وغيرهم عن عبيد الله فلم يذكروها .
قلت : وصلها الدار قطني في السنن أيضاً والحاكم في (( المستدرك )) من طريق سعيد بن عبد الرحمن
وقد أشار أبو داود في السنن إلى رواية سعيد بن عبد الرحمن هذه وقال : المشهور عن عبيد الله ليس فيه (( من المسلمين )) .
وقد رواه الدار قطني في (( السنن )) عن أبي محمد بن صاعد ، عن محمد بن عبد الملك بن زنجويه عن عبد الرزاق ، عن الثوري ، عن عبيد الله بن عمر رضي الله عنهما وقال فيه : (( على كل مسلم )) ، ثم رواه عن محمد بن إسماعيل الفارسي عن إسحاق الدبري ، عن عبد الرزاق عن الثوري عن عبيد الله بن عمر وابن أبي ليلى كلاهما عن نافع مثله .
قلت : ولم يذكر شيخنا رواية ابن أبي ليلى هذه . وقد روى أيضاً ممن لم يذكره شيخنا عن أيوب بن موسى وموسى بن عقبة ويحيى بن سعيد الأنصاري هكذا عزاه العلامة مغلطاي لتخريج البيهقي ، ولم أر ذلك في السنن الكبير ولا في المعرفة ولا في السنن الصغرى ولا في الخلافيات .
فإن كان لذلك صحة ، فتكون رويت عنهم من طرق غريبة ، والمشهور عنهم بدون هذه الزيادة والله أعلم .
تنبيه
ذكر أبو بكر الرازي الحنفي أن هذه الجملة ليست زيادة في الحديث ، وإنما هما حديثان قالهما النبي صلى الله عليه وسلم في وقتين :
1- أحدهما : بالإطلاق للعموم .
والآخر : بتخصيص بعض أفراده بالذكر . وفيه نظر ، وإنما يتأتى هذا إذا كان الاختلاف من
الصحابة رضي الله عنهم الرواة للحديثين عن النبي صلى الله عليه وسلم . وأما هذا الحديث ، فإن
مخرجه واحد بترجمة واحدة فلا يتأتى (ما) ذكره والله أعلم .
107- قوله (ص) : (( ومن أمثلة ذلك حديث )) جعلت لنا الأرض [مسجداً] وجعلت تربتها لنا طهوراً . (( فهذه الزيادة تفرد بها أبو مالك )) انتهى .
وهذا التمثيل ليس بمستقيم أيضاً ، لأن أبا مالك قد تفرد بجملة الحديث عن بعي بن حراش رضي الله عنه كما تفرد برواية جملته ربعي عن حذيفة رضي الله عنه .
فإن أراد أن لفظة ((تربتها)) في هذا الحديث على باقي الأحاديث في الجملة ، فإنه يرد عليه أنها في حديث علي رضي الله تعالى عنه أيضاً كما نبه عليه شيخنا ، وإن أراد أبا مالك تفرد بها ، وإن رفقته ، عن ربعي رضي الله عنه لم يذكروها كما هو ظاهر كلامه ، فليس بصحيح .
وأما اعتراض العلامة مغلطاي بأنه يحتمل أن يريد بالتربة الأرض لا التراب ، فلا يبقى فيه زيادة ، فقد أجاب عنه شيخنا شيخ الإسلام فقال : (( حمل التربة على التراب هو المتبادر إلى الفهم ، لأنه لو أراد بالتربة الأرض لم يحتج لذكرها هنا لسبق ذكر الأرض وهو قوله صلى الله عليه وسلم : (( جعلت لنا الأرض مسجداً وجعلت تربتها لنا طهوراً )) .
قلت : وهذا يلزم منه إضافة الشئ إلى نفسه ، لأن التقدير حينئذ يكون وجعلت أرض الأرض لنا طهوراً . وفي هذا من الفساد ما لا يخفى والله أعلم .
خاتمة
قياس تفريق ابن حبان في مقدمة الضعفاء بين المحدث والفقيه في الرواية بالمعنى أن يأتي هنا ، فيقال : يفرق أيضاً في قبول الزيادة في الإسناد أو المتن بين الفقيه والمحدث ، فإن كانت الزيادة من محدث في الإسناد قبلت أو في المتن فلا ، لأن اعتناءه بالإسناد أكثر وإن كانت من فقيه في المتن قبلت أو في الإسناد فلا ، لأن اعتناءه بالمتن أكبر .
فإن تعليل ابن حبان للتفرقة المذكورة يأتي هنا سواء ، بل سياق كلامه يرشد إليه والله أعلم .
النوع السابع عشر :
معرفة الافراد
108- قوله : (( الافراد منقسمة إلى ما هو فرد مطلقاً وإلى ما هو فرد بالنسبة إلى جهة خاصة )) ، انتهى .
[ اعتراض مغلطاي على ابن الصلاح : ]
اعترض عليه العلامة مغلطاي بأنه ذكر أنه تبع الحاكم في ذكره هذا النوع (قال) : فكان ينبغي له أن يتبعه في تقسيمه فإنه قسمه إلى ثلاثة أقسام .
قلت : وهو اعتراض عجيب ، فإن الأقسام الثلاثة التي ذكرها الحاكم داخله في القسمين اللذين
ذكرهما ابن الصلاح ، ولا سبيل إلى الإتيان بالثالث ، لأن الفرد إما مطلق وإما نسبي وغاية ما في
الباب أن المطلق ينقسم إلى نوعين :
أحدهما : تفرد شخص من الرواة بالحديث .
والثاني : ينقسم أهل بلد بالحديث دون غيرهم .
(والأول ينقسم إلى أيضاً إلى نوعين) :
أحدهما : يفيد كون المنفرد ثقة ، والثاني لا يفيد . وأما أمثلة الأول فكثيرة ، وقد ذكر شيخنا في منظومة له حديث ضمرة بن سعيد عن عبيد الله بن عبد الله عن أبي واقد في الثراءة في الأضحى )) .
قال شيخنا : (( لم يروه أحد من الثقات إلا ضمرة بن سعيد ، وله طريق أخرى من حديث عائشة رضي الله عنها سندها ضعيف )) .
وأما أمثلة الثاني ، فكثيرة جداً ومنها في الصحيحين حديث ابن عيينة عن عمرو بن دينار ، عن أبي العباس عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما في حصار الطائف . تفرد بها ابن عيينة عن عمرو ، وعمرو عن أبي العباس وأبو العباس عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كذلك .
ومثال النوع الثاني : حديث عائشة رضي الله عنها (( في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على سهيل بن بيضاء رضي الله عنه له طريقان عنها رواتها مدنيون .
قال الحاكم : (( تفرد أهل المدينة بهذه السنة )) .
وأما النسبي فيتنوع أيضاً أنواعاً :
1- أحدها : تفرد شخص عن شخص .
2- ثانيها : تفرد أهل بلد عن شخص .
3- ثالثها : تفرد شخص عن أهل بلد .
4- رابعها : تفرد أهل بلد عن أهل بلد أخرى .
مثال الأول : حديث عبد الواحد بن أيمن عن أبيه عن جابر رضي الله عنه في قصة الكدية التي عرضت لهم يوم الخندق .
أخرجه البخاري ، وقد تفرد به عبد الواحد عن أبيه . وقد روي من غير حديث جابر رضي الله عنه وأمثلة ذلك في (( كتاب الترمذي )) كثيرة جداً ، بل ادعى بعض المتأخرين أن جميع ما فيه من الغرائب من هذا القبيل . وليس كما قال لتصريحه في كثير منه بالتفرد المطلق .
ومثال الثاني : حديث (( القضاة الثلاثة )) .
تفرد به أهل مرو ، عن عبد الله بن بريدة عن أبيه رضي الله عنه وقد جمعة طرقه في جزء . وكذا حديث يزيد مولى المنبعث ، عن زيد بن خالد الجهني في (( اللقطة )) . تفرد به أهل المدينة عنه .
ومثال الثالث : وهو عكس الذي قبله ، فهو قليل جداً وصورته أن ينفرد شخص عن جماعة بحديث
تفردوا به .
ومثال الرابع : ما رواه أبو داود من حديث جابر رضي الله عنه في قصة المشجوج : (( إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصب على جرحه خرقة )) . قال ابن أبي داود فيما حكاه الدار قطني في (( السنن )) : (( هذه سنة تفرد بها أهل مكة ، وحملها عنهم أهل الجزيرة )) .
وقول ابن الصلاح : (( إلا أن يطلق قائل قوله : تفرد به أهل مكة على ما لا يروه إلا واحد من أهلها
قلت : وهذا الإطلاق هو الأكثر ، فجميع الأمثلة التي مثل بها الحاكم كذلك ، كحديث خالد الحذاء ، عن سعيد بن عمرو ، عن الشعبي عن داود عن المغيرة بن شعبة في النهي عن قيل وقال . تفرد به البصريون عن الكوفيين ، وإنما تفرد به خالد الحذاء وهو واحد .
وحديث الحسين بن داود عن الفضيل بن عياض ، وعن منصور ، عن إبراهيم عن علقمة ، عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : يقول الله تبارك وتعالى : ( يا دنيا اخدمي من خدمني ) .
قال : تفرد به الخراسانيون عن المكيين ، وإنما تفرد به الحسين ولم يروه غيره ، وهو معدود في مناكيره . وكذلك غالب ما أطلقه أبو داود في كتاب التفرد وكذا ابنه أبو بكر بن أبي داود والله أعلم . وقد يطلقون تفرد الشخص بالحديث ومرادهم بذلك تفرده بالسياق لا بأصل الحديث . وفي مسند البزار من ذلك جملة نبه عليها .
تنبيه
من مظان الأحاديث الأفراد مسند أبي بكر البزار ، فإنه أكثر فيه من إيراد ذلك وبيانه ، وتبعه أبو القاسم الطبراني في (( المعجم الأوسط )) ثم الدار قطني في (( كتاب الأفراد )) وهو ينبئ على اطلاع بالغ ويقع عليهم التعقب فيه كثيراً بحسب اتساع الباع وضيقه أو الاستحضار وعدمه .
وأعجب من ذلك أن يكون المتابع عند ذلك الحافظ نفسه فقد تتبع العلامة مغلطاي على الطبراني ذلك في جزء مفرد .
وإنما يحسن الجزم بالإيراد عليهم حيث لا يختلف السياق أو حيث يكون المتابع ممن يعتبر به ، لاحتمال أن يريدوا شيئاً من ذلك بإطلاقهم والذي يرد على الطبراني ، ثم الدار قطني من ذلك أقوى مما يرد على البزار (لأن البزار) حيث يحكم بالتفرد إنما ينفي علمه ، فيقول : (( لا نعلمه يروي عن فلان إلا من حديث فلان )) . وأما غيره ، فيعبر بقوله : (( لم يروه عن فلان إلا فلان )) . وهو وإن كان يلحق بعبارة البزار على تأويل ، فالظاهر من الإطلاق خلافه والله أعلم .
