4 مصاحف

حمل المصحف

مراجع في المصطلح واللغة

مراجع في المصطلح واللغة

كتاب الكبائر_لمحمد بن عثمان الذهبي/تابع الكبائر من... /حياة ابن تيمية العلمية أ. د. عبدالله بن مبارك آل... /التهاب الكلية الخلالي /الالتهاب السحائي عند الكبار والأطفال /صحيح السيرة النبوية{{ما صحّ من سيرة رسول الله صلى ... /كتاب : عيون الأخبار ابن قتيبة الدينوري أقسام ا... /كتاب :البداية والنهاية للامام الحافظ ابي الفداء ا... /أنواع العدوى المنقولة جنسياً ومنها الإيدز والعدوى ... /الالتهاب الرئوي الحاد /اعراض التسمم بالمعادن الرصاص والزرنيخ /المجلد الثالث 3. والرابع 4. [ القاموس المحيط - : م... /المجلد 11 و12.لسان العرب لمحمد بن مكرم بن منظور ال... /موسوعة المعاجم والقواميس - الإصدار الثاني / مجلد{1 و 2}كتاب: الفائق في غريب الحديث والأثر لأبي... /مجلد واحد كتاب: اللطائف في اللغة = معجم أسماء الأش... /مجلد {1 و 2 } كتاب: المحيط في اللغة لإسماعيل بن ... /سيرة الشيخ الألباني رحمه الله وغفر له /اللوكيميا النخاعية الحادة Acute Myeloid Leukemia.... /قائمة /مختصرات الأمراض والاضطرابات / اللقاحات وما تمنعه من أمراض /البواسير ( Hemorrhoids) /علاج الربو بالفصد /دراسة مفصلة لموسوعة أطراف الحديث النبوي للشيخ سع... / مصحف الشمرلي كله /حمل ما تريد من كتب /مكتبة التاريخ و مكتبة الحديث /مكتبة علوم القران و الادب /علاج سرطان البروستات بالاستماتة. /جهاز المناعة و الكيموكين CCL5 .. /السيتوكين" التي يجعل الجسم يهاجم نفسه /المنطقة المشفرة و{قائمة معلمات Y-STR} واختلال الص... /مشروع جينوم الشمبانزي /كتاب 1.: تاج العروس من جواهر القاموس محمّد بن محمّ... /كتاب :2. تاج العروس من جواهر القاموس /كتاب تاج العروس من جواهر القاموس /كتاب : تاج العروس من جواهر القاموس

الأربعاء، 11 مايو 2022

ج1. التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل للعلامة الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي العتمي اليماني

 

التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل للعلامة الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي العتمي اليماني رحمه الله تعالى/1313 – 1386

قام على طبعه وتحقيقه والتعليق عليه محمد ناصر الألباني طبع على نفقة الشيخ محمد نصيف وشركاه 

الجزء الأول

مقدمة المحقق

بسم الله الرحمن الرحيم

وبه وحده أستعين

الحمد لله ، والصلاة والسلام على رَسُولُ اللهِ ، وآله وصحبه وإخوانه أجمعين .

أما بعد : فإني أقد اليوم إلى القراءِ الكرام كتاب (( التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل )) تأليف العلامة المحقق الشيخ عبد الرحمن بن يحيى بن علي اليماني رحمه الله تعالى ، بين فيه بالأدلة القاطعة والبراهين الساطعة تجني الأستاذ الكوثري على أئمة الحديث ورواته ، ورميه إياهم بالتجسيم والتشبيه ، وطعنه عليهم بالهوى والعصبية المذهبية ، حتى لقد تجاوز طعنه إلى بعض الصحابة ، مصرحاً بأن أبا حنيفة رحمه الله رغب عن أحاديثهم! وأن قياسه مقدم عليها ! فضلاً عن غمزه بفضل الأئمة وعلمهم ، فمالك مثلاً عنده ليس عربي النسب بل مولى ! والشافعي كذلك ، بل هو عنده غير فصيح في لغته ، ولا متين في فقهه . والإمام أحمد غير فقيه عنده ! وابنه عبد الله مجسم ، ومثله الأئمة ابن خزيمة وعثمان بن سعيد الدارمي وابن أبي حاتم ، وغيرهم ، والإمام الدارقطني عنده أعمى ضال في المعتقد ، متبع للهوى ، والحاكم شيعي مختلط اختلاطاً فاحشاً !!! وهكذا لم يسلم من طعنه حتى مثل الحميدي ، وصالح بن محمد الحافظ وأبي زرعة الرازي وابن عدي وابن أبي داود والذهبي وغيرهم !

ثم هو إلى طعنه هذا يضعف الثقات من الحفاظ والرواة ، وينصب العداوة بينهم وبين أبي حنيفة لمجرد روايتهم عنه بعض الكلمات التي لا تروق لعصبية الكوثري وجموده المذهبي .

وهو في سبيل ذلك لا يتورع أن يعتمد على مثل ابن النديم الوراق وغيره ممن لا يعتد بعلمه في هذا الشأن . وهو على النقيض من ذلك يوثق الضعفاء والكذابين ، إذا رووا ما يوافق هواه ! وغير ذلك مما سترى تفصيله في هذا الكتاب بإذن الله .

ومنه يتبين للناس ما كان خافياً عليهم من حقيقة الكوثري ، وأنه كان يجمع في نفسه بين صفتين متناقضتين : فهو في الفقهيات وعلم الكلام مقلد جامد ، وفي التجريح والتعديل ، والتوثيق والتضعيف ، وتصحيح الحديث وتوهينه ، ينحو منحى المجتهد المطلق، غير أنه لا يلتزم في ذلك قواعد أصولية ، ولا منهجاً علمياً ! فهو مطلق عن كل قيد وشرط ! لذلك فهو يوثق في من شاء من الرواة ولو أجمع أئمة الحديث على تكذيبه ، ويضعف من شاء ممن أجمعوا على توثيقه ، ويصرح بأنه لا يثق بالخطيب وأبي الشيخ ابن حيان ونحوهما ، ويضعف من الحديث ما اتفقوا على تصحيحه ، ولو كان مم خرجه الشيخان في (( صحيحهما )) ولا علة قادحة فيه . ويصحح ما يعلم كل عارف بهذا العلم أنه ضعيف بل موضوع مثل حديث (( أبو حنيفة سراج أمتي )) ‍! إلى غير ذلك من الأمور التي ستتجلى للقارئ الكريم ، مبرهناً عليها من كلام الكوثري نفسه في هذا الكتاب العظيم ، بأسلوب علمي متين ، لا وهن فيه ، ولا خروج عن أدب المناظرة ، وطريق المجادلة بالتي هي أحسن ، بروح علمية عالية ، وصبر على البحث والتحقيق كاد يبلغ الغاية ، إن لم أقل . بلغها . كل ذلك انتصاراً للحق ، وقمعاً للباطل ، لا تعصباً للمشايخ والمذهب ، فرحم الله المؤلف ، وجزاه عن المسلمين خيراً .

هذا . وقد قمت على طبع الكتاب برغبة من فضيلة الشيخ محمد نصيف بارك الله في حياته ، وعلقت عليه في بعض المواطن التي رأيت من الفائدة التعليق عليها ، وميزت هذه التعليقات بالرمز لها بـ ( ن ) . وفي القسم الرابع من الكتاب تعليقات أخرى بقلم فضيلة الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة حفظه الله تعالى، رمزت لها بـ ( م ع ) ، وقد أصرح باسمه ، وما كان من التعليقات خلواً عن الرمز فهي للمؤلف على الغالب وكان فضيلة الشيخ محمد عبد الرزاق قد ألحق بقلمه بعض الجمل بأصل الكتاب بالحبر الأحمر ، فنزلت بها إلى التعليق عازباً لها إليه وقد لا أفعل ، فأجعلها بين معكوفين [ ] ، وإنما فعلت ذلك لأن الأمانة العلمية تقتضي ذلك ولأن ذلك رغبة المؤلف كما جاء على الوجه الأول من القسم المشار إليه ونصه .

(( يقول المؤلف : إذا علق أحد على كتابه فليكن التعليق منفصلاً عن كلامه وعليه توقيعه )) .

وكتب الشيخ عبد الرزاق حمزة تحته ما نصه :

(( قرأت الكتاب المذكور ( القائد إلى تصحيح العقائد ) وعلقت عليه بعض تعليقات بالقلم الأحمر في أسفل بعض الصفحات ، ولم أصحح في صلبه سوى بعض كلمات وقعت غلطاً في آيات قرآنية ، سهواً من الكاتب ، وللمؤلف حواش مذيلة بلفظ (( المؤلف )) وما لم يذيل بهذا اللفظ فهي تعليقاتي أنا محمد عبد الرزاق حمزة ، لي غنمها، وعلي غرمها وتبعتها . والله المستعان ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم . وقد ذيلت على الكتاب بآخره تذييلاً نافعاً إن شاء الله تعالى . محمد عبدالرزاق حمزة )) .

وأقول : قد وقع في الكتاب وذيله والتعليق عليه بعض الألفاظ ، صححتها ، ونبهت على الأصل فيها ما أمكن ، وسقطت بعض الألفاظ من بعض الآيات القرآنية في الذيل فأشرت إليها بجعلها بين معكوفين [ ] ، وقد يقع مثله في الكتاب أيضاً . والسهو من طبع الإنسان . وجل من لا يضل ولا ينسى .

وإن مما يلفت النظر ويدل على فضل المؤلف رحمه الله تعالى وإنصافه أنه أذن لفضيلة الشيخ محمد عبد الرزاق بالتعليق على كتابه ونقده فيما يراه منتقداً منه . وقد تعقبه المؤلف في بعض المواطن ، وكان الصواب حليفه في الغالب ، وسكت في غيرها ، مما زاد في قيمة الكتاب وفائدته ، فجزى الله المؤلف والمعلق خيراً .

ثم إنه والكتاب على وشك تمام طبعه ، جاءني كتاب من فضيلة الشيخ محمد نصيف يبدي فيه رغبته بأن نعيد طبع رسالة (( طليعة التنكيل )) للمؤلف رحمه الله تعالى ، وهي بمثابة المقدمة لهذا الكتاب (( التنكيل )) فوافق ذلك ما كان في نفسي من الرأي ، وكنت صرحت به لفضيلته حين عرض علي القيام على طبع الكتاب ، ولكن الشيخ حفظه الله وبارك فيه – لم ينشط لذلك يومئذ ، وما قدر يكن .

إن طبع (( الطليعة )) مع أصله (( التنكيل )) أمر هام لأنها أولاً كالمقدمة بالنسبة إليه كما ذكرنا . وثانياً : أن المؤلف يحيل عليها في الكتاب كثيراً ، ويشير إلى صفحاتها بالأرقام من الطبعة الأولى منها ، فقد كان الأنفع طبع الكتاب قبل الرسالة لنصحح الأرقام منه على وفق الطبعة الجديدة ، ولكن هكذا قدر .

وتداركا لما فات ، فقد وضعت أرقام صفحات الطبعة الأولى على هامش هذه الطبعة تيسيراً على الطالب ، واضعاً رقم كل صفحة بجانب السطر الذي فيه أول كلمة منها مشيراً إليها بوضع محور / أمامها . فما على القارئ إلا أن يتتبع رقم الصفحة المحال عليها من الهامش فيجد البحث المنشود .

وقد اعتمدت في هذه الطبعة على الطبعة الثانية منها وذلك لأمرين :

الأول : أنه كان وقع في الطبعة الأولى بعض الأخطاء نبه على أكثرها المصنف رحمه الله فيما سيأتي من (( التنكيل )) ( 1/101 و271 ) ، وذكر فيه آيات وتصحيحات ينبغي إلحاقها بـ ( الطليعة ) فاستدركها المؤلف في الطبعة الثانية ، إلا جملة واحدة في سطور استدركتها أنا في هذه الطبعة ، كما ستراه ص ( 20 ) .

والأمر الآخر : أن الطبعة الأولى كان قد أدرج فيها في المتن ولتعليق ما ليس من كلام المصنف رحمه الله تعالى ، بخلاف الطبعة الثانية ، فقد جاء على الوجه الأول منها :

طبع للمرة الثانية بعد المقابلة على الأصل الذي كتبه المؤلف ، وإخراج ما أدرج في الطبع الأولى من غير كلامه في المتن أو الحاشية )) .

قلت : فهي طبعة منقحة ومزيدة بالنسبة إلى الأولى ، وطبعتنا هذه امتازت بكونها أشد تنقيحاً وأكثر فائدة .

هذا . ولعل من الحكمة في تقدير الله عز وجل طبع الرسالة بعد الكتاب ، أننا تمكنا فيها من استدراك تعليق هام على موضع من (( التنكيل )) لك يتيسر لنا تعليقه هناك ، فاستدركناه هنا كما ستراه في (( الرسالة )) ( ص 33 ) . والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات .

وأخيراً ، أسأل الله تعالى أن ينفع المسلمين بهذا الكتاب ، ويعرفهم بأثر أهل الحديث في خدمة الشريعة ، ويجزي المؤلف والمعلق والمنفق على طبعه خير الجزاء ، إنه خير سؤل .

 

دمشق 21 رمضان سنة 1386                   محمد ناصر الدين الألباني .

 


ترجمة المؤلف رحمه الله تعالى ([1])

بقلم

عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الرحيم المعلمي

 

هو عبد الرحمن بن يحيى بن علي بن أبي بكر المعلمي العتمي اليماني .

ولد في أول سنة 1313ه‍ بقرية ( المحاقرة ) من عزلة ( الطفن ) من مخلاف ( رازح ) من ناحية ( عتمة ) في اليمن ، وكفله والداه ، وكانا من خيار تلك البيئة ، وهي بيئة متدينة وصالحة ، ثم قرأ القرآن على رجل من عشيرته وعلى والده قراءة متقنة مجودة ، وقبل أن يختم القرآن ذهب مع والده إلى ( بيت الريمي ) حيث كان أبوه يمكث يعلم – أولادهم ويصلي بهم .

ثم سافر إلى ( الحجرية ) حيث كان أخوه الأكبر محمد بن يحيى رحمه الله كاتباً في محكمتها الشرعية وأدخل في مدرسة للحكومة كان يعلم فيها القرآن والتجويد والحساب واللغة التركية ([2]) فمكث مدة فيها ، ومرض مرضاً شديداً ، فحوله أخوه إلى بيت أرملة هناك فمرضته حتى شفاه الله تعالى بوصفة بلدية من رجل من أهل الصلاح هناك ، ثم جاء والده إلى ( الحجرية ) ، وسأله عما قرأ ؟ فأخبره ، فقال له : والنحو ؟ فأخبره أنه لم يقرأ النحو ، لأنه لا يدرس في المدرسة ، فكلم أخاه وأوصاه بقراءة النحو ، فقرأ عنده شيئاً من ( شرح الكفراوي ) على ( الأجرومية ) نحو أسبوعين . ثم سافر مع والده .

ثم اتجهت رغبته إلى قراءة النحو ؛ فاشترى بعض كتب النحو فلما وصل ( بيت الريمي ) وجد رجلاً يدعى أحمد بن مصلح الريمي فصارا يتذكران النحو في عامة أوقاتهما، مستعينين بتفسيري الخازن والنسفي ، وأخذت معرفته تتقوى حتى طالع ( المغني ) لابن هشام نحو سنة ، وحاول تلخيص بعض فوائده المهمة في دفتر ، وحصلت له ملكة لا بأس بها .

ثم ذهب إلى بلده ( الطفن ) ورأى ورأى والده أن يبقى هناك مدة ليقرأ على الفقيه العلامة الجليل أحمد بن محمد بن سليمان المعلمي – وكان متبحراً في العلم ، فلازمه ملازمة تامة ، وقرأ عليه الفقه والفرائض والنحو . ثم عاد إلى ( بيت الريمي ) وانكب على كتاب ( الفوائد الشنشورية ) في الفرائض بحل مسائله ،ويعرض مسائل أخرى ويحاول حلها ثم امتحانها وتطبيقها . وقرأ ( المقامات ) للحريري ([3]) وبعض كتب الأدب فأولع بالشعر فقرضه ، فجاء أخوه من ( الحجرية ) فأعجبه تحصيله في النحو والفرائض فتركه وسافر إلى ( الحجرية ) ، ثم استقدمه فسافر إليها ، وبقي هناك مدة لا يستفيد فيها إلا حضوره بعض مجالس يتذاكر فيها الفقه . ثم رجع إلى ( عتمة ) وكان القضاء قد صار إلى الزيدية ([4]) وعين الشيخ علي بن مصلح الريمي كاتباً للقاضي ، فأنابه ، فلزم القاضي الذي هو السيد علي بن يحيى بن المتوكل ( وكان رجلاً عالماً فاضلاً معمراً إلا أنه لم يقرأ عليه شيئاً ولا أخذ منه إجازة ) ثم عين بعده القاضي السيد محمد بن علي الرازي وكتب عنه مدة .

وله إجازة من صدر شعبة الدينيات وشيخ الحديث في كلية الجامعة العثمانية بـ ( حيدر آباد الدكن ) الشيخ عبد القدير محمد الصديقي القادري قال فيها بعد البسملة والحمد لله والصلاة على النبي الأعظم صلوات الله عليه : (( إن الأخ الفاضل والعالم العامل الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي العتمي اليماني قرأ علي من ابتداء (( صحيح البخاري )) و (( صحيح مسلم )) ، واستجازني ما رويته عن أساتذتي ، ووجدته طاهر الأخلاق طيب الأعراق ، حسن الرواية جيد الملكة في العلوم الدينية ، ثقة عدلاُ ، أهلاً للرواية بالشروط المعتبرة عند أهل الحديث ، فأجزته برواية (( صحيح البخاري )) و (( صحيح مسلم )) و (( جامع الترمذي )) )) و (( سنن أبي داود )) و (( ابن ماجه )) و (( النسائي )) و (( الموطأ )) لمالك رضي الله عنهم .

حرر بتاريخ 13 – القعدة – سنة 1346ه‍ ))

 

أعماله :

ثم ارتحل إلى ( جيزان ) سنة 1329 والتحق بها في خدمة السيد محمد الإدريسي أمير
( عسير ) حينذاك ، فولاه رئاسة القضاة ، ولما ظهر لم من ورعه وزهده وعدله لقبه بـ
( شيخ الإسلام ) ؛ وكان إلى جانب القضاء يشتغل بالتدريس ، ومكث مع السيد محمد الإدريسي حتى توفي الإدريسي سنة 1341ه‍ فارتحل إلى ( عدن ) ومكث فيها سنة مشتغلاً بالتدريس والوعظ . وبعد ذلك ارتحل إلى ( الهند ) وعين في دائرة المعارف العثمانية بـ ( حيدر أباد الدكن ) مصححاً لكتب الحديث وما يتعلق به وغيرها من الكتب في الأدب والتاريخ .

وبقي بها مدة ثم سافر إلى مكة المكرمة ووصل إليها في عام 1371ه‍ وفي عام 1372ه‍ في شهر ربيع الأول منه بالذات عين أميناً لمكتبة الحرم المكي الشريف حيث بقي بها يعمل بكل جد وإخلاص في خدمة رواد المكتبة من المدرسين وطلاب العلم حتى أصبح موضع الثناء العاطر من جميع رواد المكتبة على جميع طبقاتهم بالإضافة إلى استمراره في تصحيح الكتب وتحقيقها لتطبع في دائرة المعارف العثمانية بالهند ، حتى وافاه الأجل المحتوم صبيحة يوم الخميس السادس من شهر صفر عام ألف وثلاثمائة وستة وثمانين من الهجرة بعد أن أدى صلاة الفجر في المسجد الحرام وعاد إلى مكتبة الحرم حيث كان يقيم وتوفي على سريره . رحمه الله .

 

مؤلفاته وما حققه من كتب :

مؤلفاته : - المطبوع منها :

1- (( طليعة التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل )) .

2- ورسالة في مقام إبراهيم وهل يجوز تأخيره .

3- و (( الأنوار الكاشفة بما في كتاب (( أضواء على السنة )) من الزلل والتضليل والمجازفة ))

4- ومحاضرة في كتب الرجال وأهميتها ألقيت في حفل ذكرى افتتاح دائرة المعارف بالهند عام 1356ه‍ .

 

مؤلفاته المخطوطة :

(( التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل )) في مجلدين تحت الطبع .

و (( إغاثة العلماء من طعن صاحب الوراثة في الإسلام )) .

ورسائل أخرى في مسائل متفرقة لم يسمها ([5]) . وديوان شعر وآخر ما قال في الشعر القصيدة التي رثا بها جلالة الملك عبد العزيز آل سعود – رحمه الله – والتي نشرت في ( المنهل ) العدد ( 53 ) من السنة الرابعة عشرة .

أما الكتب التي قام بتحقيقها وتصحيحها والتعليق عليها فهي :

1- التاريخ الكبير للبخاري إلا الجزء الثالث .

2- وخطأ الإمام البخاري في تاريخه لابن أبي حاتم الرازي .

3- وتذكرة الحفاظ للذهبي .

4- والجرح والتعديل لابن حاتم الرازي أيضاً .

5- وكتاب موضح أوهام الجمع والتفريق للخطيب البغدادي .

6- والمعاني الكبير في أبيات المعاني لابن قتيبة .

7- والفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة للشوكاني .

8و9- وآخر ما كان يقوم بتصحيحه كتاباً (( الإكمال )) لابن ماكولا و(( الأنساب )) للسمعاني ، وصل إلى خمسة أجزاء ، تم طبعها وشرع في السادس من كل منهما حيث وافاه الأجل المحتوم ..

هذا بالإضافة إلى اشتراكه في تحقيق وتصحيح عدد من أمهات كتب الحديث والرجال وغيرها مع زملائه في دائرة المعارف العثمانية بـ ( حيدر أباد ) بـ ( الهند ) . وأهمها (( السنن المبرى )) للبيهقي ، و (( مسند أبي عوانة )) و (( الكفاية في علم الرواية )) للخطيب البغدادي و(( صفة الصفوة )) لابن الجوزي و(( المنتظم )) لابن الجوزي أيضاً ، و (( الأمالي الشجرية )) :

1- مفتاح السعادة ومصباح السيادة في موضوعات العلوم للمولى أحمد بن مصطفى المعروف بطاش كبرى زاده طبعة أولى ([6]) .

2- تنقيح المناظر لذوي الأبصار والبصائر لكمال الدين أبي الحسن الفارسي .

3- الأمالي اليزيدية ( فيها مراث وأشعار وأخبار ولغة وغيرها ) .

4- عمدة الفقه لموفق الدين ابن قدامه ( قابل الأصل وصححه وعلق عليه ) .

5- كشف المخدرات لزين الدين عبد الرحمن بن عبد الله المعلى ثم الدمشقي .

6- شرح عقيدة السفاريني .

7- موارد الظمآن إلى زوائد صحيح بن حبان .

8- الجواب الباهر في زور المقابر . لابن تيمية ( شارك في تحقيقه وإخراج أحاديثه ) .

9- الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة . لابن حجر العسقلاني .

10- نزخة الخواطر وبهجة المسامع والنواظر . لعبد الحي بن فخر الدين الحسيني .

وغير ذلك رحمه الله وأسكنه فسيح جناته .


بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمداً عبده ورسوله ، اللهم صل على محمد ، وعلى آل محمد ، كما صليت على آل إبراهيم ، وبارك على محمد ، وعلى آل محمد ، كما باركت على آل إبراهيم ، إنك حميد مجيد .

أما بعد : فإني وقفت على كتاب ( تأنيب الخطيب ) للأستاذ العلامة محمد زاهد الكوثري ، الذي تعقب فيه ما ذكره الحافظ المحدث الخطيب البغدادي في ترجمة الإمام أبي حنيفة من ( تاريخ بغداد ) من الروايات عن الماضين في الغض من أبي حنيفة ، فرأيت الأستاذ تعدى ما يوافقه عليه أهل العلم من توقير أبي حنيفة وحسن الذب عنه – إلى ما لا يرضاه عالم متثبت من المغالطات المضادة للأمانة العلمية ، ومن التخليط في القواعد ، والطعن في أئمة السنة ونقلتها ، حتى / تناول بعض أفاضل الصحابة والتابعين والأئمة الثلاثة مالكاً والشافعي وأحمد وأضرابهم وكبار أئمة الحديث وثقات نقلته والرد لأحاديث صحيحة ثابتة ، والعيب للعقيدة السلفية ، فأساء في ذلك جداً حتى إلى الإمام أبي حنيفة نفسه ، فإن من لا يزعم أنه لا يتأتى الدفاع عن أبي حنيفة إلا بمثل ذلك الصنيع فساء ما يثني عليه ، ([7]) فدعاني ذلك إلى تعقيب الأستاذ فيما تعدى فيه ، فجمعت في ذلك كتاباً أسميته ( التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل ) ، ورتبته على أربعة أقسام :

( القسم الأول ) في تحرير القواعد التي خلط فيها .

( الثاني ) في تراجم الأئمة والرواة الذين طعن فيهم وهم نحو ثلاثمائة فيهم أنس بن مالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وهشام بن عروة بن الزبير بن العوام ، والأئمة الثلاثة ، وفيهم الخطيب ، وأدرجت في ذلك تراجم أفراد مطعون فيهم حاول توثيقهم ، ورتبت التراجم على الحروف المعجمة .

( الثالث ) في الفقهيات ، وهي مسائل انتقدت على أبي حنيفة وأصحابه ، حاول الأستاذ الانتصار لمذهبه .

( الرابع ) في الاعتقاديات ذكرت فيه الحجة الواضحة لصحة عقيدة أئمة الحديث إجمالاً . وعدة مسائل تعرض لها الأستاذ ، ولم أقتصر على مقصود التعقب ، بل حرصت على أن يكون الكتاب جامعاً لفوائد غزيرة في علوم السنة مما يعين على التبحر والتحقيق فيها .

وحرصت على توخي الحق والعدل ، واجتناب ما كرهته للأستاذ ، خلا أن إفراطه في إساءة القول في الأئمة جرأني على أن أصرح ببعض ما يقتضيه صنيعه .

وأسأل الله التوفيق لي وله .

والكتاب على وشك التمام ، وهذه ( طليعة ) له أعجلها للقراء شرحت فيها من مغالطات الأستاذ ومجازفاته ، وذلك أنواع .

 

- 1 -

فمن أوابده تبديل الرواة ، يتكلم في الأسانيد التي يسوقها الخطيب طاعناً في رجالنا واحداً واحداً ، فيمر به الرجل الثقة الذي لا يجد فيه طعناً مقبولاً فيفتش الأستاذ عن رجل آخر يوافق ذلك الثقة في الاسم واسم / الأب ويكون مقدوحاً فيه ، فإذا ظفر به زعم أنه هو الذي في السند ([8]) .

فمن أمثلة ذلك :

1،2 – صالح بن أحمد ، ومحمد بن أيوب . قال الخطيب في ( التاريخ ) ( ج 13 ص394 ) (( أخبرنا محمد بن عيسى بن عبد العزيز البزاز بهمذان حدثنا صالح بن أحمد التميمي الحافظ حدثنا القاسم بن أبي صالح حدثنا محمد بن أيوب أخبرنا إبراهيم بشار قال سمعت سفيان ابن عيينة . )) .

تكلم الأستاذ في هذه الرواية ص97 من ( التأنيب ) فقال : ( في سنده صالح بن أحمد التميمي ، وهو ابن أبي مقاتل القيراطي هروي الأصل ، ذكر الخطيب عن ابن حبان أنه كان يسرق الحديث .... والقاسم بن أبي صالح الحذاء ذهبت كتبه بعد الفتنة ، فكان يقرأ من كتب الناس وكف بصره كما قاله العراقي، ونقله ابن حجر في ( لسان الميزان )، ومحمد بن أيوب ابن هشام الرازي كذبه أبو حاتم ، ولا أدري كيف يسوق الخطيب مثل ذلك الخبر بمثل السند المذكور ، ولعل الله سبحانه طمس بصيرته ليفضحه فيما يدعي / أنه المحفوظ عند النقلة بخذلانه المكشوف في كل خطوة .

( أقول ) أما صالح فهو صالح بن أحمد ، وهو موصوف في السند نفسه بأنه :

تميمي

وحافظ

ويظهر أنه همذاني لأن شيخه والراوي عنه همذانيان .

ويروي عن القاسم بن أبي صالح .

ويروي عنه محمد بن عيسى بن عبد العزيز .

وينبغي بمقتضى العادة أن يكون توفي بعد القاسم بمدة .

وينبغي بمقتضى العادة أن لا يكون بين وفاته ووفاة الراوي عنه مدة طويلة مما يندر مثله .

وهذه الأوجه كلها منتفية في حق القيراطي ، فلم يوصف بأنه تميمي ، ولا بأنه حافظ وإن قيل كان يذكر بالحفظ ، فإن هذا لا يستلزم أن يطلق عليه لقب ( الحافظ ) ، ولم يذكر أنه همذاني ، بل ذكروا أنه هروي الأصل سكن بغداد ([9]) ولم تذكر له رواية عن القاسم ([10]) ولا لمحمد بن عبد العزيز رواية عنه ، ([11]) [ والظاهر أنه جيءَ به إلى بغداد طفلاً ، أو ولد بها ، فإن في ترجمته من ( تاريخ بغداد ) ذكر جماعة من شيوخه وكلهم عراقيون من أهل بغداد والبصرة ونواحيها ، أو ممن ورد على بغداد ، وسماعه منه قديم ، فمن شيوخه البغداديين يعقوب الدروقي المتوفى سنة 252 ([12]) ، ويوسف بن موسى القطان المتوفى 253، ومن البصريين محمد بن يحيى بن أبي حزم القِطَعي المتوفى سنة 253، وصرح الخطيب في ترجمة فضلك الرازي بأن ابن أبي مقاتل بغدادي فلا شأن له من جهة السماع بهمذان ولا بهراة ] . ([13]) وكانت وفاته سنة 316هـ ، أي قبل وفاة القاسم باثنتين وعشرين سنة ، وقبل وفاة محمد بن عيسى بن عبد العزيز بمائة وأربع عشرة سنة .

/ ومن اطلع على ( التأنيب ) وغيره من مؤلفات الأستاذ علم أنه لم يؤت من جهل بطريق الكشف عن تراجم الرجال الواقعين في الأسانيد ، ومعرفة كيف يعلم انطباق الترجمة على المذكور في السند من عدم انطباقها، ولا من بخل بالوقت ولا سآمة للتفتيش، فلا بد أن يكون قد عرف أكثر هذه الوجوه إن لم نقل جميعها وبذلك علم لا محالة أن صالح بن أحمد الواقع في السند ليس بالقيراطي فيحمله ذلك على مواصلة البحث ، فيجد في ( تاريخ بغداد ) نفسه في الصفحة اليسرى التي تلت الصفحة التي فيها ترجمة القيراطي ، وقد نقل الكوثري عنها ، سيجد ثمة رجلاً آخر صالحاً (( صالح بن أحمد بن محمد أبو الفضل التميمي الهمذاني قدم بغداد وحدث بها عن ... والقاسم بن بندار ( وهو القاسم بن أبي صالح كما في ترجمته من ( لسان الميزان ) ، وقد نقل الأستاذ عنها ) .... وكان حافظاً فهماً ثقة ثبتاً .... )) . ولهذا الحافظ ترجمة في ( تذكرة الحفاظ ) ج3 ص181 وفيها في أسماء شيوخه (( القاسم بن أبي صالح )) وفيها ثناء أهل العلم عليه ، وفيها أن وفاته سنة 384 ، وذكره / ابن السمعاني في ( الأنساب ) الورقة 592 ، وذكر في الرواة عنه أبا الفضل محمد بن عيسى البزاز ، وإذا كانت وفاة هذا الحافظ سنة 384 فهي متأخرة عن وفاة القاسم بست وأربعين سنة  ، ومثل هذا يكثر في العادة في الفرق بين وفاة الرجل ووفاة شيخه ووفاة الراوي عنه ، فاتضح يقيناً أن هذا الحافظ الفهم الثقة الثابت هو الواقع في السند .

وقد عرف الكوثري هذا حق معرفته ، والدليل على ذلك :

أولاً : ما عرفناه من معرفته وتيقظه .

ثانياً : أن ترجمة التميمي قريبة من ترجمة القيراطي التي طالعها الكوثري .

ثالثاً : أن من عادة الكوثري ، كما يعلم من ( التأنيب ) ، أنه عندما يريد القدح في الراوي يتتبع التراجم التي فيها ذلك الاسم واسم الأب فيما تصل إليه يده من الكتب ، ولا يكاد يقنع بترجمة فيها قدح ، لطمعه أن يجد أخرى فيها قدح أشفى لغيظه .

/ رابعاً : في عبارة الكوثري (( والقاسم بن أبي صالح الحذاء ذهبت كتبه بعد الفتنة ، وكان يقرأ من كتب الناس وكف بصره ، قاله العراقي ، ونقله ابن حجر في ( لسان الميزان ) )) .

والذي في ( لسان الميزان ) جزء 4 ص460 :

(( ( ز ) – قاسم بن أبي صالح بندار الحذاء ... روى عنه إبراهيم بن محمد بن يعقوب وصالح بن أحمد الحافظ .... قال صالح كان صدوقاً متقناً لحديثه وكتبه صحاح بخطه ، فلما وقعت الفتنة ذهبت عنه كتبه فكأن يقرأ من كتب الناس وكف بصره ، وسماع المتقدمين عنه أصح )) .

وحرف ( ز ) أول الترجمة إشارة إلى أنها من زيادة ابن حجر . وكما نبه عليه في خطب ( اللسان ) ، وذكر هناك أن لشيخه العراقي ذيلاً على الميزان ، وأنه إذا أراد ترجمة في ( اللسان ) فما كان من ذيل شيخه العراقي جعل في أول الترجمة حرف ( ذ ) وما كان من غيره جعل حرف ( ز ) فعلم من هذا أن ترجمة القاسم من زيادة ابن حجر نفسه لا من ذيل العراقي .

وهب أن الكوثري وهم في هذا ، فالمقصود هنا أن الذي في الترجمة من الكلام في القاسم هو من كلام الراوي / عنه صالح بن أحمد الحافظ ، فلماذا دلس الكوثري النقل وحرفه ونسبه إلى العراقي ؟

الجواب واضح ، وهو أن الكوثري خشي إن نسب الكلام إلى صالح بن أحمد الحافظ أن ينتبه القارئ فيفهم أن صالح بن أحمد الحافظ هذا هو في الواقع في سند الخطيب وليس هو القيراطي لوجهين :

( الأول ) أن القيراطي مطعون فيه ، فلم يكن الحفاظ ليتعدوا بكلامه في القاسم ، وكذلك الكوثري لم يكن ليعتد بكلام القيراطي .

( الثاني ) أن كلام صالح في الترجمة يدل أنه تأخر بعد القاسم ، والقيراطي توفي قبل القاسم باثنتين وعشرين سنة ، وبهذا يتبين أن الكلام في القاسم لا يضره بالنسبة إلى رواية الخطيب ، لأنها من رواية صالح بن أحمد الحافظ نفسه عنه وهو المتكلم فيه ، فلم يكن ليروي عنه إلا ما سمعه منه من أصوله قبل ذهابها ، فأعرض الكوثري لهذين الغرضين عن صالح بن أحمد الحافظ ، ونسب كلامه إلى العراقي وحذف من العبارة ما فيه ثناء على القاسم ، وهذه / عادة له ستأتي أمثلة منها إن شاء الله تعالى .

والمقصود هنا إثبات أن الكوثري قد عرف يقيناً أن صالح بن أحمد الواقع في السند ليس هو بالقيراطي ، بل هو ذاك الحافظ الفهم الثقة الثبت ([14]) ، ولكن كان الكوثري مضطراً إلى الطعن في تلك الرواية ، ولم يجد في ذاك الحافظ مغمزاً ، ووقعت بيده ترجمة القيراطي المطعون فيه وعرف أن هذا الفن أصبح في غاية الغربة فغلب على ظنه أنه إذا زعم أن الواقع في السند هو القيراطي لا يرد ذلك عليه أحد ، فأما الله تبارك وتعالى فله معه حساب آخر والله المستعان .

وأما محمد بن أيوب فالكوثري يعلم بهذا الاسم في تلك الطبقة ، والمراد عند الإطلاق في الرواية هو الحافظ الجليل الثقة الثبت محمد بن أيوب بن يحيى بن الضريس ترجمته في ( تذكرة الحفاظ ) جزء 3 صفحة 195 .

وقد احتج الكوثري ص 114 في معارضة ما رواه ابن أبي حاتم عن / أبيه عن ابن أبي سريج بما رواه الخطيب عن البرقاني عن أبي العباس بن حمدان عن محمد بن أيوب عن ابن أبي سريج ، وذلك بناء من الكوثري على أن شيخ ابن حمدان هو محمد بن أيوب بن يحيى ابن الضريس لشهرته ، هذا مع أنه لا يعرف لابن الضريس رواية عن ابن سريج فأما روايته عن إبراهيم بن بشار فنص عليها المزي في ترجمة إبراهيم من ( تهذيبه ) قال :

(( روى عنه .... ومحمد بن أيوب بن يحيى بن الضريس )) .

فأما محمد بن أيوب بن هشام فمقل مرغوب عن الرواية عنه ، لا تعرف له رواية عن إبراهيم بن بشار ولا للقاسم بن أبي صالح رواية عنه .

فقد بدل الكوثري عمداً في ذاك السند حافظين جليلين برجلين مطعون فيهما ، وصنع ما صنع في شأن القاسم بن أبي صالح ، وقد بان أنه ثقة وأن هذه الرواية من صحيح روايته .

 

ومن العجائب أن الكوثري ارتكب هذه الأباطيل وهو يعلم أن ذلك لا يغني عنه
شيئاً ، ولو لم تتبين الحقيقة ، لأن الأثر ثابت عن إبراهيم بن بشار من غير هذه الطريق ، فقد ذكره ابن عبد البر في ( الانتقاء) ص 148 / عن ( تاريخ ابن أبي خيثمة ) قال : (( حدثنا إبراهيم بن بشار .... )) و ( الانتقاء ) تحت نظر الكوثري كل وقت كما يدل عليه كثرة نقله عنه في ( التأنيب ) .

وأعجب من هذا كله وأغرب قول الكوثري بعد تلك الأفاعيل :

ولا أدري كيف يسوق الخطيب .... ولعل الله سبحانه طمس بصيرته ليفضحه بخلانه المكشوف في كل خطوة )) .

وهذا المترجى واقع ولكن بمن ؟!

3- أحمد بن الخليل ، قال الخطيب جزء13 ص 375 : (( أخبرنا ابن الفضل أخبرنا عبد الله بن جعفر حدثنا بن سفيان حدثنا أحمد بن الخليل حدثنا عبدة ... ذكر الكوثري هذه الرواية ص46 وقال : أحمد بن الخليل هو البغدادي المعروف بجور توفي سنة 260 ، قال الدارقطني / ضعيف لا يحتج به ، وهكذا يكون المحفوظ عند الخطيب .

أقول : الصواب في لقب البغدادي الذي تكلم فيه الدارقطني ( حور ) بالحاء المهملة كما ضبطه أصحاب ( المشتبه ) – والذي في ( الميزان ) و ( اللسان ) في وفاته ( بقي إلى ما بعد الستين ومائتين ولم يذكروا له رواية عن عبدة، ولا ليعقوب بن سفيان رواية عنه، وقد قال يعقوب بن سفيان كما في ترجمة أحمد بن صالح من ( تهذيب التهذيب ): كتبت عن ألف شيخ وكسر كلهم ثقات .

وقبل ترجمة ( حور ) في ( تاريخ بغداد ) ترجمة رجل آخر هو ( أحمد بن الخليل أبو علي التاجر البغدادي ...... روى عنه ...... ويعقوب بن سفيان ) وهذا التاجر له ترجمة في ( التهذيب ) ، وفيها رواية يعقوب بن سفيان عنه ، وتوثيق الأئمة له وفيها :

(( قلت : لم أر له في أسماء شيوخ النسائي ذكراً بل الذي فيه أحمد بن الخليل نيسابوري كتبنا عنه لا بأس به ، وقد قال الدارقطني : قديم ، لم يحدث عنه من البغداديين أحد / وإنما حديثه بخراسان فلعله سكن خراسان )) .

أقول : فكأن النسائي نسبه إلى مسكنه – فهذا هو الواقع في سند الخطيب ، لأنه هو الذي يروي عنه يعقوب بن سفيان ، ولأنه ثقة ، ويعقوب كتب عن الثقات ، ولأنه سكن خراسان .

وشيخه في السند عبدة ، وهو خراساني ، ولا ريب أن الكوثري عند تفتيشه عن أحمد ابن الخليل وقف أولاً على ترجمة هذا التاجر وعرف أنه هو الواقع في السند ، ولكنه رآه ثقة ، وهو بالحاجة إلى الطعن في تلك الرواية فعدل عنه إلى ذاك الضعيف ( حور ) نعوذ بالله من الحور بعد الكور ، وهكذا تكون الأمانة !