النوع الثامن عشر :
معرفة العلل
109- قوله (ص) : (( فالحديث المعلل هو الحديث الذي اطلع فيه على علة تقدح في صحته مع أن ظاهره السلامة منه )) .
قلت : وهذا تحرير الكلام الحاكم في (( علوم الحديث )) فإنه قال : (( وإنما يعلل الحديث من أوجه ليس للجرح فيها مدخل ، فإن حديث المجروح ساقط واه وعلة الحديث تكثر في أحاديث الثقات أن يحدثوا بحديث له علة فتخفى عليهم علته ، والحجة فيه عندنا العلم والفهم والمعرفة )) .
[ متى يسمى الحديث معلولاً " ]
فعلى هذا لا يسمى الحديث المنقطع مثلاً معلولاً ، ( ولا الحديث الذي راويه مجهول أو مضعف معلولاً وإنما يسمى معلولاً ) إذا آل أمره إلى شئ من ذلك كونه ظاهر السلامة من ذلك . وفي هاذ رد على من زعم أن المعلول يشمل كل مردود .
وإذا تقرر هذا فالسبيل إلى معرفة سلامة الحديث من العلة كما نقله المصنف عن الخطيب أن يجمع طرقه ، فإن اتفقت رواته واستووا ظهرت سلامته . وإن اختلفوا أمكن ظهور العلة ، فمدار التعليل في الحقيقة على بيان الاختلاف وسأوضحه في النوع الذي بعد هذا [ إن شاء الله تعالى ] وهذا الفن أغمض أنواع الحديث وأدقها مسلكاً ، ولا يقوم به إلا من منحه الله تعالى فهماً غايصاً واطلاعاً حاوياً وإدراكاً لمراتب الرواة ومعرفة ثاقبة ، ولهذا لم يتكلم فيه إلا أفراد أئمة هذا الشأن وحذاقهم وإليهم المرجع في ذلك لما جعل الله فيهم من معرفة ذلك ، والاطلاع على غوامضه دون غيرهم ممن لم يمارس ذلك .
وقد تقصر عبارة المعلل منهم ، فلا يفصح بما استقر في نفسه من ترجيح [ إحدى ] الروايتين على الأخرى [كما] في نقد الصيرفي سواء ، فمتى وجدنا حديثاً قد حكم إمام من الأئمة المرجوع إليهم بتعليله فالأولى اتباعه في ذلك كما نتبعه في تصحيح الحديث إذا صححه . وهذا الشافعي مع إمامته يحيل القول على أئمة الحديث في كتبه فيقول : (( وفيه حديث لا يثبته أهل العلم بالحديث )) .
وهذا حيث لا يوجد مخالف منهم لذلك المعلل ، وحيث يصرح بإثبات العلة فأما إن وجد غيره صححه فينبغي حينئذ توجه النظر إلى الترجيح بين كلاميهما . وكذلك إذا أشار المعلل إلى العلة إشارة ولم يتبين منه ترجيح لإحدى الروايتين ، فإن ذلك يحتاج إلى الترجيح والله أعلم .
قال الحافظ العلائي بعد أن ذكر ما هذا ملخصه :
(( فأما إذا كان رجال الإسنادين متكافئين في الحفظ أو العدد أو كان من أسنده أو رفعه دون من أرسله أو وقفه في شئ من ذلك مع أن كلهم ثقات محتج بهم فههنا مجال النظر واختلاف أئمة الحديث والفقهاء .
[ مسلك أهل الحديث عند تكافؤ المختلفين الرجوع إلى الترجيح : ]
فالذي يسلكه كثير من أهل الحديث بل غالبهم جعل ذلك علة مانعة من الحكم بصحة الحديث مطلقاً
، فيرجعون إلى الترجيح لإحدى الروايتين على الأخرى ، فمتى اعتضدت إحدى الطريقين بشئ من وجوه الترجيح حكموا وإلا توقفوا عن الحديث وعللوه بذلك ، ووجوه الترجيح كثيرة لا تنحصر ولا ضابط لها بالنسبة إلى جميع الأحاديث ، بل كل حديث يقوم به ترجيح خاص وإنما ينهض بذلك الممارس الفطن الذي أكثر من الطرق والروايات ولهذا لم يحكم المتقدمون في هذا المقام بحكم كلي يشمل القاعدة بل يختلف نظرهم بحسب ما يقوم عندهم في كل حديث بمفرده والله أعلم .
[ اعتبار أئمة الفقه والأصول إسناد الحديث ورفعه من باب الزيادة : ]
قال : وأما أئمة الفقه والأصول ، فإنهم جعلوا إسناد الحديث ورفعه كالزيادة في متنه ( يعني كما تقدم تفصيله عنهم ) . ويلزم على ذلك قبول الحديث الشاذ كما تقدم .
ومن المواضع الخفية في الأحاديث المعللة ما ذكره ابن أبي حاتم قال : سألت أبي عن حديث رواه حماد بن سلمة عن عكرمة بن خالد عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( من باع عبداً وله مال ... )) الحديث .
فقال : (( قد كنت أستحسن هذا الحديث من ذر الطريق حتى رأيت من حديث بعض الثقات عن عكرمة بن خالد عن الزهري عن ابن عمر رضي الله عنهما فعاد الحديث إلى الزهري ، والزهري إنما رواه عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه رضي الله تعالى عنهم .
وهو معلول ( يعني لأن نافعاً رواه عن ابن عمر رضي الله عنهما ) فجعل مسألة بيع العبد عن عمر رضي الله عنه ومسألة بيع النخل عن النبي صلى الله عليه وسلم .
قال النسائي : سالم أجل من نافع ولكن القول في هذا قول نافع وكذا قال علي بن المديني والدارقطني
قال العلائي : (( وبهذه النكتة يتبين أن التعليل أمر خفي لا يقوم به إلا نقاد الحديث دون الفقهاء الذين لا اطلاع لهم على طرقه وخفاياها )) .
قلت : وسبب الخفاء في هذا المثال أن عكرمة بن خالد أكبر من الزهري وهو معروف بالرواية عن ابن عمر رضي الله عنهما فلما وجد الحديث من رواية حماد بن سلمة عنه كان ظاهره الصحة وكان يعتضد بها ما رواه الزهري عن سالم عن أبيه ويرجع على رواية نافع خلافاً لما قال ابن المديني والنسائي وغيرهما .
لكن لما فتشت الطرق تبين أن عكرمة سمعه ممن هو أصغر منه وهو الزهري ، والزهري لم يسمعه من ابن عمر رضي الله عنهما إنما سمعه من سالم فوضح أن رواية حماد بن سلمة مدلسة أو مسواة ورجع هذا الإسناد الذي كان يمكن الاعتضاد به إلى الإسناد الأول الذي حكم عليه بالوهم وكان سبب حكمهم عليه بالوهم كون سالم أو من دونه سلك الجادة ، لأن العادة والغالب أن الإسناد إذا انتهى إلى الصحابي رضي الله تعالى عنه قيل بعده : عن النبي صلى الله عليه وسلم فلما جاء هنا بعد الصحابي ذكر صحابي آخر والحديث من قوله كان الظن غالباً على أن من ضبطه هكذا أتقن ضبطاً
والله أعلم .
قال العلائي : وهذا كله إذا كان الإسناد واحداً من حيث المخرج غير مختلف في الحالات أما إذا اختلف في الوصل والإرسال كأني روي بعضهم عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه حديثاً مرفوعاً ، فيرويه بعضهم عن الزهري ، عن أبي سلمة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً . أو يرويه بعضهم عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة رضي الله عنه حديثاً مرفوعاً ، فيرويه بعضهم ، عن الأعمش ، عن أبي صالح عن أبي سعيد رضي الله عنه موقوفاً . ففي مثل هذه الصيغة تعليل أحدهما بالآخر ، لكون كل منهما إسناداً برأسه ، ولقوة احتمال كونهما إسنادين عند الزهري أو عند الأعمش كل واحد منهما على وجه .
قلت : وإنما يقوي هذا إذا أتى بهما الراوي جميعاً في وقت واحد وحينئذ ينتفي التعليل ، وشرط هذا كله التساوي في الحفظ أو العدد . فأما إذا كان راوي الوصل أو الرفع مرجوحاً ، فلا . [كما] تقرر غير مرة والله أعلم .
47- قوله (ع) : (( هكذا أعل الحاكم في [ علومه ] هذا الحديث بهذه الحكاية والغالب على الظن عدم صحتها وأنا أتهم بها أحمد بن حمدون القصار راويها عن مسلم ... )) إلى آخره .
قلت : الحكاية صحيحة قد رواها غير الحاكم على الصحة من غير نكارة ، وكذا رواها البيهقي عن الحاكم على الصواب كما سنوضحه ، لأن المنكر منها إنما هو قوله : (( إن البخاري قال : لا أعلم في الدنيا في هذا الباب غير هذا الحديث الواحد المعلول ، والواقع أن في الباب عدة أحاديث لا يخفى مثلها على البخاري )) . والحق أن البخاري لم يعبر بهذه العبارة .
وقد رأيت أن أسوق لفظ هذه الحكاية من الطريق التي ذكرها الحاكم وضعفها الشيخ ثم أسوقها من الطريق الأخرى الصحيحة التي لا مطعن فيها ولا نكارة ، ثم أبين حال الحديث ومن أعله أو صححه لتتم الفائدة فأقول :
قال الحاكم في علوم الحديث : (( الجنس الأول من أجناس علل الحديث )) .
مثاله : ما حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب . ثنا محمد بن إسحاق الصاغاني ثنا حجاج بن محمد قال : قال ابن جريج ، عن موسى بن عقبة ، عن سهيل بن أبي صالح ، عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( من جلس مجلساً فكثر فيه لغطه ، فقال قبل أن يقوم : سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت أستغفرك وأنوب إليك )) إلا غفر له ما كان في مجلسه ذلك
قال الحاكم : هذا الحديث من تأمله لم يشك أنه من شرط الصحيح وله علة فاحشة ، وهي ما حدثني أبو نصر : أحمد بن محمد الوراق قال : سمعت أبا حامد بن حمدون القصار يقول : سمعت مسلم بن الحجاج وجاء إلى محمد بن إسماعيل البخاري فقبل بين عينيه وقال : دعني [حتى] أقبل رجليك يا أستاذ الأستاذين وسيد المحدثين ، وطبيب الحديث في علله ، حدثك محمد بن سلام ، ثنا مخلد بن يزيد الحراني ، أنا ابن جريج ، عن موسى بن عقبة عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في (( كفارة المجلس )) فما علته ؟ قال محمد بن إسماعيل : (( هذا حديث مليح ولا أعلم في الدنيا في هذا الباب غير هذا الحديث إلا أنه معلول ، ثنا به موسى بن إسماعيل ثنا وهيب ،ـ ثنا سهيل ، عن عون بن عبد الله قوله )) . قال محمد بن إسماعيل : هذا أولى ، فإنه لا يذكر لموسى سماع من سهيل ، انتهى .
فيا عجباه ، من الحاكم ، كيف يقول هنا : إن له علة فاحشة ثم يغفل ، فيخرج الحديث بعينه في (( المستدرك )) ويصححه .
ومن الدليل على أنه عقبة في حال كتابته له في (( المستدرك )) (عما) كتبه في (( علوم الحديث )) أنه عقبه في (( المستدرك )) بأن قال : (( هذا حديث صحيح على شرط مسلم ، إلا أن البخاري أعله برواية وهب ، عن موسى بن عقبة عن سهيل ، عن أبيه عن كعب الأحبار )) ، انتهى .
وهذا الذي ذكره لا وجود له عن البخاري ، وإنما الذي أعله البخاري في جميع طرق هذه الحكاية هو الذي ذكره الحاكم أولاً . وذلك من طريق وهيب عن سهيل ، عن عون بن عبد الله لا ذكر لكعب فيه البتة ، وبذلك أعله أحمد بن حنبل وأبو حاتم وأبو زرعة وغيرهم كما سأوضحه ، وعندي أو الوهم فيها من الحاكم في حال كتابته في (( علوم الحديث )) ، لأنه رواها خارجاً عنه على الصواب رواها عنه البيهقي في (( المدخل )) ومن طريقه الحافظ أبو القاسم ابن عساكر في (( تاريخه )) عن أبي المعالي الفارسي عنه قال : أنا أبو عبد الله الحافظ ( يعني الحاكم ) قال : (( سمعت أبانصر الوراق فذكر الحكاية إلى قوله : (( في كفارة المجلس )) وزاد فقال : قال البخاري :
وحدثنا أحمد بن حنبل ويحيى بن معين قال : ثنا حجاج بن محمد ، عن ابن جريج حدثني موسى بن عقبة ... )) وساق الحديث ، ثم قال :
قال محمد بن إسماعيل : هذا حديث مليح ولا أعلم بهذا الإسناد في الدنيا غير هذا إلا أنه معلول ... وذكر باقي القصة .
فقوله : (( لا أعلم بهذا الإسناد لا اعتراض فيه )) بخلاف تلك الرواية التي فيها (( لا أعلم في الباب )) ، فإنه يتجه عليه ما اعترض به الشيخ من أن في الباب عدة أحاديث غير هذا الحديث . وقد وقعت لي هذه الحكاية من وجه آخر رويناها في (( كتاب الإرشاد )) للحافظ أبي يعلى الخليل قال : (( أنا أبو محمد المخلدي في كتابه أنا أبو حامد الأعمش هو أحمد بن حمدون الحافظ قال : كنا عند محمد بن إسماعيل البخاري بنيسابور فجاء مسلم بن الحجاج فسأله عن حديث عبيد الله بن عمر عن أبي الزبير عن جابر في قصة العنبر )) .
قال : فقرأ عليه إنسان حديث حجاج بن محمد عن ابن جريج عن موسى ابن عقبة عن سهيل ، عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في (( كفارة المجلس )) .
فقال مسلم : في الدنيا أحسن من هذا ؟ تعرف بهذا الإسناد في الدنيا حديثاً غير هذا ؟
فقال محمد بن إسماعيل : لا . إنه معلول .
فقال مسلم : لا إله إلا أنت وارتعد أخبرني به فقال : استر ما ستر الله فألح عليه وقبل رأسه وكاد أن يبكي فقال : اكتب إن كان ولا بد حدثنا موسى ثنا وهب ثنا موسى بن عقبة عن عون عن عبد الله . فقال له مسلم لا يبغضك إلا حاسد وأشهد أن ليس في الدنيا مثلك .
قلت : وهكذا رواها الخطيب في تأريخه عن أبي حازم العبدري عن الحسن بن أحمد الزنجوني عن أحمد بن حمدون مثله . فهذا اللفظ أولى بأن يعزى إلى البخاري من اللفظ العزو له في كلام الحاكم في (( علوم الحديث )) .
على أن بعض المتأخرين من الحفاظ أول الكلام الذي في (( علوم الحديث )) فقال : (( الذي ينبغي أن يحمل عليه كلامه في هذه الرواية وغيرها أن يكون مراده بالباب رواية أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم وبالحديث طريق ابن جريج عن موسى بن عقبة عن سهيل عن أبي هريرة رضي الله عنه .
قلت : وهو حمل متعسف ظاهر التكلف ، ثم أنه يرد عليه ما فر منه فإنه روى من رواية أبي هريرة رضي الله عنه من غير هذا الوجه . وذلك فيما رواه أبو داود في سننه من طريق ابن وهب عن عمرو بن الحارث ، عن سعيد بن أبي هلال عن سعيد المقبري ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص موقوفاً نحو هذا الحديث .
قال عمرو بن الحارث : وحدثني بنحوذلك عبد الرحمن بن أبي عمرو عن المقبري ، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم . وأخرجه ابن حبان في صحيحه والطبراني في الدعاء من طريق ابن وهب هذه .
ولما أخرج الترمذي حديث ابن جريج المبدأ بذكره في (( كتاب الدعوات )) من جامعه عن أبي عبيدة بن أبي السفر ، عن حجاج قال : هذا حديث حسن [صحيح] غريب لا نعرفه من حديث سهيل إلا من هذا الوجه )) . انتهى .
وهو متعقب أيضاً وقد عرفناه من حديث سهيل من غير هذا الوجه فرويناه في الخلعيات مخرجاً من أفراد الدار قطني من طريق الواقدي ثنا عاصم ابن عمر وسليمان بن بلال كلاهما عن سهيل به . ورويناه في كتاب الذكر لجعفر الفرباني قال : ثنا هشام بن عمار . ثنا إسماعيل بن عياش . ثنا سهيل . ورويناه في (( الدعاء )) للطبراني من طريق ابن وهب قال : حدثني محمد بن أبي حميد عن سهيل . فهؤلاء أربعة رووه عن سهيل من غير هذا الوجه الذي أخرجه الترمذي فلعله إنما نفى أن يكون يعرفه من طريق قوية ، لنه الطرق المذكورة لا يخلو واحد منها من مقال .
أما الأولى : فالواقدي متروك الحديث .
وأما الثانية : فإسماعيل بن عياش مضعف في غير روايته عن الشاميين . ولو صرح بالتحديث .
وأما الثالثة : فمحمد بن أبي حميد وإن كان مدنياً ، لكنه ضعيف أيضاً وقد سبق الترمذي أبو حاتم إلى ما حكم به من تفرد تلك الطريق عن سهيل ، فقال : فيما حكاه ابنه عنه في (( العلل )) : (( لا أعلم روى هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في شئ من طريق أبي هريرة رضي الله عنه .
قال : وأما رواية إسماعيل بن عياش ، فما أدري ما هي ؟ إنما روى عنه إسماعيل أحاديث يسيرة )) .
فكأن أبا حاتم استبعد أن يكون إسماعيل حدث به ، لن هشام بن عمار تغير في آخر عمره ، فلعله رأى أن هذا مما خلط فيه ، ولكت أورد ابن أبي حاتم على إطلاق أبيه طريق سعيد المقبري عن أبي هريرة التي قدمناها ، ثم اعتذر عنه بقوله : كأنه لم يصحح رواية عبد الرحمن بن أبي عمرو عن المقبري
وهذا يدلك على أنهم قد يطلقون النفي ، ويقصدون به نفي الطرق الصحيحة ، فلا ينبغي أن يورد على إطلاقهم مع ذلك الطرق الضعيفة والله الموفق .
وذكر الدار قطني هذا الحديث في (( كتاب العلل )) وحكى عن أحمد بن حنبل أنه قال : حديث ابن جريج عن موسى بن عقبة وهم قال : والصحيح قول وهيب عن سهيل عن عون بن عقبة بن عبد الله قال أحمد : وأخشى أن يكون ابن جريج دلسه على موسى بن عقبة أخذه عن بعض الضعفاء عنه . قال الدار قطني : والقول قول أحمد .
وقال ابن أبي حاتم في (( كتاب العلل )) :
(( سألت أبي وأبا زرعة عن حديث ابن جريج (يعني هذا) فقالا : (( هذا خطأ رواه وهيب عن سهيل عن عون بن عبد الله موقوفاً وهذا أصح . قلت لأبي : فالوهم ممن هو .
قال : يحتمل أن يكون من ابن جريج ( ويحتمل أن يكون من سهيل قال : وأخشى أن يكون ابن جريج دلسه ) عن موسى بن عقبة أخذه من بعض الضعفاء )) .
وقال في موضع آخر : (( لم يذكر فيه ابن جريج الخبر فأخشى أن يكون أخذه عن إبراهيم بن أبي يحيى )) .
[ إتفاق جماعة من الأئمة على وجود الوهم في هذه الرواية : ]
قلت : فاتفق هؤلاء الأئمة على أن هذه الوراية وهم ، لكن لم يجزم أحد منهم بوجه الوهم فيه ، بل اتفقوا على تجويز أن يكون ابن جريج دلسه ، وزاد أبو حاتم تجويز أن يكون الوهم فيه من سهيل . فأما الخشية الأولى ، فقد أمناها لوجودنا هذا الحديث من طرق عدة عن ابن جريج قد صرح فيها بالسماع من موسى .
[ الطرق التي صرح فيها ابن جريج بالتحديث : ]
منها : ما تقدم عن البخاري في مساق البيهقي ، عن الحاكم .
ومنها : ما رويناه في (( معجم أبي الحسين بن جميع )) قال : (( ثنا جعفر بن محمد الهمداني . ثنا
هلال بن العلاء ثنا حجاج بن محمد ثنا ابن جريج أخبرني موسى بن عقبة )) .