4- محمد بن جبّويه ، قال الخطيب ( ج3 ص 370 ) (( جبريل بن محمد المعدل بهمذان حدثنا محمد بن حيويه ( كذا ) النخاس حدثنا محمود بن غيلان )) ذكر الكوثري هذه الرواية ص 34 وقال (( في الطبعات الثلاث ، حيويه والصحيح جبويه ، هو ابن جبويه النخاس الهمذاني وقد كذبه الذهبي في ( تلخيص المستدرك ) حيث قال في حديث مينا : ابن جبويه / متهم بالكذب )) .

وذكر الخطيب جزء 13 صفحة 381 أثراً آخر بمثل السند المتقدم فقال الكوثري ص 64 : (( ووقع في الطبعات الثلاث بلفظ حيويه ، وهو تصحيف كما سبق ، متهم بالكذب ، وقال الذهبي في ( مشتبه النسبة ) ( كذا ) ([15]) ومحمد بن جبويه الهمذاني عن محمود بن غيلان . ا ه‍ .

لكن لا يمكن إدراكه لابن غيلان والحبر كذب ملفق )) .

( أقول ) قول الكوثري (( لا يمكن إدراكه لابن غيلان )) واضح الدلالة على أنه اطلع على وفاة هذا الرجل ، وليست مذكورة في ( تلخيص المستدرك ) ولا في ( المشتبه ) ، وإنما هي مذكورة في ترجمته من الكتب ، إذن فقد اطلع الكوثري على ترجمته ، وهذا واضح فإنه يبعد أن يعثر الأستاذ على ما في ( تلخيص المستدرك ) بدون أن يقف على الترجمة ، وهبه عثر على ذلك قبل النظر في الترجمة ، فمن عادته أنه لا يشتفي بمثل ذلك الطعن بل يفتش على الترجمة لعله يجد فيها طعناً أشد من ذلك ، وكأنني بالكوثري أول ما نظر في هذا الرجل راجع ( الميزان ) و ( اللسان ) ، فوجد في الأول بين ترجمتي محمد ابن حنيفة ومحمد بن حيدره (( محمد بن حيويه بن المؤمل الكرجي .... / قال الخطيب .... )) ووجد في الثاني بين ترجمتي محمد بن حويطب ومحمد بن حيدره كما في الأول ، وزاد : وروى أيضاً عن الدبري .... مات سنة 373 وأورد له الحاكم في المستدرك حديثاً في مناقب فاطمة . فقال الذهبي : محمد بن حيويه الكرجي متهم بالكذب )) ولما وجد الكوثري فيهما (( قال الخطيب )) راجع ( تاريخ بغداد ) فوجد فيه ج 5 ص 233 في أواخر الحاء المهملة من أباء المحمدين ترجمة هذا الرجل ، ولما وجد في ( اللسان ) ذكر ( المستدرك ) راجع فضائل فاطمة عليهم السلام من المستدرك ، فوجد فيه جزء 3 ص160 (( حدثنا أبو بكر محمد بن حيويه بن المؤمل الهمذاني حدثنا إسحاق .... )) وفي ( تلخيصه للذهبي ) : (( حدثنا محمد بن حيويه الهمذاني حدثنا إسحاق الدبري )) ثم قال الذهبي : (( ابن حيويه متهم بالكذب ) . ولم يجد الأستاذ في هذه المراجع كلها ما يشعر بأن هذا هو الواقع في سند تينك الروايتين عند الخطيب ، بل وجد ما يدفع ذلك فإنهم أرّخوا وفاة هذا الرجل سنة 373 وشيخ الواقع في السند محمود ابن غيلان وفاته سنة 239 ، ومن هنا أخذ الأستاذ أنه لم يدركه ، ثم راجع الكوثري ( مشتبه الذهبي ) لعله / يجد فيه ذكراً للواقع في السند فظفر بذلك (( محمد بن جبويه الهمذاني عن محمود بن غيلان )) فعلم أن هذا هو الواقع في السند وأنه غير الكرجي .

أولاً : لأنهم اتفقوا على أن أول اسم والد الكرجي حاء مهملة ، وكلهم من أئمة
( المشتبه ) ، ومنهم الذهبي نفسه في ( الميزان ) وهو الذي ضبط والد الراوي عن محمود ابن غيلان بالجيم والموحدة .

ثانياً : لأن الذهبي يقول في ابن جبويه (( عن محمود بن غيلان )) والكرجي لم يدرك محموداً ، فانقسم الكوثري شطرين ، شطره ([16]) حقق أن الصواب في الواقع في السند ( محمد بن جبويه ) بالجيم والموحدة ، وشطره مال مع الهوى ، فزعم أن الواقع في السند هو الذي اتهمه الذهبي !

وكنت كذي رِجلين رجل صحيحة

 

ورجل رمى فيها الزمان فشلت

/ وقد ذكر ابن ماكولا في ( الأكمال ) الرجلين فقال :(( أما جبويه أوله جيم معجمة بعدها باء مشددة بواحدة ، فهو محمد بن جبويه بن بندار أبو جعفر الهمذاني النخاس ، يروي عن محمود بن غيلان حدث عنه .... )) . ( وجبريل بن محمد ) وقال فيمن أوله حاء مهملة ( وأما حيويه بياء قبل الواو معجمة باثنتين من تحتها فهو ... ومحمد بن حيويه أبو بكر الكرجي ، يعرف بابن أبي روضة حدث عن ... وإسحاق الدبري )) .

وعذر الكوثري أن ابن جبويه لم يطعن فيه أحد ، وهو مضطر إلى الطعن في تينك الروايتين ، وهكذا تكون الأمانة عند الكوثري .

هذا والأثر الأول رواه محمود بن غيلان عن وكيع ، فقال الكوثري بعدما تقدم :
(( فلا يصح هذا الخبر عن وكيع بمثل هذا السند ، والذي صح عنه هو ما أخرجه الحافظ أبو القاسم بن أبي العوام صاحب النسائي والطحاوي في كتابه ( فضائل أبي حنيفة وأصحابه ) المحفوظ بدار الكتب المصرية وعليه خطوط كثير من كبار العلماء الأقدمين وسماعاتهم ، وهو من / مرويات السلفي حيث قال : حدثني محمد بن أحمد بن حماد قال: حدثنا إبراهيم بن جنيد قال حدثنا عبيد بن يعيش قال حدثنا وكيع ... ا ه‍ ، وأين هذا من ذاك ؟! فبذلك تبين ما في رواية الخطيب بطريق ابن جبويه الكذاب من الدخائل . هكذا يكون المحفوظ عند الخطيب ، نسأل الله العافية )) .

( أقول ) : المشهور من آل أبي العوام أحمد بن محمد بن عبد الله بن محمد بن أحمد ، ولاه العبيديون الباكنية القضاء بمصر ، فكان يقضي بمذهبهم ، ولم أر من وثقه ، روى عنه الشهاب القضاعي هذا الكتاب الذي ذكره الكوثري ، رواه أحمد عن أبيه عن جده على أنه تأليف الجد عبد الله بن محمد وقد فتشت عن تراجمهم فأما أحمد بن محمد فله ترجمة في ( قضاة مصر ) وفي ( الجواهر المضيئة في طبقات الحنفية ) لعبد القادر القرشي ، ووعد القرشي أن يذكر أباه وجده ، ثم ذكر الجد فقال : (( عبد الله بن محمد بن أحمد جد أحمد بن محمد بن عبد الله الإمام المذكور في حرف الألف ، ويأتي ابنه محمد )) .

هذا نص الترجمة بحذافيرها ، ولم أجد / فيها ([17]) ترجمة لمحمد ، فعبد الله هذا هو الذي يقول الكوثري فيه ( الحافظ وصاحب النسائي والطحاوي ) كأنه أخذ ذلك من روايته عنهما في ذاك الكتاب .

فأما أحمد فقد عرف بعض حاله ، وأما أبوه وجدّه فلم أجد لهما أثراً إلا من طريقه ، وأما محمد بن أحمد بن حماد ([18]) فترجمته في ( لسان الميزان ) ج 5 ص 41 .

وأما إبراهيم بن جنيد فإن كان هو في الرقي فمجهول كما في ( لسان الميزان ) جزء1 ص 45 .

وإن كان هو إبراهيم بن عبد الله بن الجنيد الختلي البغدادي ، نسب إلى جده فثقة ، لكن لم أر في ترجمته من ( تاريخ بغداد ) ذكر عبيد بن يعيش في شيوخه ، ولا محمد بن أحمد بن حماد في الرواة عنه ، وأما عبيد بن يعيش فذكره ابن حبان في الثقات وقال : (( كان يخطئ )) .

وعلى فرض صحة هذه الرواية فليس فيها ما ينافي رواية الخطيب ، بل هما متفقتان في أصل المعنى ، غاية الأمر أن في رواية الخطيب زيادة ، وقد يكون وكيع قال مرة / كذا ، وقال مرة كذا ، وعلى فرض التنافي فرواية الخطيب أثبت ، والكوثري يتحقق ذلك ، ولكنه يفعل الأفاعيل ، ثم يبالغ في التهويل ، ثم يقول : (( نسأل الله العافية )) !

5- أبو عاصم ، قال الخطيب ج 13 ص 391 : (( الأبار حدثنا الحسن بن علي الحلواني حدثنا أبو عاصم عن أبي عَوانة )) فذكر الكوثري هذه الرواية ص 92 ثم قال : وفيه أيضاً أبو عاصم العباداني وهو منكر الحديث .

( أقول ) الكوثري يعلم أن الواقع في السند هو أبو عاصم النبيل الضحاك بن مخلد الثقة المأمون ، لأنه هو المشهور بأبي عاصم في تلك الطبقة والمراد عند الإطلاق ، وعنه يروي الحلواني كما في ترجمة الضحاك من ( تهذيب التهذيب ) وترجمة الحلواني من ( تهذيب المزي ) ، ولكن هكذا تكون الأمانة عند الكوثري !

وذكر الخطيب ج 3 ص 423 أثرين أحدهما من طريق أبي قلابة الرقاشي والآخر من طريق مسدود ، كلاهما عن / أبي عاصم عن سفيان الثوري ، فذكرهما الكوثري ص 169 ثم قال : وربما يكون أبو عاصم في السندين هو العباداني وحاله معلومة .

( فأقول ) قد علم الكوثري أنه الضحاك بن مخلد النبيل الثقة المأمون ، فإنه المعروف بالرواية عن الثوري كما في ترجمته من ( تهذيب التهذيب ) ، وترجمة الثوري من ( تهذيب المِزي ) وعنه يروي أبو قلابة الرقاشي كما في ترجمته من ( تاريخ بغداد ) ج 10 ص 425 ، وقد تغلب الكوثري هنا على هواه إلى حد ما ، إذ اقتصر على قوله : (( وربما )) ولم يجزم كعادته .

6- أحمد بن إبراهيم . قال الخطيب ج13 ص 381 : (( الأبار أخبرنا أحمد بن إبراهيم قال قيل لشريك ... )) .

ذكر الكوثري هذه الرواية ص 61 ثم قال : وأما أحمد بن إبراهيم فهو النكري ولفظه لفظ الانقطاع ، ولم يدرك شريكاً إلا وهو صبي .

( فأقول ) أول مذكور ممن يقال له أحمد بن إبراهيم في ( تاريخ بغداد ) ، و ( تهذيب التهذيب ) (( أحمد بن إبراهيم بن خالد / الموصلي ..)) وذكر الخطيب سماعه من شريك، وذكر المزي في ( التهذيب ) شريكاً في شيوخه ، ويعلم من تاريخ وفاته والنظر في مولد الأبار أدركه إدراكاً واضحاً وهو معه في بلد ، وبذلك يعلم أنه هو الواقع في السند ، ولكن الكوثري رأى هذا ثقة فالتمس غيره ممن تتهيأ له المغالطة به ويكون فيه مطعن فلم يجد إلا النكري وهو ثقة أيضاً لكن كان صغيراً عند وفاة شريك ، ولم تذكر له رواية عن شريك ، فقنع الكوثري بهذا ، وهكذا تكون الأمانة عنده !

وأما قوله : (( لفظ انقطاع )) فيرده أن أحمد بن إبراهيم الموصلي ثقة ، وقد ثبت سماعه من شريك ، ولم يكن مدلساً ، فروايته عن شريك محمولة على السماع كما هو معروف في علوم الحديث ، وأصول الفقه ، ، وسيأتي شرح هذه القاعدة وبعض دقائقها في القسم الأول من ( التنكيل ) إن شاء الله تعالى ([19]) .

7- أبو الوزير . قال الخطيب ( ج 13 ص 384 ) / عبد الله بن محمود المروزي ، قال سمعت محمد بن عبد الله بن قهزاذ يقول : سمعت أبا الوزير أنه حضر عبد الله بن المبارك..)) . ذكر الكوثري هذه الرواية ص 69 ثم قال : عبد الله بن محمود مجهول الصفة، وكذا أبو الوزير عمر بن مطرف .

أقول : عبد الله بن محمود من الحفاظ الأثبات كما يأتي في نوع ([20]) – 7 – من هذه الطليعة إن شاء الله تعالى .

وأما الوزير فكيف يزعم الأستاذ أنه عمر بن مطرف ، مع أن عمر بن مطرف لم يعرف برواية أصلاً ، وإنما ذكر اسمه في نسب ابنيه إبراهيم ومحمد .

وقد قال الكوثري ص 83 : (( قاعدة ابن المبارك في الفقه ... )) وإنما أخذ ذلك مما رواه الخطيب ج 13 ص 343 )) أبو حمزة المروزي قال سمعت ابن أعْيَن أبا الوزير )) . وعادة الكوثري في الصبر على التنقيب تقضي بأنه قد راجع ( الكنى ) للدولأبي فوجد فيه جزء 2 صفحة 147 (( أبو الوزير محمد بن أعين المروزي روى عن ابن المبارك )) فبادر الأستاذ إلى نظر هذا الاسم في ( تهذيب التهذيب ) فوجد فيه جزء 9 ص 66 (( محمد بن أعيَن / أبو الوزير المروزي خادم ابن المبارك ، روى عنه وعن ابن عيينة وفضيل بن عياض، وخلق وعنه أحمد وإسحاق ... ومحمد بن عبد الله بن قهزاذ وآخرون ، قال أبو محمد بن علي بن حمزة المروزي : يقال إن عبد الله أوصى إليه ، وكان من ثقاته وخواصه ، وذكره ابن حبان في (( الثقات )) وقد ذكره ابن أبي حاتم ج 3 ق 2 صفحة 207 فقال :
(( وَصِيُّ ابن المبارك )) .

فعلم الكوثري يقيناً أن هذا هو الواقع في السند ، ولكنه لم يجد مغمزاً لأن ثقة ابن المبارك به واعتماده عليه توثيق ، ورواية الإمام أحمد عنه توثيق لما عرف من توقي أحمد ([21]) ، ومع ذلك توثيق ابن حبان ، ولم يعارض ذلك شيء ، ففزع الكوثري إلى التبديل كعادته ، فزعم أن أبا الوزير الواقع في السند هو عمر بن مطرف لأنه لم يجد في كنى ( التهذيب ) ذكراً لأبي الوزير ، فطمع أن من يتعقبه لا يهتدي إلى ترجمة محمد بن أعين !

ثم رأى في الأبناء من ( التهذيب ) (( ابن وزير جماعة منهم محمد )) فرجع إلى من يقال
( محمد بن الوزير ) فوجد جماعة معهم (( محمد بن أبي الوزير هو محمد بن عمر ، تقدم )) فنظر ترجمته فإذا هو محمد بن عمر بن مطرف ، فمن هنا أخذ الكوثري اسم عمر بن مطرف والله أعلم .

وهكذا تكون الأمانة عند الكوثري .

8- محمد بن أحمد بن سهل : قال الكوثري صفحة 63 (( وهناك رواية : وما هي ما رواه هبة الله الطبري في ( شرح السنة ) عن محمد بن أحمد بن سهل ( الأصباغي ) عن محمد بن أحمد بن الحسن أبي علي بن الصواف ... )) .

كذا فسر الكوثري من عنده بقوله : (( الأصباغي )) ، مع أن الأصباغي سكن دمشق وهو مقل لا يعرف له رواية عن ابن الصواف ، ولا لهبة الله رواية عنه ولا لقاء ، واقتصر الخطيب في ترجمته ج 1 ص 307 على قوله : (( سكن دمشق وحدث بها عن محمد بن الحسين البستنبان ، وروى عنه أبو الفتح بن مسرور )) .

ومعرفة الكوثري ويقظته أن يكون قد شعر بهذا وفتش ، فعلم أن شيخ هبة الله في السند هو محمد بن / أحمد بن سهل أبو الفتح بن أبي الفوارس الحافظ الثقة الثبت وترجمته في ( تاريخ بغداد ) ج 1 ص 352 وفيها (( سمع من .... وأبي علي بن الصواف ... حدث عنه ... وهبة الله بن الحسن الطبري )) .

وإنما أسقط هبة الله في ذاك السند اسم الجد على ما يعرف من عادة المحدثين في تفننهم في ذكر شيوخهم الذين أكثروا عنهم .

9- محمد بن عمر ، قال الخطيب ( ج 13 ص 405 ) : (( محمد بن الحسين بن حميد ابن الربيع حدثنا محمد بن عمر بن دليل قال : سمعت محمد بن عبيد الطنافسي .... )) ذكر الكوثري هذه الرواية ص 126 وقال : (( محمد بن عمر هو ابن وليد التويني ، وقد تصحف (( وليد )) إلى (( دليل )) في الطبعات كلها ، ويقول عنه ابن حبان : يروى عن مالك ما ليس من حديثه )) .

أقول :لم يذكروا في ترجمة محمد بن عمر بن وليد التيمي الذي تكلم فيه ابن حبان وغيره أنه يروي عن محمد بن عبيد الطنافسي ، ولا أنه يروي عنه محمد بن الحسين بن حميد بن الربيع وأراه أقدم من ذلك ، فإنه يروي عن المتوفين حوالي سنة 180ه‍ ، كمسلم بن خالد ، ومالك ، وهشيم ، فيبعد أن ينزل إلى محمد بن عبيد المتوفى سنة 204ه‍ ، ولم يذكروا روايا عن التيمي هذا إلا أبا زرعة المولود سنة 200 ، ويبعد أن يكون أدركه ، أعني التيمي هذا ، محمد بن الحسين بن حميد الذي أقدم من سمي من شيوخه موتاً أبو سعيد الأشج المتوفى سنة 257 ، فالأقرب أن يكون الواقع في السند هو محمد بن عمر بن وليد الكندي الكوفي ، يروي عن الكوفيين المتوفين حوالي سنة مائتين ، وأقدم من سمي من شيوخه محمد بن فضيل المتوفى سنة 195 .

وذكر ابن أبي حاتم هذا الكندي فقال : (( كتب عنه أبي في الرحلة الثالثة بالكوفة ، وقدمنا الكوفة سنة 255 وهو حي فلم يقض السماع منه كتب منه )) وقال النسائي : (( لا بأس به )) ، وذكره ابن حبان في الثقات . فهذا كوفي يروي عن أقران محمد عبيد – ومحمد بن عبيد كوفي وقد أدركه – أعني الكندي – محمد بن حسين بن حميد بن الربيع وهو كوفي أيضاً ، وهذا لا يخفى / على الكوثري لكنه لم يجد في هذا مغمزاً فعدل إلى التيمي المطعون فيه لحاجة الكوثري إلى الطعن في تلك الرواية ، والله المستعان  .

10- محمد بن سعيد . قال الخطيب ( ج 13 ص375 ) : (( .... محمود بن غيلان حدثنا محمد بن سعيد عن أبيه .... )) فذكر الكوثري هذه الرواية ص 47 ثم قال : محمد ابن سعيد هو ابن مسلم الباهلي ، وقد قال ابن حجر عنه في ( تعجيل المنفعة ) : منكر الحديث مضطربة ، وقد تركه أبو حاتم ووهاه أبو زرعة فقال ليس بشيء .  ا ه‍ وإلى الله نشكو من هؤلاء الرواة الذين لا يخافون الله ، هكذا يكون المحفوظ عند الخطيب )) .

أقول : هذا يصلح أن يعد نوعاً مستقلاً من مغالطات الكوثري وهو اغتنام الخطأ الواقع في بعض الكتب إذا وافق غرضه ، والذي في ( تعجيل المنفعة ) ص 324 (( محمد بن سعيد الباهلي البصري الأثرم عن سلام بن سليمان القارئ ، وعنه أبو بكر محمد بن عبد الله جار عبد الله بن أحمد وشيخه ويعقوب بن سفيان ومحمد بن غالب تمتام وجماعة منهم أبو حاتم ثم تركه وقال : هو منكر الحديث مضطرب الحديث ووهاه / أبو زرعة ، فقال ليس هو بشيء )) فهذه الترجمة فيها تخليط لا أدري أعن سقط نشأ أم عن غلط ، وهذا الذي تكلموا فيه ليس هو محمد بن سعيد بن سلم ، ولا هو باهلي ، بل هو محمد بن سعيد بن زياد أبو سعيد القرشي الكزبري البصري الأثرم ، ذكره البخاري في ( التاريخ ) ( ق 1 ج 1 ص96 ) )) محمد بن سعيد القرشي البصري ... )) وذكره ابن أبي حاتم في كتابه ( ج 3 ق2 ص 264 ) (( محمد بن سعيد بن زياد القرشي أبو سعيد المصري (البصري) الأثرم سكن بغداد ، سمع منه أبي ولم يحدث عنه ، سمعته يقول : هو منكر الحديث مضطرب الحديث ، سألت أبا زرعة عنه فقال : ضعيف الحديث وليس بشيء )) وله ترجمة في ( تاريخ بغداد ) ج 5 ص 305 وفي ( الميزان ) و ( اللسان ) ، ولا أشك أن الكوثري عرف ذلك وعرف أن ما في ( التعجيل ) تخليط ولكن إذا كان الكوثري يصطنع المغالطات اصطناعاً كما مرَّ فكيف لا يغتنم ما جاء عفواً والذي يظهر أن هناك محمد بن سعيد الباهلي يروي عن سلام بن سليمان القارئ وعنه محمد بن سعيد بن زياد جار عبد الله بن أحمد فاختلط في ( التعجيل ) ترجمة هذا بترجمة محمد بن سعيد بن زياد القرشي الكزبري البصري الأثرم ، فأما الواقع في السند فهو كما قال الكوثري محمد بن سعيد بن سلم الباهلي ، ولم يطعن فيه أحد ، وتأمل قول الكوثري : (( وإلى الله نشكو...)) !

11- أبو شيخ الأصبهاني ، قال الخطيب ( ج 13 ص 384 ) : (( محمد بن عبد الله الشافعي قال : حدثني أبو شيخ الأصبهاني حدثنا الأثرم )) وقال ج 13 ص 411 : (( محمد بن عبد الله بن إبراهيم الشافعي حدثنا أبو شيخ الأصبهاني حدثنا الأثرم )) أشار الكوثري ص 69 إلى الرواية الأولى وقال : (( في سنده أبو شيخ الأصبهاني ضعفه بلديه الحافظ أبو أحمد العسال ، وله ميل إلى التجسيم )) ؛ وأشار ص 141 إلى الرواية الثانية وقال : (( في سنده أبو الشيخ الأصبهاني وقد ضعفه العسال . ([22]) وذكر / الكوثري ص 49 حكاية في سندها أبو محمد بن حيان فقال : (( وأبو محمد بن حيان هو أبو الشيخ ... قد ضعفه بلديه الحافظ العسال )) .

أقول : أما أبو الشيخ وهو أيضاً أبو محمد عبد الله بن محمد بن جعفر بن حيان الأصبهاني فتأتي ترجمته في ( التنكيل ) إن شاء الله تعالى . وأما هذا الراوي عن الأثرم وعنه أبو بكر محمد بن عبد الله الشافعي فهو رجل آخر ترجمته في ( تاريخ بغداد ) ج 2 ص 326 : (( محمد بن الحسين بن إبراهيم بن زياد بن عجلان أبو شيخ الأصبهاني ، سكن بغداد وحدث بها عن .... وأبي بكر الأثرم ، روى عنه أبو بكر الشافعي وكان ثقة )) .

فلا أدري أعرف الكوثري هذا وفعل ما فعل عمداً ، أم استعجل هنا على خلاف عادته ، فلم يبحث حتى يتبين له أن أبا شيخ هذا غير أبي الشيخ المشهور ([23]) . فالله أعلم .

أبو الحسن بن الرزاز . في ( تاريخ بغداد ) ج 3 ص 121 ترجمة لمحمد بن العباس ابن حيويه أبي عمر الخزاز ، وفيها : (( حدثني الأزهري قال :كان أبو عمر بن حيويه مكثراً وكان فيه تسامح ، وربما أراد أن يقرأ شيئاً ولا يقرب أصله منه فيقرؤه / من كتاب أبي الحسن بن الرزاز لثقته بذلك الكتاب، وإن لم يكن فيه سماعه ، وكان مع ذلك ثقة )).

فاحتاج الكوثري إلى الطعن في ابن حيويه هذا ، فذكر ص 21 بعض العبارة وقال : (( على أن أبا الحسن بن البزاز الذي كان يثق بكتابه هو علي بن أحمد المعروف بابن طيب البزاز ، وهو معمر متأخر الوفاة : نص الخطيب على أن ابناً له أدخل في أصوله تسميعات طرية ، فماذا تكون قيمة تحديث من يثق بها من تلك الأصول )) .

أقول : في ( تاريخ بغداد ) ج 11 ص 330 : (( علي بن أحمد أبو الحسن المعروف بابن طيب الرزاز .... له دكان في سوق الرزازين .... حدثني بعض أصحابنا قال : دفع إليَّ علي بن الرزاز .... وحدثني الخلال قال : أخرج إلي الرزاز .... قلت : وقد شاهدت جزءاً من أصول الرزاز ، وكان الرزاز مع هذا كثير السماع )) .

ثم ذكر أنه ولد سنة 335 ومات سنة 419 ، فالذي كان ابن حيويه ربما يقرأ من كتابه هو (( أبو الحسن بن الرزاز )) وعلي بن أحمد هذا هو أبو الحسن الرزاز كما تكرر في ترجمته ، / فأما قوله في أولها ([24]) (( المعروف بابن طيب الرزاز )) فقوله : (( الرزاز )) من وصف علي نفسه لا من وصف (( طيب )) .

وسياق الترجمة يبين ذلك ، وأيضاً فعلي بن أحمد أصغر من ابن حيويه بأربعين سنة ، فيبعد جداً أن يحتاج ابن حيويه في قراءة حديثه إلى كتاب هذا المتأخر ، وأيضاً فلا يعرف بين الرجلين علاقة .

وفي ( تاريخ بغداد ) ج 12 ص 85 (( علي بن محمد بن سعيد أبو الحسن الكندي الرزاز .... قال العتيقي : وكان أميناً مستورداً له أصول حسان )) وذكر أنه توفي سنة 372 ، فهذا أقرب إلى أن يكون هو المراد ، لكنه ( الرزاز ) لابن الرزاز .

وفي ( تاريخ بغداد ) ج 12 ص 113 (( علي بن موسى بن إسحاق أبو الحسن ، يعرف بابن الرزاز سمع .... روى عنه ابن حيويه والدارقطني ، وكان فاضلاً أديباً ثقة عالماً)) .

فهذا هو الذي يتعين أن يكون المراد بقول الأزهري (( فيقرؤه من كتاب أبي الحسن بن الرزاز لثقته بذلك الكتاب وإن لم يكن فيه سماعه )) فكأن بعض كتب علي بن موسى هذه صارت بعد وفاته إلى تلميذه ابن حيويه ، وكان فيها ما سمه ابن حيويه ، لكن لم يقيد سماعه في تلك النسخة التي هي من كتب الشيخ ، وبهذا تبين أنه لا يلحق ابن حيويه عيب ولا يوجب صنيعه أدنى قدح ، وسيأتي بسط ذلك في ترجمة محمد بن العباس من (التنكيل) إن شاء الله تعالى .

والمقصود هنا أن أبا الحسن بن الرزاز هو علي بن موسى بن إسحاق لا علي بن أحمد كما زعم الكوثري .

وقد بقي غير هذه الأمثلة تأتي في مواضعها من ( التنكيل ) إن شاء الله تعالى . ([25])

 

-2-

ومن عوامده أنه يعمد إلى كلام لا علاقة له بالجرح فيجعله جرحاً !فمن أمثلة ذلك:

1و2 : جرير بن عبد الحميد وأبو عوانة الوضاح بن عبد الله اليشكري ، قال الذهبي في خطبة ( الميزان ) : (( وفيه : يعني / ( الميزان ) من تُكلم فيه مع ثقته وجلالته بأدنى لين وأقل تجريح ، فلولا أن ابن عدي أو غيره من مؤلفي كتب الجرح ذكروا ذلك الشخص لما ذكرته لثقته )) .

وهكذا قد ذكر في الترجمة عبارة لا قدح فيها ولا مدح ، وإنما ذكرها لاتصالها بغيرها ، فمن ذلك أنه ذكر جرير بن عبد الحميد فقال في أثناء الترجمة : (( قال ابن عمار كان حجة وكانت تكتبه صحاحاً ، قال سليمان بن حرب : كان جرير وأبو عوانة يتشابهان ما كان يصلح إلا أن يكونا راعيين ، وقال ابن المديني : كان جرير بن
عبد الحميد صاحب ليل . وقال أبو حاتم : جرير يحتج به ، وقال سليمان بن حرب : كان جرير وأبو عوانة يصلحان أن يكونا راعيي غنم كانا يتشابهان في رأي العين ؛ كتبت عنه وأنا وابن مهدي وشاذان بمكة ))لم يتعرض صاحب ( التهذيب ) مع محاولته استيعاب كل ما يقال من جرح أو تعديل لقضية التشابه ولا الصلاحية لرعي الغنم لأنه لم ير فيها ما يتعلق بالجرح والتعديل .

وأما الذهبي فذكر ذلك لاتصاله بغيره ، ولأن ذكر الصلاحية لرعي الغنم إنما فائدته تحقيق التشابه في رأي العين ،  وبيان أنهما كانا يتشابهان ، ربما تكون له فائدة ما .

والمقصود أن مراد سليمان من بيان صلاحية الرجلين لرعي الغنم هو تحقيق تشابهما في رأي العين كما يبينه السياق ، ووجه ذلك أن من عادة الغنم أنها تنقاد لراعيها الذي قد عرفته وألفته وأنست به وعرفت صوته ، فإذا تأخر ذاك الراعي في بعض الأيام وخرج بالغنم آخر لم تعهده الغنم لقي منها شدة لا تنقاد له ولا تجتمع على صوته ولا تنزجر بزجره . لكن لعله لو كان الثاني شديد الشبه بالأول لانقادت له الغنم ، تتوهم أنه صاحبها الأول ، فأراد سليمان أن تشابه جرير وأبي عوانة شدد بحيث لو رعى أحدهما غنماً مدة حتى عرفته وأنست به ثم تأخر عنها وخرج الآخر لانقادت غليه الغنم ، تتوهم أنه الأول .

وقد روى سليمان بن حرب عن الرجلين ، وقال أبو حاتم : (( كان سليمان بن حرب قل من يرضى من المشايخ ، فإذا رأيته قد روى عن شيخ فاعلم أنه ثقة )) . أما الكوثري فإنه احتاج إلى الطعن في هذين الحافظين الجليلين جرير وأبي عوانة ، فكان مما تحمله للطعن فيهما تلك الكلمة ، وقطعها ، وفصلها بحيث يخفي المراد منها ، فقال في صفحة 101 في جرير (( مضطرب الحديث لا يصلح إلا أن يكون راعي غنم عند سليمان بن حرب )) .

وقال ص 92 في أبي عوانة : (( كان يراه سليمان بن حرب لا يصلح إلا أن يكون راعي غنم )) وأعاد نحو ذلك ص 118 . هب أنه لا يعرف عادة الغنم فقد كان ينبغي أن ينبه السياق ، ولعله قد تنبه ولكن تعمد المغالطة ، ولذلك قطع العبارة وفصلها . والله المستعان ([26]) .

3- محمد بن عبد الوهاب أبو أحمد الفراء . قال الكوثري ص 135: (( معلول عند أبي يعلى الخليلي في ( الإرشاد ) )) .

أقول : إطلاق كلمة على الراوي من بدع الكوثري ، والذي في ترجمة محمد بن عبد الوهاب من (( تهذيب التهذيب )) : قال الخليلي في ( الإرشاد ) عقب حديث علي بن هشام بن سعير بن الخمس عن مغيرة عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله – في الوسوسة – قال لي عبد الله بن محمد الحافظ : أعجب من مسلم كيف أدخل هذا الحديث في / الصحيح ) عن محمد بن عبد الوهاب وهو معلول فرد . ا ه‍ ولم أر الحديث المذكور في ( صحيح مسلم ) إلا عن يوسف بن يعقوب الصفار عن علي بن عثام ، فالله تعالى أعلم )) .

أقول : مقصود ابن حجر من ذكر هذه الحكاية التنبيه على ما فيها من رواية مسلم في ( الصحيح ) عن محمد بن عبد الوهاب ، فإن ذلك غير ثابت إلا أن يصح هذا بأن يكون وقع في بعض النسخ من ( صحيح مسلم ) ، روايته الحديث عن محمد بن عبد الوهاب ، وقد رواه أبو عوانة في ( صحيحة ) ( ج 1 ص 79 ) عن محمد بن عبد الوهاب عن علي بن عثام ، وقول عبد الله ابن محمد (( وهو معلول وفرد )) يريد الحديث كما لا يخفى ، وعلته جاءت من فوق ، ففي ترجمة سُعير بن الخمس من (( تهذيب التهذيب )) أن مسلماً أخرج له هذا الحديث الواحد ، قال ابن حجر : (( قلت رفعه هو وأرسله غيره )) وإنما قال عبد الله بن محمد : (( عن محمد بن عبد الوهاب )) لأن محمداً من معاصري مسلم وعاش مسلم إحدى عشر سنة ، ومن عادة المحدثين اجتناب رواية ما ينزل سندهم فيه ،والنزول في رواية مسلم عن محمد بن عبد الوهاب واضح /، فتعجب عبد الله ابن محمد من إخراج مسلم الحديث في ( الصحيح ) ، مع أن هناك ما نعين من إخراجه :

الأول : نزول سنده .

الثاني : أنه معلول وفرد ، فبان أنه ليس في تلك الكلمة غض من محمد بن
عبد الوهاب ، وهو من الحفاظ الثقات الإثبات ، ولم يجد الكوثري فيه مغمزاً ، فاضطر إلى تلك المغالطة القبيحة ، والله المستعان .

4- عبد الله بن محمد بن عثمان بن السقاء .قال الكوثري صفحة 147 : (( هجره أهل واسط لروايته حديث الطير / كما في ( طبقات الحافظ الذهبي ) )) .

أقول : الذي في ترجمة هذا الحافظ من ( تذكرة الحفاظ ) ج 3 ص 165 من قول الحافظ خميس الحوزي (( من وجوه الواسطيين وذوي الثروة والحفظ . وبارك الله في سنه وعلمه ، واتفق أنه أملى حديث الطير فلم تحتمله نفوسهم فوثبوا به وأقاموا وغسلوا موضعه فمضى ولزم بيته )) .

أقول : أفلا يعلم الأستاذ أم هذه حماقة من العامة وجهل لا يلحق ابن السقاء بها عيب ولا ذم ولا ما يشبه ذلك، وحديث الطير مشهور روي من طرق كثيرة ، ولم ينكر أهل السنة مجيئه من طرق كثيرة ، وإنما ينكرون صحته ، وقد صححه الحاكم ، وقال غيره إن طرقه كثيرة يدل مجموعها أن له أصلاً ، وممن رواه النسائي في الخصائص ، فكأني بالكوثري يقول : كما أن عامة ذاك العصر اشتد نكيرهم على هذا الحافظ وظنوا أن روايته لذاك الحديث توجب سقوطه ، فلعل عامة هذا الزمان إذا رأوا الأستاذ الكوثري قد ذكر الحكاية في معرض الطعن في ذاك الحافظ أن يظنوا أن في القصة ما يعد جرحاً ‍‍‍! والله المستعان .

5- سالم بن عصام . قال الخطيب ( ج 13 ص410 ) : (( أخبرنا أبو نعيم الحافظ حدثنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن جعفر بن حيان : حدثنا سالم بن عصام : حدثنا رستة عن موسى بن المساور قال سمعت جبر ، وهو عصام بن يزيد يقول سمعت سفيان الثوري ... ))

قال الكوثري ص 136 : (( وسالم بن عصام صاحب غرائب )) .

أقول : ذكره الراوي عنه هنا وهو أبو محمد ويُقال أبو الشيخ عبد الله بن محمد بن جعفر بن حيان في كتابه : (( طبقات الأصبهانيين )) ([27]) وقال : (( وكان شيخاً صدوقاً صاحب كتاب وكتبنا عنه أحاديث غرائب ، فمن حسان ما كتبنا عنه .... )) .

وقال أبو نعيم الحافظ الأصبهاني في ( تاريخ أصبهان ) : (( صاحب كتاب كثير الحديث والغرائب )) .

أقول :ومن كثر حديثه لا بد أن تكون عنده غرائب، وليس ذلك بموجب للضعف، وإنما الذي يضر أن تكون تلك الغرائب منكرة ، وأبو الشيخ وأبو نعيم التزما في كتأبيهما النص على الغرائب حتى قال الشيخ في ترجمة الحافظ الجليل أبي مسعود أحمد بن الفرات : (( وغرائب حديثه وما ينفرد به كثير )) والغرائب التي كانت عند سالم ليست بمنكرة كما يعلم من قول الشيخ (( كان شيخاً صدوقاً صاحب كتاب )) ومع هذا فقد توبع على الأثر الذي ساقه الخطيب ، قال أبو الشيخ في ترجمة موسى بن المساور من ( الطبقات ) ((  حدثنا محمد بن عمرو ، قال حدثنا رستة ، قال : حدثنا موسى بن المساور قال : سمعت عصام ابن يزيد ... )) فذكر مثل ما ذكر سالم ، ومحمد بن عمرو أراه محمد بن عمرو الأبهري ذكر أبو الشيخ في ترجمته أنه من شيوخه وأنه يروي عن رستة ، فإما أن يكون نسبه إلى جده وإما أن يكون سقط ( بن أحمد ) من النسخة .

6- الهيثم بن خلف الدوري ، قال الكوثري ص 47 : (( يروي الإسماعيلي عنه في صحيحة إصراره على خطأ ، وفي الاحتجاج برواية مثله وقفة )) .

أقول : اخطأ الذي يضر الراوي الإصرار عليه هو ما يخشى أن تترتب عليه مفسدة ويكون الخطأ من المصر نفسه ، وذلك كمن يسمع حديثاً بسند صحيح فيغلظ فيركب على ذاك السند متناً موضوعاً فينبهه أهل العلم فلا يرجع ، وليس ما وقع للهيثم من هذا القبيل ، إنما وقع عنده في حديث الزهري عن محمود بن الربيع عن عتبان ، وقع عنده ( محمد بن الربيع ) بدل ( محمود بن الربيع ) وثبت على ذلك وهذا لا مفسدة فيه ، بل ثبات الهيثم يدل على عظم أمانته وشدة تثبته إذ لم يستحل أن يغير ما في أصله ، وقد وقع لمالك بن أنس الإمام نحو هذا ، كان يقول في عمرو بن عثمان : ( عمر بن عثمان ) وثبت على ذلك ، وقد قال الإسماعيلي نفسه في الهيثم أنه (( أحد الإثبات )) .

7- محمد بن عبد الله بن عمار . انظر ما يأتي ( 5 : 11 ) .

 

-3-

ومن عجائبه اهتبال التصحيف أو الغلط الواقع في بعض الكتب إذا وافق غرضه ! فمن أمثلة ذلك .

1- وضاح بن عبد الله أبو عوانة ذكروا في ترجمة علي بن عاصم مما عابوا به علي ابن عاصم أنه كان يغلط فيتبين له مخالفة الحفاظ له فلا يعبأ بذلك ، بل ينتقص أولئك الحفاظ ، ففي (( تاريخ بغداد )) ( ج 11 ص 450 ) في ترجمة علي بن عاصم عن علي بن المديني مراجعة دارت بينه وبين علي بن عاصم وفيها ((  ..... فقلت له إنما هذا عن مغيرة رأي حماد ، قال : فقال من حدثكم ؟ قلت : جرير ، قال ذاك الصبي ، قال : مُر شيء آخر ، فقلت : يخالفونك في هذا ، فقال : من؟ قلت أبو عوانة ، قال : وضاح ذاك العبد ، قال : وقال لشعبة : ذاك المسكين )). فوقعت هذه الحكاية في ترجمة علي بن عاصم من (( تهذيب التهذيب )) المطبوع ووقع فيها (( وضّاع ذاك العبد )) ولم يخف على ذي معرفة أن هذا تصحيف وأن الصواب (( وضاح )) كما في (( تاريخ بغداد )) ، وعلى ذلك قرائن منها السياق ، فإنه إنما قال في جرير (( ذاك الصبي )) وفي شعبة (( ذاك المسكين )) : فلم يجاوز حد الاستحقار ، فكذلك ينبغي في حق أبي عوانة .

( ومنها ) أن الذهبي لخص تلك الحكاية بقوله في ( الميزان ) : (( وقيل كان يستصغر الفضلاء )) .

ومنها أن أبا عوانة من الأكابر ،وعلى بن عاصم مغموز ، فلو تجرأ علي بن عاصم فرمى أبا عوانة بالكذب لقامت عليه القيامة ، ومنها أنه لم يُعرف لعلي بن عاصم كلام في الرواة بحق أو باطل ، وإنما كان راويه ، ومع ذلك فلم يحمد في روايته .

ومنها أنه لو كان في عبارة علي بن عاصم ما يعد جرحاً لأبي عوانة لكان حقه أن يذكر في ترجمة أبي عوانة ، وبالجملة فلا يشك عارف أن الصواب ( وضاح ذاك العبد ) كما في ( تاريخ بغداد ) ، ولا أشك أن الكوثري لا يخفى عليه ذلك حتى ولو لم يطلع على ما في ( تاريخ بغداد ) ، مع أنه قد طالع الترجمة فيه ونقل عنها ، ولكنه كان محتاجاً إلى أن يطعن في أبي عوانة ووقعت بيده تلك الغنيمة الباردة فيما يريه الهوى فلم يتمالك أن وقع ، فقال ص 92 : وأما أبو عوانة .... لكن يقول عنه علي بن عاصم: ( وضاع ذاك العبد ) ، وقال ص 71 : (( بلغ به الأمر إلى أن كذبه علي بن عاصم )) كذا صنع الكوثري الذي يقيم نفسه مقام من يتكلم في الصحابة والتابعين ، ويكثر من كتابه (( نسأل الله السلامة )) ، (( نسأل الله العافية )) !

وهكذا تكون الأمانة عند الأستاذ .

2- أبو عوانة أيضاً ..... أبو عوانة الوضاح بن عبد الله اتفق الأئمة على الثناء عليه والاحتجاج بروايته ، وأخرج له الشيخان في ( الصحيحين ) أحاديث كثيرة ، ويأتي بعض ثناء الأئمة عليه في ترجمته من ( التنكيل ) وصح أنه أدرك الحسن البصري وابن سيرين وحفظ بعض أحوالهما ، قال البخاري في ترجمته من ( التاريخ ) ج4 ق 3 ص 181 :
((  سمع الحكم ابن عتيبة وحماد بن أبي سليمان وقتادة ..... قال لنا عبد الله بن عثمان أخبرنا يزيد بن زريع قال : أخبرنا أبو عوانة قال : رأيت محمد / بن سيرين في أصحاب السكر فكلما رآه قوم ذكروا الله ، وقال لنا موسى بن إسماعيل ، قال لي أبو عوانة : كل شيء حدثتك فقد سمعته )) يعني أنه لا يدلس ولا يروي عمن لم سمع منه .

وقال ابن سعد في ( الطبقات ) ج 7 ق 2 ص 43 : (( أخبرنا هشام أبو الوليد الطيالسي ، قال: حدثنا أبو عوانة قال : رأيت الحسن بن أبي الحسن يوم عرفة خرج من المقصورة فجلس في صحن المسجد وجلس الناس من حوله )) وهذه الأسانيد بغاية الصحة، وفي ( الصحيحين ) من رواية أبي عوانة عن قتادة أحاديث ، كحديث (( ما من مسم يغرس غرساً ..... )) وحديث (( من نسي الصلاة ..... )) وحديث (( تسحروا فإن في السحور بركة )) وأخرج له مسلم في ( صحيحة ) من حديثه عن الحكم بن عتيبة كما ذكره المزي في ( تهذيبه ) .

ووفاة الحسن وابن سيرين سنة 110 ، والحكم سنة / 115 وقتادة سنة 117 ، وحماد سنة 120 وقيل قبلها ، وذكر ابن حبان في ترجمة قتادة من ( الثقات ) وفاته سنة 117 وذكر في ترجمة أبي عوانة روايته عن قتادة ثم قال في أبي عوانة : (( وكان مولده سنة اثنتين وتسعين ، ومات في شهر ربيع الأول سنة ست وسبعين ومائة )) هكذا في النسخة المحفوظة في المكتبة الآصفية في حيدر أباد الدكن تحت رقم 1-4 من فن الرجال المجلد الثالث الورقة 218 الوجه الأول ، ومثله في نسخة أخرى جيدة محفوظة في المكتبة السعيدية بحيدر أباد . وكانت عند الحافظ ابن حجر من ( ثقات ابن حبان ) نسخة يشكو في كتبه من سقمها ، قال في ( تهذيب التهذيب ) ( ج 8 ص 403 ) (( ..... ذكره ابن حبان في ( الثقات ) ..... وقال : روى عنه حبيب ، كذا في النسخة وهي سقيمة )) وقال في ( لسان الميزان ) ( ج 2 ص 442) .

(( رافع بن سلمان ..... ذكره ابن حبان في ( الثقات ) ، لكن وقع في النسخة – وفيها سقم ..... رافع بن سنان )) .

فوقع في تلك النسخة السقيمة تخليط في ترجمة أبي عوانة فذكره ابن حجر في (تهذيب التهذيب ) وبين أنه خطأ قطعاً ، ومع ذلك ففي عبارة ابن حجر تخليط في النسخة من ( تهذيب التهذيب ) المطبوع . فيه جزء 11 ص118 : (( وذكره ابن حبان في ( الثقات ) وقال كان مولده سنة اثنتين وعشرين ومائة ، وقال : هو خطأ للشك فيه لأنه صح أنه رأى ابن سيرين ..... )) . وقوله : (( وقال هو خطأ للشك فيه )) صوابه والله أعلم : (( كذا قال : وهو خطأ لا شك فيه )) ، وقد علمت أن البلاء من نسخة ( الثقات ) التي كانت عند ابن حجر .

وليس الكوثري ممن يخفى عليه هذا ولا ما هو أخفى منه ، لكنه كان محتاجا إلى الطعن في أبي عوانة ظلمًا وعدواناً . فقال ص 118 في أبي عوانة : (( فعلى تقدير ولادته سنة 122 كما هو المشهور – كذا – لا تصح رؤيته للحسن ولا لابن سيرين ..... )) .

فليفرض القارئ أن الكوثري في مقام إثبات سماع أبي عوانة من الحكم بن عتيبة أو قتادة أو حماد ، وأن بعض مخالفي الكوثري حاول دفع ذلك فقال : (( فعلى تقدير ... )) عبارة الكوثري نفسها ، فما عسى أن يقول الكوثري في ذلك المخالف ؟ أما نحن فنجترئ بأن نقول : هكذا تكون الأمانة عند الكوثري .

3- أبو عوانة أيضا ، انظر ما يأتي 8 : 2 .

4- محمد بن سعيد ، راجع ما تقدم 1 : 10 .

5- أيوب بن إسحاق بن سافري ، في ترجمته من (( تهذيب تاريخ بن عساكر )) ج 3 ص 200 عن ابن يونس (( ..... وكان في خُلقه زعارة ، وسأله أبو حميد في شيء يكتبه عنه فمطله ..... )) ومعروف في اللغة ومتكرر في التراجم أن يقال : (( في خلق فلان زعارة )) أي شراسة ، وهذا وإن كان غير محمود فليس مما يقدح في العدالة أو يخدش في الرواية ، لكن وقع في ( تاريخ بغداد ) : ج 7 ص 10 في هذه الحكاية (( و كانت في خلقه دعارة )) كذا وهذا تصحيف لا يخفى مثله على الكوثري ، أولاً : لأنه ليس في كلامهم (( في خلق فلان دعارة )) وإنما يقولون : فلان داعر بين الدعارة – إذا كان خبيثاً أو فاسقاً . ثانياً : لأن ابن يونس عقب كلمته بقوله : (( سأله أبو حميد في شيء من الأخبار يكتبه عنه فمطله ..... ))

وهذه شراسة خلق لا خبث أو فسق . ثالثاً : لأن المؤلفين في المجروحين لم يذكروا هذا الرجل ولو وصف بالخبث أو الفسق لما تركوا ذكره ، ولكن الكوثري احتاج إلى الطعن في هذا الرجل فقال ص 137 : ذاك الداعر ..... تكلم فيه ابن يونس : كذا قال ولم ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍! يتكلم فيه ابن يونس بما يقدح وقد ذكره ابن أبي حاتم في كتابه وقال : (( كتبت عنه بالرملة وذكرته لأبي فعرفه وقال : كان صدوقاً )) .

7- عبد الله بن عمر الرماح ، هو عبد اله بن عمر بت ميمون بن بحر بن الرماح ، واسم الرماح سعد ، له ولأبيه ترجمتان في ( طبقات الحنفية ) ، وهما معروفان عندهم ، وللأب ترجمة في( تهذيب التهذيب ) ( ج 7 ص 498 ) وفي (تاريخ بغداد) ( ج 11 ص 182 ) وفي كتاب ابن أبي حاتم وغيرها ، ووقع في (تاريخ بغداد) ( ج 13 ص 386 ) في سند حكاية (( عبد الله بن عثمان بن الرماح)) فاحتاج الكوثري إلى ردها والتي قبلها فقال ص 73 ( وفي سند الخبر الأول الخزاز وفي الثاني ابن الرماح فلا يصحان مع وجودهما في السندين ) اقتصر على قوله ( ابن الرماح ) ولم يتنبه على أن ( عثمان ) تصحيف والصواب ( عمر ) . كما ذكر الكوثري نفسه في اسم آخر قال ص 93 : (( فلعل لفظ – عمر – صحف إلى عثمان حيث يشبه هذا ذاك في الرسم عند حذف الألف المتوسطة في عثمان كما هو رسم الأقدمين )) .

وكأنه خشي أن ينبه القارئ على أن ابن الرماح هو ذاك العالم الحنفي لم يتكلم فيه أحد بما يرد روايته بل تركه يتوهم إن هذا رجل مجهول لأنه لا يجد في الكتب ترجمة لعبد الله ابن عثمان بن الرماح ، بل يتوهم أنه ضعيف وقف الكوثري على تضعيفه في الكتب التي لم تطبع ، ولذلك قال ما قال ‍!

8- أحمد بن المعذل ، ذكر الكوثري ص 95 قوله :

إن كنت كاذبة الذي حدثتني
المائلين إلى القياس تعمداً

 

فعليك إثم أبي حنيفة أو زفر
والراغبين عن التمسك بالأثر

ثم قال : وهو الذي كان أخوه عبد الصمد بن المعذل يقول فيه :

أضاع الفريضة والسنة

 

فتاه على الإنس والجنة

أقول : إنما قال عبد الصمد : ( أطاع ..... ) هكذا في ( الديباج المذهب ) ص 30 ولآلئ البكري ص 325 والسياق يعينه ، كان عبد الصمد ماجناً ، وكان أحمد عالماً صالحاً تقياً فكان يعظ عبد الصمد ويزجره ، فقال عبد الصمد ( أطاع..... ) البيت ، وبعده :

كأن لنا النار من دونه

 

وأفرده الله بالجنة

يريد أن أحمد معجب بتقواه وورعه ، فأداه ذلك إلى أن أتاه على غيره .

فإن قيل إنما أراد الكوثري التنكيت والتبكيت مقابلة الإساءة بمثلها ، قلت رأس مال العالم الصدق ، ومن استحل التحريف في موضع ترويجاً لرأيه لم يؤمن أن يحرف في غيره .

 

اعتبار

لكن الكوثري عندما تخالف الألفاظ هواه ، كثيراً  ما يدعى أنها مصحفة فيزعم أن ( الدين ) محرف عن ( أرى ) وأن ( يكذب ) محرف عن ( يكتب ) و ( للفرس ..... والرجل ) عن ( للفارس ..... وللراجل ) وغير ذلك . في ( تاريخ بغداد ) ج 13 ص386 (( ..... محبوب بن موسى قال سمعت يوسف بن أسباط يقول : قال أبو حنيفة لو أدركني رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ أو أدركته لأخذ بكثير من قولي ، قال وسمعت أبا إسحاق يقول : كان أبو حنيفة يجيئه الشيء عن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ فيخالفه إلى غيره )) .

ذكر الكوثري هذا ص 75 وذكر أن في النسخة الخطية زيادة سوق الخبر بسند آخر– وفي ( تاريخ بغداد ) ج 13 ص 390 (( ..... أبو صالح الفراء قال سمعت يوسف بن أسباط يقول : رد أبو حنيفة على رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ أربعمائة حديث أو أكثر ..... وقال أبو حنيفة : لو أدركني النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ وأدركته أخذ بكثير من قولي ، وهل الدين إلا الرأي الحسن )) .

ذكر الكوثري هذا ص 85 وهذه الكلمة ( لو أدركني ) لها تأويل قريب ذكرته في ( التنكيل ) ولم يقع / عليه الحنفية بل ذهبوا يتعسفون ، فروى عبد الله بن محمد بن يعقوب الحارثي : حدثني أبو طالب سعيد بن محمد بن أبان البردعي في مسجد أبي الحسن الكرخي ببغداد حدثني أبو جعفر ... الطحاوي أنبأنا بكار بن قتيبة أنبأنا هلال بن يحيى الرأي البصري سمعت يوسف بن خالد السمتي )) فذكر قصة طويلة فيها عجائب، تراها في ( مناقب أبي حنيفة ) للموفق المكي ج2 ص 101- 109 ، وقد أشرت إلى بعضها في (التنكيل) وهذه الحكاية لا يشك عارف في أنها مكذوبة على الطحاوي ، فعبد الله بن محمد ترجمته في ( لسان الميزان ) ج 3 ص 348 - وشيخه لا يعرف، وإنما ذكره صاحب ( الجواهر المضيئة ) بما تضمنته هذه الحكاية ، فلم يسمع به إلا فيها ، ويغلب على الظن أنه لا يوجد منه إلا اسمه ، ولو كان للقصة أثر عند الطحاوي لما فاتت ابن أبي العوام ومن تدبر القصة لم يشك في اختلاقها ، وفيها (( لو أدركني البتي لترك كثيراً من قوله )) مع أنه يعلم منها ومن غيرها أن البتي وهو عثمان بن مسلم البصري الفقيه كان يومئذ حياً يرزق.

وذكر الأستاذ ص 13 ما رُوي عن حماد بن زيد قال : / ذكر أبو حنيفة عند البتي فقال : ذاك رجل أخطأ عصم دينه كيف يكون حاله . ثم قال الكوثري : (( عثمان ابن مسلم البتي توفي سنة 143ه‍ وكانت تجري بينه وبين أبي حنيفة مراسلات ، وكان يوسف بن خالد السمتي بعد أن تفقه على أبي حنيفة رجع إلى البصرة وأخذ يجابه البتي )) وفي تلك الأخلوقة أن أبا حنيفة قال : (( لو أدركني البتي أول ما اجتمع به خالد بن يوسف ، فمن تدبر علم أن تلك الأخلوقة المنسوبة إلى يوسف ابن خالد إنما اختلقت لما شاعت حكاية يوسف بن أسباط ، فأراد المختلق علاجها فوقع فيما وقع فيه ، ثم أن الكوثري لم يقتصر على ما قيل من دعوى التصحيف في (( النبي )) بل زاد أمرين :

الأول : أنه على فرض أن ابا حنيفة قال تلك الكلمة بلفظ (( النبي )) فقوله : ((لأخذ)) المراد به (( لأخذني )) .

الثاني : أنه رأى أن من تقدمه لم يتعرضوا لما وقع في إحدى الروايات (( وهل الذين إلا الرأي الحسن )) فقال الكوثري ص 88 : (( فلا أشك أن – الدين – مصحف من أرى)) وذهب يوجه احتمال العادة لمثل ذلك .  وهذا موضع الاعتبار ، بينما ترى الكوثري يصنع ما تقدم في الأمثلة فيغض النظر عن التصحيف الواضح والخطأ المكشوف إذا به يحاول دعوى التصحيف التي لا يشك في بطلانها ، ولا عجب في ذلك إذ مغزى الكوثري إنما هو الانتصار لهواه ، وقد تقدمت أن لتلك الكلمة المنقولة عن أبي حنيفة تأويلاً قريبا بدون دعوى التصحيف ولا التحريف ، وستجده في ( التنكيل ) إن شاء الله .

 

-4-

ومن غرائبه تحريف نصوص أئمة الجرح والتعديل ، تجيء عن أحدهم الكلمة فيها غض من الراوي بما لا يضره أو بما فيه تليين خفيف لا يعد جرحاً فيحتاج الكوثري إلى الطعن فيمن قيلت فيه فيحكيها بلفظ آخر يفيد الجرح ، فمن أمثلة ذلك :

1- إبراهيم بن سعيد الجوهري ، هو من شيوخ مسلم في ( صحيحه ) ومن كبار الحفاظ ، قال فيه أحمد بن حنبل -كثير الكتاب ، كتب فأكثر ) وقال الكوثري نفسه ص 151 : (( كان إبراهيم بن سعيد الجوهري يقول : كل حديث لم يكن عندي من مائة وجه فأنا فيه يتيم )) وتجد الحكاية بتمامها في ترجمة إبراهيم من
( الميزان ) .

وكان من عادة المكثرين أن يترددوا إلى كبار الشيوخ ليسمعوا منهم ، فربما جاء أحدهم إلى شيخ قد سمع منه ما لم يسمعه من قبل ، فيتفق أن يشرع الشيخ يحدث بجزء قد كان ذاك المكثر سمعه منه قبل ذلك فلا يعتني باستماعه ثانياً أو ثالثاً لأنه يرى ذلك تحصيل حاصل فكأنه اتفق لإبراهيم هذا واقعة من هذا القبيل ، فحكى عبد الرحمن ابن خراش قال: (( سمعت حجاج بن الشاعر يقول : رأيت إبراهيم بن سعيد عند أبي نعيم وأبو نعيم يقرأ وهو نائم -وكان الحجاج يقع فيه )).

وسيأتي إيضاح الجواب في ترجمة إبراهيم من ( التنكيل ) .

والمقصود هنا أن الكوثري ذكر تلك المقالة فحرفها تحريفاً قبيحاً . قال ص 75 : (( كان يتلقى وهو نائم ، كما قال الحافظ حجاج ابن الشاعر ، فحجاج هذا ممن جرحه لا يندمل )) .

وقال ص 119 : (( رماه الحافظ حجاج بن الشاعر بأنه كان يتلقى وهو نائم )) فعبارة حجاج تحتمل ما قدمنا ، ليس فيها ما يدل على أن إبراهيم صار بعد ذلك المجلس يروي عن أبي نعيم أحاديث / يزعم أنه تلقاها في ذاك الوقت الذي كان إبراهيم فيه نائماً. وعبارة الكوثري تفيد هذا ، وعبارة حجاج إنما تدل على مرة واحدة عند أبي نعيم ، وعبارة الكوثري تدل أن التلقي في حال النوم كان من عادة إبراهيم عند أبي نعيم وغيره ! فتدبر وتأمل .

2-مؤمل بن وهاب ، قال الكوثري ص 65 : (( ضعفه ابن معين على ما حكاه الخطيب )) .

أقول : إنما حكى الخطيب ج 13 ص 181 عن إبراهيم بن عبد الله بن الجنيد قال : (( سئل يحيى بن معين وأنا أسمع عن مؤمل بن أهاب فكأنه ضعفه )) فتدبر ، وقد قال أبو حاتم ( صدوق ) وقال النسائي : ( لا بأس ) به وقال مرة : ثقة ، وقال مسلمة بن قاسم:ثقة صدوق .

3- أحمد بن سلمان النجاد ، قال الكوثري ص 65 : (( يقول الدارقطني : يحدث من كتاب غيره بما لم يكن في أصوله )) .

أقول : إنما الدارقطني : (( حدث ..... )) كما في ( تاريخ بغداد )
و( الميزان ) و ( اللسان ) ، وذاك يصدق بمرة واحدة كما حمله الخطيب وغيره كما يأتي في ترجمة النجاد تكرر مراراً !

4- أحمد بن كامل ، قال الكوثري ص43 : (( فيه يقول الدارقطني ..... ربما حدث بما ليس عنده كما رواه الخطيب )) .

أقول : عبارة الدارقطني كما في ( تاريخ بغداد ) وغيره (( ..... بما ليس عنده في كتابه أن لا يكون عنده في حفظه ، وتأتي ترجمة أحمد في ( التنكيل ) .

5- عبد الله علي المديني ، قال الكوثري ص 168 : (( وهو لم يسمع من أبيه على ما يقال )) .

أقول : يريد الكوثري بهذا قول الدارقطني ، وعبارة الدارقطني كما في ( تاريخ بغداد ) (( أخذ كتبه وروى أخباره مناولة ، قال : وما سمع كثيراً من أبيه )) .

فقوله : (( وما سمع كثيراً من أبيه )) واضح في أنه سمع/ منه ، إلا أنه لم يكثر، وأول عبارته يفيد أن ما لم يسمعه من كتب أبيه وأخباره أخذه منه مناولة ، وهي من طرق التلقي ، فعلى هذا تكون روايته عن أبيه متصلة صحيحة إن صرح بالسماع فسماع ، و إلا احتمل أن يكون سماعاً وأن يكون مناولة ، والرواية التي ذكرها الخطيب من طريقه ولأجلها تعرض له الكوثري قد بين فيها السماع ، هذا والسماع أصله أن يملي الشيخ بلفظه والتلميذ يسمع ، لكن قد يطلق السماع على ما هو أعم من ذلك ، وهذا هو المتبادر من قولهم : فلان لم يسمع من فلان ، فيفهم منه أن روايته عنه منقطعة حتى ولو صرح بالاتصال يكون كذباً ، وهذا هو مفهوم عبارة الكوثري لأنه قصد بها الطعن في رواية هذا الرجل التي بين فيها السماع ، فانظر تحريفه لعبارة الدارقطني .

6- محمد بن أحمد الحكيمي ، قال الكوثري ص 114 : (( قال البرقاني في حديثه مناكير )) .

أقول : لفظ البرقاني كما في ( تاريخ بغداد ) ج1 ص269 و( لسان الميزان ) ج5 ص 45 (( ثقة إلا أنه يروي مناكير )) / وبين العبارتين فرق عظيم فإن (( يروي مناكير )) يقال في الذي يرويه ما سمعه مما فيه نكارة ولا ذنب له في النكارة ، بل الحمل فيها على من فوقه ، فالمعنى أنه ليس من المبالغين في التنقي والتوقي الذين لا يحدثون مما سمعوا إلا بما لا نكارة فيه ، ومعلوم أن هذا ليس بجرح، وقولهم : (( في حديثه مناكير )) كثيراً ما تقال فيمن تكون النكارة من جهته جزماً أو احتمالاً فلا يكون ثقة .

وهذا المعنى هو الذي أراد الكوثري إفهامه ، ولذلك حذف كلمة (( ثقة )) وقد تعقب الخطيب كلمة البرقاني بقوله : (( وقد اختبرت أنا حديثه فقلما رأيت فيه منكراً ))  فثبت أن هذا الرجل مع ثقته غير مقتصر في التنقي والتوقي ، وأن ما وقع في روايته مما ينكر قليل جداً . وقال ابن حجر في ( لسان الميزان ) : (( ذكرته – يعني زيادة على ( الميزان ) – لأن المصنف ذكر عثمان بن أحمد الدقاق الصدوق الثقة بسبب كونه يروي المناكير )) .

أقول : لا عذر لابن حجر في هذا .

أولاً : لأنه أنكر على الذهبي ذكره لعثمان ، كما يأتي في ترجمته من ( التنكيل )

ثانياً : لأن المناكير في مرويات عثمان كثيرة ، والله المستعان .

 


-5-

ومن فواقره تقطيع نصوص أئمة الجرح والتعديل ، يختزل منها القطعة التي توافق غرضه ، وقد يكون فيما يدعه من النص ما يبين أن معنى ما يقتطعه غير المتبادر منه عند انفراده ، فمن أمثلة ذلك :

1- القاسم بن أبي صالح ، راجع ما تقدم 1 : 2 .

2 و3- جرير بن عبد الحميد وأبو عوانة الوضاح ، راجع ما تقدم ( 2-1و2 ) .

4-  عبد الله بن علي بن المديني ، راجع ما تقدم 4 : 5 .

5- محمد بن أحمد الحكيمي ، راجع ما تقدم 4 : 6 .

6- محمد بن يحيى بن أبي عمر ، قال الكوثري ص 166 : (( قال عنه أبو حاتم : كان به غفلة حدّث حديثاً موضوعاً عن ابن عيينة )) ، أقول عبارة أبي حاتم كما في كتاب ابنه و ( التهذيب ) وغيرهما  : (( كان رجلاً صالحاً وكان به غفلة، رأيت عنده حديثاً موضوعاً قد حدث به عن ابن عيينة وكان صدوقاً )) هذا وابن أبي عمر مكثر جداً عن ابن عيينة ، فإذا اشتبه عليه حديث واحد لم يضره ، ولعل أبا حاتم نبهه عليه فترك روايته، وقد يكون أبو حاتم أخطأ في ظن الحديث موضوعاً، وسئل الإمام أحمد : عمن نكتب ؟ فقال أما بمكة فابن أبي عمر .

وقد أكثر مسلم في ( صحيحة ) عن ابن أبي عمر ، له عنده على ما حكي عن ( الزهرة ) مائتا حديث وستة عشر حديثاً .

7- محبوب بن موسى ، قال الكوثري ص 17 : (( يقول عنه أبو داود لا  تقبل حكاياته إلا من كتاب )) .

أقول : عبارة أبو داود كما في ( التهذيب ) و ( الميزان ) (( ثقة : لا يلتفت إلى حكاياته إلا من كتاب )) ويأتي تحقيق حال محبوب في ترجمته من ( التنكيل ) إن شاء الله تعالى .

8- سعيد بن عامر ، قال الكوثري ص 109 : (( في حديثه بعض الغلط كما قال ابن أبي حاتم )) .

أقول : عبارة ابن أبي حاتم كما نقلها عن أبيه كما في كتابه وغيره (( كان رجلاً صالحاً وكان في حديثه بعض الغلط وهو / صدوق )) وتأتي ترجمة سعيد في ( التنكيل ) .

9- سليمان بن حسان الحلبي . قال الكوثري ص 109 : (( قال أبو حاتم عنه ([28]) سألت ابن أبي غالب عنه فقال : لا أعرفه ولا أرى البغداديين يروون عنه )).

أقول : تتمة عبارة أبي حاتم كما في كتاب ابنه و ( تاريخ بغداد ) ج 9 ص 21 (( وروى عنه من الرازيين أربعة أو خمسة )) قال ابن أبي حاتم : (( قلت لأبي ما تقول فيه ؟ قال : هو صحيح الحديث )) .

10- محمد بن العباس أبو عمرو بن حيوية ، راجع ما تقدم 1 : 12 وتأتي ترجمة محمد في ( التنكيل ) .

11- محمد بن عبد الله بن عمار الموصلي ، قال الكوثري ص 133 : (( قال ابن عدي رأيت أبا يعلى يسيء القول فيه ويقول : شهد على خالي بالزور .

وله عن أهل الموصل أفراد وغرائب ا ه‍ ، وأبو يعلى من أعرف الناس به وكلامه فيه قاض على كلام الآخرين ، أقول : آخر ما حكاه ابن عدي عن أبي يعلى قوله بالزور وعقب ذلك كما في التهذيب ، قال ابن عدي وابن عمار : ثقة حسن الحديث عن أهل الموصل معافى بن عمران وغيره ، وعنده عنهم أفراد وغرائب ، وقد شهد أحمد بن حنبل أنه رآه عند يحيى القطان ، ولم أر أحداً من مشايخنا يذكره بغير الجميل ، وهو عندهم ثقة)).

فحذف الكوثري توثيق ابن عدي وجميع مشايخه لابن عمار ، وحذف الدليل على أن المراد بالأفراد والغرائب الأفراد والغرائب الصحيحة التي يمدح صاحبها لدلالتها على إكثاره عنايته ومهارته في الفن كما تقدم شيء من ذلك ( 2 : 5 ) وحذف الدليل على أن أبا يعلى كان عنده نفرة عن ابن عمار توجب أن لا يعتد بكلامه المذكور فيه ، كما يأتي إيضاح ذلك في ترجمة ابن عمار من ( التنكيل ) .

والكوثري يتشبث بهذه القاعدة ويتوسع فيها جداً فيردد كثيراً من الروايات المحققة والجرح المفسر المحقق بدعوى انحراف الراوي أو الجارح من المجروح ، وإن كان الراوي أو اجارح جماعة من الأئمة ولم يثبت ما يعارض قولهم بل مع ثبوت ما يوافق قولهم عمن كان موافقاً للمجروح مائلاً إليه ، كما يأتي بعض ذلك في ترجمة أحمد بن محمد بن الصلت بن الغلس من ( التنكيل ) .

ثم يتناقض الكوثري ههنا فيزعم أن تلك الكلمة المحتملة الصادرة من أبي يعلى مع تبين نفرته عن ابن عمار يرد بها توثيق الجمهور لابن عمار ، وسيأتي في القسم الأول من (التنكيل) تحقيق هذه القاعدة ، وفي القسم الثاني ترجمة ابن عمار وبيان إمامته وجلالته .

12- محمد بن فضيل بن غزوان ، قال الكوثري ص 39 في الكلام في القاسم التمار: (( وقال ابن سعد عن ([29]) محمد بن فضيل الراوي عنه : بعضهم لا يحتج به )) .

أقول : عبارة ابن سعد كما في ( طبقاته ) ج 6 ص 271 و ( التهذيب ) وغيرها : (( كان ثقة صدوقاً كثير الحديث متشيعاً ، وبعضهم لا يحتج به )) .

فحذف الكوثري التوثيق الصريح ، والدليل على أن عدم احتجاج بعضهم بابن فضيل إنما هو لتشيعه ، وقد وثقه ابن معين ويعقوب بن سفيان والعجلي وغيرهم ، ولم يطعن أحد في روايته ، وقال ابن شاهين : (( قال علي ابن المديني : كان ثقة ثبتاً في الحديث )) وقال الدارقطني : (( كان ثبتاً في الحديث إلا أنه كان منحرفاً عن عثمان )) وقد جاء ما يدافع هذا ([30]) .

قال أبو هشام الرفاعي : (( سمعت ابن فضيل يقول : رحم الله عثمان ولا يرحم من لا يترحم عليه )) وذكر ابن حجر في ( مقدمة الفتح ) كلام ابن سعد ثم قال : (( قلت إنما توقف فيه من توقف لتشيعه )) . ثم ذكر كلام أبي هشام ثم قال : (( احتج به الجماعة )). يعني الشيخين في ( صحيحهما ) وبقية الستة ، ولا أدري من هو الذي لم يحتج بابن فضيل أو توقيفه ؟ ولعل المراد بذلك بعض المتشددين في السنة لم يرو عن ابن فضيل لأنه يراه متشيعاً ويرى في الرواية عنه ترويجاً للتشيع فتوقف لذلك ، لا لأن ابن فضيل ليس بحجة ، ويأتي في القسم الأول من  ( التنكيل ) تحقيق حكم رواية المبتدع بما يعلم منه أن مثل ابن فضيل حجة على الإطلاق .

 

-6-

ومن عواقره أنه يعمد إلى جرح لم يثبت فيحكيه بصيغة الجزم محتجاً به ، فمن أمثلة ذلك .

1- الحسن بن الربيع ، قال الكوثري ص 151 : (( يقول فيه ابن معين لو كان يتقي الله لم يكن يحدث بالمغازي ، ما كان يحسن يقرؤها )) .

أقول : هذا الكلام إنما رواه بكر بن سهل الدمياطي عن عبد الخالق بن منصور عن ابن معين ، وبكر بن سهل لم يوثقه أحد ، بل ضعفه النسائي ، ورماه الذهبي في (الميزان) بالوضع .

2- ثعلبة بن سهيل القاضي ، قال الكوثري ص 11 ضعيف .

أقول : هذا يصلح أن يعد من أمثلة النوع الثامن - 8 - لكن أظن الكوثري اعتمد على ما حكاه أبو الفتح محمد / بن الحسين الأزدي عن ابن معين أنه قال في ثعلبة (( ليس بشيء )) وهذه الحكاية منقطعة كما قاله الذهبي في ( الميزان ) ، لأن بين الأزدي وابن معين مفازة ، ومع ذلك فالأزدي نفسه متهم ! له ترجمة في ( تاريخ بغداد ) و ( الميزان ) و ( اللسان ) ([31]) ثم لو فرض صحة تلك الكلمة عن ابن معين ، فابن معين مما يطلق (( ليس بشيء )) لا يريد الجرح وإنما يريد أن الرجل قليل الحديث . وقد ذكر الكوثري ذلك ص 129 ويأتي تحقيق ذلك في ترجمة ثعلبة من ( التنكيل ) وحاصله أن ابن معين قد يقول (( ليس بشيء )) على معنى قلة الحديث فلا تكون جرحاً ، وقد يقولها على وجه الجرح كما يقولها غيره فتكون جرحاً ، فإذا وجدنا الراوي الذي قال فيه ابن معين : (( ليس بشيء )) قليل الحديث وقد وثق ، وجب حمل كلمة ابن معين على معنى قلة الحديث ، ووجدنا ابن معين نفسه قد ثبت عنه أنه قال في ثعلبة لا بأس به .وقال مرة :ثقة ،كما في ( التهذيب )، وممن قال ابن معين فيه : (( ليس بشيء )) أبو العطوف الجراح بن المنهال فنظرنا في حاله فإذا له أحاديث غير قليلة ولم يوثقه أحد بل جرحوه ، قال ابن المديني :
((لا يكتب حديثه)) وقال البخاري ومسلم : (( منكر الحديث )) وقال النسائي والدارقطني :
(( متروك )) وقال أبو حاتم والدولابي الحنفي : (( متروك الحديث ذاهب لا يكتب حديثه )) وقال النسائي في ( التمييز ) : (( ليس بثقة ولا يكتب حديثه )) وذكره البرقي فيما اتهم بالكذب وقال ابن حبان (( كان يكذب في الحديث ويشرب الخمر ..... )) والكلام فيه أكثر من هذا فعرفنا أن قول ابن معين فيه : (( ليس بشيء )) أراد بها الجرح كما هو المعروف عند غيره في معناها ، فتدبر ما تقدم ثم انظر حال الكوثري إذ يبني على حكاية الأزدي عن ابن معين إنه قال في ثعلبة (( ليس بشيء )) ويعلم حال الأزدي وأنه كان بعد ابن معين بمدة ويعرف أن ابن معين قد يطلق تلك الكلمة لا على سبيل الجرح ، وأن الحجة قائمة على أن هذا من ذاك ، ومع ذلك كله يقول الكوثري في ثعلبة (( ضعيف )) وفي أبي العطوف يرى الكوثري جرح الأئمة له وأن له أحاديث غير قليلة ، وأن ذلك مبين أن قول ابن معين فيه : (( ليس بشيء )) إنما أراد بها الجرح ، ولكن الكوثري يقول ص 129 : (( وقال ابن معين : ليس بشيء ، وهو كثيراً ما يقول هذا فيمن قل حديثه )) ‍! وعذر الكوثري أنه بحاجة إلى رد رواية رواها ثعلبة وإلى تقوية أبي العطوف ، هكذا تكون الأمانة عند الكوثري ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍!

3- عبد الله بن جعفر بن درستويه . قال الكوثري صفحة 39 : (( كان يحدث عمن لم يدركه لأجل دريهمات يأخذها ، فادفع إليه درهماً يصطنع لك ما شئت من الأكاذيب)) ذكر الكوثري هذه التهمة في عدة مواضع كلها بالجزم ، بل نبز هذا العالم الفاضل الذي لا ذنب له إلا أنه روى كتاباً مشهوراً وهو ( تاريخ يعقوب بن سفيان ) ، وقد ثبت سماعه له حتى أن الذي أنكر عليه رجع أخيراً فقصده فسمع منه ، كما في ترجمته من ( تاريخ بغداد ) ، نبزه الكوثري بلقب (( الدراهمي )) مع أنه لا مستند للكوثري  في ذلك ، إلا ما حكاه الخطيب عن هبة الله الطبري أنه ذكر ابن درستويه وضعفه وقال : (( بلغني أنه قيل له حدث عن ابن عباس الدوري حديثاً ونحن نعطيك درهماً ، ففعل ، ولم يكن سمع من عباس )) .

ولا يخفى على عالم أن هذه الحكاية لا يصح الاستناد عليها لجهالة المبلغ للطبري ، والكوثري أعلم الناس بهذا بل جاوزه كثيراً فيقول راداً لروايات الثقات الأثبات عمن يصرحون باسمه وقد ثبتت صحبتهم له وهم مع ذلك أبرياء من التدليس فيقول الكوثري : (( اللفظ لفظ انقطاع ‍! حتى أحوجني ذلك إلى أن بينت في القسم الأول من ( التنكيل ) شرح قاعدة الاتصال والانقطاع ، وتحقيق الحكم فيما يشتبه منها ، ومع هذا فقد قال الخطيب : (( هذه الحكاية باطلة ..... )) هكذا تكون الأمانة عند الكوثري ‍!

ويأتي بقية الكلام في ترجمة عبد الله بن جعفر من ( التنكيل ) .

4- الأصمعي عبد الملك بن قريب . قال الكوثري ص 54 : (( كذبه أبو زيد الأنصاري )) .

أقول : حاكى ذلك عن أبي زيد هو أحمد بن عبيدة بن / ناصح وهو مطعون فيه ، وفي ( الميزان ) في ترجمة الأصمعي (( أحمد بن عبيد ليس بعمدة )) ونقل الكوثري نفسه هذا ص 42 حين احتاج إلى رد رواية لأحمد بن عبيد . قال الكوثري : (( فلم يكن بعمدة كما ذكره الذهبي في ترجمة عبد الملك الأصمعي من ( الميزان ) يجزم الأستاذ هنا بأنه ليس بعمدة ، ثم يعتده فيقول في الأصمعي : كذبه أبو زيد الأنصاري . هكذا تكون الأمانة عند الكوثري !

5- جرير بن عبد الحميد . قال الكوثري ص 110 : (( تفرد برواية حديث الأخرس الموضوع )) .

أقول : مستند الكوثري حكاية سليمان الشاذكوني هالك ويأتي يوم شرح الحال في ترجمة جرير من ( التنكيل ) . ([32])

6- سليم بن عيسى القارئ . قال الكوثري ص 60 : (( كان ضعيفاً في الحديث..... وقد روى عن الثوري خبراً منكراً ساقه العقيلي )) .

أقول : لا مستند للكوثري في قوله : (( كان ضعيفاً في الحديث )) / إلا ذكر العقيلي ومن تبعه سليم بن عيسى في كتب الضعفاء مع رواية ذاك الحديث من طريق سليم بن عيسى ، فأما ذكر الراوي في بعض كتب الضعفاء فلا يضره ما لم يكن فيما ذكر به ما يوجب ضعفه ، وذلك أنهم كثيراً ما يذكرون الرجل لكلام فيه لا يثبت أو لا يقدح أو نحو ذلك .

وأما ذاك الحديث فرواه العقيلي عن يحيى بن صالح ([33]) متكلم فيه وأبو صالح كاتب الليث ليس بعمدة تأتي ترجمته في ( التنكيل ) ([34]) ، فعلى هذا لا يثبت أن سليماً روى ذاك الحديث ومع هذا فسليم الذي ذكره العقيلي وروى عنه ذاك الحديث ليس هو بالقارئ صاحب حمزة الواقع في سند الخطيب ، وإيضاح ذلك أن العقيلي قال (( سليم بن عيسى مجهول في النقل حديثه منكر غير محفوظ . حدثنا يحيى ... )) كما مرَّ فقول العقيلي (( مجهول في النقل حديثه منكر )) واضح في أنه عنده غير القارئ ، فإن القارئ معروف مشهور ، وهذا مجهول لا يعرف عنه إلا بذاك الحديث كما تقتضيه عبارة العقيلي ، ويؤكد هذا أن الذي ذكره العقيلي وروى عنه ذاك الحديث ، كنيته " أبو يحيى " كما في السند ، هكذا هو في كتاب العقيلي في النسخة المحفوظة بالمكتبة الآصفية في حيدر أباد الدكن ([35]) وهكذا هو في ( الميزان ) وليست هذه كنية القارئ ، أما القارئ فقال ابن الجزري في ترجمته من ( طبقات القراء ) ج 1 ص 318 (( كنيته أبو عيسى ويقال أبو محمد )) .

والذهبي وإن بدأ في الميزان فزعم أنه القارئ فإنه رجع بعد ذلك ولفظه (( سليم بن عيسى الكوفي القارئ ، إمام في القراءة ، وروى عن الثوري خبراً منكراً ساقه العقيلي ، ولعل هذا الرجل غير القارئ ..... )) .

فقد أتضح أن سليم بن عيسى القارئ الواقع في سند الخطيب لا يناله وهن مما ذكر العقيلي ثم الذهبي ، لأنه إن لم يكن هو الذي روى العقيلي عن يحيى بن عثمان عن كاتب الليث عنه ذاك الحديث فواضح ، وإن كان إياه فلا يثبت عنه رواية ذاك الحديث للكلام في كاتب الليث وفي الراوي عنه .

ولنكتف بهذه الأمثلة هنا ، ويأتي لها في قسم التراجم / من ( التنكيل ) نظائر منها في ترجمة حماد بن سلمة ، ومنها في ترجمة محمد بن حسين بن حميد بن الربيع .