وكذا رويناه في (( أمالي الضبي )) من طريق الزعفراني : ثنا حجاج قال قال ابن جريج أخبرني موسى . وكذا أخرجه الحسين بن الحسن المروزي في زيادات البر والصلاة قال : أنا حجاج بن محمد به . وكذا رواه الطبراني ، عن أحمد بن زياد الرقي ، عن حجاج به أخرجه أبو نعيم في علوم الحديث عنه
وقال الطحاوي : ثنا أبو بشر الرقي : ثنا حجاج بن محمد كذلك لكن المحفوظ عن حجاج ليس فيه الخبر كذا هو في رواية الجم الغفير عنه نعم رويناه في (( فوائد سمويه )) قال :
(( ثنا سليمان بن داود وهو الهاشمي ثنا أبو صفوان : عبد الله بن سعيد ابن عبد الملك . ثنا ابن جريج حدثني موسى بن عقبة ... )) فذكره . وكذا رويناه في (( فوائد الدسكري )) من طريق أسد بن موسى ، عن سعيد بن سالم ، عن ابن جريج أخبرني موسى . ورويناه في (( المعجم الأوسط )) من طريق سفيان ، عن ابن جريج أخبرني موسى )) . فزال ما خشيناه من تدليس ابن جريج بهذه الروايات المتظافرة عنه بتصريحه بالسماع من موسى . وبقي ما خشيه أبو حاتم من وهم سهيل فيه . وذلك أن سهيلاً كان قد أصابته علة نسي من أجلها بعض حديثه ولأجل هذا قال فيه أبو حاتم : (( يكتب حديثه ولا يحتج به )) .
[ ترجيح رواية وهيب على رواية موسى بن عقبة : ]
فإذا اختلف عليه ثقتان في إسناد واحد أحدهما أعرف بحديثه وهو وهيب من الآخر وهو موسى بن عقبة قوي الظن بترجيح رواية وهيب ، لاحتمال أن يكون عند تحديثه لموسى بن عقبة لم يستحضره كما ينبغي وسلك فيه الجادة فقال : عن أبيه ، عن أبي هريرة رضي الله عنه كما هي العادة في أكثر أحاديثه ، ولهذا قال البخاري في تعليله (( لا نعلم لموسى سماعاً من سهل )) .
(يعني) أنه إذا كان غير معروف بالأخذ عنه ووقعت عند رواية واحدة خالفه فيها من هو أعرف بحديثه وأكثر له ملازمة رجحت على تلك الرواية المنفردة . وبهذا التقرير يتبين عظم موقع كلام الأمة المتقدمين وشدة فحصهم وقوة بحثهم وصحة نظرهم وتقدمهم بما يوجب المصير إلى تقليدهم في ذلك والتسليم لهم فيه وكل من حكم بصحة الحديث مع ذلك إنما مشى فيه على ظاهر الإسناد كالترمذي كما تقدم وكأبي حاتم ابن حبان فإنه أخرجه في صحيحه وهو معروف بالتساهل في باب النقد ، ولا سيما كون الحديث المذكور في فضائل الأعمال والله أعلم .
وأما قول شيخنا : إنه ورد في حديث جماعة من الصحابة رضي الله عنهم فذكر منهم ثمانية وهم :
1- أبو برزة الأسلمي .
2- ورافع بن خديج .
3- والزبير بن العوام .
4- وعبد الله بن مسعود .
5- وعبد الله بن عمرو .
6- والسائب بن يزيد .
7- وأنس .
8- وعائشة رضي الله تعالى عنهم .
وأنه بين أحاديثهم في تخريج أحاديث الأحياء فهو كما قال رضي الله تعالى عنه لكنه إنما بينها في التخريج الكبير الذي مات عن أكثره وهو مسودة فقد لا يصل إلى الفائدة منه كل أحد فرأيت عزوها إلى من أخرجها على طريق الاختصار بزيادة كثيرة جداً في العزو إلى المخرجين .
1- أما حديث أبي برزة ورافع بن خديج رضي الله تعالى عنهما . فهما حديث واحد اختلف فيه على الراوي عنهما أخرجه الدارمي وأبو داود والنسائي من طريق أبي هاشم الرماني ، عن أبي العالية عن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه ورجال إسناده ثقات إلا أنه اختلف فيه عن أبي العالية فرواه الطبراني في الصغير والحاكم في المستدرك من طريق مقاتل ابن حبان عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية عن رافع بن خديج رضي الله عنه وعلى أبي العالية فيه اختلاف آخر ، فقد ذكر أبو موسى المديني أن الربيع بن أنس رواه أيضاً عن أبي العالية ، عن أبي بن كعب وعلى أبي العالية فيه اختلاف آخر ، فقد رواه زياد بن الحصين عن أبي العالية عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً .
وذكر أبو موسى المديني أن جريراً رواه عن فضيل بن عمرو ، عن زياد بن حصين عن معاوية كذا قال وكأنه تصحيف وإنما هو عن زياد بن حصين عن أبي العالية .
وكذا رويناه في فوائد ابن عمشليق من طريق أبي نعيم إلى زيادات البر والصلة للحسين بن الحسن المروزي عن مؤمل بن إسماعيل كلاهما عن سفيان الثوري عن منصور عن فضيل بن عمرو عن زياد عن أبي العالية مرسلاً وذكر ابن أبي حاتم في (( العلل )) عن أبيه وأبي زرعة أن المرسل أشبه والله أعلم
[ حديث الزبير : ]
وأما حديث الزبير بن العوام فرواه الطبراني في (( الصغير )) في ترجمة محمد بن علي الطرائفي من طريق عبد العزيز بن صهيب عن حبة مولى الزبير (عن الزبير) بن العوام قال : قلنا يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إنا إذا قمنا من عندك أخذنا في أحاديث الجاهلية ، فقال صلى الله عليه وسلم : (( إذا جلستم تلك المجالس التي تخافون فيها على أنفسكم فقولوا عند قيامكم : سبحانك اللهم وبحمدك نشهد أن لا إله إلا الله نستغرك ونتوب إليك يكفر عنكم ما أصبتم فيها )) .
قال الطبراني : لا يروى عن الزبير (بن العوم) إلا بهذا الإسناد .
[ حديث ابن مسعود : ]
وأما حديث ابن مسعود رضي الله عنه ذكر الخطيب في (( المؤتلف )) من طريق الطبراني ، وعن العتيقي ، عن شيخ (شيخ) الطبراني وهو : أبو الفضل الشيباني ، وهو ضعيف .
وفي رواية العتيقي : فإنها كفارات الخطيايا والقاذورات .
ورواه ابن عدي في الكامل في ترجمة يحيى بن كثير صاحب البصري من روايته عن عطاء بن السائب ، عن أبي عبد الرحمن السلمي عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعً (( كفارة المجلس أن يقول العبد … )) فذكره .
وهذا من جملة مناكير يحيى بن كثير المذكور وهو ضعيف عندهم لكنه إنما تفرد برفعه فقد رواه ابن أبي الدنيا في (( كتاب الذكر )) له قال : ثنا خلف بن هشام ، ثنا خالد بن عبد الله هو الطحان أحد الأثبات ، عن عطاء بن السائب … )) فذكره موقوفاً . وكذا أخرجه الحسين بن الحسن المروزي في (( زيادات البر والصلة )) له عن سعيد بن سليمان عن خالد .
[ حديث عبد الله بن عمرو : ]
وأما حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما فرواه الطبراني من طريق محمد بن جامع العطار وفيه مقال عن حصين بن نمير عن حصين بن عبد الرحمن ، عن مجاهد ، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره .
وخالفه محمد بن فضيل ، فرواه في (( كتاب الدعاء )) عن حصين بن عبد الرحمن موقوفاً . وكذا رواه خالد بن عبد الله الواسطي ، وعبد الله بن إدريس الأودي وغير واحد عن حصين موقوفاً . وله طريق أخرى موقوفة من رواية سعيد المقبري تقدم ذكرها .
[ حديث السائب : ]
وأما حديث السائب بن يزيد رضي الله عنه فرويناه في (( الآثار )) للطحاوي ، و (( معجم الطبراني الكبير )) و (( فوائد سمويه )) من حديث الليث بن سعد عن يزيد بن الهاد ، عن إسماعيل بن عبد الله بن جعفر قال بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ، فذكر مثل حديث ابن جريج المبدأ بذكره .
قال يزيد بن الهاد : فحدثت بهذا الحديث يزيد بن خصيفة فقال : (( هكذا حدثني السائب بن يزيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجاله ثقات اثبات والسائب قد صح سماعه من النبي صلى الله عليه وسلم . فالحديث صحيح ، والعجب أن الحاكم لم يستدركه مع احتياجه إلى مثله وإخراجه لما هو دونه .
[ حديث أنس : ]
وأما حديث أنس بن مالك فرواه الطحاوي والطبراني في (( الأوسط )) وسمويه في (( فوائده )) كلهم من طريق عثمان بن مطر ، عن ثابت البناني عنه نحو لفظ ابن مسعود رضي الله عنه وعثمان ضعيف .
وقال ابن أبي حاتم في العلل عن أبيه :
(( هذا خطأ رواه حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أبي الصديق الناجي قوله )) .
وأخرجه الحسين بن الحسن المروزي في (( زيادات البر والصلة )) عن سعيد بن سلميام ، عن فلان بن غياث ، حديثنا ثابت بن أنس رضي الله عنه قال : (( جاء جبريل عليه الصلاة والسلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:(( إن كفارات المجلس سبحانك اللهم وبحمدك أستتغفرك وأتوب إليك ))
[ حديث عائشة : ]
وأما حديث عائشة رضي الله عنها فأخرجه النسائي في (( اليوم والليلة )) من طريق خلاط بن سليمان الحضرمي عن خالد بن أبي عمران عن عروة ، عن عائشة رضي الله عنه قالت : ما جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلساً ولا تلا قرآناً ولا صلى إلا ختم ذلك بكلمات ، فقلت : يا رسول الله ! ما أكثر ما تقول هذه الكلمات فقال صلى الله عليه وسلم : نعم . من قال خيراً كن طابعاً له على ذلك الخير ، ومن قال شراً كانت كفارة له سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك . إسناده صحيح أيضاً .
وله طريق أخرى عن عائشة رضي الله عنها أخرج الحاكم في الدعوات من المستدرك من طريق يحيى بن بكير عن الليث ، عن ابن الهاد عن يحيى بن سعيد ، عن زرارة بن أوفى عن عائشة رضي الله عنها قالت : ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم من مجلس إلا قال : سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك )) . فقلت له : يا رسول الله ما أكثر ما تقول هؤلاء الكلمات إذا قمت ؟ قال صلى الله عليه وسلم : (( لا يقولن أحد يقوم من مجلسه (إلا غفر له) ما كان منه في ذلك المجلس )) . وقال : صحيح الإسناد ولم يخرجاه .