 

اعتبار

كما رأيت الكوثري حيث له غرض في الطعن في الراوي قد يعمد إلى جرح يعلم أنه لا يثبت فيجزم به ، فكذلك حيث يكون له غرض في تقوية الراوي قد يعمد إلى ثناء عليه يعلم أنه لا يثبت فيجزم به ، كما يأتي في ترجمة أحمد بن محمد بن الصلت بن المغلس الحِمَّاني من ( التنكيل ) ([36]) والله المستعان .

 

- 7 -

ومن تجاهله ومجازفاته قوله في المعروف الموثق (( مجهول )) أو (( مجهول الصفة )) أو (( لم يوثق )) أو نحو ذلك ، فمن الأمثلة :

1- عبد الله بن محمود . روى الخطيب جزء 13 ص 384 من طريق عبد الله بن محمود المروزي قال سمعت محمد بن عبد الله بن قهزاذ .. )) فقال الأستاذ ص 70 ((  وعبد الله بن محمود مجهول الصفة )) .

/ أقول : في ترجمة محمد بن عبد الله بن قهزاذ من (( تهذيب التهذيب )) جزء 9 ص 271 (( روى عنه ..... وعبد الله بن محمود السعدي )) .

ولعبد الله بن محمود السعدي المروزي ترجمة في كتاب ابن أبي حاتم وقال (( كتب إلى أبي بمسائل ابن المبارك من تأليفه )) وله ترجمة في ( تذكرة الحفاظ ) جزء 2 ص 257.

قال الذهبي (( الحافظ الثقة محدث مرو أبو عبد الرحمن عبد الله بن محمود بن عبد الله السعدي . قال الحاكم : ثقة مأمون )) . ([37])

2- محمد بن مسلمة . روى الخطيب ج 13 ص 395 من طريق البخاري (( حدثنا صاحب لنا قال : قلت لمحمد بن مسلمة ..... )) فقال الكوثري صفحة 103 في الحاشية (( مجهول وليس هو بكاتب الحارث بن مسكين فإنه محمد بن سلمة ..... )) .

أقول : قد قرأ الكوثري ترجمته في ( الانتقاء ) لابن عبد البر الذي بث الكوثري عقاربه في تعليقاته عليه 56 وفي ( تاريخ البخاري ) جزء 1 ق1 ص 240 (( محمد بن مسلمة أبو هشام المخزومي المدني ..... سمع مالكاً ..... وقيل لمحمد / بن مسلمة ما لرأي فلان ... )) .

فذكر الحكاية التي ذكرها الخطيب ، وقال ابن حبان في ( الثقات ) : (( محمد بن هشام بن إسماعيل أبو هشام المخزومي .. يروي عنه هارون بن عبد الله الحمال والناس ، وكان ممن يتفقه على مذهب مالك ويفرّع على أصوله ، ممن صنف وجمع )) وذكره ابن أبي حاتم في كتابه وقال ((..... روى عنه عبد الرحمن بن عبد الملك ابن أبي شيبة وأبي..... سألت أبي عنه فقال : كان أحد فقهاء ا لمدينة من أصحاب مالك ، وكان من أفقههم .. سئل أبي عنه فقال : مديني ثقة )) .

وفي ( الديباج المذهب ) صفحة 227 (( محمد بن مسلمة .. روى محمد هذا عن مالك وتفقه عنده ، وكان أحد فقهاء المدينة من أصحاب مالك وكان أفقههم وهو ثقة ، وله كتب فقه أخذت عنه، وهو ثقة مأمون حجة، جمع العلم والورع توفي سنة 206 )) .

ويبعد جداً أن يكون هذا كله خفي على الكوثري مع ما عرفناه منه من النشاط في التفتيش عن التراجم ، بل في سياق كلامه ما يشعر بأنه هذا الرجل ، فإنه قال صفحة 104 (( ونهمس في أذن هذا المتعصب الهاذي : إن كنت ... فما رأيك في مذهب إمامك... )) يعني مالكاً ، والله المستعان .

3- طاهر بن محمد ، ذكر الخطيب جزء 13 ص 373 حكاية من طريق (( طاهر بن محمد حدثنا وكيع ... )) فقال الكوثري ص 43 (( طاهر بن محمد مجهول )) .

أقول : بل معروف موثق ، هو طاهر بن أبي أحمد بن عبد الله الزبيري ، ذكره المِزي في ( تهذيبه ) في الرواة عن وكيع ، وذكره ابن أبي حاتم في كتابه وقال : (( روى عنه محمد بن عبد الله الحضرمي وموسى بن إسحاق القاضي )) وذكره ابن حبان في ( الثقات ) وقال : (( يروي عن وكيع وأبي أسامة حدثنا عنه محمد بن إدريس الشامي ، مستقيم الحديث )) وهذا من توثيق ابن حبان الذي لا مغمز فيه ، كما يأتي شرحه في ترجمة ابن حبان من  ( التنكيل ) . ([38])

4- إسماعيل بن حمدويه . ذكر الخطيب ج 13 ص 414 أثراً من طريق (( سلامة ابن محمود القيسي ، حدثنا إسماعيل بن حمدويه البيكندي قال سمعت الحميدي ..... )) فقال الكوثري ص 150 : (( إسماعيل بن حمدويه مجهول )) .

أقول ذكره ابن حبان في ( الثقات )- ووقع في النسخة (( السكندري )) ([39]) .

وقال : (( يروى عن أبي نعيم وأبي الوليد وأهل البصرة ، حدثنا عنه محمد بن المنذر شكر كان مقيماً بالرملة زماناً وكتب عنه شكر )) .

أقول :فقد عرفه ابن حبان وعرف حديثه ،وتوثيقه لمن عرفه وعرف حديثه مقبول،كتوثيق غيره من الأئمة ، ويأتي ذلك في ترجمة ابن حبان من ( التنكيل ) .

5- عبد الرحمن بن داود بن منصور . ذكر الكوثري ص 184 رواية لأبي نعيم الأصبهاني عن أبي الشيخ عن عبد الرحمن بن داود بن منصور . فقال الكوثري :

(( عبد الرحمن بن داود مجهول )) .

أقول : ذكره أبو الشيخ وأبو نعيم أنفسهما في كتأبيهما ، فقال أبو الشيخ : (( عنده حديث الشام ومصر ، أكثر الناس حديثاً عنهم ، كان من الفقهاء صاحب أصول ثقة مأمون )) .

وذكر أبو نعيم في ( تاريخ أصبهان ) نحو ذلك ، وهذان الكتابان قد وقف عليهما الكوثري ، فإنه قال ص 59 عند ذكر عمر بن قيس الماصر : (( له ولذويه ذكر واسع في ( تاريخ أصبهان ) لأبي الشيخ )) وقال ص 151 في أحمد بن عبد الله الأصبهاني : (( مترجم في ( تاريخ أصبهان ) لأبي نعيم )) وفي كلا النقلين نظر ، لكن المقصود هنا بيان وقوف الكوثري على الكتأبين ، وقد دل على ذلك كلامه في سالم بن عصام كما مر
( 2 : 5 )،  ([40])  ولا يخفى على الكوثري أن عبد الرحمن هذا أصبهاني ، فالظن به أنه راجع ترجمته في الكتأبين المذكورين .

6- أحمد بن الفضل بن خزيمة . وقال الكوثري ص 111 (( لم يوثق )) .

أقول : هو أحمد بن الفضل بن العباس بن خزيمة ترجمته في ( تاريخ بغداد ) ج 4 ص 347 وفيها وكان ثقة .

7- جعفر بن محمد الصندلي . قال الكوثري صفحة 141 : (( [ الذي] أثنى ابن حيوية عليه وحده ، لا يكون إلا من هذا الصنف )) .

أقول : ابن حيويه هو محمد بن العباس أبو عمر بن / حيويه الخزاز ستأتي ترجمته في ( التنكيل ) ، وهو أحد الثقات الإثبات العارفين ، ومع ذلك ففي ترجمة جعفر هذا من ( تاريخ بغداد ) (( وكان ثقة صالحاً ديناً سكن باب الشعير ، أخبرنا أحمد بن أبي جعفر حدثنا يوسف بن عمر القواس حدثنا أبو الفضل جعفر بن محمد الصندلي الأطروش سنة سبع عشرة وثلاثمائة ومات فيها ، وكان يقال إنه من الأبدال )) .

ثم ذكر الخطيب أن الصحيح أنه مات سنة 318 ، وقال ابن الجوزي في ( المنتظم ) ج6 ص234 في ترجمة جعفر هذا (( وكان ثقة صالحاً ديناً ، وكان يقال إنه من الأبدال)).

 

اعتبار

كما أن الكوثري يتجاهل المعروفين الثقات حين يكون هواه رد روايتهم ، فكذلك يتعارف المجاهيل ويحتج بروايتهم إذا كانت روايتهم توافق هواه ، وسيأتي في ( التنكيل ) أمثلة لذلك .

منها : في ترجمة أحمد بن عبد الله الأصفهاني ، ذكر الخطيب أثراً من طريق علي بن حمشاذ عنه واستنكره ، فقال الكوثري صفحة 151 (( سعى الخطيب ... بأن يقول : إن  أحمد بن عبد الله الأصفهاني مجهول ، كيف وهو من ثقات شيوخ ابن حمشاذ مترجم في ( تاريخ أصفهان ) لأبي نعيم )) . كذا قال : وقد فتشت ( تاريخ أبي نعيم ) فوجدت فيه ممن يقال له ( أحمد بن عبد الله ) جماعة ليس في ترجمة واحد منهم ما يشعر بأنه هذا ، وفوق ذلك جميعهم غير موثقين ! ([41])

ومنها في ترجمة أحمد بن محمد بن الصلت بن المغلس الحماني ، ذكر الخطيب بسنده حكاية عن ابن أبي خثيمة وردها بنكارتها لأن في السند مجاهيل . فاحتج الكوثري بتلك الحكاية جازماً بها ودفع كلام الخطيب بقوله (( وهذا مما يغيظ الخطيب جداً ويحمله على ركوب كل مركب للتخلص منه بدون جدوى )) .

كذا قال ، ثم لم يبين ما يعرف به أولئك الذين جهلهم الخطيب ([42]) .

منها في ترجمة الإمام الشافعي فيما يتعلق / بكتاب ( التعليم ) المنسوب لمسعود بن شيبة ، هذا الكتيب فيه جهالات في الطعن في مالك والشافعي ، وذكر ابن حجر في ( لسان الميزان ) مسعود بن شيبة وقال : (( مجهول لا يعرف عمن أخذ العلم ولا من أخذ عنه ، له مختصر سماه ( التعليم ) ... )) فزعم الكوثري في حاشية صفحة 3 (( أنه معروف عند الحافظ عبد القادر القرشي و ... وغيرهم ، فنعد صنيع ابن حجر هذا من تجاهلاته المعروفة لحاجة في النفس ، وقانا الله اتباع الهوى )) . كذا قال ، والقرشي وغيره لم يعرفوا من حال مسعود بن شيبة إلا بما أخذوه من كتاب ( التعليم ) نفسه ، وليس في ذلك ما يدل أنهم عرفوه المعرفة التي تنافي الجهالة ، والواقع أن كتاب ( التعليم ) ألفه حنفي مجهول متعصب وكتب على ظاهره ذاك الاسم المستعار ( مسعود بن شيبة ) ولكن الكوثري مع معرفته الحقيقة يلدغ ويصئ ويرمي الأئمة بدائه ثم يقول : وقانا الله اتباع الهوى !

ومما يدخل في هذا الضرب قول الكوثري ص 16 عند نقله ما ذكره الخطيب في موضع قبر أبي حنيفة : (( كان من المناسب أن يذكر الخطيب هنا ما ذكره في ج 1 ص 123 من تبرك الشافعي بأبي حنيفة حيث قال : أخبرنا القاضي أبو عبد الله الحسين بن علي الصيمري قال : أنبأنا عمر بن إبراهيم المقرئ قال أنبأنا مكرم بن أحمد قال أنبأنا عمر بن إسحاق بن إبراهيم قال أنبأنا علي بن ميمون قال سمعت الشافعي يقول : إني لأتبرك بأبي حنيفة وأجيء إلى قبره في كل يوم – يعني زائراً – فإذا عرضت لي حاجة صليت ركعتين وجئت إلى قبره وسألت الله تعالى الحاجة عنده فما تبعد عني حتى تقضى ا ه‍ . ورجال هذا السند كلهم موثقون عند الخطيب )) .

أقول : أما الصيمري وشيخه فموثقان عند الخطيب أي في ( تاريخه ) كما هو الظاهر - ومع هذا فالظاهر أن هذه الحكاية من كتاب ( مناقب أبي حنيفة ) الذي جمعه مكرم بن أحمد ، وكان كتاباً معروفاً ، ولعله كان عند الخطيب نسخة منه وكان سماعه له من الصيمري ، ومعظم الاعتماد في مثل هذا على صحة النسخة ، ولم يكن الخطيب ليعتمد عليها إلا وهي صحيحة ، فالصيمري وشيخه من الوسائط السندية - فلا يضر تلك الرواية أن يكون فيهما أو في أحدهما كلام - / على أنه لا كلام فيهما فيما أعلم ، وأما مكرم فقد قال الخطيب في ترجمته (( وكان ثقة )) ولم أر ما يخالف ذلك سولى ما ذكره الخطيب ج4 ص 209 في ترجمة أحمد بن الصلت بن المغلس الحماني قال : (( حدثني أبو القاسم الأزهري قال : سئل أبو الحسن علي بن عمر الدارقطني وأنا أسمع عن جمع مكرم بن أحمد ( فضائل أبو حنيفة ) ؟ فقال : موضوع ، كله كذب ، وضعه أحمد بن المغلس الحماني ..... )) .

فهذه العبارة تحتمل أوجهاً :

الأول :  أن يكون الدارقطني تجوز في قوله : ( كله ) وإنما أراد أن الموضوع بعض ما تضمنه ذاك المجموع ، وهو ما فيه رواية عن أحمد بن محمد بن الصلت بن المغلس .

الثاني : أن تكون عبارة الدارقطني على ظاهرها ، ويكون ما في ذلك المجموع من غير الحماني أصله من وضع الحماني ، ولكن كان لمكرم إجازات من أولئك الشيوخ فأسقط اسم الحماني من تلك الروايات ورواها عن أولئك المشايخ بحق الإجازة ، كما قيل إن الحافظ أبا نعيم الأصبهاني ربما صنع مثل ذلك كما يأتي في ترجمته من ( التنكيل ) .

الثالث : أن يكون مكرم واطأ الحماني ، فوضع له الحماني تلك الحكايات عن شيوخ الذين أدركهم مكرم ، فرواها مكرم عنهم ، وهذا الوجه الثالث هو الموافق لظاهر سؤال الأزهري للدارقطني وجوب الدارقطني ، لكن يدفعه توثيق الخطيب لمكرم ، وأنه لم يذكره أحد في ( الضعفاء ) ، والوجه الثاني أيضاً موافق لظاهر سؤال الأزهري وجواب الدارقطني ، وهو أدنى أن لا يدفعه ما يدفع الثالث . وعلى كل حال فلم ينحل الإشكال ، فدعه وافرض أن الراجح هو الوجه الأول ، وأن هذه الرواية صحيحة عن عمر بن إسحاق بن إبراهيم ، فمن عمر هذا ؟ ومن شيخه أموثقان هما عند الخطيب كما زعم الكوثري ؟. أما أنا فقد فتشت ( تاريخ بغداد ) فلم أجد فيه ، لا موثقين ولا غير موثقين، بل ولا وجدتهما في غيره ، نعم في غيره علي بن ميمون الرقي يروي عن بعض مشايخ الشافعي ونحوهم ، وهو موثق لكن لا نعرف له رواية عن الشافعي ، وقد راجعت ( توالي التأسيس ) لابن حجر لأنه حاول فيها استيعاب الرواة عن الشافعي فلم أجد فيهم علي / ابن ميمون لا الرقي ولا غيره ، انظر ( توالي التأسيس ) ص 81 .

هذا حال السند ، ولا يخفى على ذي معرفة أنه لا يثبت بمثله شيء ، ويؤكد ذلك حال القصة ، فإن زيارته قبر أبي حنيفة كل يوم بعيد في العادة ، وتحريه قصده للدعاء عنده بعيد أيضاً ، إنما يعرف تحري القبور لسؤال الحوائج عندها بعد عصر الشافعي بمدة ، فأما تحري الصلاة عنده فأبعد وأبعد .

والمقصود إنما هو المقابلة بين قول الكوثري (( ورجال هذا السند كلهم موثقون عند الخطيب )) مع الأمثلة السابقة ، وبين الأمثلة المتقدمة في النوع ([43]) ( 7 ) . وبيان أن الكوثري إن تجاهل المعروفين الموثقين من رواة ما يخالف هواه ، فإنه يتعارف المجهولين من رواة ما يوافقه ، والله المستعان .

 

- 8 -

ومن أعاجيبه أنه يطلق صيغ الجرح مفسرة وغير مفسرة بمالا يوجد في كلام الأئمة، ولا له عليه بينة ، فمن أمثلة ذلك :

1- أنس بن مالك صاحب رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . قال الكوثري صفحة 80 (( وأما حديث الرضخ فمروي عن أنس / بطريق هشام بن زيد ، وأبي قلابة عنعنة ، وفيه القتل بقول المقتول من غير بينة ، وهذا غير معروف في الشرع ، وفي رواية قتادة عن أنس إقرار القاتل لكن عنعنة قتادة متكلم فيها ، وقد انفرد برواية الرضخ أنس رضي الله عنه في عهد هرمه ، كانفراده برواية شرب أبوال الإبل العيني في رواية قتادة ( زاد في الحاشية – كما في ( الكفاية ) للخطيب ص 74 برغم حملات البدر العيني على الإتقاني وصاحب ( العناية ) في ذلك ... ) وبحكاية معاقبة العرنيين تلك العقوبة للحجاج الظالم المشهور ، حينما سأله عن أشد عقوبة عاقب بها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، حتى استاء الحسن البصري من ذلك ، ومن رأي أبي حنيفة رضي الله عنهم مع كونهم عدولاً ليسوا بمعصومين من مثل قلة الضبط الناشئة عن الأمية أو كبر السن ، فيرجح رواية الفقيه منهم على رواية غيره عند التعارض ، ورواية غير الهرم منهم على رواية الهرم ... )) .

أقول : المقصود هنا ما في هذه العبارة من زعم أن أنساً رَضِيَ اللهُ عَنْهُ هرم واختل ضبطه ! ولا أعرف أحداً قبل الكوثري زعم هذا .

نعم ذكروا أنه رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لما كبر نسي بعض حديثه لكن لا يلزم من النسيان اختلال الضبط فإن الناسي إن نسي الحديث أصلاً لم يحدث به البتة وكيف يحدث به وهو ناس له ؟ وإن عرض له تردد في قصة أو في بعضها فإنه إذا كان ضابطاً لم يحدث بها ، أو يحدث بها ويبين التردد والشك ، فالضابط هو الذي لا يحدث إلا بما يتقنه ، فما لم يتقنه لم يحدث به أو حدث به وبين شكه ، سواء أكان عدم الاتقان لذاك أول مرة عند التلقي أم عارضاً .

وزعمه أنه هرم غير قويم ، لأن الهرم أقصى الكبر ، ولم يبلغ أنس أقصى الكبر ، أما من جهة كبر السن فقد قيل إنه لم يجاوز المائة وقيل بل جاوزها بثلاث سنين ، وغلّطوا من قال إنه جاوزها بسبع سنين وقد كان في عصره من قومه وغيرهم من عاش فوق ذلك ، فبلغ حسان مائة وعشرين سنة ، وكان سويد بن غفلة يؤم الناس في قيام رمضان وقد أتى عليه مائة وعشرون سنة ، ثم عاش حتى تم له مائة وثلاثون سنه ، وبلغ أبو رجاء العطاردي مائة وسبعاً وعشرين سنه ، وبلغ أبو عمرو سعد بن إياس الشيباني مائة وعشرين سنة ، وبلغ المعرور بن سويد مائة وعشرين سنة ،وبلغ زر بن حبيش مائة وسبعاً وعشرين سنة ، وبلغ أبو عثمان النهدي مائة وثلاثين وقيل مائة وأربعين سنة ، وحسان صحأبي من قوم أنس ، والستة الباقون كلهم ثقات أثبات مجمع على الاحتجاج بروايتهم مطلقاً ، ولم يطعن أحد في أحد منهم بأنه تغير بأخرة . وأما من جهة قوة البدن فلم يزل أنس صالحاً حتى مات لم يعرض له وهن شديد ، وأما من جهة كمال العقل وحضور الذهن فلم يزل أنس كامل العقل حاضر الذهن حتى مات .

وأحب أن أتتبع عبارة الأستاذ السابقة ليتضح للقارئ تحقيق الأستاذ وتثبته ‍‍‍!

أما هشام فهو ابن زيد بن أنس بن مالك ، وليس هو بمدلس ، والراوي عنه شعبة ، وهو معروف بالتحفظ عن رواية ما يخشى فيه التدليس ، والحديث في ( الصحيحين ) ، وأما أبو قلابة فهو عبد الله بن زيد الجرمي ، وقد قال أبو حاتم (( لا يعرف له تدليس )) وسماعه من أنس ثابت كما في حديث العرنيين وغيره ، فعنعنة هذين محمولة على السماع باتفاق أهل العلم .

فقول الكوثري : (( وفيه القتل بقول المقتول )) إنما يكون فيه ذلك لو صرح بنفي الاعتراف، ولم يصرح به ، وإذا وقع الاعتراف ، وهذا كما في دلالة الاقتضاء المشروحة في أصول الفقه ، وهي أنه إذا لم يصح المعنى الظاهر عقلاً أو شرعاً وجب إضمار ما يصح به الكلام ، ولا يعد عدم صحة الظاهر مسوغاً لرده رأساً ، فكذلك هنا ، بل الأمر هنا أوضح فإن ترك الراوي لبعض الجزئيات مما يرى أنه لا يخفي ثبوته على أحد أسهل من الحذف في التركيب ، هذا كله على فرض أنه لم ينقل الاعتراف وهو منقول ثابت في رواية قتادة .

قول الكوثري : (( عنعنة قتادة متكلم فيها )) .

أقول : دع عنعنته وخذ تصريحه ، قال البخاري في ( الصحيح ) في (( باب إذا أقر بالقتل مرة قتل به )) : حدثني إسحاق أخبرنا حبان ([44]) حدثنا همام حدثنا قتادة حدثنا أنس ابن مالك أن يهودياً رَضَّ رأس جارية بين حجرين ، فجيء باليهودي فاعترف - فأمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرضَّ رأسه بالحجارة ، وقد قال همام بحجرين .

وفي ( مسند الإمام أحمد ) ج 3 ص 269 حدثنا عفان حدثنا همام قال أنا قتادة أن أنساً (( .... خذ اليهودي فجيء به فاعترف )) فهل في هذا عنعنة يا كوثري ؟ ([45]) .

( أقول ) أما الانفراد فليس بمانع من الاحتجاج عند / أهل السنة ، بل بإجماع الصحابة والتابعين ، بل الأدلة في ذلك أوضح ، ولم يشترط التعدد إلا بعض أهل البدع ، نعم قد يتوقف في بعض الأفراد لقيام قرائن تشعر بالغلط ، والمرجع في ذلك إلى أئمة الحديث ، وليس قرينة ، وأئمة الحديث قد صححوا هذا الحديث كما علمت .

وأما قوله (( في عهد هرمه )) فقد تقدم أنه لم يهرم ، وليس هناك دليل على أنه لم يحدث بهذا الحديث إلا بعد كبره ، فالجزم بذلك مجازفة .

قوله (( كانفراده برواية شرب أبوال الإبل في رواية قتادة )) .

( أقول ) في ( فتح الباري ) (( .... وروى ابن المنذر عن ابن عباس مرفوعاً : الإبل شفاء للذربة بطونهم )) والحديث في ( الصحيحين ) وغيرهما عن قتادة مصرحاً في بعض طرقه بالسماع من أنس .                      ، بل ثبت في ( الصحيحين ) وغيرهما من رواية أبي قلابة مصرحاً في بعض طرقه بالسماع من أنس ، وثبت في ( صحيح مسلم ) من رواية عبد العزيز بن صهيب وحميد بن أنس . وفي ( تفسير ابن جرير ) 6 / 119 – 120 بسند صحيح عن سعيد بن جبير ذكر القصة بسياق أخر وفيها (( فاشربوا أبو الها وألبانها )) . وما في ( الكفاية ) صفحة 74 حاصله أن الخطيب عقد باباً لما استثبت فيه الراوي غيره وميزه ، فذكر في / جملة الأمثلة عن حميد عن أنس (( فشربتم من ألبانها قال حميد وقال قتادة عن أنس : وأبوالها )) فمقصود الخطيب أن حميداً لم يحفظ الحديث ( وأبوالها ) وإنما أخذه من قتادة ، فهذا حجة على أن حميداً ليس في محفوظه عن أنس ( وأبوالها ) وليس فيه ما يدل أن قتادة تفرد بها ، وقد ثبت من رواية أبي قلابة وعبد العزيز ابن صهيب ، ثم فرض تفرد قتادة أحفظهم .

قول الكوثري : (( وبحكاية معاقبة العرنيين )) .

أقول : كان اجتماع أنس بالحجاج لما كان الحجاج بالبصرة وذلك سنة 75 ه‍ قبل وفاة أنس ببضع عشرة سنة وليس في الحديث ما يصلح أن يكون شبهة للحجاج على ظلمه ، ولو كان فيه ذلك فلم يكن الحجاج يحتاج في ظلمه إلى شبهة ، ومع هذا فلأنس عذر ، وهو أنه قد كان حدث بالحديث قبل ذلك ، فلعله لما سأله الحجاج خشي أن يكون قد بلغ الحجاج تحديثه به ، فإذا كتمه عند سؤاله إياه اتخذ الحجاج ذلك ذريعة إلى إيذاء أنس ، ثم أقول إن كان مقصود الكوثري أن تحديث أنس للحجاج بتلك القصة يدل على اختلال ضبط أنس ، فلا يخفي بطلان هذا وإن كان مقصوده أن ذلك موجب لفسق أنس فليصرح به .

قوله (( قلة الضبط الناشئة عنه من الأمية أو كبر السن )) .

أقول : أما الأمية فليست مما يوجب قلة الضبط ، وإنما غايتها أن يكون في رواية صاحبها كثير من الرواية بالمعنى ، وليس ذلك بقادح ، ومع ذلك فلم يكن أنس أمياً ، ولا يخشى في حديث الرضخ ، ولا حديث العرنيين رواية أنس بالمعنى ، أما عدم الأمية ففي ( الإصابة ) (( قال محمد بن عبد الله الأنصاري حدثنا ابن عون عن موسى بن أنس أن
أبا بكر لما استخلف بعث إلى أنس ليوجهه إلى البحرين على السعاية ، فدخل عليه عمر فاستشاره فقال : ابعثه فإنه لبيب كاتب .

وأما الرواية بالمعنى فإنما تخشى في الأحاديث القولية ، والحديثان فعليان .

قوله (( فيرجح ... )) .

أقول : الترجيح إنما يكون عند قيام المعارض ، ولم يعارض حديثي أنس – ولا سيما حديث الرضخ - شيء يعتد به ، وليس مما يوهن أن يكون بحيث لو عارضه ما هو أرجح منه لقدم الراجح ، فإن هذا الوهن إنما يحصل عند / وجود المعارض الأقوى ، فإذا لم يكن هناك معارض في أقوى لم يكن هناك وهن . وهذا وسيأتي بسط الكلام على حديث الرضخ في الفقهيات من ( التنكيل ) وتأتي ترجمة أنس في قسم التراجم هناك ، ([46]) والله الموفق .

2- أبو عوانة الوضاح . قال الكوثري ص 92 : (( ..... وما رواه في ست سنوات في آخر عمره ، لا يعتد به لاختلاطه )) .

أقول :فتشت المظان فلم أر أحداً زعم أن أبا عوانة اختلط ، وكأن الكوثري تشبت بما في ( تاريخ بغداد )13 : 465 (( ..... محمد بن غالب حدثنا أبو سلمة قال : قال لي أبو هشام المخزومي : من لم يكتب عن أبي عوانة قبل سنة سبعين ومائة فإنه لم يسمع منه)) ثم عقب ذلك بذكر وفاة أبي عوانة سنة 175 ، أو سنة 176 ، وحمل الكوثري قوله (( فلم يسمع منه )) على المجاز ، أي فلم يسمع منه سماعاً يعتد به ، ثم تخرص أن ذلك لأجل اختلاطه .

ويدفع هذا أن مثل أبي عوانة في إمامته وجلالته وكثرة حديثه وكثرة الآخذين عنه لو اختلط لاشتهر بذلك وانتشر ، فكيف لو دام ذلك سنوات ؟ وقد اعتنى الأئمة بجمع أسماء الذين اختلطوا ، فلم يذكروا أبا عوانة ، واعتنى المؤلفون في الضعفاء بذكر الذين اختلطوا ، فلم يذكروا أبا عوانة ، ومن ذكره منهم لم يذكر أنه اختلط ، وإنما ذكر أنه كان إذا حدث من حفظه يغلط ، ومع ذلك فهذه الرواية لا وجود لها في ( تهذيب التهذيب ) مع حرصه على ذكر كل ما فيه مدح أو قدح ، وظهر من ذلك أنها ليست في أصوله ، والذي يظهر أنهم حملوها على أن المقصود بها بيان تاريخ الوفاة ([47]) لأن الخطيب عقبها بما هو صريح في ذلك ، فإما أن يكونوا أعرضوا عنها لشذوذها وإجمالها وإما أن يكون وقع في نسخة التاريخ المطبوع سقط والأصل قبل سنة ست وسبعين فرأوا أن مع إجمالها محتملة للوجهين المصرح بهما ، فإن كان ولا بد فقد يكون المراد بها معنى ما روى عن الإمام أحمد أن أبا عوانة كان في آخر عمره يقرأ من كتب الناس ، يعني اعتماداً على حفظه مع قول أحمد (( إذا حدث أبو عوانة من كتابه فهو أثبت ، وإذا حدث من غير كتابه ربما وهم )) فيكون أبو هشام بالغ في قوله (( فلم يسمع منه )) فأما الاختلاط فلا وجه له البتة .

3- محمد بن علي بن الحسين بن شقيق ، في ( تاريخ بغداد ) 13 : 414 من طريق (( أحمد بن الحسين البلخي يقول : سمعت محمد بن علي بن الحسين بن شقيق يقول سمعت أبي يقول سمعت عبد الله بن المبارك يقول : لَحَديث واحد من حديث الزهري أحب إلي من جميع كلام أبي حنيفة )) .

فذكر الكوثري ص 151 أثراً قبل هذا ، ثم قال (( وفي سند الخبر الذي بعده محمد ابن شفيق ( كذا ) وليس بذاك ، ومتن الخبر لحديث واحد ..... )) .

فمحمد بن علي بن الحسين بن شقيق وثقة النسائي وغيره وقال الحاكم (( كان محدث مرو )) ولم يغمزه أحد ، فأما أبوه فمن جلة أصحاب ابن المبارك احتج به الشيخان في ( الصحيحين ) وبقية الستة .

4- حسين بن حريث أبو عمار المرزوي . قال الكوثري ص 83 (( كثير الأغراب )) .

أقول : لم أجد للكوثري سلفاً في هذا ، والحسين بن حريث من شيوخ الشيخين في ( الصحيحين ) ، وأبي داود والترمذي والنسائي في كتبهم ، ووثقه النسائي وغيره ولم يغمزه أحد .

5- علي بن محمد بن مهران السواق . قال الكوثري ص 156 : (( من ضعفاء شيوخ الدارقطني )) كذا قال الرجل روى عنه الدارقطني ووثقه الخطيب ولم يغمزه أحد ([48]) وتأتي ترجمته في ( التنكيل ) .

6- جعفر بن محمد بن شاكر . قال الكوثري ص 109 : (( بلغ تسعين سنة واختل ضبطه )) .

أقول العمر فذكروا أن جعفر قارب التسعين ، وأما اختلال الضبط فمن مجازفات الكوثري ، قال الخطيب ( 7 : 176 ) : (( كان عابداً زاهداً ثقة صادقاً متقناً ضابطاً )) وأسند عن ابن المنادي (( كان ذا فضل وعبادة وزهد ، انتفع به خلق كثير الحديث )) وعنه أيضاً (( كان من الصالحين ، أكثر الناس عنه لثقته وصلاحه ، بلغ تسعين سنة غير يسير )).

وبلوغ التسعين لا يستلزم اختلال الضبط كما مر في ترجمة أنس ، ويتأكد ذلك في هؤلاء المتأخرين ، لأن اعتمادهم على أصول مثبتة منقحة محفوظة ، لا على الحفظ ، والله الموفق .

فهذه ثمانية من فروع مغالطات الكوثري ومجازفاته ؛ وبقي بعض أمثلتها ، وسترى ذلك في ( التنكيل ) . وكذلك بقيت فروع أخرى ستراها في ( التنكيل ) إن شاء الله تعالى ، منها أنه قد يكون في الرجل كلام يسير لا يضر ، فيزعمه الكوثري جرحاً ترد به الرواية ، كما قال في الحسن بن علي الحلواني، والحسن بن أبي بكر ، وعثمان بن أحمد بن السماك ومحمد بن عباس بن حيويه .

ومنها أن الكوثري قد يحكي كلاماً في الرجل مع أنه لا يضره بالنسبة إلى الموضع الذي يتكلم عليه ، كأن يروي الخطيب عن رجل كلاماً قاله رأيه ، فيحكي الكوثري في ذلك الرجل كلاماً حاصله أنه لم يكن جيد الحفظ ، كما قال في إبراهيم بن محمد أبي إسحاق الفزاري ويوسف بن أسباط وسفيان بن وكيع وقيس بن الربيع ومؤمل بن إسماعيل ومحمد بن ميمون أبي حمزة ومحمد بن جعفر بن الهيثم .

ومنها أن الخطيب كثيراً ما ينقل الروايات عن بعض المصنفات المشهورة ، ولكنه على عادة أقرانه لا يصرح بالنقل ، بل يرويها بسنده الذي سمع به ذاك الكتاب ، فيتكلف الكوثري الكلام في بعض من بين الخطيب وبين / مؤلف الكتاب ، مع أن هذا لا يقدح في الرواية ، إذ معظم الاعتماد في مثل هذا على صحة النسخة ككلامه في عبد الله بن جعفر ابن درستويه ، والحسن بن الحسين بن دوما ، ومحمد بن أحمد رزق ، وأحمد بن كامل .

ومنها : أن الكوثري يعمد إلى كلام قد ردّه الأئمة فيتجاهل الكوثري ردهم ويحتج بذلك الكلام ، ككلامه في علي بن عبد الله بن المديني ، وبشر بن السرَي ، وأحمد بن صالح ، ومحمد بن بشار ، وإسماعيل بن إبراهيم أبي معمر الهذلي ، وأبي مسهر عبد الأعلى ابن مسهر ، وعبد الله بن محمد بن أبي الأسود ، ومحمد بن عبد الله بن عمار .

ومنها : أنه يعمد إلى ما يعلم أنه لا يعد جرحاً البتة فيعتد به ويهول ، مثل كلامه في عبد الله بن الزبير الحميدي ، والحسن بن أبي بكر بن شاذان ، ورجاء بن السندي .

ومنها : أنه يتهم بعض الحفاظ الثقات بتهم لا أصل لها ، كما قاله في الحميدي وأحمد بن علي الأبار ، إلى غير ذلك . وسترى إلى شاء الله تعالى هذا كله وغيره في
( التنكيل ) .

وحسبي الله ونعم الوكيل ، وصلى الله وسلم على خاتم أنبيائه محمد وآله وصحبه .


 

 

التنكيل

بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل

 

 

 

 

 

 

 

 


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .

اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم ، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم ، إنك حميد مجيد . [ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ] .

أما بعد : فهذا كتاب ( التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل ) .

تعقبت فيه ما نتقدته من كتاب ( تأنيب الخطيب ) للأستاذ العلامة محمد زاهد الكوثري مما يتعلق بالكلام في أئمة السنة ورواتها ، غير عامد إلى ذب عن الإمام أبو حنيفة ولا خلافه ، ورتبته إلى أربعة أقسام :

الأول : في تحرير قواعد خلط فيها الأستاذ .

الثاني : في تراجم الأئمة والرواة الذين تكلم فيهم الأستاذ وأفراد حاول الدفاع عنهم .

الثالث : في النظر في مسائل فقهية تعرض لها .

الرابع : في تثبيت غقيدة السلف التي طعن الأستاذ فيها وفي المعتصمين بها ، ومسائل اعتقادية تعرض لها .

وقد قدمت قبل هذا نموذجاً من مغالطاته طبع بمصر بعنوان ( طليعة التنكيل ) ([49]) ^3^ وأجاب عنها برسالة سماها ( الترحيب بنقد التأنيب ) سأنظر فيما يُلتفت إليهمما فيها في مواضعه من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى ، وأسال الله التوفيق .

وأقدم فصولاً :

1- فصل

المقصود الأهم ن كتأبي هذا هو رد المطاعن الباطلة عن أئمة السنة وثقات رواتها والذي اضطرني إلى ذلك أن السنة النبوية وما تفتقر إليه من معرفة أحوال رواتها ومعرفة العربية وآثار الصحابة والتابعين في التفسير ، وبيان معاني السنة والأحكام وغيرها ، والفقه نفسه إنما مدارها على النقل على أولئك الذين طعن فيهم الأستاذ وأضر بهم ، فالطعن فيهم يؤول إلى الطعن في النقل كله ، بل في الدين من أصله . وحسبك أنَّ المقرر عند أهل العلم أنه إذا نقل عن جماعة من الصحابة القول بتحريم شيء ولم ينقل عن أحد منهم أو ممن عاصرهم من علماء التابعين قول بالحل ، عد ذاك الشيء مجمعا على حرمته ، لا يسوغ لمجتهد أن يذهب إلى حله غافلاً عن الإجماع كان قوله مردوداً ، أو عالماً بالإجماع فمن أهل العلم من يضلله ، ومنهم من قد يكفره . لكنه لو ثبت عن رجل واحد من الصحابة قول بحل ذلك الشيء كانت المسألة خلافية لا يحظر على المجتهد أن يقول فيها بقول ذلك الصحأبي ، أو بقول مفصل يوافق هذا في شيء ، وذاك في شيء ، ولا يحرم على المقلد الذي مذهب إمامه الحرم أن يأخذ بالحل إما على سبيل الترجيح والاختيار إن كان أهلاً ، وإما على سبيل التقليد المحض إن احتاج إليه . وثبوت ذاك القول عن ذاك الصحأبي يتوقف على ثقة رجال السند إليه ، والعلم بثقتهم يتوقف على توثيق بعض أئمة الجرح والتعديل لكل منهم ، والاعتداد بتوثيق الموثق يتوقف على العلم بثقته في نفسه وأهليته ،ثم على صحة سند التوثيق إليه ، وثقته في نفسه تتوقف على أن يوثقه ثقة عارف، وصحة سند التوثيق تتوقف على توثيق بعض أهل المعرفة والثقة لرجاله ، وهلم جراً .

والسعي في توثيق رجل واحد من أولئك بغير حق أو الطعن فيه بغير حق سعيٌ في إفساد الدين بإدخال الباطل فيه ، أو إخراج الحق منه ، فإن كان ذاك الرجل واسع الرواية أو كثير البيان لأحوال الرواة ، أو جامعاً للأمرين كان الأمر أشد جداً كما يعلم بالتدبر ، ولولا أن أُنسب إلى التهويل لشرحت ذلك ، فما بالك إذا كان الطعن بغير حق في عدد كثير من الأئمة والرواة يترتب على الطعن فيهم – زيادة على محاولة إسقاط رواياتهم – محاولة توثيق جم غفير ممن جرحوه ، وجرح جم غفير ممن وثقوه .

ففي ( التأنيب ) الطعن في زهاء ثلاثمائة رجل تبين لي أن غالبهم ثقات ، وفيهم نحو تسعين حافظاً ، وجماعة من الأئمة ، فكم ترى يدخل في الدين من الفساد لو مشى للأستاذ ما حاوله من جرحهم بغير حق ؟! على أن الأمر لا يقف عندهم فإن الأستاذ يحاول الرد بالاتهام ، والتهم غير محصورة ، فيمكن كل من يهوى رد شيء من النقل أن يبدي تهمة في رواته وموثقيهم ، فيحاول إسقاطهم بذلك ، بل يعيد ([50]) الملحدون الإسلام نفسه ذريعة لاتهام كل من روى من المسلمين ما يثبت النبوة والقرآن ونحو ذلك ، ولا يقنعون بالآحاد ، بل يساورون المتواترات بزعم التواطؤ والتتابع لاتفاق الغرض ، لو كان هذا الطعن من رجل مغمور أو غير مشهور بالعلم أو غير متبوع لهان الخطب ، ولكنه من رجل مشهور ينعته أصحابه بأمثال ما كتب على لوح كتابه ( تأنيب الحطيب ) الذي طبع تحت إشرافه بتصحيحه (( تأليف الإمام الفقيه المحدث ، والحجة الثقة المحقق العلامة الكبير.. )) ويلي ذلك كلمة الناشر وترجمة المؤلف بتلك الألقاب الضخمة والعبارات الفخمة ([51]) ، ويتبعه الحنفية وهم كما يقول السواد الأعظم ، ويتابعه في الجملة كل من تخالف السنة هواه من غلاة المقلدين وأتباع المتكلمين وعباد القبور ، ويعتضد كلامه الملحدون .

بلى إن في أفاضل علماء الحنفية أنفسهم جماعة يمقتون تصرف الأستاذ ، ولكن تصدهم عن رفع أصواتهم بالإنكار عليه موانع هم أعلم بها . والله المستعان .

 

2- فصل

من أوسع أودية الباطل الغلو في الأفاضل ومن أمضى أسلحته أن يرمي الغالي كل من يحاول رده إلى الحق ببغض أولئك الأفاضل ومعاداتهم ، يرى بعض أهل العلم أن النصارى أول ما غلوا في عيسى عليه السلام كان الغلاة يرمون كل من أنكر عليهم بأنه يبغض عيسى ويحقره ونحو ذلك فكان هذا من أعظم ما ساعد على أن انتشار الغلو لأن بقايا أهل الحق كانوا يرون أنهم إذا أنكروا على الغلاة نسبوا إلى ما هم أشد الناس كراهية له من بغض عيسى وتحقيره ، ومقتهم الجمهور ، وأوذوا فثبطهم هذا عن الإنكار ، وخلا الجو للشيطان ، وقريب من هذا حال الغلاة الروافض وحال القبوريين ، وحال غلاة المقلدين . وعلى هذا جرى الأمر في هذا القضية فإن الأستاذ غلا في أبي حنيفة حتى طعن في غيره من أئمة الفقه وفي أئمة الحديث وثقات رواة ، بل تناول بعض الصحابة والتابعين وأسكت أهل العلم في مصر وغيرها برمي كل من يهم أن ينكر عليه ببغض أبي حنيفة ومعاداة ، ولما اطلع الأستاذ ( الطليعة ) جرد على صاحبها ذلك السلاح ، ومن تصفح ( الترحيب ) علم أن ذلك ، بعد المغالطة والتهويل هو سلاحه الوحيد ، فهو يبدئ فيه ويعيد ، ونفسه تقول هل من مزيد ،ومع ذلك يضطرب ،فمن جهة يقول في ( الترحيب ) ص 15 : (( أخبار الآحاد على فرض ثقة رواتها لا تناهض العقل ولا النقل المستفيض فضلاً عن المتواتر وقد ثبتت إمامة أبي حنيفة وأمانته مناقبه لدى الأمة بالتواتر )) ويقول بعد ذلك : (( خبر الآحاد يكون مردوداً عند مصادمته لما هو أقوى منه من أخبار الآحاد فضلاً عن مصادمته لما تواتر )) ويقول ص 17 (( وأما الخبر المصادم لذلك من بين أخبار الآحاد فيرد حيث لا تمكن مناهضته للعقل والخبر المتواتر على تقدير سلامة رجاله من المآخذ )) ويقول ص 39 (( من المقدر عند أهل العلم أن صحة السند بحسب الظاهر لا تستلزم صحة المتن )) .

ويعد حسناتي ذنوباً فيقول ص 99 : (( وحذفه للمتون لأجل إخفاء مبلغ شناعتها عن نظر القارئ ، فلو ذكرها كلها مع كلام الكوثري ([52]) في موضوع المسألة لنبذ السامع نقد هذا الناقد في أول نظرة لما حوت تلك المتون من السخف البالغ الساقط بنفسه من غير حاجة إلى مسقط فيكون ذكر المتون قاصماً لظهره )) وقول ص 25 (( ولو كان الناقد ذكر في طلب متنه الخبر المتحدث عنه كان القارئ يحكم بكذب الخبر مجرد سماعه لكن عادة الناقد إهمال ذكر المتن إخفاء لحاله )) .

ومن جهة أخرى يقول ص 19 (( وعادة أيضاً في مثل تلك الأخبار تطلب ضعفاء بين رجال السند ([53]) بادئ ذي بدء ضرورة أن الخبر الذي ينبذه العقل أو النقل لا يقع في رواية الثقات  )) ويقول ص 19 (( ومن المضحك تظاهره بأنه لا يعادي النعمان مع سعيه سعي المستميت في توثيق رواة الجروح ولو بالتحاكم إلى الخطيب نفسه المتهم فيما عمله مع أنه لو ثبتت ثقة حملتها ثبت مقتضاها )) .

وأقول أما الباعث لي على تعقب ( التأنيب ) فقد ذكرت في أول ( الطليعة ) وتقدم شرحه في الفصل الأول ، وهب أن غرضي ما زعمه الأستاذ وأنه يلزم من صنيعي تثبيت مقتضى تلك الحكايات فلا يخلو كلامي مبيتاً على الأصول المألوفة المعروفة ، أو يكون على خلاف ذلك ، فإن كان الأول فلازم الحق حق ، وإن كان الثاني ففي وسع الأستاذ أن يوضح فساده بالأدلة المقبولة ، فعلى أهل المعرفة أن يحاكموا بين ( طليعتي ) و
( ترحيبه ) حتى يتبين لهم أقام بنقض كلامي بأدلة مقبولة عند أهل العلم أم ردف ما في
( التأنيب ) من تهويل ومغالطة وتمحل بمثلها ولم يكد يضيف إلى ذلك إلا رمي مؤلف
( الطليعة ) ببغض أبي حنيفة ؟! كأن الأستاذ يرى أن تلك المهاجمة لا تتقى إلا بالهوى ، فأثاره ما استطاع في نفوس أتباعه الذين يهمه شأنهم ليضرب به بينهم وبيم ( الطليعة ) و ( التنكيل ) حجاباً لا تمزقه حجة ولا يزيده الله تعالى بعد استحكامه إلا شدة .

والواقع أن مقصودي هو ما شرحته في الفصل السابق ولذلك أهملت ذكر المتون لأنها خارجة عن مقصودي ومع ذلك ففي ذكرها مفاسد :

الأولى : ما أشار إليه الأستاذ في الجملة وهو أن يطلع عليها حنفي متحمس فيحمله ذكر المتن على أن يعرض عن كلامي البتة ولا يستفيد إلا بغض من نسب إليه المتن من الأئمة .

الثانية : أن يطلع عليها رجل من خصوم الحنفية فيجترئ بذاك المتن ويذهب يعيب أبا حنيفة غير مبال أصح ذاك المتن أم لم يصح .

الثالثة : أن يطلع عليها عامي لا يميز فيقع في نفسه أن أئمة السلف كان بعضهم يطعن في بعض ويكبر ذلك عليه ويسيء الظن بهم جميعاً .

فإهمال ذكر المتن يمنع هذه المفاسد كلها ولا يبقى أمام الناظر إلا ما يتعلق بتلك القضايا الخاصة التي ناقشت فيها الأستاذ .

والواقع أيضاً أنه لا يلزم من صنيعي تثبيت الذم ولا يلزمني قصد ذلك ، ومن تأمل عبارات الأستاذ في الجهة الأخرى بان له صحة قولي . وأزيد ذلك إيضاحاً وشرحاً وتتميماً فأقول : وعامة مناقشتي للأستاذ إنما هي في بعض رجال تلك الأسانيد وقد وافقته على ضعف جماعة منهم ، ولا يلزم من تثبيتي ثقة رجل من رجال السند ثبوت ثقة غيره ، بل الأمر أبعد من ذلك ، فإن المقالة المسندة ، إذا كان ظاهرها الذم أو ما يقتضيه لا يثبت الذم إلا باجتماع عشرة أمور :

الأول : أن يكون الرجل المعين الذي وقع في الإسناد ووقعت فيه المناقشة ثقة .

الثاني : أن يكون بقية رجال الإسناد كلهم ثقات .

الثالث : ظهور اتصال السند تقوم به الحجة .

الرابع : ظهور أنه ليس هناك علة خفية يتبين بها انقطاع أو خطأ أو نحو ذلك مما يوهن الرواية .

الخامس : ظهور أنه لم يقع في المتن تصحيف أو تحريف أو تغيير قد توقع فيه الرواية بالمعنى .

السادس : ظهور أن المراد في الكلام ظاهره .

السابع : ظهور أن الذام بنى ذمه على حجة لا نحو أن يبلغه إنسان أن فلاناً قال كذا أو فعل كذا فيحسبه صادقاً وهو كاذب أو غالط .

الثامن : ظهور أن الذام بنى ذمه على حجة لا على أمر حمله على وجه مذموم وإنما وقع على وجه سائغ .

التاسع : ظهور أنه لم يكن للمتكلم فيه عذر أو تأويل فيما أنكره الذام .

العاشر : ظهور أن ذلك المقتضي للذم لم يرجع عنه صاحبه . والمقصود بالظهور في هذه المواضع الظهور الذي تقوم به الحجة .

وقد يزاد على هذه العشرة ، وفيها كفاية .

فهذه الأمور إذا اختل واحد منها لم يثبت الذم ، وهيهات أن تجتمع على باطل .

والذي تصديت لمناقشة الأستاذ فيه إنما يتعلق بالأمر الأول ، ولا يلزم من تثبيته تثبيت الثاني فضلاً عن الجميع وقد يلزم من صنيعي في بعض المواضع تثبيت الثاني لكن لا يلزم من ذلك تثبيت الثالث فضلاً عن الجميع ، وما قد يتفق في بعض المواضع من مناقشتي للأستاذ في دعوى الانقطاع أو التصحيف فالمقصود من ذلك كشف مغالطته ولا يلزم من ذلك تثبيت الأمور كلها ، وقد يتهم الأستاذ رجلاً في رواية مع علمه بأنه قد توبع متابعة تبين صدقه في تلك الرواية فيضطرني إلى التنبيه على تلك المتابعة . وقد يشنع على الخطيب بإيراده رواية من فيه كلام في صدد ما زعم أنه المحفوظ عنده ، ويتبين لي من سقوط الشناعة من هذه الناحية أما لأنه إنما ذكر رواية ذلك الراوي في المتابعات وأما لأن الراوي إنما غمز بأنه يخطئ أو يهم وليس تلك الرواية مما يخشى فيه الخطأ أو الوهم فاحتاج إلى بيان ذلك . وكل هذا لا يلزم منه تثبيت الأمور كلها وأذكر هنا مثالاً واحداً :

قال إبراهيم بن بشار الرمادي : سمعت بن عيينة يقول : ما رأيت أحداً أجرأ على الله من أبي حنيفة ، ولقد أتاه رجل من أهل خراسان فقال يا أبا حنيفة قد أتيتك بمائة ألف مسألة أريد أن أسألك عنها ، قال : هاتها ، فهل سمعتم أحداً أجرأ على الله من هذا ؟ )) هذه الحكاية أول ما ناقشت الأستاذ في بعض رجال سندها في ( الطليعة ) ص 12 – 20 فإنه خبط في الكلام في سندها إلى الرمادي بما ترى حاله في ( الطليعة ) وتكلم في الرمادي وستأتي ترجمته وزاد في ( الترحيب ) فتكلم في ابن أبي خثيمة بما لا يضره ، وذكر ما قيل أن ابن عيينة اختلط بأخرة ، وهو يعلم ما فيه وستأتي ترجمته وقد ذكر الأستاذ في ( التأنيب ) جواباً معنوياً جيداً ولكنه مزجه بالتخليط فقال بعد أن تكلم في السند بما أوضحت ما فيه في ( الطليعة ) : (( وابن عيينة برئ من هذا الكلام قطعاً بالنظر إلى السند)) .

كذا قال بعد ذلك : (( وأما من جهة المتن فتكذب شواهد الحال الأخلوقة تكذيباً لا مزيد عليه ... رجل يبعث من خراسان ليسأل أبا حنيفة عن مائة ألف مسألة بين عشية وضحاها ويجيب أبو حنيفة عنها بدون تلبث ولا تريث )) .

(( كذا قال ، وليس في القصة أن الرجل سأل عن مسالة واحدة فضلاً عن مائة ألف ، ولا أن أبا حنيفة أجاب عن مسألة واحدة فضلاً عن مائة ألف فضلاً عن أن يكون ذلك كله بين عشية وضحاها . وكان يمكن للأستاذ أن يجيب بجواب بعيد عن الشغب كأن يقول : يبعد جداً أو يمتنع أن تجمع في ذاك العصر مائة ألف مسألة ليأتي بها رجل من خراسان ليسأل عنها أبا حنيفة ، وهذا يدل على أحد أمرين ، إما أن يكون السائل إنما أراد : أتيتك بمسائل كثيرة فبالغ ، وإما أن يكون بطالاً لم يأت ولا بمسالة واحدة ، وإنما قصد إظهار التشنيع والتعجيز ، فأجابه أبو حنيفة بذاك الجواب الحكيم ، فإن الرجل إنما قصد التشنيع أو التعجيز ، ففي ذاك الجواب إرغامه ، وإن كان عنده مسائل كثيرة نظر فيها أبو حنيفة على حسب ما يتسع له الوقت ويجيب عندما يتضح له وجه الجواب . فأما ابن عيينة فكان من الفريق الذين يكرهون أن يفتوا ( وقد بين الأستاذ ذلك في " التأنيب " فكأنه كره قول أبي حنيفة : هاتها ، لما يشعر به من الاستعداد لما يكرهه ابن عيينة ، وكان أبو حنيفة من الفريق الذين يرون أن على العالم إذا سئل عما يتبين له وجه الفتوى فيه أن يفتي ، للأمر بالتبليغ والنهي عن كتمان العلم ، ولئلا يبقى الناس حيارى لا يدرون ما حكم الشرع في قضاياهم ، فيضطرهم ذلك إلى ما فيه فساد العلم والدين ، ولا ريب أن الصواب مع الفريق الثاني وإن حمدنا الفريق الأول حيث يكف أحدهم عن الفتوى مبالغة في التورع واتكالاً على غيره حيث يوجد ، فأما الجرأة فمعناها الإقدام والمقصود هنا كما يوضحه السياق وغيره الإقدام على الفتوى فمعنى الجرأة على الله هنا هو الإقدام على الإفتاء في دين الله ، وهذا إذا كان عن معرفة موثوق بها فهو محمود وإن كرهه المبالغون في التورع كابن عيينة ، وقد جاء عن ابن عمر أنه قال : (( لقد كنت أقول : ما يعجبني جرأة ابن عباس على تفسير القرآن ، فالآن قد علمت أنه أوتي علماً )) وعنه أيضاً أنه قال: أكثر أبو هريرة ، فقيل له : هل تنكر شيئاً مما يقول ؟ قال : لا ، ولكنه اجترأ وجبنا ، فبلغ ذلك أبا هريرة فقال : فما ذنبي إن كنت حفظت ونسوا ؟ راجع " الإصابة" ترجمة ابن عباس وترجمة أبي هريرة .

وإقدام أبي حنيفة كان من الضرب المحمود ، وقد روى الخطيب نفسه ... هاتين الحكايتين اللتين ذكرهما الأستاذ في ( التأنيب ) فهذا وغيره يدل على بعد أبي حنيفة عن الجرأة المذمومة فأما إذا علمنا أن ابن عيينة كان يطيب الثناء على أبي حنيفة فإن ذلك يرشدنا إلى حمل تلك المقالة على معنى آخر أدنى إلى الصواب ، مع ما فيه من الحكمة البالغة التي تهدينا إلى باب عظيم النفع في فهم ما ينقل عن أهل العلم من كلام بعضهم في بعض .

وحاصله أن أكثر الناس مغرون بتقليد من يعظم في نفوسهم والغلو في ذلك ، حتى إذا قيل لهم : إنه غير معصوم عن الخطأ والدليل قائم على خلاف قوله في كذا فدل ذلك على أنه أخطأ ولا يحل لكم أن تتبعوه على ما أخطأ فيه ، قالوا : هو أعلم منكم بالدليل ، وأنتم أوى بالخطأ منه فالظاهر أنه قد عرف ما يدفع دليلكم هذا ، فإن زاد المنكرون فأظهروا حسن الثناء على ذلك المتبوع كان أشد لغلو متبعيه ، خطب عمار بن ياسر في أهل العراق قبل وقعة الجمل ليكفهم عن الخروج مع أم المؤمنين عائشة فقال (( والله إنها لزوجة نبيكم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الدنيا والآخرة ولكن الله تبارك وتعالى ابتلاكم ليعلم إياه تطيعون أم هي )) أخرجه البخاري في ( الصحيح ) من طريق أبي مريم الأسدي عن عمار ، وأخرج نحوه من طريق أبي وائل عن عمار فلم يؤثر هذا في كثير من الناس بل روي أن بعضهم أجاب قائلاً (( فنحن مع من شهدت له بالجنة يا عمار )) .

فلهذا كان من أهل العلم والفضل من إذا رأى جماعة اتبعوا بعض الأفاضل في أمر يرى أنه ليس لهم فيه إما لأن حالهم غير حاله وإما لأنه يراه أخطأ – أطلق كلمات يظهر منها الغض من ذاك الفاضل لكي يكف الناس عن الغلو فيه الحامل لهم على اتباعه فيما ليس لهم أن يتبعوه فيه ، فمن هذا ما في ( المستدرك ) ( 2 ص329 ) (( ..... عن خثيمة قال : " كان سعد بن أبي وقاص رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ في نفر فذكروا علياً فشتموه فقال سعد : مهلاً عن أصحاب رسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ..... فقال بعضهم فوالله إنه كان يبغضك وسميك الأخنس ، فضحك سعد حتى استعلاه الضحك ثم قال أليس قد يجد المرء على أخيه في الأمر يكون بينه وبينه ثم لا تبلع ذلك أمانته ..... )) قال الحاكم : (( صحيح على شرط الشيخين )) وأقره الذهبي .

وفي الصحيحين وغيرهما عن علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال (( ما سمعت رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جمع أبويه إلا لسعد بن مالك ( هو سعد بن أبي وقاص ) فإني سمعته يقول يوم أحد : يا سعد ارم فداك أبي وأمي )) .

وتروى عن كلمات أخرى من ذا وذاك وكان سعد قد قعد عن قتال البغاة فكان علي إذا كان في جماعة يخشى أن يتبعوا سعداً بالقعود ربما أطلق غير كاذب كلمات توهم الغض من سعد وإذا كان مع من لا يخشى منه القعود فذكر سعداً ذكر فضله . ومنه ما يقع في كلام الشافعي في بعض المسائل التي تخالف فيها مالكاً من إطلاق كلمات فيها غض من مالك مع ما عرف عن الشافعي من تبجيل أستاذه مالك ، وقد روى حرملة عن الشافعي أنه قال (( مالك حجة الله على خلقه بعد التابعين )) كما يأتي في ترجمة مالك إن شاء الله تعالى .

ومنه ما نراه في كلام مسلم في مقدمة صحيحه مما يظهر منه الغض الشديد من مخالفه في مسألة اشتراط العلم باللقاء ، والمخالف هو البخاري ، وقد عرف عن مسلم تبجيله للبخاري .

وأنت إذا تدبرت تلك الكلمات وجدت لها مخارج مقبولة وإن كان ظاهرها التشنيع الشديد .

وفي ترجمة الحسن بن صالح بن حي من ( تهذيب التهذيب ) كلمات قاسية أطلقها بعض الأئمة فيه مع ما عرف من فضله ، وفيها (( أبو صالح الفراء : ذكرت ليوسف بن  أسباط عن وكيع شيئاً من أمر الفتن فقال : ذاك يشبه أستاذه يعني الحسن ( بن صالح ) بن حي – فقلت ليوسف أما تخاف أن تكون هذه غيبة ؟ قال لم يا أحمق ؟ أنا خير لهؤلاء من آبائهم وأمهاتهم ، أنا أنهى الناس أن يعملوا بما أحدثوا فتتبعهم أوزارهم، ومن أطراهم كان أضر عليهم )) .

أقول : والأئمة غير معصومين من الخطأ والغلط ، وهم إن شاء الله تعالى معذورون مأجورون فيما أخطأوا فيه كما هو الشأن فيمن أخطأ بعد بذل الوسع في تحري الحق ، لكن لا سبيل إلى القطع بأنه لم يقع منهم في بعض الفروع تقصيري يؤاخذون عليه ، أو تقصير في زجر اتباعهم عن الغلو في تقليدهم .

على أن الأستاذ إذا أحب أن يسلك هذه الطريق لا يضطر إلى الاعتراف بأن ابن عيينة كان يعقد أن أبا حنيفة أخطأ في بعض مقالاته ، بل يمكنه أن يقول : لعل ابن عيينة رأى أناساً قاصرين عن رتبة أبي حنيفة يتعاطون مثل ما كان يقع منه من الإكثار من الفتوى والإسراع بها غير معترفين بقصورهم اغتراراً منهم بكثرة ما جمعوا من الأحاديث والآثار فاحتاج ابن عيينة في ردعهم إلى تلك الكلمة القاطعة لشغبهم . والله أعلم .

 

3- فصل

حاول الأستاذ في ( الترحيب ) التبرؤ مما نسب إليه في ( الطليعة ) من الكلام في أنس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وفي هشام بن عروة بن الزبير وفي الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد .

فأما كلامه في أنس فتراه وما عليه في ( الطليعة ) ص 98 – 106 ويأتي تمامه في ترجمته إن شاء الله تعالى . وينبغي أن يعلم أن منزلة أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عندنا غير منزلته التي يجعله الأستاذ فيها ، فلسان حال الأستاذ يقول : ومن أنس ؟ وما عسى أن تكون قيمة رواية أنس في مقابلة الإمام الأعظم وعقليته الجبارة ، كما أشار إلى ذلك في
( الترحيب ) ص 24 إذ قال : (( وأسماء الصحابة الذين رغب الإمام عما انفردوا به من الروايات مذكورة في ( المؤمل ) لأبي شامة الحافظ ، وليس هذا إلا تحرياً بالغاً في المرويات يدل على عقلية أبي حنيفة الجبارة )) فزادنا مع أنس جماعة من الصحابة رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وإلى ما غالط به من الترجيح الذي دفعته ( الطليعة ) ص105 – 106 التصريح بأنه يكفي في تقديم رأي أبي حنيفة على السند أن ينفرد برواية السنة بعض أولئك الصحابة . هذا مع أن رواية أنس في الرضخ تشهد لها أربع آيات من كتاب الله عز وجل بل أكثر من ذلك كما يأتي في ( الفقهيات ) إن شاء الله تعالى ومعها القياس الجلي ، ولا يعارض ذلك شيء إلا أن يقال : إن عقلية أبي حنيفة الجبارة كافية لأن يقدم قوله على ذلك كله ، وعلى هذا فينبغي للأستاذ أن يتوب عن قوله في ( التأنيب ) ص 139 عند كلامه على ما روي عن الشافعي من قوله : أبو حنيفة يضع أول المسألة خطأ ثم يقيس الكتاب كله عليها. قال الأستاذ هناك (( ولأبي حنيفة بعض أبواب في الفقه من هذا القبيل ففي كتاب الوقف أخذ بقول شريح القاضي وجعله أصلاً ففرع عليه المسائل فأصبحت فروع هذا الباب غير مقبولة حتى ردها صاحباه ، وهكذا فعل في كتاب المزارعة حيث أخذ بقول إبراهيم النخعي فجعله أصلاً ففرع عليه الفروع ... )) .

إلا أن يقول الأستاذ إن أبا حنيفة لم يستعمل عقليته الجبارة في تلك الكتب أو الأبواب وإنما قلد فيها بعض التابعين كشريح وإبراهيم فعلى هذا يختص تقديم العقلية الجبارة بما قاله من عند نفسه ، فعلى هذا نطالب الأستاذ أن يطبق مسألة القود على هذه القاعدة .

أما نحن فلا نعتد على أبي حنيفة بقول الأستاذ ولا بحكاية أبي شامة الشافعي الذي بينه وبيت أبي حنيفة نحو خمسمائة سنة بل نقول لعل أبا حنيفة لم يرغب عن انفراد أحد من الصحابة بل هو موافق لغيره في أن انفراد الصحأبي مقبول على كل حال وإنما لم يأخذ ببعض الأحاديث لأنه لم يبلغه من وجه يثبت ، أو لأنه عارضه من الأدلة الشرعية ما رآه أرجح منه ، وإذا كان يأخذ برأي رجل من التابعين فيجعله أصلاً لباب عظيم من أبواب الشرع كشريح في الوقف وإبراهيم في المزارعة فكيف يرغب عن سنة لتفرد بعض الصحابة بها ؟ ثم راجعت ( المؤمل ) فرأيت عبارته تشعر بأن الكلام فيما تفرد أنس ومن معه يقوله برأيه ، لا في ما كان رواية عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

فأما التحري البالغ فإن كان هو الذي يؤدي إلى قبول ما حقه أن يقبل ورد ما حقه أن يرد فلا موضع له هنا ، وإن كان هو الذي يؤدي إلى قبول ما حقه الرد كرأي شريح في الوقف ورأي إبراهيم في المزارعة ، وإلى رد ما حقه القبول كما يتفرد به بعض الصحابة ولا يعارضه من الأدلة الشرعية ما هو أقوى منه ، أو كرد حديث الرضخ مع شهادة القرآن والقياس الجلي له فهذا إن وقع ممن لم يقف على الأدلة المخالفة له أو ذهل عنها وعن دلالتها ، له اسم آخر لا يضر صاحبه إن شاء الله ، وإن وقع ممن عرف ذلك كله فهو تجر بالجيم لا تحر بالحاء أو أقل تحر للباطل لا للحق . فإن المقصود التخييل الشعري فيستطيع من يرد انفراد الصحأبي أي صحأبي كان يقول أن ذلك تحر بالغ . بل من يرد السنن المتواتر ، بل من يرد المتواتر أيضاً فيقول إن التحري البالغ يقضي أن لا ينسب إلى شرع الله إلا ما نص عليه كلامه ، بل من يرد المتاتر أيضاً فيقول إن التحري البالغ يقتضي أن لا ينسب إلى شرع الله إلا ما نص عليه كلامه ،بل من يرد الدلالات الظنية من القرآن، وشيوخ الأستاذ من المتكلمين ينفون وجودها كما في الاعتقاديات إن شاء الله تعالى . فأما القياس فهو بأن القياس إلغاؤه تحرياً واحتياطاً في دين الله أولى من ذلك كله فإنه بالنسبة إلى ذلك كما قيل :

ويذهب بينها المرئى لغوا

 

كما ألغيت في الدية الحوارا

والمقصود هنا أن منزلة أنس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عندنا غير منزلته التي يجعله الأستاذ فيها ، فلا غرو أن يزعم الأستاذ أنه ليس في كلامه فيه ما ينتقد ‍‌! وفي ( فتح الباري ) في (( باب المصراة )) : (( قال ابن السمعاني ([54]) في ( الاصطلام ) : التعرض إلى جانب الصحابة علامة على خذلان فاعله بل هو بدعة وضلالة )) ذكر ذلك في صدد رد كلام بعض الحنفية في رواية أبي هريرة حديث المصراة .

وأما هشام بن عروة بن الزبير بن العوام فهذه قصته : روى هشام عن أبيه عروة – وفي رواية للدارمي ج1 ص 51 : هشام عن محمد بن عبد الرحمن بن نوفل عن عروة([55]). قال لم يزل أمر بني إسرائيل معتدلاً حتى ظهر فيهم المولدون أبناء سبايا الأمم فقالوا فيهم بالرأي فضلوا وأضلوا (( فذكرها الأستاذ في ( التأنيب ) ص 98 ثم قال " وإنما أراد هشام النكاية في ربيعة وصاحبه ( مالك ) لقول مالك فيه بعد رحيله إلى العراق فيما رواه الساجي عن أحمد بن محمد البغدادي عن إبراهيم بن المنذر عن محمد بن فليح قال قال لي مالك بن أنس : هشام بن عروة كذاب ، قال فسألت يحيى بن معين ؟ فقال عسى أراد في الكلام فأما في الحديث فهو ثقة )) وعلق في الحاشية (( هذا من انفرادات الساجي ، وأهل العلم قد تبدر منهم بادرة فيتكلمون في أقرانهم بما لا يقبل فلا يتخذ ذلك حجة ، على أن ما يؤخذ به هشام بعد رحيله إلى العراق أمر يتعلق بالضبط في التحقيق ، وإلا فمالك أخرج عنه في الموطأ )) ففهمت من قوله (( وإنما أراد هشام النكاية )) أنه يريد أن هشاماً افترى هذه الحكاية لذاك الغرض ، وأن ذلك من الكذب الذي عني بالكلمة المحكية عن مالك (( هشام بن عروة كذاب )) ومن الكذب في الكلام على ما في الكلمة عن ابن معين ومن البوادر التي لا تقبل كما ذكره في الحاشية ، وبنيت على ذلك في الكلمة التي كنت كتبتها إلى بعض الإخوان فاتفق أن وقعت بيد المعلق على ( الطليعة ) أو طابعها فطبعت كمقدمة للطليعة بدون علمي ، قلت فيها كما في ( الطليعة ) المطبوعة ص 4 :  (( وفي هشام بن عروة بن الزبير بن العوام حتى نسب إليه الكذب في الرواية ))  فتعرض الأستاذ لذلك في الترحيب ص 48 وتوهم أو أوهم أنني إنما بنيت على ما في الحكاية التي ينقلها مما نسب إلى مالك من قوله (( ... كذاب )) فأعاد الأستاذ الحكاية هنالك ثم قال : ((  أهذا قولي أم قول مالك أيها الباهت الآفك ؟‍‍! ))  .

فأقول : أما قولك ، فقد قدمت ما فيه من إفهام أن هشاماً افترى تلك الحكاية انتقاماً من مالك ، وأما قول مالك فلم يصح بل هو باطل . ومن لطائف الأستاذ أنه اقتصر فيما تظاهر به في صدر الحاشية من محاولة تليين الحكاية عن مالك على قوله : (( من انفرادات الساجي ))  وهو يعلم أن زكريا الساجي حافظ ثقة ثبت ، وإن حاول في موضع آخر أن يتكلم فيه كما يأتي في ترجمته إن شاء الله تعالى ، هذا مع جزمه في المتن بقوله : (( لقول مالك فيه )) والحكاية أخرجها الخطيب في ( تاريخ بغداد ) ج 1 ص 223 ، وتعقبها بقوله :

(( فليست بالمحفوظة إلا من الوجه الذي ذكرناه ، وراويها عن إبراهيم بن المنذر غير معروف عندنا )) .

يعني أحمد بن محمد البغدادي ، وبغدادي لا يعرفه الخطيب الذي صرف أكثر عمره في تتبع الرواة البغداديين لا يكون إلا مجهولاً ، فهذا هو المسقط لتلك الحكاية من جهة السند، ويسقطها من جهة النظر أن مالكاً احتج بهشام في " الموطأ " مع أن مالكاً لا يجيز الأخذ عمن جُرب عليه كذب في حديث الناس فكيف الرواية عنه فكيف الاحتجاج به؟! صح عن مالك أنه قال :

(( لا تأخذ العلم من أربعة وخذ ممن سوى ذلك ، لا تأخذ عن سفيه معلن بالسفه وإن كان أروى الناس ، ولا تأخذ عن كذاب يكذب في أحاديث الناس إذا جرب ذلك عليه وإن كان لا يتهم أن يكذب على رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ... ))  أسنده الخطيب في ( الكفاية ) ص 116 وذكره ابن عبد البر في ( كتاب العلم ) كما في ( مختصره ) ص 122 وقال : (( وقد ذكرنا هذا الخبر عن مالك من طرق في كتاب " التمهيد" ... ))  .

وكأن الأستاذ يحاول إثبات أن الأئمة كمالك وابن معين يوثقون الرجل إذا رأوا أنه لا يكذب في الحديث النبوي وإن علموا أنه يكذب في الكلام ، ويحاول أن يدخل في الكلام ما يرويه الثقات مما فيه غض من أبي حنيفة وهكذا ما يرويه أحدهم عن غيره مما فيه غض من أبي حنيفة ولو من بُعد كرواية هشام المذكورة .وعلى هذا فيدخل في الكلام الذي لا يمتنع الأئمة من توثيق الكاذب فيه كل كلام إلا ما فيه إسناد خبر إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ ، ولو- والعياذ بالله – تم هذا للأستاذ لسقطت المرويات كلها ، ويأبى الله ذلك والمؤمنون ، أما السنة فإنها لا تثبت إلا بثقة رواتها ، وتوثيق الأئمة للرواة كلام ليس فيه إسناد خبر إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ ، فإذا كانوا يرون أن الكذب في ذلك لا ينافي الثقة لم نأمن أن يكذبوا فيه ، وتوثيق من بعدهم لهم لا يدفع أن يكونوا يكذبون مثل هذا الكذب بل يجوز أن يكون ذاك التوثيق نفسه كذباً وإن كان قائله ثقة ، وهكذا رواية من بعد الأئمة لكلام الأئمة هي كلام ، وبالجملة فيشمل ذلك سائر كلمات الجرح والتعديل ، والمدح والقدح ، قولها وروايتها ، وحكاية مقتضيها وروايته ، وأما ما عدا السنة من آثار الصحابة والتابعين وغير ذلك فكله كلام .

وسيأتي تمام الكلام في القاعدة الأولى من قسم القواعد إن شاء الله تعالى .

وأما كلام الأستاذ في الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد فسيأتي إن شاء الله تعالى في تراجمهم ويكفي العبارة التي قالها في ( التأنيب ) في معرض الثناء عليهم زعم ، ونقلها في ( الترحيب ) في معرض التبرؤ عن الطعن فيهم . وحقيقة الحال أن الأستاذ يرى أو يتراءى أو يفرض على الناس أن يروا أن منازل الأئمة هي كما يتحصل من مجموع كلامه في
( التأنيب ) ، ويرى أنه قد تفضل على الأئمة الثلاثة وجامل أتباعهم بأن أوهم في بعض عباراته رفعهم عن تلك المنزلة قليلاً ، فلما رآني لم أعتد بذاك الإيهام الفارغ كان أقصى ما عنده أن يوهم الجهال براءته ويفهم العلماء أن تلك منازلهم عنده ، رضوا أم كرهوا . وتمام الكلام في التراجم إن شاء الله تعالى .

 

4- فصل

ذكر الأستاذ في ( التأنيب ) أسباباً اقتضت المنافرة بين الحنفية ومخالفيهم وأطنب في فتنة القول بخلق القرآن ، ثم ذكر في ( الترحيب ) ص 18 - 19 أنه يتحتم علي أن أدرس ملابسات تلك الفتنة ، يريد أن الدعاة إليها كانوا من أتباع أبي حنيفة كبشر المريسى وابن أبي داود ، ونسبوا تلك المقالة إلى أبي حنيفة ، وساعدهم حفيده إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة واستحوذوا على الدولة فسعت في تنفيذ تلك المقالة بكل قواها في جميع البلدان فكان علماء السنة يكلفون بأن يقولوا : إن القرآن مخلوق ، فمن أجاب مظهراً الرضا والاعتقاد صار له منزلة وجاه في الدولة وأنعم عليه بالعطاء وولاية القضاء وغير ذلك ، ومن أبى حرم عطاءه وعزل عن القضاء أو الولاية ومنع من نشر العلم ، وكثير منهم سجنوا ومنهم من جلد ، ومنهم من قتل ، وأسرف الدعاة في ذلك حتى كان القضاة لا يجيزون شهادة شاهد حتى يقول إن القرآن مخلوق ، فإن أبي ردوا شهادته ، ومن أجاب مكرهاً ربما سجنوه وربما أطلقوه مسخوطاً عليه ، وفي كتاب ( قضاة مصر ) طرف من وصف تلك المحنة . فيرى الأستاذ أن ذلك أوغر صدور أصحاب الحديث على أبي حنيفة فكان فيهم من يذمه ومنهم من يختلق الحكايات في ثلبه .

فأقول ليس في ذلك ما يبرر صنيع الأستاذ .

أما أولا فلأن أصحاب الحديث منهم من صرح بأنه لم يثبت عنده نسبة تلك المقالة إلى أبي حنيفة ، كما رواه الخطيب من طريق المروذي عن أحمد بن حنبل ، ومنهم من وقعت له روايات تنسب إلى أبي حنيفة بأن القرآن غير مخلوق ، وتلك الروايات معروفة في
( تاريخ بغداد ) و ( مناقب أبي حنيفة ) وغيرها ، فكيف يظن بهم أن يحملوا على أبي حنيفة ذنباً يرونه بريئاً منه ويخرجوه من صفهم مع عدم استغنائهم عنه إلى صف مخالفهم؟.

وأما ثانياً : فهل يريد الأستاذ أن يستنتج من ذلك أن أصحاب الحديث صاروا كلهم بين سفيه فاجر كذاب ، وأحمق مغفل يستحل الكذب الذي هو في مذهبه من أكبر الكبائر وأقبح القبائح ؟ فليت شعري عند من بقي العلم والدين ؟ أعند الجهمية الذين يعزلون الله وكتبه ورسله عن الاعتداد في عظم الدين وهو الاعتقاديات ويتبعون فيها الأهواء والأوهام ؟ ! يقال لأحدهم قال الله عز وجل ... ، وقال رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ : فتلتوي عنقه ويتقبض وجهه تبرماً وتكرهاً ، ويقال له : قال ابن سينا ... ، فيستوي قاعداً ويسمو رأسه وينبسط وجهه وتتسع عيناه وتصغي أذناه كأنه يتلقى بشرى عظيمة كان يتوقعها . فهل هذا هو الإيمان الذي لا يزيد ولا ينقص يا أستاذ !!

وأما ثالثاً : فإن ما يسميه الأستاذ (( مثالب أبي حنيفة )) أكثرها كان معروفاً قبل المحنة ولهذا احتاج الأستاذ إلى مساورة كبار الأئمة وأركان الدين وجبال الأمة مثل أبي إسحاق إبراهيم بن محمد الفزاري وسفيان بن سعيد الثوري وحماد بن سلمة .

وأما رابعاً : فقد أثبتها في كتبه أو أثبت مقتضاها من عاصر المحنة وعرف ما لها وما عليها كيعقوب بن سفيان والبخاري وهل يتهم البخاري إلا مجنون ؟ .

وأما خامساً : فإن تلك المشادة لم تقتصر على أصحاب الحديث بل كان لأصحاب أبي حنيفة النصيب الأوفر من اختلاق الحكايات في مناقبه ، بل جاوزوا ذلك إلى وضع الأحاديث كحديث : (( يكون في أمتي رجل اسمه النعمان وكنيته أبو حنيفة ، هو سراج أمتي ، هو سراج أمتي ، هو سراج أمتي )) ، وزاد بعضهم فيه (( وسيكون في أمتي رجل يقال له محمد بن إدريس فتنته على أمتي أضر من إبليس )) وتناول الأعاجم هذه الفرية فاختلقوا لها قاعدة طرق وقبلها علماء الحنفية واحتجوا بها ، حتى إن البدر العيني شارح
( صحيح البخاري ) الذي يحاول الأستاذ تفضيله على الحافظ الشهاب ابن حجر ويقول في تفضيل شرحه على ( فتح الباري ) : (( وليس الشهاب كل حين بثاقب ، بينما البدر ملتمع الأنوار من كل جانب )) . ([56]) ذكر العيني تلك الطرق ثم قال : نقله الأستاذ في
( التأنيب ) ص 30 (( فهذا الحديث كما ترى قد روي بطرق مختلفة ( بل مختلقة ) ومتون متباينة ورواة متعددة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فهذا يدل على أن له أصلاً وإن كان بعض المحدثين بل أكثرهم ينكرونه وبعضهم يدعون أنه موضوع ، وربما كان هذا من أثر التعصب ، ورواة الحديث أكثرهم علماء وهم من خير الأمم فلا يليق بحالهم الاختلاق على النبي عليه الصلاة والسلام ... )) .

ولا أدري أأقول هذا مبلغ علم العيني أم مبلغ تعصبه ؟ وقد سعى الأستاذ في تأييد كلام العيني وسيأتي الكلام في ترجمة محمد بن سعيد البورقي إن شاء الله تعالى . والذي تفنن في طرق تلك الفرية هو يونس بن طاهر النضري الملقب شيخ الإسلام ومن جملة رواياته ما ذكر الموفق في ( مناقبه ) ج 1 ص 16 من طريق النضري بسنده (( رأى أبو حنيفة في المنام فارتحل إلى البصرة فسأل محمد بن سيرين عن هذه الرؤيا فقال : لست بصاحب هذه الرؤيا صاحب هذه الرؤيا أبو حنيفة ، فقال : أنا أبو حنيفة ، فقال : اكشف عن ظهرك ، فكشف ، فرأى بين كتفيه خالاً فقال له محمد بن سيرين : أنت أبو حنيفة الذي قال رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يخرج في أمتي رجلٌ يقال له أبو حنيفة بين كتفيه خال يحيى الله على يديه السنة )) ، ولا يخفي ما في ذكر الخال بين الكتفين من المضارعة لخاتم النبوة .