وروى عن عائشة رضي الله عنها بلفظ آخر أخرجه أبو أحمد العسال في (( كتاب الأبواب )) من طريق عمرو بن قيس عن أبي إسحاق عن الأسود ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من مجلسه قال : سبحانك اللهم وبحمدك (لا إله إلا أنت) أستغفرك وأتوب إليك فقلت : يا رسول الله ! إن هذا لمن أحب الكلام إليك قال صلى الله عليه وسلم : (( إني لأرجو أن لا يقولها عبد إذا قام من مجلسه إلا غفر له )) . وإسناده حسن .
ورويناه من وجه آخر عن الليث ، عن يزيد بن الهاد ، عن يحيى بن سعيد ، عن زرارة ، عن عائشة رضي الله عنها وأخرجه الطحاوي ، عن محمد بن خزيمة وفهد كلاهما عن عبد الله بن صالح بن الليث عن يحيى بن سعيد ، عن زرارة ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم من مجلس إلا قال … فذكره ، فقلت له : يا رسول الله ما تقول هؤلاء الكلمات … فذكره .
[ حديث جبير بن مطعم : ]
وأما حديث جبير بن مطعم رضي الله عنه فرواه النسائي في (( اليوم والليلة )) وابن أبي عاصم في (( كتاب الدعاء )) من طريق ابن عيينة عن ابن عجلان عن مسلم بن أبي حرة ، وداود بن قيس ، عن نافع بن جبير ، عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( من قال سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك في مجلس ذكر كانت كالطابع يطبع عليه . ومن قالها في غير مجلس ذكر كانت كفارة )) .
رجاله ثقات إلا أنه اختلف في وصله وإرساله ، فقال ابن صاعد : تفرد به عبد الجبار بن العلاء ، عن ابن عيينة بقوله : عن نافع بن جبير ، عن أبيه .
قلت : ورواه الليث بن سعد عن عجلان فلم يقل عن أبيه جعله عن نافع بن جبير مرسلاً . وأخرجه الحسين بن الحسن المروزي في (( كتاب البر والصلة )) له عن ابن عيينة وعلي بن غراب كليهما عن ابن عجلان عن مسلم بن أبي حرة ، عن نافع بن جبير نحوه مرسلاً .
ورويناه في (( فوائد علي بن حجر )) ، عن إيماعيل بن جعفر ، عن داود بن قيس ، عن نافع بن جبير مرسلاً أيضاً . لكن رواه الحاكم في (( المستدرك )) والطبراني في (( الكبير )) من طريق أخرى عن داود بن قيس موصولاً .
ووقع لأبي عمر بن عبد البر في هذا الحديث خطأ شديد ، وتبعه عليه شيخنا في (( محاسن الاصطلاح )) ، فإنه قال في حرف النون في الاستيعاب : (( نافع بن صبرة فخرج حديثه ، عن أهل المدينة مثل حديث أبي هريرة في كفارة المجلس )) . هذا كلامه ، والذي أوقعه في هذا الخطأ التصحيف ، فإنه صحف جبير صبرة وهي زيادة الهاء كانت علامة الإهمال على الراء .
ونقل شيخنا كلامه من الاستيعاب مقلداً له فيه ولم ينقده ، والله سبحانه وتعالى الموفق . فهذا تخريج الطرق التي ذكرها شيخنا .
[ حديث أبي بن كعب ومعاوية : ]
ووقع لي في الباب أحاديث لم يذكرها شيخنا منها :
(1) ، (2) حديث أبي بن كعب ومعاوية كما تقدم في تضاعيف الكلام على طريق أبي برزة رضي الله عنه .
[ حديث ابن عمر : ]
3- ومنها : حديث ابن عمر رضي الله عنهما أخرجه الحاكم في الدعوات من (( المستدرك )) من طريق الليث بن سعد عن خالد بن أبي عمران ، عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنها . إنه لم يكن (يجلس) إلا قال : اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت … الحديث .
وفيه : وبارك لي في سمعي وبصري … إلى قوله : (( ولا تسلط علي من لا يرحمني )) وفيه : فسئل ابن عمر رضي الله عنهما عنهن فقال : (كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم يختم بهن مجلسه .
[ حديث أبي أمامة :]
4- ومنها : حديث أبي أمامة الباهلي ر
ضي الله تعالى عنه . وقد رواه أبو يعلى في (( مسنده )) وابن السن في (( اليوم والليلة )) من طريق جعفر بن الزبير ، عن القاسم عنه مرفوعاً : ما جلس قوم في مجلس فخاضوا في حديث فاستغفروا الله عز وجل قبل أن يتفرقوا إلا غفر لهم ما كانوا فيه .
وجعفر بن الزبير المذكور متروك الحديث والله سبحانه وتعالى أعلم .
[ حديث أبي سعيد : ]
5- ومنها : حديث أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه رويناه في (( كتاب الذكر )) لجعفر الفريابي قال : ثنا عمرو بن علي ثنا يحيى بن سعيد ثنا شعبة أبو هاشم عن أبي مجلز ، عن قيس بن عباد ، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : (( من قال في مجلسه : سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك ختمت (بخاتم) فلم تكسر إلى يوم القيامة )) . إسناده صحيح وهو موقوف ، لكن له حكم المرفوع ، لأن مثله لا يقال بالرأي .
[ حديث علي : ]
6- ومنها : حديث علي بن أبي طالي رضي الله عنه رواه أبو علي ابن الأشعث في (( كتاب السنن )) بإسناده المشهور عن أهل البيت رضوان الله تعالى عليهم وهو ضعيف .
[ حديث رجل من الصحابة : ]
7- ومنها : حديث رجل من الصحابة رضي الله عنهم لم يسم رويناه في (( فوائد ابن خرشيد )) قوله من طريق أبي الأحوص عن أبي ( فروة عن عروة ) بن الحارث الهمداني . عن أبي معشر وهو زياد بن كليب قال : حدثنا رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس مجلساً ، فلما أراد أن يقوم قال : (( سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك )) . فقال رجل من القوم : ما هذا ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : (( كلمات علمنيهن جبريل ، كفارات لما في المجلس )) . إسناده صحيح .
وأخرجه ابن أبي شيبة عن أبي الأحوص وقال الفريابي : ثنا سفيان ( عن أبي إسحاق ) ، عن أبي الأحوص أنه كان إذا أراد أن يقوم قال : (( سبحان الله وبحمده )) .
[ حديث أبي أيوب : ]
8- ومنها : حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه رويناه في الذكر أيضاً لجعفر قال : ثنا محمد بن إسماعيل هو البخاري ثنا ابن أبي مريم ، ثنا ابن ليهعة أخبرني يزيد بن أبي حبيب أن أبا الخير أخبره ، عن أبي رهم أنه سمع أبا أيوب الأنصاري رضي الله عنه يقول : (( أنه ليس من أهل مجلس يذكرون فيه من اللغو والباطل حتى يلتزم بعضهم بعضاً بالرؤوس ، ثم يقومون ، فيقولون : نستغفر الله ونتوب إليه إلا غفر الله لهم ما أحدثوه في المجلس )) . وابن ليهعة ضعيف يقوي حديث بالشواهد . وفي
الإسناد ثلاثة من التابعين بعضهم عن بعض أولهم يزيد بن أبي حبيب .
وروى الفريابي في (( كتاب الذكر )) عن قتيبة ، عن خلف بن خليفة عن داود بن أبي هند ، عن الشعبي قال : كفارة المجلس أن تقول حين تقوم : (( سبحان الله وبحمده ، أشهد أن لا إلا الله أستغفره وأتوب إليه )) .
ورويناه في (( الكنى )) لأبي بشر الدولابي قال : حدثني عبد الصمد بن عبد الوهاب ثنا يحيى بن صالح ثنا عبيد الله بن عمرو عن عبد الكريم وهو الجزري أي عن يزيد الفقير قال : إن جبريل عليه الصلاة والسلام علم النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان في مجلس وأراد أن يقوم أن يقول : (( سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إلا أنت وحدك لا شريك لك أستغفرك وأتوب إليك )) . هذا مرسل صحيح سنده إلى يزيد الفقير وهو تابعي مشهور .
وفي (( الكنى )) للنسائي والمرزيان من طريق معمر سمعت الحكم بن أبان حدثني جعفر أبو سلمة قال : (( جاء الروح الأمين عليه الصلاة والسلام فقال : يا محمد ! ألا أخبرك بكفارة المجلس إذا قمت تقول : سبحانك اللهم وبحمدك صل على محمد عبدك ورسولك اللهم اغفر لنا )) .
وأخرج الحسين بن الحسن المروزي في (( زيادات البر والصلة )) عن الهيثم بن جميل عن حسام بن مصك عن ابن أبي نجيح،عن مجاهد قال:(( حق المجلس إكراماً أن تسغفر الله تعالى وتسبحه وتحمده ))
وعن الفضل بن موسى ثنا طلحة بن عمرو ، عن عطاء في قوله تعالى:(وسبح بحمد ربك حين تقوم )
قال : من كل مجلس إن كنت أحسنت ازددت خيراً وإن كان غير ذلك كان هذا كفارة له . وعن مؤمل ، عن (سفيان) ، عن حبيب بن أبي ثابت عن يحيى بن جعدة قال : من قال في مجلس سبحانك اللهم وبحمدك أستغفرك وأتوب إليك [ غفر له ] أو كلمة نحو هذه .
وهذا أخرجه الفريابي في تفسيره ( عن سفيان ) عن حبيب بن أبي ثابت عن يحيى بن جعدة (( من قال في مجلسه : سبحان الله وبحمده أستغفر الله وأتوب إليه ، غفر له ما أحدث في مجلسه )) .
وقال أبو نعيم [ في ترجمة ] (( حسان بن عطية من الحلية : ثنا أحمد بن إسحاق ثنا عبد الله بن أبي داود : ثنا محمود بن خالد . ثنا عمر بن عبد الواحد عن الأوزاعي ثنى حسان قال : ما جلس قوم مجلس لغو فختموا باستغفار إلا كتب مجلسهم ذلك استغفار كله )) . رجاله ثقات . هذا آخر طرق حديث كفارة المجلس على طريق الاختصار أوردتها هنا ( تبركاً بها ) .
وأما قول شيخنا : (( أنا ـهم بها أحمد بن حمدون القصار )) ففي إطلاق التهمة عليه نظر ، فإنه من كبار الحفاظ .
وهو : أبو حامد : أحمد بن حمدون بن أحمد بن رستم النيسابوري الأعمشي ، وإنما قيل له الأعمشي لأنه كان يعتني بجمع حديث الأعمش وحفظه ، وكان يلقب أبا تراب فاجتمع له لقبان في كتبه وفي نسبته ذكره الحاكم في (( التأريخ )) . وقال : كان من الحفاظ سمع بنيسابور ويمرو وهواة وجرجان والري وبغداد والكوفة والبصرة قال : وكان مزاحاً ، سمعت أبا علي الحافظ غير مرة يقول : حدثنا أحمد بن حمدون إن حلت الرواية ( عنه ) .