فالأستاذ عافانا الله وإياه يأخذ روايات الحنفية في مناقب أبي حنيفة كأنها مسلمة بل يصرح بأنها متواترة ويتجلد حق التجلد فيدافع عن أحمد بن الصلت كما سيأتي في ترجمته إن شاء الله تعالى ، ويطعن في أئمة الدين كأبي إسحاق إبراهيم بن محمد القزاري وعبد الله ابن الزبير الحميدي وأضرابهما كما يأتي في التراجم إن شاء الله تعالى مع أن ابن الصلت مُجمَع على تكذيبه ، والفزاري والحميدي وجماعة من أضرابهما الذين طعن الأستاذ مجمع على أنهم أثبات . ولا ريب أن في أتباع أصحاب الحديث جهالاً ومغفلين وفجاراً وأنه وقع من هؤلاء الكذب ، ولولا أن الخطيب اجتهد فلم يورد في حكايات الغض ما بان له سقوطه لجاء بالعجب العجاب لكن الجهل في الجانب الآخر أعم وأطم لغلبة الجهل بالسنة ، وقلة الرواية التي يراقب صاحبها ألسنة النقاد صباح مساء ويخاف أن يفقد رأس ماله بكلمة واحدة منهم .

وكان مقتضى الحكمة إتباع ما مضى عليه أهل العلم منذ سبعمائة سنة تقريباً من سدل الستار على تلك الأحوال وتقارض الثناء واقتصار الحنفية في بعض المناسبات على التألم من الخطيب بأنه أورد حكايات لا تصح ، فيقتصرون على هذا الإجمال ونحوه ولا يطعنون في الخطيب ولا في راوٍ بعينه ويعوضون أنفسهم بالاستكثار من روايات المناقب ، فإن جاوز بعضهم ذلك فعلى قدر ومراعاة للجانب الآخر ، فليت الأستاذ اكتفى بما يقرب من ذلك وطوى الثوب على غرة ، فإن أبت نفسه إلا بعثرة القبور فليتحر الحق إما تديناً ظن وإما علماً بأن في الناس بقايا وفي الزوايا خبايا أما أنا فقدمت بيان مقصودي ولا شأن لي بما عداه ولو ألجئت إلى نقد الروايات من الجانبين لتحريت الحق إن شاء الله تعالى ، وذلك بالنظر في أحوال الرواة من الفريقين فمن وثقه أهل العلم فلا بد من قبوله ، ولا يعد ميله إلى أبي حنيفة ولا انحرافه عنه مسوغاً لاتهامه بالكذب ، كما سيأتي في قاعدة التهمة إن شاء الله تعالى ، ولا يلزم من ثقته بنفسه توجه الذم ولا تحقق المدح لما تقدم في الفصل الثاني ، كما لا يلزم من اتجاه عدم قبول المروي سقوط رجال السند كلهم ، بل ولا سقوط المتفرد به وإن كان من فوقه في السند كلهم ثقات أثباتاً لاحتمال الخطأ والغلط والتأويل وغير ذلك كما يعترف الأستاذ ، نعم قد لا يكون مساغ لشيء من ذلك ويتحقق البطلان لكن الحكم بمثل هذا يحتاج إلى معرفة بالغة وإطلاع واسع ؛ وصدر غني بعيد عن الهوى . وسترى في التراجم ما ترى إن شاء الله تعالى .


5- فصل

الأستاذ من أهل الرأي ، ويظهر أنه من غلاة المقلدين في فروع الفقه ، ومن مقلدي المتكلمين ، ومن المجارين لكتاب العصر إلى حد ما وكل واحدة من هذه الأربع تقتضي قلة مبالاة بالمرويات ، ودربة على التمحل في ردها ، وجرأة على مخالفتها واتهام رواتها .

أما أهل الرأي فهذه بدايتهم في ( الصحيح ) عن أبي هريرة قال : (( إنكم تزعمون أن أبا هريرة يكثر الحديث عن رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والله الموعد ، إني كنت امرءاً مسكيناً أصحب رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ على ملء بطني وكان المهاجرون يشغلهم الصفق بالأسواق ، وكانت الأنصار يشغلهم القيام على أموالهم ... )) ومن تتبع لسيرة والسنة علم أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ كانة ربما يقضي بالقضية أو يحدث بالحديث أو يفتي في مسالة وليس عنده من أصحابه إلا الواحد أو الاثنان ، ثم كان معظم أصحابه لا يحدثون بالحديث عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ إلا عندما تدعو الحاجة، ومن لازم ما تقدم مع احتمال نسيان بعضهم أو موته قبل أن يخبر بالحديث أن يكون كثير من السنن ينفرد بسماعها أو بحفظها أو بروايتها آحاد الصحابة ، ثم تفرق الصحابة في الأقطار فمنهم من هو في باديته ومنهم من صار إلى الشام والعراق ومصر واليمن ، فكان عند أهل كل جهة أحاديث من السنة لم تكن عند غيرهم في أول الأمر – كما روي عن مالك – ثم اجتهد أصحاب الحديث في جمع السنة من كل وجه . وقد علم من الشريعة أنه ليس على العالم الإحاطة بالعلم كله ، وأن من شهد له أهل العلم بأنه عالم ، فإنما عليه إذا احتاج إلى قضاء أو فتوى أن ينظر في كتاب الله عز وجل وفيما يعلمه من السنة ، فإن لم يجد فيهما النص على تلك المسألة سأل من يسهل عليه ممن يرجو أن يكون عنده دليل فإن لم يجد وعرف أن لبعض الصحابة قولاً في تلك المسألة لم يعلم له مخالفاً أخذ به وإن علم خلافاً رجح ، فإن لم يجد قول صحابي ووجد قول تابعي ممن تقدمه لم يعلم له مخالفاً فيه أخذ به وإن علم خلافاً رجح .

وكان الغالب في الترجيح أن يرجح العالم قول من كان ببلده من الصحابة أو التابعين لمزيد معرفته بهم المقتضية لزيادة الوثوق هذا مع ما للإلف والعادة من الأثر الخفي. فإن لم يجد شيئاً مما تقدم اجتهد رأيه وقضى وأفتى بما يظهر له .

ثم إذا قضى أو أفتى مستنداً إلى شيء مما تقدم ثم وجد دليلاً أقوى مما استند إليه يخالف ما ذهب إليه سابقاً أخذ من حينئذ بالأقوى . على هذا جرى الخلفاء الراشدون وغيرهم كما هو مبسوط في مواضعه ومنها ( إعلام الموقعين ) .

وكان كثير من أهل العلم من الصحابة وغيرهم يتقون النظر فيما لم يجدوا فيه نصاً ، وكان منهم من يتوسع في ذلك ، ثم نشأ من أهل العلم ولا سيما بالكوفة من توسع في ذلك ، وتوسع في النظر في القضايا التي لم تقع وأخذوا يبحثون في ذلك ويتناظرون ويصرفون أوقاتهم في ذلك ، واتصل بهم جماعة من طلبة العلم تشاغلوا بذلك ورأوه أشهى لأنفسهم وأيسر عليهم من تتبع الرواة في البلدان والإمعان في جمع الأحاديث والآثار ، ومعرفة أحوال الرواة وعاداتهم والإمعان في ذلك ليعرف الصحيح من السقيم والصواب من الخطأ والراجح من المرجوح ، ويعرف العام والخاص والمطلق والمبين وغير ذلك ، فوقعوا فيما روي عن عمر بن الخطاب رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنه قال : (( إياكم والرأي فإن أصحاب الرأي أعداء السنن ، أعيتهم الأحاديث أن يعوها وتفلتت منهم أن يحفظوها فقالوا في الدين برأيهم )) راجع ( أعلام الموقعين ) طبعة مطبعة النيل بمصر ج 1 ص 62 وراجع ( كتاب العلم ) لابن عبد البر .

فوقع فيما ذهبوا إليه وعملوا به وأفتوا مسائل ثبتت فيها السنة مخالفة لما ذهبوا إليه ، لم يكونوا اطلعوا عليها ، فكان الحديث من تلك الأحاديث إذا بلغهم فيه لمخالفتهم ما ذهب إليه أسلافهم واستمر عليه عملهم ورأوا أنه هو الذي يقتضيه النظر المعقول ( القياس) ، فمن تلك الأحاديث ما كان من الثبوت والصراحة بحيث قهرهم فلم يجدوا بداً من الأخذ به ، وكثير منها كانوا يردونها ويتلمسون المعاذير مع أن منها ما هو أثبت وأظهر وأقرب إلى القياس من أحاديث قد أخذوا بها لكن هذه التي أخذوا بها مع ما فيها من الضعف ومخالفة القياس وردت عليهم قبل أن يذهبوا إلى خلافها فقبلوها اتباعاً ، وتلك التي ردوها مع قوة ثبوتها إنما بلغتهم بعد أن استقر عندهم خلافها واستمروا على العمل بذلك ومضى عليه أشياخهم ربما أخذوا بشيء من النقل ثم بلغهم من السنة ما يخالفه أن ينظروا كما ينظر أئمة الحديث لمعرفة الصحيح من السقيم والخطأ من الصواب والراجح من المرجوح فقنعوا بالرأي كما ترى أمثلة لذلك في قسم الفقهيات ولا سيما في مسألة ما تقطع فيه يد السارق . وهذا ديدنهم وعليه يعتمد الطحاوي وغيره منهم .

ولهذا بينما تجد الحنفية يتبجحون بأن مذهب أبي حنيفة وسائر فقهاء العراق تقديم الحديث الضعيف على القياس . وقد ذكر الأستاذ ذلك في ( التأنيب ) ص 161 ، إذا بهم يردون كثيراً من الأحاديث الصحيحة لمخالفتها آراء سلفهم وآراءهم التي أخذوا بها ، وقد كان الشافعي ينعى عليهم ذلك ، ومن كلامه كما في ( سنن البيهقي ) ج 1 ص 148 : (( والذي يزعم أن عليه الوضوء في القهقهة يزعم أن القياس أن لا ينتقض ولكنه يتبع الآثار، فلو كان يتبع منها الصحيح المعروف كان بذلك عندنا حميداً ، ولكنه يرد منها الصحيح الموصول المعروف ويقبل الضعيف المنقطع )) .

فالحنفية يعرفون شناعة رد السنة بالرأي ولكنهم يتلمسون المعاذير فيحاولون استنباط أصول يمكنهم إذا تشبثوا بها أن يعتذروا عن الأحاديث التي ردوها بعذر سوى مخالفة القياس وسوى الجمود على إتباع أشياخهم ، ولكن تلك الأصول مع ضعفها لا تطرد لهم لأن أشياخهم قد أخذوا بما يخالفها ولهذا يكثر تناقضهم ، وفي مناظرات الشافعي لهم كثير من بيان تناقضهم بل من تدبر ما كتبوه في أصول الفقه بأن له كثير من التناقض، كما ترى المتأخر منهم يخالف المتقدم حتى أن الأستاذ الكوثري ذكر في ( التأنيب ) ص 152 – 153 عدة أصول لمحاربة السنن الثابتة ومنها ما خالف فيه من تقدمه منهم ، ولما تعقبته في ( الطليعة ) ص 102 في قوله : (( عنعنة قتادة متكلم فيها )) بأن الحديث في
( صحيح البخاري ) وفيه (( حدثنا قتادة حدثنا أنس ... )) وفي مسند أحمد وفيه (( أن قتادة أن أنساً أخبره ... )) أجاب في ( الترحيب ) ص 49 بقوله من مذهب أبي حنيفة أيضاً كما يقول ابن رجب في ( شرح علل الترمذي ) رد الزائد إلى الناقص في الحديث متناً وسنداً . وهذا احتياط بالغ في دين الله ... فهل عرفت الآن يا معلمي مذهب الإمام لتقلع عن نسج الأوهام )) .

هذا والأستاذ يعلم أولاً أن النسبة إلى أبي حنيفة لا يكفي في إثباتها قول رجل حنبلي بينه وبين أبي حنيفة عدة قرون !

ويعلم ثانياً ما في كتب مذهبه مما يخالف هذا .

ويعلم ثالثاً أن قول الراوي : (( قتادة عن أنس )) وقوله مرة أخرى أو قول غيره :
(( قتادة حدثنا أنس )) ومرة أخرى : (( قتادة أن أنساً أخبره )) ليس من باب النقص والزيادة وإنما هو من باب المحتمل والمعين أو المجمل والمبين .

ويعلم رابعاً أن أصل الحنفية الاحتجاج بالمنقطع ، فما لم يتبين انقطاعه بل هو متردد بين الاتصال والانقطاع أولى ، فإذا ثبت مع ذلك اتصاله من وجه آخر فأكد .

ويعلم خامساً أنه لا ينبغي له أن يدافع عن نفسه بإلقاء التهم على إمامه .

فأما الاحتياط البالغ في دين الله الذي يموه به الأستاذ فالتحري البالغ الذي سبق ما فيه في الفصل الثالث فلا نعيده .

هذا وحديث الرضخ سيأتي بسط الكلام فيه في الفقهيات إن شاء الله تعالى .

والمقصود هنا أن أصحاب الرأي لهم عادة ودربة في دفع الروايات الصحيحة ومحاولة القدح في بعض الرواة حتى لم يسلم منهم الصحابة رضي الله عنهم ، على أن الأستاذ لم يقتصر على كلام أسلافه وما يقرب منه بل أربى عليهم جميعاً كما تراه في ( الطليعة ) ويأتي بقيته في التراجم إن شاء الله تعالى .

وأما غلاة المقلدين فأمرهم ظاهر وذلك أن المتبوع قد لا تبلغه السنة وقد يغفل عن الدليل أو الدلالة وقد يسهو أو يخطئ أو يزل ، فيقع في قول تجيء الأحاديث بخلافة فيحتاج مقلدوه إلى دفعها والتمحل في ردها ولو اقتصر الأستاذ على نحو ما عرف عنهم لهان الخطب ، ولكنه يعد غلوهم تقصيراً . !

وأما المتكلون فأول من بلغنا أنه في ذلك عمرو بن عبيد ، ذكر له حديث يخالف .

هواه ، رواه الأعمش عن زيد بن وهب عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال عمرو (( لو سمعت الأعمش يقول هذا لكذبته ، ولو سمعته من زيد بن وهب لما صدقته ولو سمحت ابن مسعود يقوله لما قبلته ، ولو سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول هذا لرددته ، ولو سمعت الله - عز وجل - يقول هذا لقلت : ليس على هذا أخذت ميثاقنا )) ([57]) وتعدى إلى القرآن فقال في ] تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [ وقوله تعالى ] ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً [ . (( لم يكونا في اللوح المحفوظ )) كأنه يريد أن الله تبارك وتعالى لم يكن يعلم بما سيكون من أبي لهب ومن الوحيد . ثم كان في القرن الثاني جماعة ممن عرف بسوء السيرة والجهل بالسنة ورقة الدين كثمامة بن أشرس والنظام والجاحظ خاضوا في ذلك كما أشار إليه ابن قتيبة وغيره ، وجماعة آخرون كانوا يتعاطون الرأي والكلام يردون الأخبار كلها ، وآخرون يريدون أخبار آحاد أي ما دون المتواتر ، كسر الله تعالى شوكتهم بالشافعي حتى أن شيوخه ومن في طبقتهم من الأكابر كيحيى بن سعيد القطان وعبد الرحمن بن مهدي انتفعوا بكتبه قال الشافعي في ( الأم ) ج 7 ص 250 (( باب حكاية قول الطائفة التي ردت الأخبار كلها )) ثم ذكر مناظرته لهم . ثم قال بعد ذلك (( باب حكاية قول من رد خبر الخاصة )) فذكر كلامه معهم . وبسط الكلام في ذلك في ( الرسالة ) ، وفي ( كتاب اختلاف الحديث ) .

ثم كانت المحنة وويلاتها وكان دعاتها لا يجرؤون على رد الحديث وسيأتي في ترجمة علي بن عبد الله بن المديني بعض ما يتعلق بذلك ، ثم جاء محمد بن شجاع بن الثلجي فلم يجرؤ على الرد وإنما لفق ما حاول به إسقاط حماد بن سلمة كما يأتي في ترجمة حماد إن شاء الله تعالى ، وجمع كتاباً تكلف فيه تأويل الأحاديث وتبعه من الأشعرية ابن فورك في كتابه المطبوع ثم اشتهر بين المتكلمين أن النصوص الشرعية من الكتاب والسنة لا تصلح حجة في صفات الله عز وجل ونحوها من الاعتقاديات وصرحوا بذلك في كتب الكلام والعقائد كالمواقف وشرحها ، والأمر أشد من ذلك كما يأتي في الاعتقاديات إن شاء الله تعالى . والأستاذ يدين بالكلام ويتشدد . ومع هذا كله فغالب أصحاب الرأي وغلاة المقلدين وأكثر المتكلمين لم يقدموا على اتهام الرواة الذين وثقهم أهل الحديث ، وإنما يحملون على الخطأ والغلط والتأويل وذلك معروف في كتب أصحاب الرأي والمقلدين ، أما الأستاذ فبرز على هؤلاء جميعاً !

وأما كتاب العصر فإنهم مقتدون بكتاب الإفرنج الذين يتعاطون النظر في الإسلاميات ونحوها وهم مع ما في نفوسهم من الهوى والعداء للإسلام إنما يعرفون الدواعي إلى الكذب ولا يعرفون معظم الموانع منه .

فمن الموانع التدين والخوف من رب العالمين الذي بيده ملكوت الدنيا والآخرة وقد قال سبحانه ] إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ [ وفي ( الصحيح ) عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (( علامة المنافق ثلاث وإن صام وزعم أنه مسلم إذا حدث كذب وإذا أتمن خان وإذا وعد اخلف )) وأخلاف الوعد أغلب ما يكون إذا كان الوعد كذباً ، والخيانة تعتمد الكذب كما لا يخفى .

وقال أبو بكر الصديق (( الكذب مجانب للإيمان )) ([58]) فأما توهم حل الكذب في مصلحة الدين فلا يكون إلا من أجهل الناس وأشدهم غفلة لأن خظر الكذب مطلقاً هو من أظهر الأحكام الشرعية . وأولئك الكتاب لا يعرفون هذا المانع لأنهم لا يجدونه في أنفسهم ولا يجدون فيمن يخالطونه من تقهرهم سيرته على اعتقاد اتصافه بهذا المانع لضعف الإيمان في غالب الناس ورقة التدين . ولا يعرفون من أحوال سلف المسلمين ما يقهرهم على العلم باتصافهم بذلك المانع لأنهم إنما يطالعون التواريخ وكتب الأدب ك‍ ( الأغاني ) ونحوها وهذه الكتب يكثر فيها الكذب والحكايات الفاجرة كان فجرة الإخباريين يضعون تلك الحكايات لأغراض منها دفع الملامة عن أنفسهم - يقولون ليس هذا العيب خاصاً بنا بل كان من قبلنا كذلك حتى المشهورون بالفضل . ومنها ترويج الفجور والدعاية إليه ليكثر أهله فيجد الداعي مساعدين عليه ويقوي عذره . ومنها ترغيب الأمراء والأغنياء في الفجور وتشجيعهم عليه ليجد الدعاة المتأدبون مراعي خصبة يتمتعون فيها بلذاتهم وشهواتهم . ومنها التقرب إلى الأمراء والأغنياء بالحكايات الفاجرة التي يلذ لهم سماعها إلى غير ذلك . وما يوجد في تلك الكتب من الصدق إنما يصور طائفة مخصوصة كالأمراء المترفين والشعراء والأدباء ونحوهم . ولو عكف أولئك الكتاب على كتب السنة ورجالها وأخبارهم لعلموا أن هذه الطائفة وهي طائفة أصحاب الحديث كان ذلك المانع غالباً فيهم . وقد احتج بعضهم بما في ( الأغاني ) في أخبار عمر بن أبي ربيعة من طريق عبد العزيز بن أبي ثابت ( وهو عبد العزيز بن عمران ) عن محمد بن عبد العزيز عن ابن أبي نهشل عن أبيه قال قال لي أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث ابن هشام ... )) ولو راجع تراجم هؤلاء في كتب رجال الحديث وفكر في أحوالهم وفي حال القصة لعلم بطلان القصة حتماً .

ومن الموانع خوف الضرر الدنيوي ، وأولئك الكتاب يعرفون شرط هذا المانع وهو الضرر المادي فإنهم يعلمون أن أرباب المصانع والمتاجر الكبيرة يتجنبون الخيانة والكذب في المعاملات خوفاً من أن يسقط اعتماد المعاملين عليهم فيعدلوا إلى معاملة غيرهم . بل أصحاب المصانع والمتاجر الصغيرة يجرون على ذلك غالباً وإلا لكانت الخصومات مستمرة في الأسواق بل لعلها تتعطل الأسواق فليتدبر القارئ ذلك . فأما الشطر المعنوي فإن أولئك الكتاب لا يقدرون قدره فأقول : كان العرب يحبون الشرف ويرون أن الكذب من أفحش العيوب المسقطة للرجل وفي أوائل ( صحيح البخاري ) في قصة أبي سفيان بن حرب أن هرقل لما جاءه كتاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم دعا بمن كان بالشام من تجار قريش فأتى بأبي سفيان ورهط معه قال (( ثم دعاهم ودعا ترجمانه وقال : إيكم أقرب نسباً بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي ؟ قال أبو سفيان : قلت : أنا أقربهم نسباً ، قال أدنوه مني وقربه أصحابه فجعلوهم عند ظهره ، ثم قال لترجمانه : قل لهم أني سائل هذا عن هذا الرجل فأن كذبني فكذبه قال : فوالله لولا الحياة من أن يأثروا عليَّ كذباً لكذبت عليه قال ابن حجر في (( فتح الباري )) : وفي قوله يؤثر دون قوله يأثروا دليل دون قوله يكذبوا دليلاً على أنه كان واثقاً منهم بعدم التكذيب أن لو كذب لاشتراكهم معه في عداوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لكنه ترك ذلك استحياءً وآنفة  من أن يتحدثوا بعد أن يرجعوا فيصير عند سامعي ذلك كذاباً وفي رواية ابن أسحق التصريح بذلك )) أقول وهذا هو الذي أرادوه هرقل ثم جاء الإسلام فشدد في  تقبيح الكذب جداً حتى قال الله عز وجل ] إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ [ وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن رجلاً كذب عليه فبعث علياً والزبير وقال (( أذهبا فان أدركتماه فاقتلأه )) . ([59])

وتوهم رجل من صغار الصحابة أمراً وأخبره بما توهمه وما يقتضيه ففضحه الله عز وجل إلى يوم القيامة إذ أنزل فيه ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا [ ، ثم كان الصحابي يرى إكرام التابعين له وتوقيرهم ويبجلهم ما لا يخفي أثره على النفس ويعلم أنه إن بان لهم من أنه كذب كذبة سقط من عيونهم ومقتوه واتهموه بأنه لم يكن مؤمناً وإنما كان منافقاً وقد كان بين الصحابة ما ظهر وأشتهر من الاختلاف والقتال ودام ذلك زماناً ولم يبلغنا عن أحد منهم أنه رمى مخالفه بالكذب في الحديث ، وكان التابعون إذا سمعوا حديثاً من صحابي سألوا عنه غيره من الصحابة ولم يبلغنا إن أحداً منهم كذب صاحبه غاية الأمر أنه قد يخطئه ، وكان المهلب بن أبي صفرة في محاربته الأزارقة يعمل بما رخص فيه للمحارب من التورية الموهمة فعاب الناس عليه ذلك حتى قيل فيه :

أنت الفتى كل الفتى         لو كنت تصدق ما تقول

ثم كان الرجل ما أصحاب الحديث يرشح لطلب الحديث وهو طفل ، ثم ينشأ دائباً في الطلب والحفظ والجمع ليلاً ونهاراً ويرتحل في طلبه إلى أقاصي البلدان ويقاسى المشاق الشديدة كما هو معروف في أخبارهم ويصرف في ذلك زهرة عمره إلى نحو ثلاثين أو أربعين سنة وتكون أمنيته الوحيدة من الدنيا أن يقصده أصحاب الحديث ويسمعوا منه ويرووا عنه ، وفي ( تهذيب التهذيب ) ج 11ص 183 (( قال عبد الله بن محمود المروزي: سمعت يحيى بن أكثم يقول : (( كنت قاضياً وأميراً ووزيراً ما ولج سمعي أحلى من قول المستملي ([60]) من ذكرت ؟ رضي الله عنك )) وفيه ج 6 ص 314 : (( روي عن عبد الرزاق أنه قال : حججت فمكثت ثلاثة أيام لا يجبيثني أصحاب الحديث فتعلقت بالكعبة وقلت: يا رب مالي أكذاب أنا ؟ أمدلس أنا ؟ فرجعت إلى البيت فجاءوني )) وقد علم طالب الحديث في أيام طلبه تشدد علماء الحديث وتعنتهم وشدة فحصهم وتدقيقهم حتى إن جماعة من أصحاب الحديث ذهبوا إلى شيخ ليسمعوا منه فوجدوه خارج بيته يتبعوا بغلة له قد انفلتت يحاول إمساكها وبيده مخلاة يريها البغلة ويدعوها لعلها تستقر فيمسكها فلاحظوا أن المخلاة فارغة فتركوا الشيخ وذهبوا وقالوا أنه كذاب كذب على البغلة بإيهامها أن المخلاة شعيراً والواقع أنه ليس فيها شيء . وفي ( تهذيب التهذيب ) ج 11ص 284 (( وقال هارون بن معروف : قدم علينا بعض الشيوخ من الشام فكنت أول من بكر عليه فسألته أن يملي علي شيئاً فأخذ الكتاب يملي فإذا بإنسان يدق الباب فقال الشيخ من هذا ؟ .. فإذا بآخر يدق الباب قال الشيخ من هذا ؟ قال : يحيى بن معين ، فرأيت الشيخ ارتعدت يده ثم سقط الكتاب من يده . وقال جعفر الطيالسي عن يحيى بن معين : (( قدم علينا عبد الوهاب ابن عطاء فكتب إلى أهل البصرة : وقدمت بغداد وقبلني يحيى ابن معين والحمد لله ))

فمن تدبر أحوال القوم بأن له أنه ليس العجب ممن تحرز عن الكذب منهم طول عمره وإنما العجب ممن اجترأ على الكذب ، كما أنه من تدبر كثره ما عندهم من الرواية وكثرة ما يقع من الالتباس والاشتباه وتدبر تعنت أئمة الحديث بأن له أنه ليس العجب ممن جرحوه بل العجب ممن وثقوه .

ومن العجب أن أولئك الكتاب يلاحظون الموانع في عصرهم هذا بل في وقائعهم اليومية فيعلمون من بعض أصحابهم أنه صدوق فيثقوه بخبره ولو كان مخالفاً لبعض ما يظهر لهم من القرآن  بحيث لو كان المدار على القرائن لكان الراجح خلاف ما في الخبر ، ويعرفون آخر بأنه لا يتحرز عن الكذب فيرتابون في خبره ولو ساعدته قرائن لا تكفي وحدها لحصول الظن ، وهكذا يصنعون في أخبار مكاتبي الصحف وفي الصحف أنفسها فمن الصحف ما تعود الناس منها أنها لا تكاد تنقل إلا الأخبار الصحيحة فيميلون إلى الوثوق بما يقع فيها وإن خالف القرائن ، وفيها ما هو على خلاف ذلك . وبالجملة فلا يرتاب عاقل أن غالب مصالح الدنيا قائمة على الأخبار الظنية ، ولو التزام الناس أن لا يعملوا بخبر من عرفوا أنه صدوق حتى توجد قرائن تغني في حصول الظن عن خبره لاستغنوا عن الأخبار بل لفسدت مصالح الدنيا . ولست أجهل ولا أجحد ما في طريقة الكتاب من الحق ولكني أقول : ينبغي للعاقل أن يفكر في الآراء التي يتظناها العقلاء في عصرهم نفسه بناء على العلامات والقرائن أليس يكثر فيها الخطأ ؟ هذا مع تيسر معرفتهم بعصرهم وطباع أهله وأغراضهم وسهولة الإطلاع على العلامات والقرائن ، فما أكثر ما يقع لأحدنا كل يوم من الخطأ يتراءى أن القرائن والأمارات تقتضي وقوع العمر ثم لا يقع ، وتقتضي أن لا يقع ، ثم يقع ، فما بالك بالأمور التي مضت عليها قرون ولا سيما إذا لم يتهيأ للناظر تتبع ما يمكن معرفته من القرائن والأمارات ولم يلاحظ الموانع ، فأما إذا كان له هوى فالأمر أوضح . والناظر إنما يشتد حرصه على الإصابة في القضايا العصرية لأنه يخشى انكشاف الحال فيها على خلاف ما زعم ، فأما التي مضت عليها قرون والباحثون عنها قليل فإنه لا يبالي ، اللهم إلا أن يكون متديناً محترساً من الهوى ، على أن الأستاذ لم يخلص لطريقة الكتاب بل كثيراً ما يرمي بالقرائن القوية والدلالات الواضحة خلف ظهره ويحاول اصطناع خلافها وسد الفراغ بالتهويل والمغالطة كما سترى أمثلة من ذلك في هذا الكتاب وأسال الله لي وله التوفيق .


القسم الأول في القواعد

 

1- رمي الراوي بالكذب في غير الحديث النبوي

تقدم في الفصل الثالث قول مالك (( لا تأخذ العلم من أربعة وخذ ممن سوى ذلك، لا تأخذ عن معلن بالسفه وإن كان أروى الناس ، ولا تأخذ عن كذاب يكذب في حديث الناس إذا جرب عليه ذلك وإن كان لا يتهم أن يكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ... )) أسنده الخطيب في ( الكفاية ) ص 116 إلى مالك كما تقدم ثم قال ص 117 (( باب في أن الكاذب في غير حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ترد روايته - قد ذكرنا آنفاً قول مالك بن أنس . ويجب أن يقبل حديثه إذا ثبت توبته )) ولم يذكر ما يخالف مقالة مالك . وأسند ص 23 -24 إلى الشافعي (( ... ولا تقوم الحجة بخير الخاصة حتى يجمع أموراً منها أن يكون من حدث به ثقة في دينه معروفاً بالصدق في حديثه ... )) وهذه العبارة ثابتة في رسالة الشافعي .

وفي (( لسان الميزان )) ج 1 ص 469 : (( قال ابن أبي حاتم عن أبيه أن يحيى بن المغيرة سأل جريراً ( ابن عبد الحميد ) عن أخيه أنس فقال : قد سمع من هشام بن عروة ولكنه يكذب في حديث الناس فلا يكتب عنه )) وفي ( النخبة وشرحها ) :(( ثم الطعن ) يكون بعشرة أشياء ... ترتيبها على الأشد فالأشد في موجب الرد على سبيل التدلى ... ) ( إما أن يكون بكذب الراوي ) في الحديث النبوي ... متعمداً لذلك ( أو تهمته بذلك ) بأن لا يروي ذلك الحديث إلا من جهته ويكون مخالفاً للقواعد المعلومة ، وكذا من عرف بالكذب في كلامه وإن لم يظهر منه وقوع ذلك في الحديث النبوي ، وهو دون الأول . ( أو فحش غلطه ) أي كثرته ( أو غفلته ) عن الإتقان ( أو فسقه ) ... ( أو وهمه ) بأن يروي علي سبيل التوهم ( أو مخالفته ) أي الثقات ( أو جهالته ) ... ( أو بدعته ) ...
( أو سوء حفظه ) ... ))

هذه النقول تعطي أن الكذب في الكلام ترد به الرواية مطلقاً وذلك يشمل الكذبة الواحدة التي لا يترتب عليها ضرر ولا مفسدة وقد ساق صاحب ( الزواجر ) الأحاديث في التشديد في الكذب ثم قال ج2 ص 169(( عد هذا هو ما صرحوا به قيل لكنه مع الضرر ليس كبيرة مطلقاً بل قد يكون كبيرة كالكذب على الأنبياء وقد لا يكون - انتهى - وفيه نظر بل الذي يتجه أنه حيث اشتد ضرره بأن لا يحتمل عادة كان كبيرة بل صرح الروياني في ( البحر ) بأنه كبيرة وان لم يضر فقال : من كذب قصداً ردت شهادته وإن لم يضر بغيره لأن الكذب حرام بكل حال . وروى فيه حديثاً . وظاهر الأحاديث السابقة أو صريحها يوافقه وكأن وجه عدو لهم ذلك ابتلاء أكثر الناس به فكان كالغيبة على ما مر فيها عند جماعة )) .

أقول لا يلزم من التسامح في الشاهد أن يتسامح في الراوي لوجوده :

الأول : أن الرواية أقرب إلى حديث الناس من الشهادة فإن الشهادة تترتب على خصومة ويحتاج الشاهد إلى حضور مجلس الحكم ويأتي باللفظ الخاص الذي لا يحتاج إليه في حديث الناس ويتعرض للجرح فوراً ، فمن جربت عليه كذبة في حديث الناس لا يترتب عليها ضرر فخوف أن يجره تساهله في ذلك إلى التساهل في الرواية أشد من خوف أن يجره إلى شهادة الزور .

الثاني : أن عماد الرواية الصدق ومعقول أن يشدد فيها فيما يتعلق به ما لم يشدد في الشهادة وقد خفف في الرواية في غير ذلك ما لم يخفف في الشهادة ، تقوم الحجة بخبر الثقة ولو واحداً أو عبداً أو امرأةً أو جالب منفعة إلى نفسه أو أصله أو فرعه أو ضرر على عدوه كما يأتي بخلاف الشهادة ، فلا يليق بعد ذلك أن يخفف في الرواية فيما يمس عمادها .

الثالث : أن الضرر الذي يترتب على الكذب في الرواية أشد جداً من الضرر الذي يترتب على شهادة الزور فينبغي أن يكون الاحتياط للرواية أكد وقد أجاز الحنفية قبول شهادة الفاسق دون روايته ، والتخفيف في الرواية بما تقدم من قيام الحجة بخبر الرجل الواحد وغير ذلك لا ينافي كونها أولى بالاحتياط لأن لذلك التخفيف حكماً أخرى ، بل ذلك يقتضي أن لا يخفف فيها فيما عدا ذلك فتزداد تخفيفاً على تخفيف .

الرابع : أن الرواية يختص لها قوم ، محصورون ينشأون على العلم والدين والتحرز عن الكذب ، والشهادة يحتاج فيها إلى جميع الناس لأن المعاملات والحوادث التي يحتاج إلى الشهادة عليها تتفق لكل أحد ولا يحضرها غالباً إلا أوساط الناس وعامتهم الذين ينشأون على التساهل فمعقول أنه لو ردت شهادة كل من جربت عليه كذبة لضاعت حقوق كثيرة جداً : ، ولا كذلك الرواية . نعم الفلتة والهفوة التي لا ضرر فيها ويعقبها الندم ، وما يقع من الإنسان في أوائل عمره ثم يقلع عنه ويتوب منه وما يدفع به ضرر شديد ولا ضرر فيه وصاحبه مع ذلك مستوحش منه ربما يغتفر . والله أعلم .

فأما الكذب في رواية ما يتعلق بالدين ولو غير الحديث فلا خفاء في سقوط صاحبه، فإن الكذب في الرواية أثر عن صحابي قد يترتب عليه أن يحتج بذلك الأثر من يرى قول الصحابي حجة ، ويحتج هو وغيره به على أن مثل ذلك القول ليس خرقاً للإجماع ، ويستند إليه في فهم الكتاب والسنة ، ويرد به بعض أهل العلم حديثاً رواه ذاك الصحابي يخالفه ذلك القول ويأتي نحو ذلك في الكذب في رواية قول عن التابعي ،أو عالم ممن بعده، وأقل ما في ذلك أن يقلده العامي . وهكذا الكذب في رواية تعديل لبعض الرواة فإنه يترتب عليه قبول أخبار ذلك الرواي وقد يكون فيها أحاديث كثيرة فيترتب على هذا من الفساد أكثر مما يترتب على كذب في حديث واحد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وكذلك الكذب في رواية الجرح فقد يترتب عليها إسقاط أحاديث كثيرة صحيحة وذلك أشد من الكذب في حديث واحد . وهكذا الإخبار عن الرجل بما يقتضي جرحه . وهكذا الكذب في الجرح والتعديل كقوله (( هو ثقة )) (( هو ضعيف )) فالكذب في هذه الأبواب في معنى الكذب في الحديث النبوي أو قريب منه وتترتب عليه مضار شديدة ومفاسد عظيمة فلا يتوهم محل للتسامح فيه على فرض أن بعضهم تسامح في بعض ما يقع { في } حديث الناس .

فالأستاذ يرمي بعض أئمة السنة فمن دونهم من ثقات الرواة بتعمد الكذب في الرواية وفي الجرح والتعديل كذبا يترتب عليه الضرر الشديد والفساد الكبير ثم يزعم أنه إنما يقدح بذلك فيما لا يقبله هو منهم فأما ما عداه فإنهم يكونون فيه مقبولين كذا يقول([61]) وكأنه يقول : وإذا لزم أن يسقطوا البتة فليسقطوا جميعاً . وليت شعري من الذي يعادي أبا حنيفة أمن يقتضي صنيعه أنه لا يمكن الذب عنه إلا بمثل هذا الباطل أم من يقول: يمكن المتحري للحق أن يذب عنه بدون ذلك ؟

تنبيــه :

ليس من الكذب ما يكون الخبر ظاهراً في خلاف الواقع محتملاً للواقع احتمالاً قريباً وهناك قرينة تدافع ذاك الظهور بحيث إذا تدبر السامع صار الخبر عنده محتملاً للمعنيين على السواء كالمجمل الذي له ظاهر ووقت العمل به لم يجيء ، وكالكلام المرخص به في الحرب ، وكالتدليس فإن المعروف بالتدليس لا يبقى قوله : (( قال فلان )) ويسمى شيخاً له ظاهراً في الاتصال بل يكون محتملاً ، وهكذا من عرف بالمزاج إذا مزج بكلمة يعرف الحاضرون أنه لم يرد بها ظاهرها وإن كان فيهم من لا يعرف ذلك إذا كان المقصود ملاطفته أو تأديبه على أن ينبه في المجلس ، وهكذا فلتأت الغضب ، وكلمات التنفير عن الغلو وقد مرت الإشارة إليها في الفصل الثاني ، على فرض أنه وقع فيها ما يظهر منه خلاف الواقع وقد بسطت هذه الأمور وما يشبهها في رسالتي في أحكام الكذب فأما الخطأ والغلط فمعلوم أنه لا يضر وإن وقع في رواية الحديث النبوي فإذا كثر وفحش من الراوي قدح في ضبطه ولم يقدح في صدقه وعدالته . والله الموفق .

 

2- التهمة بالكذب

تقدم أن أشد موجبات ردُّ الراوي كذبه في الحديث النبوي ، ثم تهمته بذلك ، وفي درجتها كذبة في غير الحديث النبوي ، فإذا كان في الرواية والجرح والتعديل بحيث يترتب عليه من الفساد نحو ما يترتب على الكذب في الحديث النبوي فهو في الدرجة الأولى ، فالتهمة به في الدرجة الثانية أو الثالثة ، وقد ذكر علماء الحديث بعد درجة الكذب في الحديث النبوي ودرجة التهمة به درجتين بل درجات ونصوا على أن من كان من أهل درجة من الأربع الأولى فهو ساقط البتة في جميع رواياته سواء منها ما طعن فيه بسببه وغيره .

والأستاذ يطعن في جماعة من أئمة السنة والموثقين من رواتها فيرمي بعضهم بتعمد الكذب وبعضهم بالتهمة بذلك ويجمع لبعضهم الأمرين يكذب أحدهم في خبر ويتهمه في آخر ، ويجزم بأنهم متهمون في كل ما يتعلق بالغض من أبي حنيفة وأصحابه ولو على بعد بعيد كما يأتي في ترجمة أحمد بن إبراهيم ، ويصرح في بعضهم بأنهم مقبولون فيما عدا ذلك ، فهل يريد أنهم عدول مقبولون ثقات مأمونون مطلقاً ، ولا يعتد عليهم بتكذيب الأستاذ ولا اتهامه لأنه خرق للإجماع في بعضهم ومخالف للصواب في آخرين ولأن الأستاذ لم يتأهل للإجتهاد في الكلام في القدماء ، ولأن كلامه فيهم أمر اقتضته مصلحة مدافعة اللام ذهبية التي يقول : إنها قنطرة اللادينية ! كما يقول بعض سلفه من المتكلمين : إن كثيراً من نصوص الكتاب والسنة المتعلقة بصفات الله عز وجل ونحوها صريحة في الباطل مع علم الله عز وجل ورسوله بالحق في نفس الأمر ولكن دعت إلى ذلك مصلحة اجترار العامة إلى قبول الشريعة العملية ! ([62]) فإن كان هذا مراد الأستاذ فلأمر واضح وإلا فإن أراد بالقبول القبول على جهة الاستئناس في الجملة انحصر الكلام معه في دعوى الكذب والتهمة وسيأتي إن شاء الله تعالى . وإن أراد أنهم في ما يتعلق بتلك الشجرة الممنوعة وهي الغض من أبي حنيفة وأصحابه كذابون ومتهمون وفيما عدا ذلك عدول مقبولون ثقات مأمونون ، فهذا تناقض وخرق للإجماع فيما نعلم . نعم .

هناك أمور قد يتشبث بها في دعوى التهمة والعدالة وقد أشار الأستاذ إلى بعضها وسأكشف عنها إن شاء الله .