فقلت له يوماً : هذا الذي تذكره في أبي تراب من جهة المجون الذي كان فيه أو لشئ أنكرته منه في الحديث ؟
قال : في الحديث ، فقلت له : ما الذي أنكرت عليه ؟ فذكر أحاديث حدث بها غير معروفة .
فقلت له : أبو تراب مظلوم يف كل ما ذكرته . ثم لقيت أبا الحسين الحجاجي ، فحدثته بمجلسي مع أبي فقال : القول ما قلته .
قال الحاكم : فأما أنا ، فقد تأملت أجزاء كثيرة بخطه لمشايخنا فلم أجد فيها حديثاً يكون الحمل فيه عليه ، وأحاديثه مستقيمة سمعت أبا أحمد الحافظ يقول : حضرت مجلس أبي بكر ابن خزيمة إذ دخل أبو تراب الأعمشي ، فقال له أبو بكر : يا أبا حامد ! كم روى الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد ؟ فأخذ أبو تراب بذكر الترجمة حتى فرغ منها وأبو بكر يتعجب من مذاكرته .
ثم ساق له الحاكم عدة حكايات مما كان يمزح فيه ، ثم قال : وإنما ذكرت هذه الحكايات لتعلم أن الذي أنكر عليه إنما هو المجون فأما الإنحراف عن رسم أهل الصدق ، فلا .
قال : وقرأت بخط أبي الفضل الهاشمي . (( مات أبو تراب الأعمشي في ربيع الأول سنة إحدى وعشرين وثلاث مئة )) .
قلت : فإذا كان حال هذا الرجل ، فلا ينبغي إطلاق التهمة عليه أصلاً ، حتى ولو قلدنا أب علي الحافظ فيه ، فإنما أشار إلي أنه أنكر عليه أحاديث وهم فيها ، فراجعه الحاكم بأنها لو كانت وهماً ما عاود روايتها مراراً مع تيقظه وضبطه فوضح أنه لم يتهم بكذب أصلاً ورأساً والله أعلم .
وفي الجملة اللفظة المنكرة في الحكاية عن البخاري هي أنه قال : (( لا أعلم في الباب غير هذا الحديث )) وهي من الحاكم في حال كتابته في علوم الحديث كما قدمناه ( في كتب أحد عشرة فيها ) وقد بينا أن الصواب أن البخاري إنما قال : (( لا أعلم في الدنيا بهاذ الإسناد غير هذا الحديث وهو كلام مستقيم )) والله أعلم .
110- قوله (ص) : (( وكثيراً ما يعللون الموصول بالمرسل )) … إلى آخره .
أقول : ليس هذا من قبيل المعلول على اصطلاحه وإن كانت علة في الجملة إذ المعلول على اصطلاحه مفيد بالخفاء والإرسال أو الانقطاع ليست علتها بخفية . وقد أفرط بعض المتأخرين فجعل الانقطاع قيداً في تعريف المعلول فقرأت في (( المقنع )) للشيخ سراج الدين ابن الملقن قال : ذكر ابن حبيش في كتاب علوم الحديث أن المعلول : أن يروي عمن لم يجتمع به كمن تتقدم وفاته عن ميلاد من يروي عنه أو تختلف جهتهما كأن يروي الخراساني مثلاً عن المغربي ولا ينقل أن أحدهما رحل عن بلده .
قلت : وهو تعريف ظاهر الفساد ، لأن هذا لا خفاء فيه وهو بتعريف مدرك السقوط في الإسناد
أولى والله أعلم .
ثم إن تعليلهم الموصول بالمرسل أو المنقطع بالموقوف أو المقطوع ليس على إطلاقه ، بل ذلك دائر على غلبة الظن بترجيح أحدهما على الآخر بالقرائن التي تحفه . كما قررناه قبل والله الموفق .
111- قوله (ص) : (( ثم قد تقع العلة في الإسناد وهو الأكثر وقد تقع في المتن … )) إلى آخره قلت : إذا وقعت العلة في الإسناد قد تقدح وقد لا تقدح وإذا قدحت ، فقد تخصصه وقد تستلزم القدح في المتن . وكذا القول في المتن سواء .
[ الأقسام التي تقع فيها العلة : ]
1- فمثال ما وقعت العلة في الإسناد ولم تقدح مطلقاً : ما يوجد مثلاً من حديث مدلس بالعنعنة ، فإن ذلك علة توجب التوقف عن قبوله فإّا وجد من طريق أخرى قد صرح فيها باسماع تبين أن العلة غير قادحة .
وكذا إذا اختلف في الإسناد على بعض رواته ، فإن ظاهر ذلك يوجب التوقف عنه ، فإن أمكن الجمع بينها على طريق أهل الحديث بالقرائن التي تحف الإسناد تبين أن تلك العلة غير قادحة .
[ مثال العلة القادحة في الإسناد : ]
2- ومثال ما وقعت العلة فيه في الإسناد وتقدح فيه دون المتن ما مثل به المصنف من إبدال راو ثقة وهو بقسم المقلوب أليق فإن أبدل راو ضعيف براو ثقة وتين الوهم فيه استلزم القدح في المتن أيضاً إن لم يكن له طريق أخرى صحيحة . ومن أغمض ذلك أن يكون الضعيف موافقاً للثقة في نعته .
ومثال ذلك ما وقع لأبي أسامة الكوفي أحد الثقات ، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر وهو من ثقات الشاميين قدم الكوفة فكتب عنه أهلها ولم يسمع منه أبو أسامة ، ثم قدم بعد ذلك الكوفة عبدالرحمن بن يزيد بن تميم وهو من ضعفاء الشاميين فسمع منه أبو أسامة وسأله عن اسمه فقال : عبد الرحمن بن يزيد ، فظن أبو أسامة أنه ابن جابر ، فصار يحدث عنه وينسبه من قبل نفسه ، فيقول : حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ، فوقعت المناكير في رواية أبي أسامة ، عن ابن جابر وهما ثقتان فلم يفطن لذلك إلا أهل النقد ، فميزوا ذلك ونصوا عليه كالبخاري وأبي حاتم وغير واحد .
[ العلة قد تكون في المتن وهي غير قادحة : ]
3- ومثال ما وقعت العلة في المتن دون الإسناد ولا تقدح فيهما ما وقع من اختلاف ألفاظ كثيرة من أحاديث الصحيحين إذا أمكن رد الجميع إلى معنى واحد ، فإن القدح ينتفي عنها ، وسنزيد أيضاحاً في النوع الآتي إن شاء الله تعالى .
4- ومثال ما وقعت العلة فيه في المتن واستلزمت القدح في الإسناد : ما يرويه راو بالمعنى الذي ظنه يكون خطأ والمراد بلفظ الحديث غير ذلك ، فإن ذلك يستلزم القدح في الراوي ، فيعلل الإسناد .
5- ومثال ما وقعت العلة في المتن دون الإسناد ما ذكره المصنف من ( أحد الألفاظ ) الواردة في
حديث أنس رضي الله عنه وهي قوله : (( لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم في أول قراءة ولا في آخرها )) ، فإن أصل الحديث في الصحيحين ، فلفظ البخاري (( كانوا يفتتحون بالحمد لله رب العالمين )) .
ولفظ مسلم في رواية له نفي الجهر وفي رواية أخرى نفي القراءة وقد تكلم شيخنا على هذا الموضع بما لا مزيد في الحسن عليه ، إلا أن فيه مواضع تحتاج إلى التنبيه عليها .
48- (أ) فمنها : قوله (ع) : (( إن ترك قراءة البسملة في حديث أنس رضي الله عنه ورد من ثلاث طرق وهي :
1- رواية حميد .
2- ورواية قتادة .
3- ورواية إسحاق بن أبي طلحة .
قد يتوهم منه أن باقي الروايات عن أنس رضي الله عنه ليس فيها تعرض لتركها ، وليس كذلك ، بل قد جاء ترك الجهر بها أيضاً :
1- من رواية ثابت البناني .
2- والحسن بن أبي الحسن البصري .
3- ومنصور بن زاذان .
4- وأبي نعامة قيس بن عباية .
5- وأبي قلابة : عبد الله بن زيد الجرمي .
6- وثمامة بن عبد الله بن أنس . رحمة الله عليهم .
1- أما حديث ثابت فرواه أحمد بن حنبل وابن خزيمة في صحيحه والطحاوي من طريق الأعمش عن شعبة عنه بلفظ (( صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما فلم يجهروا بـ ( بسم الله الرحمن الرحيم ) )) .
2- وأما حديث الحسن البصري فرواه ابن خزيمة في صحيحه والطبراني والطحاوي بلفظ أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر رضي الله عنهما كان يسرون بـ ( بسم الله الرحمن الرحيم ) . وأخرجه الطبراني والخطيب من وجه آخر ، عن الحسن بلفظ نفي الجهر .
3- وأما حديث منصور بن زاذان فرواه النسائي بلفظ : (( صلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم فلم يسمعنا قراءة بسم الله الرحمن الرحيم )) بوب عليها النسائي باب ترك الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم
4،5- وأما حديث أبي قلابة وأبي ثمامة فروى ابن حبان في صحيحه من طريق هارون بن عبد الله الحمال ، عن يحيى بن آدم ، عن سفيان الثوري ، عن خالد الحذاء ، عن أبي قلابة ، عن أنس رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما لا يجهرون ببسم
الله الرحمن الرحيم .
وذكر الخلال في العلل أن مهنا بن يحيى سأل أحمد عنه فقال : هو وهم . حدثني يحيى بن آدم ( يعني بهذا الإسناد ) فقال : عن أبي نعامة ( قيس ) بن عباية ، عن أنس رضي الله عنه بدل أبي قلابة .
قال : وكذا هو في (( كتاب الأشجعي )) ، عن سفيان .
قال : وكذلك بلغني عن العدني ، عن سفيان .
قلت : ورواية العدني أخرجها البيهقي من طريقه . وكذا قال علي بن المديني في (( العلل )) إن يحيى بن آدم حدثه به على الوهم ، ولم يخرجه أحمد في مسنده من هذا الوجه .
وهو في معجم الطبراني من طريق محمد بن يوسف الفريابي عن سفيان على الصواب . وكذا أخرجه البيهقي من طريق الحسين بن حفص عن سفيان بنفي الجهر . وقال : أبو نعامة وثقه يحيى بن معين ولم يخرج له الشيخان . ثم فيه اختلاف آخر على أبي نعامة رواه عثمان بن غياث وسعيد بن أياس عن أبي عبد الله بن مغفل عن أبي . ولا يمتنع أن يكون لأبي نعامة فيه شيخان .
6- وأما حديث ثمامة فرواه الخطيب في كتاب الجهر بالبسملة نحو حديث ثابت . فهذه الروايات متضافرة على عدم الجهر بالبسملة وسنزيد إيضاحاً بعد قليل إن شاء الله .
[ شرط الحكم بالاضطراب : ]
49- (ب) ومنه قوله (ع) : (( إن ابن عبد البر قال: إن حديث أنس رضي الله عنه مضطرب المتن )) .
وتقريره لذلك وليس بجيد ، لأن اضطراب شرطه تساوي وجوهه ولم يتهيأ الجمع بين مختلفها كما سيأتي . أما مع إمكان الجمع بين ما اختلف من الروايات ولو تساوت وجوهها فلا يستلزم اضطراباً وهذا في هذا الحديث موجود لأن الجمع بين الروايات الثابتة منه ممكن .
فقوله : (( ومنهم من يذكر عثمان رضي الله عنه ومنهم من لا يذكر )) .ليس بقادح .
وقوله : (( وقال بعضهم : كان يقرؤون بسم الله الرحمن الرحيم )) .
وقال بعضهم : (( كانوا يجهرون )) لم تقبت واحدة من هاتين الروايتين . وقد استوعب الخطيب طرق حديث أنس رضي الله عنه وأورد هذين اللفظين من أوجه واهية أو منقطعة وقد بين شيخنا بعض ذلك فيما أملاه على مستدرك الحاكم فلم يبق من الألفاظ التي ذكر أبو عمر أنه متخالفة إلا ثلاثة ألفاظ وهي :
1- نفي الجهر بها .
2- أو نفي قراءتها .
3- أو الاقتصار على الافتتاح بالحمد لله رب العالمين .
والجمع بين هذه الألفاظ ممكن بالحمل على عدم الجهر ، كما سنذكره إن شاء الله تعالى بعد قليل .
50- (ج) ومنها قوله (ع) : (( إن رواية الوليد بن مسلم ، عن الأوزاعي التي أخرجها مسلم معلولة لأن الوليد يدلس تدليس التسوية .
أقول : لا يتجه تعليله بتدليس الوليد ، لأنه صرح بسماعه من الأوزاعي ( وصرح بأن الأوزاعي ) ما سمعه من قتادة وإنما كتب إليه وقتادة فقد سمعه من أنس رضي الله عنه كما رويناه في (( كتاب القراءة خلف الإمام )) للبخاري قال :ثنا محمد بن يوسف هو الفريابي ثنا الأوزاعي قال : كتب إلى قتادة قال : حدثني أنس رضي الله عنه وكذا رويناه في (( السنن الكبير )) للبيهقي من طريق العباس بن الوليد بن مزيد حدثني أبي ، حدثنا الأوزاعي مثله سواء ، وكذا رويناه من طريق الهقل بن زياد ، عن الأوزاعي قال : كتبت إلى قتادة أسأله عن الجهر بـ ( بسم الله الرحمن الرحيم ) فكتب إلي يذكر قال : حدثني أنس بن مالك رضي الله عنه أنه صلى خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان رضي الله تعالى عنهم فكانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين ، لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم في أول القراءة ولا في آخراها . فهذه متابعة للوليد بن مسلم ، عن الأوزاعي .
[ وكذا ] رويناها في فوائد إسماعيل بن قيراط العذري قال : ثنا سليمان بن عبد الرحمن : ثنا الهقل ، فذكره ، نقلته من خط الحافظ السلفي . وكذلك رواه أبو عوانة في صحيحه من طريق بشر بن بكر عن الأوزاعي ، فذكر المتن مثله سواء ، ولم يذكر القصة التي في السند وتابعه أبو المغيرة ، عن الأوزاعي . قال أحمد في (( مسنده )) ثنا أبو المغيرة ، ثنا الأوزاعي قال :
كتب إلى قتادة قال : (( حدثني أنس بن مالك رضي الله عنه قال : صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم فكانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم في أول القراءة ولا في آخراها )) . وهذه متابعة قوية للوليد بن مسلم .
وأبو المغيرة من ثقات الحمصيين أخرج عنه البخاري في صحيحه محتجاً به ، فبان أن تعليله بتدليس الوليد ( لا وجه ) له لكن لو أعله الشيخ بأن قول الأوزاعي : إن قتادة كتب إليه مجاز لأن قتادة لكن أكمه لا يكتب ، فيكون قد أمر بالكتابة عنه غيره وحينئذ فذلك الغير مجهول الحال عندنا حتى ولو كان قتادة يثق به فلا يكفي ذلك في ثبوت عدالته إلا عند من يقبل التزكية على الإيهام .
وهو مرجوح عند الشيخ لاحتمال أن يكون مضعفاً عند غيره بقادح . وستأتي المسألة إن شاء الله . فرجعت رواية الأوزاعي إلى أنها عن شخص مجهول كتب إليه بإذن قتادة ( عن قتادة ) عن أنس رضي الله عنه .
فهذه العلة أشد من تدليس الوليد الذي حصل الأمن منه بتصريحه بالسماع وبمتابعة من تابعه من أصحاب الأوزاعي .
51- ومنه قوله (ع) : (( إن رواية ابن عبد البر من طريق محمد بن كثير ، عن الأوزاعي بلفظ
الافتتاح أرجح من رواية الوليد عنه في طريق إسحاق ابن أبي طلحة التي أحال بها على رواية قتادة ، لأنه لم يصرح عند مسلم بسماعه له من الأوزاعي )) .
أقول : الوليد بن مسلم أحفظ من محمد بن كثير بكثير ، ومع ذلك ، فقد صرح بسماعه له فيما أخرجه أبو نعيم في مستخرجه من طريق دحيم وهشام بن عمار عند قال : حدثني الأوزاعي ، وكذا أخرجه الدار قطني من طريق هشام ثنا الوليد ثنا الأوزاعي .
وأما تردد الشيخ في لفظ إسحاق هل هو مثل حديث قتادة بلفظه أو بمعناه ، فقد بينه البخاري في جزء القراءة خلف الإمام فرواه عن محمد بن مهران شيخ مسلم فيه ولفظه مثل رواية قتادة سواء إلا أنه لم يقل الزيادة التي زادها الوليد . وكذلك بينه أبو عوانة في صحيحه بياناً شافياً فإنه رواه كما قدمناه من طريق بشر بن بكر ، عن الأ,زاعي قال : كتب إلى قتادة فذكره بتمامه .
ثم أخرجه من طريق دحيم ، عن الوليد ، وعن يوسف بن سعيد عن محمد بن كثير كلاهما ، عن الأوزاعي ، عن إسحاق ، عن أنس رضي الله عنه قال مثله إلى قوله : الحمد لله رب العالمين . يعني ولم يذكر اللفظ الزائد في حديثه عن قتادة ، عن أنس رضي الله عنه وهو قوله : لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم في أول قراءة ولا في آخراها .
ورواه ابن حبان في صحيحه من طريق محمد بن عبد الرحمن بن سهل ولفظه (( يفتتحون القراءة بالحمد لله رب العالمين فيما يجهر به )) . ومسلم لما ساق حديث الأوزاعي ، عن كتبا قتادة وعطف عليه حديث الأوزاعي ، عن إسحاق قال : (( فذكر ذلك لم يزد فقوله : (( فذكر ذلك )) محتمل أن يكون يريد ذكره باللفظ أو بالمعنى . وقد تبين بما حررناه أنه إنما رواه بالمعنى ، لأن في إحدى الروايتين ما ليس في الأخرى والله أعلم .
تنبيه
قد قدمنا أن رواية محمد بن كثير رواها أبو عوانة في (( صحيحه )) وكذلك أخرجها أبو جعفر الطحاوي في (( شرح معاني الآثار )) وأبو بكر الجوزقي في (( المتفق )) فعزوها إلى رواية أحدهم أولى من عزوها إلى ابن عبد البر لتأخر زمانه والله الموفق .
52- ومنها قوله (ع) لما ذكر حميداً : (( وقد ورد التصريح بذكر قتادة بينهما فيما رواه ابن أبي عدي عن حميد ، عن قتادة ، عن أنس رضي الله تعالى عنه قال : قالت : رواية حميد إلى رواية قتادة )) .
قلت : هذا يوهم أن حميداً لم يسمعه من أنس رضي الله تعالى عنه أصلاً وإنما دلسه عنه وليس كذلك ، فإن حميداً كان قد سمعه من أنس رضي الله تعالى عنه لكن موقوفاً بلفظ : (( فكلهم كان لا يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم )) .
وهذا في رواية مالك كما هو في الموطآت ، وقد رفعه بعضهم عنه وهو وهم كما بينه الدار قطني في
(( غرائب مالك )) وابن عبد البر في (( التمهيد )) وهكذا رواه عن حميد حفاظ أصحابه كعبد الوهاب الثقفي ومعاذ بن معاذ ، ومروان بن معاوية الفزاري وغير واحد موقوفاً إلا أنه عندهم بلفظ (( كانوا يفتتحون القراءة بالحمد لله رب العالمين )) . ورواه المزني ، عن الشافعي ، عن ابن عيينة ، عن حمدي سمعت أنساً رضي الله تعالى عنه به .
وشد بعض أصحاب حميد ، فرفع هذا اللفظ عنه أيضاً وقد بين يحيى بن معين الصواب في ذلك بياناً شافياً فقال أبو سعيد بن الأعرابي في (( معجمه )) ثنا محمد بن إسحاق الصاغاني ثنا يحيى بن معين ، عن ابن أبي عدي ، عن حميد عن قادة ، عن أنس رضي الله عنه قال : إن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وعثمان رضي الله تعالى عنهم كانوا يفتتحون القراءة بالحمد لله رب العالمين .
قال ابن معين : قاتل ابن أبي عدي ، وكان حميد إذا قال : عن قتادة عن أنس رضي الله عنه رفعه . وإذا قال : عن أنس لم يرفعه .
تنبيه
لم يعز الشيخ رواية ابن أبي عدي : وقد عزوناها . وأخرجها أيضاً ابن حبان في صحيحه من طريق محمد بن هشام السدوسي ثنا ابن أبي عدي عن ( سعيد وحميد ) جميعاً عن قتادة . وأخرجها السراج عن عمرو بن علي ابن ( أبي ) عدي عن حميد وحده . دون القصة التي ذكرها ابن معين فلم يذكرها عمرو ولا محمد بن هشام .
53- ومنه قوله (ع) : (( والجواب ما أجاب به أبو شامة مسألتان )) . فسؤال قتادة عن الاستفتاح بأي سورة . وفي (( صحيح مسلم )) أن قتادة قال : (( نحن سألناه عنه )) .