وينبغي أن يعلم أن التهمة تقال على وجهين :

الأول : قول المحدثين (( فلان متهم بالكذب )) وتحرير ذلك لأن المجتهد في أحوال الرواة قد يثبت عنده بدليل يصح الأستاذ إليه أن الخبر لا أصل له وأن الحمل فيه على هذا الراوي ، ثم يحتاج بعد ذلك إلى النظر في الراوي أتعمد الكذب أم غلط فإذا تدبر وأنعم النظر فقد يتجه له الحكم بأحد الأمرين جزماً ، وقد يميل ظنه إلى أحدهما إلا أنه لا يبلغ أن يجزم به ، فعلى هذا الثاني إذا مال ظنه إلى أن الراوي تعمد الكذب قال فيه (( متهم بالكذب )) أو نحو ذلك مما يؤدي هذا المعنى . ودرجة الاجتهاد المشار إليه لا يبلغها أحد من أهل العصر فيما يتعلق بالرواة المتقدمين ، اللهم إلا أن يتهم بعض المتقدمين رجلاً في حديث يزعم أنه تفرد به فيجد له بعض أهل العصر متابعات صحيحة ، وإلا حيث يختلف المتقدمون فيسعى في الترجيح ، فأما من وثقه إمام من المتقدمين أو أكثر ولم يتهمه أحد من الأئمة فيحاول بعض أهل العصر أن يكذبه أو يتهمه فهذا مردود لأنه إن تهيأ له إثبات بطلان الخبر عن ذلك الراوي ثبوتاً لا ريب فيه فلا يتهيأ له الجزم بأنه تفرد به ، ولا أن شيخه لم يروه قط ولا النظر الفني الذي يحق لصاحبه أن يجزم بتعمد الراوي للكذب أو يتهمه به ، بلى قد يتيسر بعض هذه الأمور فيمن كذبه المتقدمون لكن مع الاستناد إلى كلامهم كما يأتي في ترجمة أحمد بن محمد بن الصلت وترجمة محمد بن سعيد البورقي ، وإن كان الأستاذ يخالف في ذلك فيصدق من كذبه الأئمة وكذبه واضح ، كما يكذب أو يتهم من صدقوه وصدقه ظاهر ، شأن المحامين في المحاكم معيار الحق عند أحدهم مصلحة موكله !

هذا والأستاذ فيما يهول بدعوى دلالة العقل والتواتر والنقل الراجح حيث لا ينبغي له دعوى ذلك ، وليس من شأني أن أناقشه في كل موضع ولكني أقول : حيث تصح دعواه فلا يصح ما بناه عليها من تكذيب الثقات واتهامهم ، وحيث يلزم من صحة الدعوى صحة البناء .

فالدعوى غير صحيحة ، وإنما كتبت هذا بعد فراغي من النظر في التراجم ، وأسال الله التوفيق .

الوجه الثاني مقتضى اللغة ، والتهمة عند أهل اللغة مشتقة من الوهم وهو كما في
( القاموس ) (( من خطرات القلب أو مرجوح طرفي المتردد فيه )) والتهمة بهذا المعنى تعرض في الخبر إذا كان فيه إثبات ما يظهر أن المخبر يحب أن يعتقد السامع ثبوته وذلك كشهادة الرجل لقريبه وصديقه وعلى من بينه وبينه نفرة ، وكذلك إخباره عن قريبه أو صديقه بما يحمد عليه وإخباره عمن هو نافر عنه بما يذم عليه وقس على هذا كل ما من شأنه أن يدعو إلى الكذب وقد تقدمت الإشارة إليها في الفصل الخامس فلذاك اكتفى الشارع في باب الرواية بالإسلام والعدالة والصدق فمن ثبتت عدالته وعرف بتحري الصدق من المسلمين فهو على العدالة والصدق في أخباره لا يقدح في إخباره أن يقوم بعض تلك الدواعي ولا أن يتهمه من لا يعرف عدالته أو لا يعرف أثر العدالة على النفس أو من هوى مخالف لذلك الخبر فهو ينتمي أن لا يصح كما قال المتنبي :

شق الجزيرة حتى جاءني نبــــأ      فزعت منه بآمالي إلى الكــذب

حتى إذا لم يدع إلى صدقة أمـــلاً      شرقت بالدمع حتى كاد يشرق بي

وكأنه أخذه من قول الأول :

إني أتتني لســان ما أسـر بهــا

 

من علو لا عجب فيها ولا سخـر

جاءت مرجمة قـد كنت أحذرهـا

 

لو كان ينفعني الإشفاق والحـذر

تأتي على الناس لا تلوي على أحـد

 

حتى أتتنا وكانت دوننـا مضـر

إذا يعــاد لــه ذكر أكذبــه

 

حتى أتتني بها الأنبـاء والخبــر

 

وجماعة من الصحابة روى كل منهم فضيلة لنفسه يرون أن على الناس قبول ذلك منهم فتلقت الأمة ذلك بالقبول ، وكان من الصحابة والتابعين يقاتلون الخوارج ثم روى بعض أولئك التابعين عن بعض أولئك التابعين عن بعض أولئك الصحابة أحاديث في ذم الخوارج فتلقت الأمة تلك الأحاديث بالقبول ، وكثيراً ما ترى في تراجم ثقات الرواة من التابعين فمن بعدهم إخبار الرجل منهم بثناء غيره عليه فيتلقى أهل ذلك بالقبول ، وقبلوا من الثقة دعواه ما يمكن من صحبته للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أو لأصحابه أو إدراكه لكبار الأئمة وسماعه منهم وغير ذلك مما فيه فضيلة للمدعي وشرف له وداع للناس إلى الإقبال عليه وتبجيله والحاجة إليه ، ولم يكن أهل العلم إذا أرادوا الاشتياق من حال الرواي يسألون إي عما يمس دينه وعدالته . ونص أهل العلم على أن الرواية في ذلك مخالفة للشهادة ، وفي ( التحرير ) لابن الهمام الحنفي مع ( شرحه ) لابن أمير حاج ج‍ 3 ص 245 : (( وأما الحرية والبصر وعدم الحد في قذف ) وعدم ( الولادة ) عدم ( العداوة ) الدنيوية ( فتختص بالشهادة ) أي تشترط فيها لا في الرواية )) .

فأما الشهادة فإن الشرع شرط لها أموراً أخرى مع الإسلام والعدالة كما أشار إليه ابن الهمام وشرط في إثبات الزنا أربعة ذكور وفي غيره من الحدود ونحوها ذكرين ، وفي الأموال ونحوها رجلا وامرأتين إلى غير ذلك .

فأما الشهادة للنفس فمتفق على أنها لا تقبل ، وأما الشهادة للأصل وللفرع وللزوج وعلى العدو ففيها خلاف ، وفي بعض كتب الفقه أن الرد في ذلك لأجل التهمة وظاهر هذا أن التهمة هي العلة فيبني عليها قياس غير المنصوص عليه ، وهذا غير مستقيم ، إذ ليس كل شاهد لنفسه حقيقا : بأن يتهم ، ألا ترى أن كبار الصحابة وخيار التابعين لو شهد أحدهم لنفسه لم نتهمه ولا سيما إذا كان غنياً والمشهود به يسيراً كخمسة دراهم ، والمشهود عليه معروفاً بجحد الحقوق . أقول هذا لزيادة الإيضاح وإلا فالواقع أننا لا نتهمهم مطلقاً حتى لو شهد أحدهم لنفسه على آخر منهم وأنكر ذاك لم نتهم واحداً منهما بل نعتقد أن أحدهما نسي أو غلط ، وليس ذلك خاصاً بهم ، بل كل من ثبتت عدالته لا يتهمه عارفوه الذين يعدلونه ولا الواثقون بتعديل المعدلين ، فإن اتهمه غيرهم كان معنى ذلك أنه غير واثق بتعديل المعدلين ، ومتى ثبت التعديل الشرعي لم يلتفت إلى من لا يثق به ، ولو كان لك أن تعدل الرجل وأنت لا تأمن أن يدعي الباطل ويشهد لنفسه زوراً بخمسة دراهم مثلاً ، لكان لك أن تعدل من تتهمه بأنه لو رشاه رجل عشرة دراهم أو أكثر لشهدوا له زوراً ، وهذا باطل قطعاً فان تعديلك للرجل إنما هو شهادة منك له بالعدالة ، والعدالة (( ملكة تمنع صاحبها من اقتراف الكبائر وصغائر الخسة ... )) فكيف يسوغ لك أن تشهد بهذه الملكة لمن تتهمه بما ذكر ، ولو كان كل عدل حقيقياً بأن يتهمه عارفوه بنحو ما ذكر لما كان في الناس عدل ، وفي أصحابنا من لا نتهمه في شهادته ولو حصل له بسببها مائة درهم أو أكثر كأن يدعي صاحبنا على فاجر بمائة درهم فيجحده ثم تتفق للفاجر خصومة أخرى فيجيء إلى صاحبنا فيقول له أنت تعرف هذه القضية فاحضر فاشهد بما تعلم ، فيقول صاحبنا نعم أنا أعرفها ولكنك ظلمتني مائة درهم فأدها إلي إن أردت أن أشهد ، فيدفع له مائة درهم فيذهب فيشهد ، فإننا لا نتهم صاحبنا في دعواه ولا شهادته ، وفي أصحابنا من لو ائتمن على مئات الدراهم ثم بعد مدة ادعى ما يحتمل من تلفها أو أنه ردها على صاحبها الذي قد مات لما اتهمناه ، نعم قد يتهمه من لا يعرفه كمعرفتنا ، أو من لا يعرف قدر تأثير الموانع عن الخيانة في نفس من قامت به ، فالفاسق المتهتك لا يعرف قدر العدالة فتراه يتهم العدول ولا يكاد يعرف عدالتهم ولو كانوا جيرانه .

فان قيل يكفي في التعليل أن مظنة التهمة ولا يضر تخلفها في بعض الأفراد كما قالوا في قصر الصلاة في السفر أنه لأجل المشقة وإن تخلفت المشقة في بعض المسافرين كالملك المترفه قلت العلة في قصر الصلاة هي السفر بشرطه لا المشقة فكذلك تكون العله في رد الشهادة للنفس هي إنها شهادة للنفس أو دعوى كما يومئ إليه حديث (( لو يعطي الناس بدعواهم لا دعي ناس دماء رجال وأموالهم ... )) ([63])

فعلى هذا لا يتأتى القياس ، ألا ترى أن في أعمال العمال المقيمين ما مشقته أشد من مشقة السفر العادي ، ذلك كالعمل في المناجم ونحوها ومع ذلك ليس لهم أن يقصروا الصلاة . فإن قيل الشهادة للأصل والفرع مظنة للتهمة كما أن الشهادة مظنة لها ، قلت فالعمل في المناجم مظنة للمشقة ، بل المشقة فيه أشق وأغلب ، والتهمة في الشهادة للأصل أو الفرع أضعف وأقل من التهمة في الشهادة للنفس ، وقد يكون الرجل منفرداً عن أصله أو فرعه وبينهما عدواة .

والشافعي ممن يقول برد الشهادة للأصل والفرع ولم يعرج على التهمة ولكنه لما علم أن جماعة ممن قبله ذهبوا إلى الرد ولم يعلم لهم مخالفاً هاب أن يقول ما لا يعلم له فيه سلفاً ، فحاول الاستدلال بما حاصله أن الفرع من الأصل فشهادة أحدهما للآخر كأنها شهادة لنفسه ثم قال كما في ( الأم ) ج 7 ص 42: (( وهذا مما لا أعرف فيه خلافاً )) كأنه ذكر هذا تقوية لذاك الاستدلال واعتذاراً عما فيه من الضعف ، ولما علم بعض حذاق أصحابه كالمزني وأبي ثور أن هناك خلافاً ذهبوا إلى القبول . وليس المقصود هنا إبطال القول برد الشهادة للأصل والفرع والزوج وإنما المقصود أن الاستدلال عليه بقياس مبني على أن التهمة على غير مستقيم . فأما الشهادة على العدو فالقائلون أنها لا تقبل يخصون ذلك بالعداوة الدنيوية التي تبلغ أن يحزن لفرحه ويفرح لحزنه فأما العداوة الدينية والدنيوية التي لم تبلغ ذاك فلا تمنع من القبول عندهم . والمنقول عن أبي حنيفة كما في كتب أصحابه أن العداوة لا تقتضي رد الشهادة إلا أن تبلغ أن تسقط بها العدالة . أقول وإذا بلغت ذلك لم تقبل شهادة صاحبها حتى لعدوه على صديقه ، ويقوي هذا القول أن القائلين بعدم القبول يشرطون أن تبلغ أن يحزن لفرحه ويفرح لحزنه وهذا يتمنى أن يفرح لذبح أطفاله ظلماً والزنا ببناته وارتداد زوجاته ونحو ذلك وقس على ذلك الحزن لفرحه وهذا مسقط للعدالة حتماً ، فإن قيل قد يفرح بذلك من جهة أنه يحزن عدوه ، ومع ذلك يحزن من جهة مخالفته للدين ، قلت : إن لم يغلب حزنه فرحه فليس بعدل ، وإن غلب فكيف يظن به أن يوقع نفسه في شهادة الزور التي هي من أكبر الكبائر وفيها أعظم الضرر على نفسه في دينه ، ولا يأمن من أن يلحقه لأجلها ضرر شديد في دنياه ، كل ذلك ليضر المشهود عليه في دنياه ضرراً قد يكون يسيراً كعشرة دراهم . وهبة صح الرد بالعدواة مع بقاء العدالة فالقائلون بذلك يشرطون أن تكون عداوة دنيوية تبلغ أن يحزن لفرحه ويفرح لحزنه وهذا لا يتأتى للأستاذ إثباته في أحد ممن يتهمهم لأنه إن ثبت انحرافهم عن أبي حنيفة وأصحابه وثبت أن ذلك الانحراف عداوة فهو عداوة دينية ، وهب أنه ثبت في بعضهم أنها عداوة دنيوية فلا تأتي للأستاذ إثبات بلوغها ذاك الحد ، أي أن يحزن لفرحه ويفرح لحزنه ، وهبة بلغ فقد تقدم أن الرواية لا ترد بالعدواة .

هذا على فرض مجامعة ذلك للعدالة ، وإلا فالرد لعدم العدالة .

وأما ما ذكره الشافعي في أصحاب العصبية فالشافعي إنما عنى العصبية لأجل النسب كما هو صريح في كلامه وذلك أمر دنيوي وكلامه ظاهر في أنها بشرطها تسقط العدالة ، ولا ريب أنه إذا بلغت العصبية أو العداوة إسقاط العدالة لم تقبل لصاحبها شهادة ولا رواية ألبته سواء أكانت دنيوية أم مذهبية أم دينيه كمن يسرف في الحنق على الكفار فيتعدى على أهل الذمة ، والأمان بالنهب والقتل ونحو ذلك ، بل قد يكفر .

فقد أتضح بما تقدم الجواب عن بعض ما يمكن التشبث به في رد رواية العدل ، وبقى حكاية عن شريك ربما يؤخذ منها أنه قد يقبل شهادة بعض العدول في القليل ولا يقبلها في الكثير ، وفرع للشافعي قد يتوهم فيه نحو ذلك ، وما يقوله أصحاب الحديث في رواية المبتدع ، وما قاله بعضهم في جرح المحدث لمن هو ساخط عليه .

فأما الحكاية عن شريك فمنقطعة ، ولو ثبتت لوجب حملها على أن مراده القبول الذي تطمئن إليه نفسه فإن القاضي قد لا يكون خبيراً بعدالة الشاهدين وضبطهما وتيقظهما وإنما عدلهما غيره فإذا كان المال كثيراً جداً بقي في نفسه ريبة وقد بين أهل العلم أن مثل هذا إنما يقتضي التروي والتثبت فإذا تروى وبقيت الحال كما كانت وجب عليه أن يقضي بتلك الشهادة ويعرض عما في نفسه . وأما الفرع المذكور عن الشافعي فليس من ذاك القبيل ، وإنما هم من باب الاحتياط للتعديل ، ومع ذلك فقد رده إمام الحرمين وقال : إن أكثر الأئمة على خلافة وأما رواية المبتدع وجرح المحدث لمن هو ساخط عليه فأفرد كلا منهما بقاعدة .

 

3 - رواية المبتدع

لا شبهة أن المبتدع إن خرج ببدعته عن الإسلام لم تقبل روايته لأن من شرط قبول الرواية الإسلام .

وأنه إن ظهر عناده أو إسرافه في إتباع الهوى والأعراض عن حجج الحق وذلك مما هو أدل على وهن التدين من كثير من الكبائر كشرب الخمر وأخذ الربا فليس بعدل فلا تقبل روايته لأن من شرط قبول الرواية العدالة .

وأنه إن استحل ، فإما أن يكفر بذلك ، وإما أن يفسق ، فإن عذرناه فمن شرط قبول الرواية الصدق فلا تقبل روايته .

وأن من تردد أهل العلم فيه فلم يتجه لهم أن يكفروه أو يفسقوه ولا أن يعدلوه فلا تقبل روايته لأنه لم تثبت عدالته .

ويبقى النظر فيمن عدا هؤلاء ، والمشهور الذي نقل ابن حبان والحاكم إجماع أئمة السنة عليه أن المبتدع الداعية لا تقبل روايته ، وأما غير الداعية فكالسني واختلف المتأخرون في تعليل رد الداعية ، والتحقيق إن شاء الله تعالى أن ما اتفق أئمة السنة على أنها بدعة فالداعية إليها الذي حقه أن يسمى داعية لا يكون إلا من الأنواع الأولى إن لم يتجه تكفيره اتجه تفسيقه فإن لم يتجه تفسيقه فعلى الأقل لا تثبت عدالته ، وإلى هذا مسلم في مقدمة صحيحه إذ قال : (( أعلم وفقك الله أن الواجب على كل أحد عرف التمييز بين صحيح الروايات وسقيها وثقات الناقلين لها من المتهمين ، أن لا يروي منها إلا ما عرف صحة مخارجه والستارة في ناقليه ، وأن يتقى منها ما كان عن أهل التهم والمعاندين من أهل البدع ، والدليل على أن الذي قلنا في هذا هو اللازم دون ما خالفه قول الله تعالى ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ [ وقال جل ثناؤه ] مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ [ وقال ] وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ [ فدل بما ذكرنا أن خبر الفاسق ساقط غير مقبول وأن شهادة غير العدل مردودة ، والخبر وإن فارق معناه معنى الشهادة في بعض الوجوه فقد يجتمعان في أعظم معانيهما إذ معانيها إذ كان خبر الفاسق غير مقبول عند أهل العلم كما أن شهادته مردودة عند جميعهم )) .

فالمبتدع الذي يتضح عناده إما كافر وإما فاسق ، والذي لم يتضح عناده ولكنه حقيق بأن يتهم بذلك وهو في معنى الفاسق لأنه مع سوء حاله لا تثبت عدالته ، والداعية الذي الكلام فيه واحد من هذين ولا بد ، وقد عرف لأهل العلم العدالة بأنها (( ملكة تمنع عن اقتراف الكبائر وصغائر الخسة ... )) زاد السبكي (( وهوى النفس )) وقال (( لا بد منه فإن المتقى للكبائر وصغائر الخسة مع الرذائل المباحة قد يتبع هواه عند وجوده لشيء منها فيرتكبه ولا عدالة لمن هو بهذه الصفة )) نقله المحلي في ( شرح جمع الجوامع ) لابن السبكي ثم ذكر أنه صحيح في نفسه ولكن لا حاجه إلى زيادة القيد قال ((  لأن من عنده ملكة تمنعه عن اقتراف ما ذكر ينتفي عنه إتباع الهوى لشيء منه وإلا لوقع في المهوي فلا يكون عنده ملكة تمنع منه )) أقول : ما من إنسان إلا وله أهواء فيما ينافي العدالة وإنما المحذور إتباع الهوى ومقصود السبكي تنبيه المعدلين فإنه قد يخفى على بعضهم معنى (( الملكة )) فيكتفي في التعديل بأنه قد خبر صاحبه فلم يره ارتكب منافيا للعدالة فيعدله ولعله لو تدبر لعلم أن لصاحبه هوى غالبا يخشى أن يحمله على ارتكاب منافي العدالة إذا احتاج إليه وتهيأ له ومتى كان الأمر كذلك فلم يغلب على ظن المعدل حصول تلك الملكة وهي العدالة لصاحبه بل إما أن يترجح عنده عدم حصولها فيكون صاحبه ليس بعدل وإما أن يرتاب في حصولها لصاحبه فكيف يشهد بحصولها له ؟ كما هو معنى التعديل .

وأهل البدع كما سماهم السلف (( أصحاب الأهواء )) وإتباعهم لأهوائهم في الجملة ظاهر وإنما يبقى النظر في العمد والخطأ ومن ثبت تعمده أو اتهمه بذلك عارفوه لم يؤمن كذبه وفي ( الكفاية ) للخطيب ص 123 عن علي بن حرب الموصلي : (( كل صاحب هوى يكذب ولا يبالي )) يريد والله أعلم أنهم مظنة ذلك فيحترس من أحدهم حتى يتبين براءته .

هذا وإذا كانت حجج السنة بينة فالمخالف لها لا يكون إلا معاندا أو متبعا للهوى معرضا عن حجج الحق وأتباع الهوى والإعراض عن حجج الحق قد يفحش جدا حتى لا يحتمل أن يعذر صاحبه فإن لم يجزم أهل العلم بعدم العذر فعلى الأقل لا يمكنهم تعديل الرجل وهذه حال الداعية الذي الكلام فيه فإنه لولا أنه معاند أو منقاد لهواه انقيادا فاحشا معرض عن حجج الحق إعراضا شديدا لكان أقل أحواله أن يحمله النظر في الحق على الارتياب في بدعته فيحاف أن كان متدينا أن يكون على ضلالة ويرجو أنه كان على ضلالة فعسى الله تبارك وتعالى أن يعذره فإذا التفت إلى أهل السنة علم أنهم إن لم يكونوا أولى بالحق منه فالأمر الذي لا ريب فيه أنهم أولى بالعذر منه وأحق إن كانوا على خطا أن لا يضرهم ذلك لأنهم إنما يتبعون الكتاب والسنة ويحرصون على إتباع سبيل المؤمنين ولزوم صراط المنعم عليهم : النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وخيار السلف فيقول في نفسه : هب أنهم على باطل فلم يأتهم من إتباع الهوى وتتبع السبل الخارجة . ولا ريب أن من كانت هذه حالة فإنه لا يكفر أهل السنة ولا يضللهم ولا يحرص على إدخالهم في رأيه بل يشغله الخوف على نفسه فلا يكون داعية .

فأما غير الداعية فقد مر نقل الإجماع على أنه كالسني ، إذا ثبتت عدالته روايته ، وثبت عن مالك ما يوافق ذلك ، وقيل عن مالك أنه لا يروي عنه أيضاً ، والعمل على الأول . وذهب بعضهم إلى أنه لا يروي عنه إلا عند الحاجة ، وهذا أمر مصلحي لا ينافي قيام الحجة بروايته بعد ثبوت عدالته . وحكى بعضهم أنه إذا روى ما فيه تقوية لبدعته لم يؤخذ عنه ، ولا ريب أن ذلك المروي إذا حكم أهل العلم ببطلانه فلا حاجة إلى روايته إلا لبيان حاله ، ثم إن اقتضى جرح صاحبه بأن ترجح أنه تعمد الكذب أو أنه متهم بالكذب عند أئمة الحديث سقط صاحبه البتة فلا يؤخذ عنه ذاك ولا غيره ، وإذا ترجح أنه أنما أخطأ فلا وجه لمؤاخذته بالخطأ ، وإن ترجح صحة ذلك المروي فلا وجه لعدم أخذه ، نعم قد تدعو المصلحة إلى عدم روايته حيث يخشى أن يغير بعض السامعين بظاهرة فيقع في البدعة ، قرأت في جزء قديم من ( ثقات العجلي ) ما لفظه (( موسى الجهني قال جاءني عمرو بن قيس الملائي وسفيان الثوري فقال : لا تحدث بهذا الحديث بالكوفة أن النبي عليه السلام قال لعلي (( أنت مني بمنزلة هارون من موسى )) [64] كان في الكوفة جماعة يغلون بالتشيع ويدعون إلى الغلو فكره عمرو بن قيس وسفيان أن يسمعوا هذا الحديث فيحملوه على ما يوافق غلوهم فيشتد شرهم  .

وقد يمنع العالم طلبة الحديث عن أخذ مثل هذا الحديث لعلمه إنهم أخذوه ربما رووه حيث لا ينبغي أن يروي ، لكن هذا لا يختص بالمبتدع ، وموسى الجهني ثقة فاضل ينسب إلى بدعة .

هذا وأول من نسب إليه هذا القول إبراهيم بن يعقوب الجوؤجاني وكان هو نفسه مبتدعاً منحرفاً عن أمير المؤمنين علي متشدداً في الطعن على المتشيعين كما يأتي في القاعدة الآتية ، ففي ( فتح المغيث ) ص142 ، (( بل قال شيخنا إنه قد نص هذا القيد في المسألة الحافظ أبو إسحاق إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني شيخ النسائي فقال في مقدمة كتابه في الجرح والتعديل : ومنهم زائغ عن الحق ، وصدوق اللهجة ، قد جرى في الناس حديثه ، لكنه مخذول في بدعته ، مأمون في روايته ، فهؤلاء ليس فيهم حيلة إلا أن يؤخذ من حديثهم ما يعرف وليس بمنكر إذا لم تقو به بدعتهم فيتهمونه بذلك )) .

والجوزجاني فيه نصب ، وهو مولع بالطعن في المتشيعين كما مر ، ويظهر أنه إنما يرمي بكلامه هذا إليهم ، فإن في الكوفيين الكنسوبين إلى التشيع جماعة أجلة اتفق أئمة السنة على توثيقه وحسن الثناء عليهم وقبول روايتهم وتفضيلهم على كثير من الثقات الذين لم ينسبوا إلى التشيع حتى قيل لشعبة : حدثنا عن ثقات أصحاب ، فقال : إن حدثتكم عن ثقات أصحابي فإنما أحدثكم عن نفر يسير من هذه الشيعة ، الحكم بن عتيبة وسلمة بن كهيل وحبيب بن أبي ثابت ومنصور . راجع تراجم هؤلاء في (( تهذيب التهذيب )) فكأن الجوزجاني لما علم أنه لا سبيل إلى الطعن في هؤلاء وأمثالهم مطلقاً حاول أن يتخلص مما يكرهه من مروياتهم وهو ما يتعلق بفضائل أهل البيت ، وعبارته المذكورة تعطي أن المبتدع الصادق اللهجة المأمون في الرواية المقبول حديثه عند أهل السنة إذا روى حديثاً معروفاً عند أهل السنة غير منكر عندهم إلا أنه مما قد تقوى به بدعته فإنه لا يؤخذ وأنه يتهم . فأما اختيار أن لا يؤخذ فله وجه رعاية للمصلحة كما مر ، وأما أنه يتهم فلا يظهر له وجه بعد اجتماع تلك الشرائط إلا أن يكون المراد أنه قد يتهمه من عرف بدعته ولم يعرف صدقه وأمانته ولم يعرف أن ذاك الحديث معروف غير منكر فيسيء الظن به بمروياته ولا يبعد من الجوزجاني أن يصانع عما في نفسه بإظهار أنه أنما يحاول هذا المعنى فبهذا تستقيم عبارته ، أما الحافظ ابن حجر ففهم منها معنى آخر ، قال في ( النخبة وشرحها ) : (( الأكثر على قبول غير الداعية إلا أن ما يقوي مذهبه فيرد على المذهب المختار ، وبه صرح الحافظ أبو إسحاق إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني شيخ أبي داود والنسائي )) وسيأتي الكلام معه إن شاء الله تعالى . ولابن قتيبة في كتاب ( تأويل مختلف الحديث ) كلام حاصله أن المبتدع الصادق المقبول لا يقبل منه ما يقوي بدعته ، ويقبل منه ما عدا ذلك قال : (( وإنما يمنع من قبول قول الصادق فيما وافق نحلته وشاكل هواه أن نفسه تريه أن الحق فيما اعتقده وأن القربة إلى الله عز وجل في تثبيته بكل وجه ، ولا يؤمن مع ذلك التحريف والزيادة والنقص )) كذا قال ، واحتج بأن شهادة العدل لا تقبل لنفسه وأصله وفرعه ، وقد مر الجواب عن ذلك ، ولا أدري كيف ينعت بالصادق من لا يؤمن منه تعمد التحريف والزيادة والنقص ؟ وإنما يستحق النعت بالصادق من يوثق بتقواه وبأنه مهما التبس عليه من الحق فلن يلتبس عليه أن الكذب بأي وجه كان مناف للتقوى ، مجانب للإيمان .

ولا ريب أن فيمن يتسم بإصلاح من المبتدعة وكذا من أهل السنة من يقع في الكذب إما تقحماً في الباطل ، وإما على زعم أنه لا حرج في الكذب في سبيل تثبيت الحق ، ولا يختص ذلك بالعقائد بل وقع فيما يتعلق بفروع الفقه وغيرها كما يعلم من مراجعة كتب الموضوعات ، وأعداء الإسلام ، وأعداء السنة يتشبثون بذلك في الطعن في السنة كأنهم لا يعلمون أنه لم يزل في أخبار الناس في شؤون دنياهم الصدق والكذب ، ولم تكن كثرة الكذب بمانعة من معرفة الصدق إما بيقين وإما بظن غالب يجزم به العقلاء ويبنون عليه أموراً عظاماً ، ولم يزل الناس يغشون الأشياء النفيسة ويصنعون ما يشبهها كالذهب والفضة والدر والياقوت والمسك والعنبر والسمن والعسل والحرير والخز وغيرها، ولم يحل ذلك دون معرفة الصحيح ، والخالق الذي هيأ لعباده ما يحفظون به مصالح دنياهم هو الذي شرع لهم دين الإسلام وتكفل بحفظه إلى الأبد وعنايته بحفظ الدين أشد وأكد لأنه هو المقصود بالذات من هذه النشأة الدنيا قال الله عز وجل : ] وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [ .

ومن مارس أحوال الرواية وأخبار رواة السنة وأئمتها علم أن عناية الأئمة بحفظها وحراستها ونفي الباطل عنها والكشف عن دخائل الكذابين والمتهمين كانت أضعاف عناية الناس بأخبار دنياهم ومصالحها ، وفي ( تهذيب التهذيب ) ج 1 ص 152 : (( قال إسحاق بن إبراهيم : أخذ الرشيد زنديقاً فأراد قتله فقال : أين أنت من ألف حديث وضعتها ؟ فقال له : أين أنت يا عدو الله من أبي إسحاق الفزاري وابن المبارك ينخلانها حرفاً حرفاً ؟ )) وقيل لابن المبارك : هذه الأحاديث المصنوعة ؟ قال : تعيش لها الجهابذة. وتلا قول الله عز وجل : ] إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [ . والذكر يتناول السنة بمعناه إن لم يتناولها بلفظه ، بل يتناول العربية وكل ما يتوقف عليه معرفة الحق ، فإن المقصود من حفظ القرآن أن تبقى الحجة قائمة والهداية دائمة إلى يوم القيامة لأن محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاتم الأنبياء ، وشريعة خاتمة الشرائع ، والله عز وجل إنما خلق لعبادته فلا يقطع عنهم طريق معرفتها ، وانقطاع ذلك في هذه الحياة الدنيا وانقطاع لعلة بقائهم فيها . قال العراقي في ( شرح ألفيته ) ج 1 ص 267 : (( روينا عن سفيان قال : ما ستر الله أحداً يكذب في الحديث ، وروينا عن عبد الرحمن بن مهدي أنه قال : لو أن رجلا هَمَّ أن يكذب في الحديث لأسقطه الله ، وروينا عن ابن المبارك قال : لو هَمَّ رجل في السحر أن يكذب في الحديث لأصبح والناس يقولون فلان كذاب )) .

والمقصود هنا أن من لا يؤمن منه تعمد التحريف والزيادة والنقص على أي وجه كان فلم تثبت عدالته ، فإن كان كل من اعتقد أمراً ورأى أنه الحق وأن القربة إلى الله تعالى في تثبيته لا يؤمن منه ذلك فليس في الدنيا ثقة ، وهذا باطل قطعاً ، فالحكم به على المبتدع إن قامت الحجة على خلافة بثبوت عدالته وصدقه وأمانته فباطل وإلا وجب أن لا يحتج بخبره البتة ، سواء أوافق بدعته أم خالفها ، والعدالة (( ملكة تمنع من اقتراف الكبائر.... )) وتعديل الشخص شهادة له بحصول هذه الملكة ، ولا تجوز الشهادة بذلك حتى يغلب على الظن غلبة واضحة حصولها له ، وذلك يتضمن غلبة الظن بأن تلك الملكة تمنعه من تعمد التحريف والزيادة والنقص ومن غلب على الظن غلبة يصح الجزم بها أنه لا يقع منه ذلك فكيف لا يؤمن أن يقع منه ؟ ومن لا يؤمن أن يقع منه ذلك فلم يغلب على الظن أن له ملكه تمنعه من ذلك ، ومن خيف أن يغلبه ضرب من الهوى فيوقعه في تعمد الكذب والتحريف لم يؤمن أن يغلبه ضرب آخر وإن لم نشعر به ، بل الضرب الواحد من الهوى قد يوقع في أشياء يتراءى لنا أنها متضادة ، فقد جاء أن موسى بن طريف الأسدي كان يرى رأي أهل الشام في الانحراف عن علي رضي الله عنه ويروي أحاديث منكرة في فضل علي ويقول : (( إني لأسخر بهم )) يعني بالشيعة ، راجح ترجمته في ( لسان الميزان ).

وروى محمد بن شجاع الثلجي الجهمي عن حبان بن هلال أحد الثقات الإثبات عن حماد بن سلمة أحد أئمة السنة عن أبي المهزم ([65]) عن أبي هريرة مرفوعاً : (( إن الله خلق الفرس فأجراها فعرقت ثم خلق نفسه منها )) . وفي ( الميزان ) أن غرض الجهيمة من وضع هذا الحديث أن يستدلوا به على زعمهم أن ما جاء في القرآن من ذكر (( نفس الله )) عز وجل إنما المراد بها بعض مخلوقاته . أقول : ولهم غرضان آخران :

أحدهما : التذرع بذلك إلى الطعن في حماد بن سلمة كما يأتي في ترجمته .

الثاني : التشنيع على أئمة السنة بأنهم يروون الأباطيل والشيعي الذي لا يؤمن أن يكذب في فضائل أهل البيت لا يؤمن أن يكذب في فضائل الصحابة على سبيل التقية ، أو ليرى الناس أنه غير متشدد في مذهبه يمهد بذلك ليقبل منه ما يرويه مما يوافق مذهبه .

وعلى كل حال فابن قتيبة على فضله ليس هذا فنه ، ولذلك لم يعرج أحد من أئمة الأصول والمصطلح على حكاية قوله ذلك فيما أعلم . والله الموفق .

وفي فتح المغيث ) ص 140 عن ابن دقيق العيد (( إن وافقه غيره فلا يلتفت إليه إخماداً لبدعته وإطفاء لناره وإن لم يوافقه أحد ولم يوجد ذلك الحديث إلا عنده مع ما وصفنا من صدقة وتحرزه عن الكذب واشتهاره بالتدين وعدم تعلق ذلك الحديث ببدعته فينبغي أن تقدم مصلحة تحصيل ذلك الحديث ونشر تلك السنة على مصلحة إهانته وإطفاء ناره )) .

ويظهر أن تقييده بقوله : (( وعدم تعلق ذلك الحديث ببدعته )) وإنما مغزاه إذا كان فيه تقوية لبدعته لم تكن هناك مصلحة في نشره بل المصلحة في عدم روايته كما مر ، ويتأكد ذلك هنا بأن الفرض أنه تفرد به وذلك يدعو إلى التثبيت فيه ، وإذا كان كلام ابن دقيق العيد محتملاً لهذا المعنى احتمالاً ظاهراً فلا يسوخ حمله على مقالة ابن قتيبة التي مر فيها .

وقال ابن حجر في ( النخبة وشرحها ) : الأكثر على قبول غير الداعية إلا أن يروي ما يقوي مذهبه فيرد على المذهب وبه صرح الحافظ أبو إسحاق إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني شيخ أبي داود والنسائي ... وما قاله متجه لأن العلة التي لها رد حديث الداعية وارده ، فيما إذا كان ظاهر المروي يوافق مذهب المبتدع ولو لم يكن داعية . والله أعلم .

أقول الضمير في قوله (( فيرد )) يعود فيما يظهر على المبتدع غير الداعية ، أوقع الرد على الراوي في مقابل إطلاق القبول عليه ، وقد قال قبل ذلك (( والتحقيق أنه لا يرد كل مكفر ببدعة )) والمراد برد الراوي رد مروياته كلها . وقد يقال يحتمل عود الضمير على المروي المقوي لمذهبه ، وعلى هذا فقد يفهم منه أنه ما عداه ، وقد يشعر بهذا استناد ابن حجر إلى قول الجوزجاني فأقول إن كان معنى الرد على هذا المعنى الثاني ترك رواية ذاك الحديث للمصلحة ، وإن كان محكوماً بصحته فهذا هو المعنى الذي تقدم أن به تستقيم عبارة الجوزجاني ، وإن كان معناه رد ذاك الحديث اتهاماً لصاحبه ويرد معه سائر رواياته فهذا موافق للمعنى الأول ، ولا تظهر موافقته لعبارة الجوزجاني ، وإن كان معناه رد ذلك الحديث اتهاماً لرواية فيه ومع ذلك يبقى مقبولاً فيما عداه فليست عبارة الجوزجاني بصريحة في هذا ولا ظاهرة فيه كما مر وإنما هو قول ابن قتيبة .

وسياق كلام ابن حجر ماعدا استناده إلى قول الجوزجاني يدل على أن مقصودة رد الراوي مطلقاً أو رد ذاك الحديث وسائر روايات راويه وذلك لأمور منها أن ابن حجر صرح بأن العلة التي رد بها حديث الداعية واردة في هذا وقد قدم أن العلة في الداعية هي (( أن تزين بدعته قد يحمله على تحريف الروايات وتسويتها على ما يقتضيه مذهبه ، ومن كانت هذه حالة فلم تثبت عدالته كما تقدم فيرد مطلقاً ، ومنها أن هذه العلة اقتضت في الداعية الرد مطلقاً فكذلك هنا بل قد يقال على مقتضى كلام ابن حجر : هذا أولى لأن الداعية يرد مطلقاً وإن لم يرو ما يوافق بدعته وهذا قد روى .

هذا وقد وثق أئمة الحديث جماعة من المبتدعة واحتجوا بأحاديثهم وأخرجوها في الصحاح ، ومن تتبع رواياتهم وجد فيها كثيراً مما يوافق ظاهرة بدعهم ، وأهل العلم يتأولون تلك الأحاديث غير طاعنين فيها ببدعة راويها ولا في راويها بروايته لها [66] ، بل في رواية جماعة منهم أحاديث ظاهرة جداً في موافقة بدعهم أو صريحة في ذلك إلا أن لها عللا أخرى ، ففي رواية الأعمش أحاديث كذلك ضعفها أهل العلم بعضها بضعف بعض من فوق الأعمش في السند وبعضها بالانقطاع ، وبعضها بأن الأعمش لم يصرح بالسماع وهو مدلس ، ومن هذا الأخير حديث في شأن معاوية ذكره البخاري في ((تاريخه الصغير)) ص 68 ووهنه بتدليس الأعمش ، وهكذا في رواية عبد الرزاق وآخرين .

هذا وقد مر تحقيق علة رد الداعية ، وتلك العلة ملازمة أن يكون بحيث يحق أن لا يؤمن منه ما ينافي في العدالة فهذه العلة إن وردت في كل مبتدع روى ما يقوي بدعته ولو لم يكن داعية وجب أن لا يحتج بشيء من مرويات من كان كذلك ولو فيما يوهن بدعته ، وإلاّ - وهو الصواب - فلا يصح إطلاق الحكم بل يدور مع العلة ، فذاك المروي المقوي لبدعة راويه إما غير منكر فلا وجه لرده فضلاً عن رد راويه ، وإما منكر ، فحكم المنكر معروف ، وهو أنه ضعيف ، فأما راويه فإن اتجه الحمل عليه بما ينافي العدالة كرميه بتعمد الكذب أو اتهامه به سقط البتة ، وإن اتجه الحمل على غير ذلك كالتدليس المغتفر والوهم والخطأ لم يجرح بذلك ، وإن تردد الناظر وقد ثبتت العدالة وجب القبول ، وإلا أخذ بقول من هو أعرف منه أو وقف ، وقد مر أوائل القاعدة الثانية بيان ما يمكن أن يبلغه أهل العصر من التأهل للنظر فلا تغفل .

وبما تقدم يتبين صحة إطلاق الأئمة قبول غير الداعية إذا ثبت صلاحه وصدقه وأمانته ، ويتبين أنهم إنما نصوا على رد المبتدع الداعية تنبيهاً على أنه لا يثبت له الشرط الشرعي للقبول وهو ثبوت العدالة .