قلت : وفيه نظر لأنه يوهم أن الحمل المذكور في صحيح مسلم وليس كذلك ، فإن مسلماً قال في صحيحه : (( ثنا محمد بن المثنى ثنا محمد بن جعفر . ثنا شعبة قال : سمعت قتادة يحدث عن أنس رضي الله عنه قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان رضي الله تعالى عنهم فلم أسمع أحداً منهم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم )) .
ثنا محمد بن المثنى : ثنا أبو داود هم الطيالسي ثنا شعبة وزاد قال شعبة فقلت لقتادة : أسمعته من أنس رضي الله عنه ؟ قال : نعم . نحن سألناه . فهذا اللفظ في أن السؤال كان عن عدم سماع القراءة لا عن [ سماع ] الاستفتاح بأي سورة .
وقد روى الخطيب في (( الجهر والبسملة )) هذا الحديث من طريق أخرى عن أبي داود الطيالسي ، عن شعبة ولفظه : (( إن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر عثمان رضي الله عنهم كانوا لا يستفتحون القراءة بـ ( بسم الله الرحمن الرحيم )) .
قال شعبة : قلت لقتادة : أسمعته من أنس ؟
قال : نعم نحن سألناه عنه .
وقال أبو يعلى في مسنده : ثنا أحمد بن إبراهيم الدورقي ، ثنا أبو داود عن شعبة ، عن قتادة ، عن أنس رضي الله عنه قال : (( صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلف أبي بكر وعمر وخلف عثمان رضي الله تعالى عنهم فلم يكونوا يستفتحون القراءة بـ ( بسم الله الرحمن الرحيم ) .
قال شعبة : فقلت لقتادة : أسمعته من أنس رضي الله عنه ؟
قال : نعم ثم سألت أنساً رضي الله تعالى عنه . وهكذا رواه عبد الله بن أحمد في (( زيادات المسند )) من حديث أبي داود الطيالسي .
وكذا أخرجه الإسماعيلي عن عبد الله بن ناجية ، عن محمد بن المثنى وبندار ، عن أبي داود .
وكذا أخرجه أبو نعيم في (( مستخرجه من طريق (( مسند أبي داود (( وكذلك رواه عمرو بن مرزوق ، عن شعبة بلفظ : (( يستفتحون بالحمد لله رب العالمين )) . وفيه (( نحن سألناه عن ذلك )) . أخرجه أبو نعيم في (( المستخرج )) أيضاً .
فوضح بذلك أن سؤال قتادة ، ليس مخالفاً لسؤال أبي سلمة فطريق الجمع بينهما أن يقال : إن سؤال أبي سلمة كان متقدماً على سؤال قتادة بدليل قوله في روايته : (( ولم يسبق عند أحد قبلك )) فكأنه كان إذ ذاك فير ذاكر لذلك ، فأجاب (بأنه) لا يحفظه ، ثم سأله قتادة عنه فتذكر ذلك ، وحدثه بما عنده فيه .
وأما احتجاج أبي شامة على أن سؤال قتادة له في الحديث الذي أخرجه البخاري عن قراءة النبي صلى الله عليه وسلم وجواب أنس رضي الله تعالى عنه أنها كانت مداً حيث أجاب بالبسلمة دون غيرها من آيات القرآن دل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجهر بالبسملة في قراءته . ففيه نظر ، لأنه يحتمل أن يكون ذكر أنس للبسملة على سبيل المثال لقراءة النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينتهض الدليل على ذلك .
54- وأما قوله : (( فيتناول الصلاة وغير الصلاة )) .
ففيه نظر ، لأنه الأعم لا دلالة له على الأخص ، والمراد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان حيث يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم ، يمد بسم الله ويمد الرحمن ويمد الرحيم فمن أين له من هذا الحديث أنه كان يجهر بمها في (( الصلاة )) .
وقول أبي شامة أيضاً : (( لو كانت قراءته تختلف لقال له : عن أي قراءتيه تسأل ، عن التي داخل الصلاة أو التي خارج الصلاة ؟ فلما لم يستفصله دل أن حاله في ذلك لم يختلف )) ، ففيه نظر ، لأنه لا يستلزم من ترك الاستفصال في هذا التعميم [ في الصفات ، وإنما يستلزم التعميم ] في الأحوال ، فيستفاد منه أنه كان يقرأ هكذا داخل الصلاة وخارجها ، وأما كونه يجهر ببعض ذلك أو لا يجهر بجميع ذلك أولاً ، فلا دلالة في الحديث على ذلك وعلى تقدير أنه يدل ، فيعارضه ما أخرجه أحمد بإسناد صحيح ، عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قال نافع بن عمر الجمحي راويه : أراها حفصة بنت عمر رضي الله عنها : (( إنكم لا تستطيعونها )) ، فقيل لها : أخبرينا بها ، قال : فقرأت قراءة ترسلت فيها الحمد لله رب العالمين ، ثم قطع ، الرحمن الرحيم ، ثم قطع مالك يوم الدين .
فهذا الحديث إن دل حديث أنس رضي الله تعالى عنه وأم سلمة رضي الله عنها على إثبات البسملة في الفاتحة لمجرد ذكرها معها دل حديث حفصة رضي الله عنها على سقوطها منها ، جمع بينهما بأنه كان يقرأ البسملة فيها يعني لا يجهر بها في الصلاة فسمعت حفصة رضي الله تعالى عنها قراءته داخل الصلاة ، وسمعها أنس وأم سلمة خارج الصلاة ، كان ذلك ممكناً غير بعيد من الصواب ، وهو أولى من دعوى التعارض .
55- قوله (ع) : (( وما أوله به الشافعي رضي الله تعالى عنه مصرح به في رواية الدار قطني )) .
لم يبين الشيخ رواية الدار قطني كيف هي ؟ وظاهر السياق يشعر بأنها من رواية قتادة ، عن أنس رضي الله عنه وليس كذلك ، فإنها عنده من رواية الوليد عن الأوزاعي ، عن إسحاق بن أبي طلحة ، عن أنس رضي الله تعالى عنه .
وقد رواها راويها بالمعنى ، بلا شك ، فإن رواية الوليد ، كما بيناها من عند البخاري في (( جزء القرءاة )) ومن عند غيره بلفظ : (( كانوا يفتتحون بالحمد لله رب العالمين )) . فرواها بعض الرواة عنه بلفظ : (( بدأ بأم القرآن يدل بالحمد لله رب العالمين ) فلا تنتهض الحجة بذلك .
قلت : وقد صح تسمية أم الكتاب بالحمد لله رب العالمين وذلك فيما رواه البخاري في صحيحه في أول التفسير من رواية أبي سعيد بن المعلى ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( الحمد لله رب العالمين هي : السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته ، وفي الحديث قصة )) .
فهذا يرد على من طعن على تأويل الشافعي رضي الله تعالى عنه . وزعم أن أم الكتاب إنما تسمى بالحمد لله فقط لا الحمد لله رب العالمين . وأن سياق الآية بتمامها دل على أنه أراد أن يفتتح بهذا اللفظ لأنه لو قصد أن يسمي السورة لسماها الحمد . فظهر بهذا الحديث الصحيح أنها تسمى الحمد وتسمى الحمد لله رب العالمين أيضاً فبطل ما ادعاه من نفى الاحتمال الذي ذكره الشافعي رضي الله عنه ممكناً والله أعلم .
(ط) قوله (ع) : (( ولا يلزم من نفي السماع عدم الوقوع … )) إلخ .
وللمخالف أن يقول : لكن التوفيق بين الروايتين أن يحمل نفيه للقرءاة على عدم سماعه لها فتلتئم الروايتان في عدم الجهر .
112- قوله (ص) : (( فعلل قوم رواية اللفظ المذكور ( يعني نفي القراءة ) لما رأو الأكثرين إنما قالوا فيه : فكانوا يستفتحون القراءة بالحمد لله رب العالمين … )) إلى آخره .
يعني بذلك الدار قطني ، فإنه السابق إلى ذلك ، فقال : إن المحفوظ عن قتادة من رواية عامة أصحابه
عنه كانوا يفتتحون القراءة بالحمد لله رب العالمين .
قال : وهو المحفوظ عن قتادة وغيره عن أنس رضي الله عنه وتبعه الخطيب والبيهقي . وفي ذلك نظر ، لأنه يستلزم ترجيح إحدى الروايتين على الأخرى مع إمكان الجمع بينهما ، وكيف يحكم على رواية عدم الجهر بالشذوذ وفي رواتها عن قتادة مثل شعبة ؟
قال أحمد في مسنده ثنا وكيع . ثنا شعبة عن قتادة عن أنس بلفظ : فكانوا (( لا يجهرون بـ ( بسم الله الرحمن الرحيم ) )) .
وكذا أخرجه مسلم وابن خزيمة في صحيحه من طريق غندر ، عن شعبة ورواه ابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما من طريق سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ولفظه : (( إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجهر بـ ( بسم الله الرحمن الرحيم ) )) . ولا أبو بكر ولا عمر ولا عثمان رضي الله عنهم .
وقا لابن حبان في صحيحه : ثنا الصوفي وغيره . ثنا علي بن الجعد . ثنا شعبة وشيبان ، عن قتادة : سمعت أنس بن مالك يقول : (( صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما وعثمان رضي الله عنه فلم أسمع أحداً منهم يجهر بـ ( بسم الله الرحمن الرحيم ) . ورواهن الدار قطني ، عن البغوي عن علي بن الجهد بهذا .
وبوب عليه ابن حبان في صحيحه (( باب الخبر المدحض )) قول من زعم أن هذا الخبر لم يسمعه قتادة من أنس رضي الله عنه . وكذا رواه جماعة من أصحاب قتادة عنه ورواه آخرون عنه بلفظ الافتتاح ، ورواه عن شعبة جماعة حفاظ أصحابه هكذا ورواه آخرون عنه بلفظ الافتتاح ، فيظهر أن قتادة كان يرويه على الوجهين وكذلك شعبة ومن أدل دليل على ذلك أن يونس بن حبيب رواه في مسند أبي داود الطيالسي عنه عن شعبة بلفظ الافتتاح . ورواه محمد بن المثنى ويحيى بن أبي طالب عنه بلفظ عدم الجهر فالله أعلم .
[ شاهد لحديث أنس : ]
ويشهد لحديث أنس رضي الله عنه المذكور حديث عبد الله بن مغفل رضي الله تعالى عنه الذي حسنه الترمذي ولفظه : صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان رضي الله تعالى عنهم فلم أسمع أحداً منهم يقولها .