هذا كله تحقيق للقاعدة فأما الأستاذ فيكفينا أن نقول له : هب أنه اتجه أن لا يقبل من المبتدع الثقة ما فيه تقوية لبدعته فغالب الذين طعنت فيهم هم من أهل السنة عند مخالفيك وأكثر موافقيك ، والآراء التي تعدها هوى باطلاً ، منها ما هو عندهم حق ، ومنها ما يسلم بعضهم أنه ليس بحق ولكن لا يعده بدعة ، وسيأتي الكلام في الاعتقاديات والفقهيان وتبين المحق من المبطل أن شاء الله تعالى ، وفي الحق ما يغنيك لو قنعت به كما مرت الإشارة إليه في الفصل الثاني ، ومن لم يقنع بالحق أوشك أن يحرم نصيبه منه كالرواي يروي أحاديث صادقة موافقة لرأيه ثم يكذب في حديث واحد فيفضحه الله تعالى فتسقط أحاديثه كلها ! ]وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ[.

 

4- قدح الساخط ومدح المحب ونحو ذلك

كلام العالم في غيره على وجهين :

الأول ما يخرج الذم بدون قصد الحكم ، وفي (( صحيح مسلم )) وغيره من حديث أبي هريرة سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : (( اللهم إنما محمد بشر يغضب كما يغضب البشر وإني قد اتخذت عندك عهداً لم تخلفنيه ، فأيما مؤمن آذيته أو سببته أو جلته فاجعلها له كفارة وقربة تقربه بها إليك يوم القيامة )) وفي رواية (( فأي المسلمين آذيته شتمته لعنته جلته فاجعلها له صلاة ... )) .

وفيه نحوه من حديث عائشة ومن حديث جابر ، وجاء في هذا الباب عن غير هؤلاء ، ([67]) وحديث أبي هريرة في صحيح البخاري مختصراً . ولم يكن صلى الله عليه وآله ومسلم سبابا ولا شتاماً ولا لعاناً ولا كان الغضب يخرجه عن الحق ، وإنما كان كما نعته ربه عز وجل بقوله ] وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [ وقوله تعالى ] وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [ وقوله عز وجل ] لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ [ وإنما كان يرى من بعض الناس ما يضرهم في دينهم أو يخل بالمصلحة العمة أو مصلحة صاحبه نفسه فيكره صلى الله عليه وسلم ذلك وينكره فيقول (( ما له تربت يمينه )) ونحو ذلك مما يكون المقصود به إظهار كراهية ما وقع من المدعو عليه وشده الإنكار لذلك وكأنه والله أعلم أطلق على ذلك سباً وشتما على سبيل التجوز بجامع الإيذاء فأما اللعن فلعله وقع الدعاء به نادراً عند شدة الإنكار ، ومن الحكمة في ذلك إعلام الناس أن ما يقع منه صلى الله عليه وآله وسلم عند الإنكار كثيرا ما يكون على وجه إظهار الإنكار والتأديب لا على وجه الحكم في مجموع الأمرين حكمة أخرى وهي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد علم من طباع أكثر الناس أن أحدهم إذا غضب جرى على لسانه من السب والشتم واللعن والطعن ما لو سئل عنه بعد سكون غضبه لقال : لم أقصد ذلك ولكن سبقني لساني ، أو لم أقصد حقيقته ولكني غضبت فأراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن ينبه أمته على هذا الأصل ليستقر في أذهانهم فلا يحملوا ما يصدر عن الناس من ذلك حال الغضب على ظاهره
جزماً .

وكان خذيفة ربما يذكر بعض ما اتفق من كلمات النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند غضبه فأنكر سلمان الفارسي ذلك على حذيفة رضي الله عنهما وذكر هذا الحديث ، وسئل بعض الصحابة وهو أبو الطفيل عامر بن واثلة عن شيء من ذلك فأراد أن يخبر وكانت امرأته تسمع فذكرته بهذا الحديث فكف . فكذلك ينبغي لأهل العلم أن لا ينقلوا كلمات العلماء عند الغضب وأن يراعوا فيما نقل منها هذا الأصل . بل قد يقال لو فرض أن العالم قصد عند غضبه الحكم لكان ينبغي أن لا يعتد بذلك حكماً ففي ( الصحيحين ) وغيرهما عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : (( لا يقضين حكم بين أثنين وهو غضبان )) لفظ البخاري ، والحكم في العلماء والرواة يحتاج إلى نظر وتدبر وتثبت أشد مما يحتاج إليه الحكم في كثير من الخصومات فقد تكون الخصومة في عشرة دراهم فلا يخشى من الحكم فيها عند الغضب إلا تفويت عشرة دراهم فأما الحكم على العالم والراوي فيخشى منه تفويت علم كثير وأحاديث كثيرة ولو لم يكن إلا حديثاً واحداً لكان عظيماً.

ومما يخرج مخرج الذم لا مخرج الحكم ما يقصد به الموعظة والنصحية ، وذلك كأن يبلغ العالم عن صاحبة ما يكرهه له فيذمه في وجهه أو بحضرة من يبلغه ، رجاء أن يكف عما كرهه له وربما يأتي بعبارة ليست بكذب ولكنها خشنة موحشة يقصد الإبلاغ في النصحية ككلمات الثوري في الحسن بن صالح بن حي ، وربما يكون الأمر الذي أنكره أمراً لا بأس به بل قد يكون خيراً ولكن يخشى أن يجر إلى ما يكره كالدخول على السلطان وولاية أموال اليتامى وولاية القضاء والإكثار من الفتوى ، وقد يكون أمراً مذموما وصاحبه معذورا ولكن الناصح يحب لصاحبه أن يعاود النظر أو يحتال أو يخفي ذاك الأمر  ، وقد يكون المقصود نصيحة الناس لئلا يقعوا في ذلك الأمر إذ قد يكون لمن وقع منه أولاً عذر ولكن يخشى أن يتبعه الناس فيه غير معذورين ومن هذا كلمات التنفير التي تقدمت الإشارة إليها في الفصل الثاني .

وقد يتسمح العالم فيما يحكيه على غير جهة الحكم فيستند إلى ما لو أراد الحكم لم يستند إليه كحكاية منقطعة وخبر من لا يعد خبره حجة ، وقرينة لا تكفي لبناء الحكم ونحو ذلك . وقد جاء عن إياس بن معاوية التابعي المشهور بالعقل والذكاء والفضل أنه قال (( لا تنظر إلى عمل العالم ولكن سله يصدقك )) وكلام العالم إذا لم يكن بقصد الرواية أو الفتوى أو الحكم داخل في جملة عمله الذي ينبغي أن لا ينظر إليه ، وليس معنى ذلك أنه قد يعمل ما ينافي العدالة ، ولكن قد يكون له عذر خفي وقد يترخص فيما لا ينافي العدالة ، وقد لا يتحفظ ويتثبت كما يتحفظ ويثبت في الرواية والفتوى والحكم .

هذا والعارف المتثبت المتحري للحق لا يخفى عليه إن شاء الله تعالى ما حقه أن يعد من هذا الضرب مما حقه أن يعد من الضرب الآتي ، وأن ما كان من هذا الضرب فحقه أن لا يعتد به على المتكلم فيه ولا على المتكلم . والله الموفق .

الوجه الثاني : ما يصدر على وجه الحكم فهذا إنما يخشى فيه الخطأ ، وأئمة الحديث عارفون متبحرون متيقظون يتحرزون من الخطأ جهدهم لكنهم متفاوتون في ذلك . وهما بلغ الحاكم من التحري فإنه لا يبلغ أن تكون أحكامه كلها مطابقة لما في نفس الأمر . فقد تسمع رجلاً يخبر ثم تمضي مدة فترى أن الذي سمعت منه هو فلان ، وأن الخبر الذي سمعته منه هو كيت وكيت ، وأن معناه كذا ، وأن ذاك المعنى باطل وأن المخبر تعمد الإخبار بالباطل ، وأنه لم يكن له عذر وأن مثل ذلك يوجب الجرح . فمن المحتمل أن يشتبه عليك رجل بآخر فترى أن المخبر وإنما هو غيره وأن تخطيء في فهم المعنى ، أو في ظن أنه باطل ، أو أن المخبر تعمد ، أو أنه لم يكن له عذر ، أو أن مثل ذلك يوجب الجرح إلى غير ذلك . وغالب الأحكام إنما تبني على غلبة الظن ، والظن قد يخطئ ، والظنون تتفاوت ، فمن الظنون المعتد بها ما له ضابط شرعي ، كخبر الثقة ، ومنها ما ضابطه أن تطمئن إليه نفس العارف المتوقي المتثبت بحيث يجزم بالإخبار بمقتضاه طيب النفس منشرح الصدر ، فمن الناس من يغتر بالظن الضعيف فيجزم ، وهذا هو الذي يطعن أئمة الحديث في حفظه وضبطه فيقولون : (( يحدث على التوهم - كثير الوهم - كثير الخطأ - يهم - يخطئ )) ومنهم لمعتدل ، ومنهم البالغ التثبت . كان في اليمن في قضاء الحجرية قاض كان يجتمع إليه أهل العلم ويتذاكرون وكنت أحضر مع أخي فلاحظت أن ذلك القاضي مع أنه أعلم الجماعة فيما أرى لا يكاد يجزم في مسألة ، وإنما يقول : (( في حفظي كذا ، في ذهني كذا )) ونحو ذلك فعلمت أنه ألزم نفسه تلك العادة حتى فيما يجزم به ، حتى إذا اتفق أن أخطأ كان عذره بغاية الوضوح ، وفي ثقات المحدثين مع هو أبلغ تحرياً من هذا ولكنهم يعلمون أن الحجة إنما تقوم بالجزم ، فكانوا يجزمون فيما لا يرون للشك فيه مدخلاً ، ويقفون عن الجزم لأدنى احتمال ، روي أن شعبة سأل أيوب السختياني عن حديث فقال : أشك فيه ، فقال شعبة : شكك أحب إلي من يقين غيرك . وقال النضر بن شميل عن شعبة لأن أسمع من ابن عون حديثاً يقول فيه (( أظن أنه سمعته أحب إليَّ من أن أسمع من ثقة غيره يقول : قد سمعت . وعن شعبة قال : (( شك ابن عون وسليمان التيمي يقين )) .

وذكر يعقوب بن سفيان حماد بن زيد فقال : معروف بأنه يقصر في الأسانيد ويوقف المرفوع كثيراً الشك بتوقيه ، وكان جليلاً ، لم يكن له كتاب يرجع إليه فكان أحياناً يذكر فيرفع الحديث وأحياناً يهاب الحديث ولا يرفعه . وبالغ أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب فكان إذا سئل عن شيء لا يجيب حتى يرجع إلى الكتاب . قال أبو طاهر السلفي : سألت أبا الغنائم النرسي عن الخطيب فقال : (( جبل لا يسأل عن مثله ما رأينا مثله ، وما سألته عن شيء فأجاب في الحال إلا يرجع إلى كتابه )) .

وإذا سبق إلى نفس الإنسان أمر - وإن كان ضعيفاً عنده - ثم اطلع على ما يحتمل موافقة ذلك السابق ويحتمل خلافه فإنه يترجح في نفسه ما يوافق السابق ، وقد يقوي ذلك في النفس جداً وإن كان ضعيفاً . وهكذا إذا كانت نفس الإنسان تهوى أمراً فاطلع على ما يحتمل ما يوافقه وما يخالفه فإن نفسه تميل إلى ما يوافق هواها ، والعقل كثيراً ما يحتاج عند النظر في المحتملات والمتعارضات إلى استفتاء النفس لمعرفة الراجح عندها ، وربما يشتبه على الإنسان ما تقضي به نفسه بما يقضي به عقله ، فالنفس بمنزلة المحامي عندما تميل إليه ، ثم قد تكون هي الشاهد وهي الحاكم . والعالم إذا سخط على صاحبه فإنما يكون سخطه لأمر ينكره فيسبق إلى النفس ذاك الإنكار وتهوى ما يناسبه ثم تتبع ما يشاكله وتميل عند الاحتمال والتعارض إلى ما يوافقه ، فلا يؤمن أن يقوي عند العالم جرح من هو ساخط عليه لأمر لولا السخط لعلم أنه لا يُوجب الجرح وعلة الحديث متثبتون ولكنهم غير معصومين عن الخطأ وأهل العلم يمثلون لجرح الساخط بكلام النسائي في أحمد بن صالح ، ولما ذكر ابن الصلاح ذلك في المقدمة عقبه بقوله : (( قلت : النسائي إمام حجة في الجرح والتعديل ، وإذا نسب مثله إلى مثل هذا كان وجهه أن عين السخط تبدي مساوئ . لها في الباطن مخارج صحيحة تعمى عنها بحجاب السخط لا أن ذلك يقع من مثله تعمداً لقدح يعلم بطلانه )) .

وهذا حق واضح غذ لو حمل التعمد سقطت عدالة الجارح ، والفرض أنه ثابت العدالة . هذا وكل ما يخشى في الذم والجرح يخشى مثله في الثناء والتعديل فقد يكون الرجل ضعيفاً في الرواية لكنه صالح في دينه كأبان بن أبي عيا ش ، أو غيور على السنة كمؤمل بن إسماعيل ، أو فقيه كمحمد بن أبي ليلى ، فتجد أهل العلم ربما يثنون على الرجل من هؤلاء غير قاصدين الحكم له بالثقة في روايته . وقد يرى العالم أن الناس بالغوا في الطعن فيبالغ هو في المدح كما يروى عن حماد بن سلمة أنه ذكر له طعن شعبة في أبان ابن أبي عيا ش ، فقال أبان خير من شعبة . وقد يكون العالم واداً لصاحبه فيأتي فيه نحو ما تقدم فيأتي بكلمات الثناء التي لا يقصد بها الحكم ولا سيما عند الغضب كأن تسمع رجلاً يذم صديقك أو شيخك أو إمامك فإن الغضب قد يدعوك إلى المبالغة في إطراء من ذمه وكذلك يقابل كلمات التنفير بكلمات [68] الترغيب ، وكذلك تجد الإنسان إلى تعديل من يميل إليه ويحسن به الظن أسرع منه إلى تعديل غيره ، واحتمال التسمح [69] في الثناء أقرب من احتماله في الذم ، فإن العالم يمنعه من التسمح في الذم الخوف على دينه لئلا يكون غيبة ، والخوف على عرضه فإن من ذم الناس فقد دعاءهم إلى ذمه .

ومن دعا الناس إلى ذمه        ذموه بالحق وبالباطل

ومع هذا كله فالصواب في الجرح والتعديل هو الغالب ، وإنما يحتاج إلى التثبت والتأمل فيمن جاء فيه تعديل وجرح ، ولا يسوغ ترجيح التعديل مطلقاً بأن الجارح كان ساخطاً على المجروح ، ولا ترجيح الجرح مطلقاً بأن المعدل كان صديقاً له ، وإنما يستدل بالسخط والصداقة على قوة احتمال الخطأ إذا كان محتملاً ، فأما إذا لزم من أطراح الجرح أو التعديل نسبة من صدر منه ذلك إلى افتراء الكذب أو تعمد الباطل أو الغلط الفاحش الذي يندر وقوع مثله من مثله فهذا يحتاج إلى بينة أخرى ، لا يكفي فيه إثبات أنه كان ساخطاً أو محباً -

وفي ( لسان الميزان ) ج 1 ص 16 :

(( وممن ينبغي أن يتوقف في قبول قوله في الجرح ، من كان بينه وبين من جرحه عداوة سببها الاختلاف في الاعتقاد ، فإن الحاذق إذا تأمل ثلب أبي إسحاق الجوزجاني لأهل الكوفة رأي العجب ، وذلك لشدة انحرافه في النصب وشهرة أهلها بالتشيع فتراه لا يتوقف في جرح من ذكره منهم بلسان ذلقة وعبارة طلقة حتى أنه أخذ يلين مثل الأعمش وأبي نعيم وعبيد الله بن موسى وأساطين والحديث ، وأركان الرواية ، فهذا إذا عارضه مثله أو أكثر منه فوثق رجلاً ضعفه قبل التوثيق ، ويلتحق به عبد الرحمن بن يوسف بن خرا ش المحدث الحافظ فإنه من غلاة الشيعة بل نسب إلى الرفض فيتأنى في جرحه لأهل الشام للعداوة البينة في الاعتقاد ويلتحق بذلك ما يكون سببه المنافسة في المراتب ما يقع بين العصرين الاختلاف والتباين وغيره فكل هذا ينبغي أن يتأنى فيه ويتأمل )) .

أقول : قول ابن حجر : (( ينبغي أن يتوقف )) مقصودة كما لا يخفي التوقف على وجه التأني والتروي والتأمل ، وقوله : (( فهذا إذا عارضه مثله ... قبل التوثيق )) محله ما هو الغالب من أن لا يلزم من إطراح الجرح نسبة الجارح إلى افتراء الكذب ، أو تعمد الحكم بالباطل ، أو الغلط الفاحش الذي يندر وقوعه ، فأما إذا لزم شيء من هذا فلا محيص عن قبول الجرح إلا أن تقوم بينة واضحة تثبت تلك النسبة .

وقد تتبعت كثيراً من كلام الجوزجاني في المتشيعين فلم أجده متجاوزاً الحد ، وإنما الرجل لما فيه من النصب يرى التشيع مذهباً سيئاً وبدعة ضلالة وزيغاً عن الحق وخذلانا ، فيطلق على المتشيعين ما يقضيه اعتقاده كقوله (( زائغ عن القصد - سيء المذهب )) ونحو ذلك ، وكلامه في الأعمش ليس فيه جرح بل هو توثيق وإنما فيه ذم بالتشيع والتدليس وهذا أمر متفق عليه أن الأعمش كان يتشيع ويدلس وربما دلس عن الضعفاء وربما كان في ذلك ما ينكر ، وهكذا كلامه في أبي نعيم ، فأما عبيد الله بن موسى فقد تكلم فيه الإمام أحمد وغيره بأشد من كلام الجوزجاني وتكلم الجوزجاني في عاصم بن ضمرة وقد تكلم فيه ابن المبارك وغيره واستنكروا من حديثه ما استنكره الجوزجاني راجع ( سنن البيهقي ) ج 3 ص 51 غاية الأمر أن الجوزجاني هول وعلى كل حال فلم يخرج من كلام أهل العلم ، وكأن ابن حجر توهم أن الجوزجاني في كلامه في عاصم يُسِّرحَسْوا في ارتغاء ، وهذا تخيل لا يلتفت إليه . وقال الجوزجاني في يونس ابن خباب (( كذاب مفتر )) ويونس وإن وثقه ابن معين فقد قال البخاري (( منكر الحديث )) وقال النسائي مع ما عرف عنه (( ليس بثقة )) واتفقوا على غلو يونس ونقلوا عنه أنه قال : إن عثمان بن عفان قتل ابنتي النبي صلى الله عليه وآله وسلم . وأنه روى حديث سؤال القبر ثم قال : ههنا كلمة أخفاها الناصبة ، قيل له ما هي ؟ قال أنه ليسأل في قبره : من وليك؟ فإن قال : عليٌّ نجا ! فكيف لا يعذر الجوزجاني مع نصبه أن يعتقد في مثل هذا أنه كذاب مفتر ؟

وأشد ما رأيته للجوزجاني ما تقدم عنه في القاعدة الثالثة من قوله (( ومنهم زائغ عن الحق )) وقد تقبل ابن حجر ذلك على ما فهمه من معناه وعظَّمه كما مر ، وذكر نحو ذلك في ( لسان الميزان ) نفسه ج1 ص11 وإني لأعجب من الحافظ ابن حجر رحمه الله يوافق الجوزجاني على ما فهمه من ذلك ويعظمه مع ما فيه من الشدة والشذوذ كما تقدم، ويشنع عليه ههنا ويهول فيما هو أخف من ذلك بكثير عندما يتدبر . والله المستعان.

 

5- هل يشترط تفسير الجرح ؟

إعلم أن الجرح على درجات الأولى المجمل وهو ما لم يبين فيه السبب كقول الجارح (( ليس بعدل )) (( فاسق )) ومنه على ذكره الخطيب في ( الكفاية ) ص 108 عن القاضي أبي الطيب الطبري قول أئمة الحديث (( ضعيف )) أو (( ليس بشيء )) وزاد الخطيب قولهم (( ليس بثقة )) .

الثانية مبين السبب ، ومثل له بعض الفقهاء بقول الجارح (( زان )) ، (( سارق )) ، ((قاذف)) .

ووراء ذلك درجات بحسب احتمال الخلل وعدمه فقوله : (( فلان قاذف )) قد يحتمل الخلل من جهة أن يكون الجارح أخطأ في ظنه أن الواقع قذف ، ومن جهة احتمال أن يكون المرمي مستحقاً للقذف ، ومن جهة احتمال أن لا يكون الجارح سمع ذلك من المجروح وإنما بلغه عنه ، ومن جهة أن يكون إنما سمع رجلاً آخر يقذف فتوهم أنه الذي سماه ، ومن جهة احتمال أن يكون المجروح إنما كان يحكي القذف عن غيره ، أو يفرض أن قائلاً قاله فلم يسمع الجارح أول الكلام ، إلى غير ذلك من الاحتمالات ، نعم إنها خلاف الظاهر ولكن قد يقوي المعارض جداً فيغلب على الظن أن هناك خللاً وإن لم يتبين .

واختلف أهل العلم في الدرجة الأولى وهي الجرح المجمل إذا صدر من العارف بأسباب الجرح فمنهعم من قال يجب العمل به ، ومنهم من قال  لا يعمل به لأن الناس اختلفوا في أشياء يراها نعضهم فسقاً ولا يوافقه غيره . وفصل الخطيب فيما نقله عنه العراقي والسخاوي قال :

(( إن كان الذي يرجع إليه عدلاً مرضياً في اعتقاده وأفعاله عارفاً بصفة العدالة والجرح وأسبابها ، عالماً باختلاف الفقهاء في أحكام ذلك قبل قوله فيمن جرحه مجملاً ولا يسأل عن سببه )) .

يريد أنه إذا كان عارفاً باختلاف الفقهاء فالظاهر أنه لا يجرح إلا بما هو جرح باتفاقهم .

وأقول : لا بد من الفرق بين جرح الشاهد وجرح الراوي ، وبين ما إذا كان هناك ما يخالف الجرح وما إذا لم يكن هناك ما يخالفه ، فأما الشاهد فله ثلاث أحوال :

الأولى : أن تكون قد ثبتت عدالته في قضية سابقة وقضى بها القاضي ثم جرح في قضية أخرى .

الثانية : أن لا تكون قد ثبتت عدالته ولكن وسئل عنه عارفوه ، فمنهم من عدله ومنهم من جرحه .

الثالثة : أن لا يكون قد ثبتت عدالته وسئل عنه عارفوه فجرحه بعضهم وسكت الباقون .

فأما الثالثة : فإن كان القاضي لا يقبل شهادة من لم يعدل فأي فائدة في استفسار الجارح ؟ وإن كان يقبلها فلضعفها يكفي الجرح المجمل .

وأما الثانية : فقد يكثر الجارحون فيغلب على الظن صحة جرحهم وإن أجملوا ، وقد لا تحصل غلبة الظن إلا بالدرجة الثانية من الجرح وهي بيان السبب ، وقد لا تحصل إلا بأزيد منها مما مر بيانه ، وإذا كان القاضي متمكناً من الاستفسار لحضور الجارح عنده أو قربه منه فينبغي أن يستوفيه على كل حال لأنه كلما كان أقوى كان أثبت للحجة وأدفع للتهمة .

وأما الأولى : فينبغي أن لا يكفي فيها جرح مجمل ولو مع بيان السبب بل يحتاج إلى بيان المستند بما يدفع ما يحتمل من الخلل .

وأما الراوي فحاله مخالفة للشاهد فيما نحن فيه من أوجه :

الأول : أن الذين تكلموا في الرواة أئمة أجلّة ، والغالب فيمن يجرح الشاهد أن لا يكون بتلك الدرجة ولا ما يقاربها .

الثاني : أن الذين تكلموا في الرواة منصبهم منصب الحكام وقد قال الفقهاء : إن المنصوب لجرح الشهود يكتفي منه بالجرح المجمل .

الثالث : أن القاضي متمكن من استفسار جارح الشاهد كما مر والذين جرحوا الرواة يكثر في كلامهم الإجمال ، وأن لا يستفسر هم أصحابهم ، ولم يبقى بأيدي الناس إلا نقل كلامهم ولم يزل أهل العلم يتلقون كلماتهم ويحتجون بها .

وبعد أن اختار ابن الصلاح اشتراط بيان السبب قال : (( ولقائل أن يقول إنما يتعمد الناس في جرح الرواة ورد حديثهم على الكتب التي صنفها أئمة الحديث ... وقلَّ ما يتعرضون لبيان السبب بل يقتصرون على ... فلان ضعيف ، و : فلان ليس بشيء ونحو ذلك ... فاشترط بيان السبب يفضي إلى ذلك تعطيل ذلك وسد باب الجرح في الأغلب الأكثر ، وجوابه أن ذلك وإن لم نعتمده في إثبات الجرح والحكم به فقد اعتمدناه في أن توقفنا عن قبول حديث من قالوا فيه مثل ذلك بناء على أن ذلك أوقع عندنا فيهم ريبة قوية يوجب مثلها التوقف ، ثم من انزاحت عنه الريبة منهم ببحث عن حاله أوجب الثقة بعدالته قبلنا حديثه ولم نتوقف كالذين احتج بهم صاحبا (الصحيحين ) وغيرهم ممن مسهم مثل هذا الجرح من غيرهم فافهم ذلك فإنه مخلص حسن )) .

وتبعه النووي في ( التقريب ) و( شرح صحيح مسلم ) ولفظه هناك :

(( على مذهب من اشترط في الجرح التفسير نقول : فائدة الجرح فيمن جرح مطلقاً أن يتوقف عن الاحتجاج به إلى أن يبحث عن ذلك الجرح .... )) وذكر العراقي في ( ألفيته ) و ( شرحها ) بعض الذين أشار ابن الصلاح إلى أن صاحبي ( الصحيحين ) احتجابهم وقد جرحوا فذكر ممن روى له البخاري عكرمة مولى ابن عباس وعمرو بن مرزوق الباهلي وممن روى له مسلم سويد بن سعيد ، وهؤلاء قد سبق جرحهم ممن قبل صاحبي ( الصحيح ) وكذلك سبق تعديلهم أيضا فهذا يدل أن التوقف الذي ذكره ابن الصلاح والنووي يشمل من اختلف فيه فعدله بعضهم وجرحه غيره جرحاً غير مفسر وسياق كلامهما يقتضي ذلك ، بل الظاهر أن هذا هو المقصود فإن من لم يعدل نصاً أو حكما ولم يجرح يجب التوقف عن الاحتجاج به ، ومن لم يعدل وجرح جرحاً مجملا فالأمر فيه أشد من التوقف والارتياب .

فالتحقيق أن الجرح المجمل يثبت به جرح من لم يعدل نصاً ولا حكماً ، ويوجب التوقف فيمن قد عدل حتى يسفر البحث عما يقتضي قبوله أو رده ، وسيأتي تفضيل ذلك إن شاء الله تعالى .

 

6- كيف البحث عن أحوال الرواة

من أحب أن ينظر في كتب الجرح والتعديل عن حال رجل وقع في سند ، فعليه أن يراعي أموراً :

الأول : إذا وجد ترجمة بمثل ذاك الاسم فليثبت حتى يتحقق أن تلك الترجمة هي لذاك الرجل فإن الأسماء كثيراً ما تشتبه ويقع الغلط والمغالطة فيها كما يأتي في الأمر الرابع ، وراجع ( الطليعة ) ص 11- 43 .

الثاني : ليستوثق من صحة النسخة وليراجع غيرها إن تيسر له ليتحقق أن ما فيها ثابت عن مؤلف الكتاب . راجع ( الطليعة ) ص 55- 59 .

الثالث : إذا وجد في الترجمة كلمة جرح أو تعديل منسوبة إلى بعض الأئمة فلينظر أثابتة هي عن ذاك الإمام أم لا ؟ راجع ( الطليعة ) ص 78- 86

الرابع : ليستثبت أن تلك الكلمة قيلت في صاحب الترجمة فإن الأسماء تتشابه ، وقد يقول المحدث كلمة في راو فيظنها السامع في آخر ، ويحكيها كذلك وقد يحكيها السامع فيمن قيلت فيه ويخطئ بعض من بعده فيحملها على آخر . ففي الرواة المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي ، والمغيرة بن عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد ابن حزام الحزامي ، والمغيرة بن عبد الرحمن بن عوف الأسدي . حكى عباس الدوري عن يحيى بن معين توثيق الأول وتضعيف الثالث . فحكى ابن أبي حاتم عن الدوري عن ابن معين توثيق الثاني ووهمه المزي ، ووثق أبو داود الثالث وضعف الأول ، فذكرت له حكاية الدوري عن ابن معين فقال : غلط عباس .

وفي الرواة محمد بن ثابت البناني ومحمد بن ثابت العبدي وغيرهما ، فحكى ابن أبي حاتم عن ابن أبي خيثمة عن ابن معين أنه قال في الأول (( ليس بقوي ... )) وذكر ابن حجر أن الذي في ( تاريخ ابن أبي خيثمة ) حكاية تلك المقالة في الثاني ، وحكى عثمان الدرامي عن ابن معين في الثاني أنه ليس به بأس ، وحكى معاوية بن صالح عن ابن معين أنه ينكر على الثاني حديث واحد . وحكى الدوري عن ابن معين أنه ضعف الثاني ، وقال الدوري (( فقلت له أليس قد قلت مرة : ليس به بأس ؟ قال : ما قلت هذا قط ))

وفي الرواة عمر بن نافع مولى عمر وعمر بن نافع الثقفي ، حكى ابن عدي في ترجمة الأول عن ابن معين أنه قال : (( ليس حديثه بشيء )) فزعم ابن حجر أن ابن معين إنما قالها الثاني .

وفي الرواة عثمان البتي وعثمان البري ، حكى الدوري عن ابن معين في الأول (( ثقة )) وحكى معاوية بن صالح عنه فيه (( ضعيف )) قال النسائي (( وهذا عندي خطأ ولعله أراد عثمان البري ))

وفي الرواة أبو الأشهب جعفر بن حيان وأبو الأشهب جعفر بن الحارث ، وثق الأمام أحمد الأول فحكى ابن شاهين ذلك في الثاني - كما في نبذة من كلامه طبعت مع ( تاريخ جرجان ) وضعف جماعة الثاني فحكى ابن الجوزي كلماتهم في ترجمة الأول .

وفي الرواة أحمد بن صالح ابن الطبري الحافظ وأحمد بن صالح الشموسي ، حكى النسائي عن معاوية بن صالح عن ابن معين كلاماً عده النسائي فذكر ابن حبان : إنما قاله ابن معين في الثاني .

وفي الرواة معاذ بن رفاعة الأنصاري ومعان رفاعة السلامي نقل الناس عن الدوري أنه حكى عن ابن معين أنه قال في الثاني وهو معان (( ضعيف )) ونقل أبو الفتح الأزدي عن عباس أنه حكى عن ابن معين أنه قال في الأول وهو معاذ (( ضعيف )) فكأنه تصحف على الأزدي .

وفي الرواة القاسم العمري وهو ابن عبد الله بن عمر بن حفص ، والقاسم المعمري وهو ابن محمد فحكى عثمان الدارمي عن ابن معين أنه قال (( قاسم المعمري كذاب خبيث )) قال الدرامي (( وليس كما قال يحيى )) والمعمري قد وثقه قتيبة ، أما العمري فكذبه الأمام أحمد وقال الدوري عن ابن معين (( ضعيف ليس بشيء )) فيشبه أن يكون ابن معين إنما قال (( قاسم العمري كذاب خبيث )) فكتبها عثمان الدارمي ثم بعد مدة راجعها في كتابه فاشتبه عليه فقرأها (( قاسم المعمري ... )) .

وفي الرواة إبراهيم بن أبي حرة وإبراهيم بن أبي حية ، روى ابن أبي حاتم من طريق عثمان الدارمي على ابن معين توثيق الثاني ومن تدبر الترجمتين كاد يجزم بأن هذا غلط على ابن معين وأنه إنما وثق الأول .

وحكى أبو داود الطيالسي قصة لأبي الزبير محمد بن مسلم بن تدرس المكي وحكى هو عن شعبة قصة نحو تلك لمحمد بن الزبير التميمي البصري . وأخشى أن يكون الطيالسي وهم في أحدهما .

وذكر ابن أبي خيثمة في كلامه في فطر بن خليفة ما لفظه (( سمعت قطبة بن العلاء يقول تركت فطراً لأنه روى أحاديث فيها أزرار على عثمان )) .

وذكر هو في كلامه في فضيل بن عياض (( سمعت قطبة بن العلاء يقول تركت حديث فضيل لأنه روى أحاديث فيها إزراء على عثمان )) .

وأخشى أن تكون كلمة قطبة إنما هي في فطر فحكاها ابن أبي خيثمة مرة على الصواب ، ثم تصحفت عليه .. (( فطر )) بفضيل فحكاها في فضيل بن عياض .

وحكى محمد بن وضاح القرطبي أنه سأل ابن معين عن الشافعي فقال (( ليس بثقة )) فحكاها ابن وضاح في الشافعي الإمام ، فزعم بعض المغاربة أن ابن معين إنما قالها في أبي عبد الرحمن أحمد بن يحيى بن عبد العزيز الأعمى المشهور بالشافعي فأنه كان ببغداد ، وابن وضاح لقي ابن معين ببغداد فكأنه سأل ابن معين عن الشافعي يريد ابن وضاح الإمام فظن ابن معين أنه يريد أبا عبد الرحمن لأنه كان حيا معهما في البلد . وفي ترجمة والد أبي عبد الرحمن من (( التهذيب )) أن ابن معين قال .. ما أعرفه وهو والد الشافعي الأعمى ))

الخامس : إذا رأى في الترجمة (( وثقة فلان )) أو (( ضعفه فلان )) أو (( كذبه فلان (( فليبحث عن عبارة فلان ، فقد لا يكون قال : (( هو ثقة )) أو (( هو ضعيف )) أو (( هو كذاب )) ففي ( مقدمة الفتح ) في ترجمة إبراهيم بن سويد بن حبان المدني (( وثقه ابن معين وأبو زرعة )) والذي في ترجمته من ( التهذيب ) : قال أبو زرعة ليس به بأس )) وفي ( المقدمة ) في ترجمة إبراهيم ابن المنذر الحزامي (( وثقه ابن معين ... والنسائي )) والذي في ترجمته من (( التهذيب )) :

(( قال عثمان الدارمي رأيت ابن معين عن كتب إبراهيم بن المنذر أحاديث ابن وهب ظننتها المغازي وقال النسائي ليس به بأس )) .

وفي ( الميزان ) و ( اللسان ) في ترجمة معبد بن جمعة (( كذبة أبو زرعة الكيشي )) وليس في عبارة أبي زرعة الكيشي ما يعطي هذا بل فيها أنه (( ثقة في الحديث )) وقد شرحت ذلك في ترجمة معبد من قسم التراجم .

السادس : أصحاب الكتب كثيراً ما يتصرفون في عبارات الأئمة بقصد الاختصار أو غيره وربما يخل ذلك بالمعنى فينبغي أن يراجع عدة كتب فإذا وجد اختلافاً بحث عن العبارة الأصلية ليبنى عليها .

السابع قال ابن حجر في ( لسان الميزان ) ج 1 ص 17 :

(( وينبغي أن يتأمل أيضاً أقوال المزكين ومخارجها ... فمن ذلك أن الدوري قال عن ابن معين أنه سئل عن إسحاق وموسى بن عبيدة الربذي : أيهما أحب إليك ؟ فقال : ابن إسحاق ثقة ، وسئل عن محمد بن إسحاق بمفرده فقال : صدوق وليس بحجة ، ومثله أن أبا حاتم قيل له : أيهما أحب إليك يونس أو عقيل ؟ فقال : عقيل لا بأس به ، وهو يريد تفضليه على يونس ، وسئل عن عقيل وزمعة بن صالح فقال : عقيل لا بأس به ، وهو يريد تفضليه على يونس ، وسئل عن عقيل وزمعه بن صالح فقال : عقيل ثقة متقن ، وهذا حكم على اختلاف السؤال ، وعلى هذا يحمل أكثر ما زرد من اختلاف أئمة الجرح والتعديل ممن وثق رجلاً في وقت وجرحه في وقت آخر ... )) ([70]) .

أقول وكذلك ما حكوا من كلام مالك في ابن إسحاق إذا حكيت القصة على وجهها تبين أن كلمة مالك فلتة لسان عند سورة غضب لا يقصد بها الحكم . وكذلك ما حكوه عن ابن معين أنه قال لشجاع بن الوليد (( يا كذاب )) فحملها ابن حجر على المزاح .

ومما يدخل في أنهم قد يضعفون الرجل بالنسبة إلى بعض شيوخه أو إلى بعض الرواة عنه أو بالنسبة إلى ما رواه من حفظه أو بالنسبة إلى ما رواه بعد اختلاطه وهو عندهم ثقة فيما عدا ذلك ، فإسماعيل بن عياش ضعفوه فيما روى غير الشاميين . وزهير بن محمد ضعفوه فيما رواه عنه الشاميون . وجماعة آخرون ضعفوهم في بعض شيوخهم أو فيما رووه بعد الاختلاط . ثم قد يحكى التضعيف مطلقاً فيتوهم أنهم ضعفوا ذلك الرجل في كل شيء . ويقع نحو هذا في التوثيق راجع ترجمة عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود قال أحمد مرة ثقة وكذا قال ابن معين ثم بين كل منهما مرة أنه اختلط  وزاد ابن معين فبين أنه كان كثير الغلط عن بعض شيوخه غير صحيح الحديث عنهم .

ومن ذلك أن المحدث قد يسأل عن رجل فيحكم عليه بحسب ما عرف من مجموع حاله ثم قد يسمع له حديثاً آخر فيحكم عليه حكماً يميل فيه إلى حاله في ذاك الحديث ثم قد يسمع له حديثاً آخر فيحكم عليه حكماً يميل فيه إلى حال في هذا الحديث الثاني ، فيظهر بين كلامه في هذه المواضع بعض الاختلاف ، وقع مثل هذا للدارقطني في ( سننه ) وغيرها وترى بعض الأمثلة في ترجمة الدارقطني من قسم التراجم . وقد ينقل الحكم الثاني والثالث وحده فيتوهم أنه حكم مطلق .

الثامن : ينبغي أن يبحث عن معرفة الجارح أو المعدل بمن جرحه أو عدله ، فإن أئمة الحديث لا يقتصرون على الكلام فيمن طالت مجالستهم له وتمكنت معرفتهم به ، بل قد يتكلم أحدهم فيمن لقيه مرة واحدة وسمع منه مجلساً واحداً وفيمن عاصره ولم يلقه ولكنه بلغه شيء من حديثه ، وفيمن كان قبله بمدة قد تبلغ مئات السنين إذا بلغه شيء من حديثه ، ومنهم من يجاوز ذلك ، فابن حبان قد يذكر في ( الثقات ) من يجد البخاري سماه في ( تاريخه ) من القدماء وإن لم يعرف ما روى وعمن روى ومن روى عنه ، ولكن ابن حبان يشدد وربما تعنت فيمن وجد في روايته ما استنكر وإن كان الرجل معروفاً مكترا والعجلي قريب منه في توثيق المجاهيل من القدماء ، وكذلك ابن سعد ، وابن معين والنسائي وآخرون غيرهما يوثقون من كان من التابعين أو أتباعهم إذا وجدوا رواية أحدهم مستقيمة بأن يكون له فيما يروي متابع أو مشاهد ، وإن لم يروا عنه إلا واحد ولم يبلغهم عنه إلا حديث واحد فممن وثقه ابن معين من هذا الضرب الأسقع بن الأسلع والحكم بن عبد الله البلوي ووهب بن جابر الخيواني وآخرون ، وممن وثقه النسائي رافع ابن إسحاق وزهير بن القمر وسعد بن سمرة وآخرون ، وقد روى العوام بن حوشب عن الأسود بن مسعود عن حنظلة بن خويلد عن عبد الله بن عمرو بن العاص حديثاً ولا يعرف الأسود وحنظله إلا في تلك الرواية فوثقهما ابن معين وروى همام عن قتادة بن قدامة بن وبرة عن سمرة بن جندب حديثاً ولا يعرف قدامة إلا في هذه الرواية فوثقها ابن معين مع أن الحديث غريب وله علل آخر راجع ( سنن البيهقي ) 3 ج ص 248 .

من الأئمة من لا يوثق من تقدمه حتى يطلع على عدة أحاديث له تكون مستقيماً وتكثر حتى يغلب على ظنه أن الاستقامة كانت ملكة لذاك الراوي ، وهذا كله يدل على أن جل اعتمادهم في التوثيق والجرح إنما هو على سبر حديث الراوي ، وقد صرح ابن حبان بأن المسلمين على الصلاح والعدالة حتى يتبين منهم ما يوجب القدح ، نص على ذلك في ( الثقات ) وذكره ابن حجر في ( لسان الميزان ) ج 1 ص 14 واستغربه ، ولو تدبر لوجد كثيراً من الأئمة يبنون عليه فإذا تتبع أحدهم أحاديث الراوي فوجدها مستقيمة تدل على صدق وضبط ولَم يبلغه وما يوجب طعناً في دينه وثقه ، وربما تجاوز بعضهم هذا كما سلف ، ([71]) وربما يبني بعضهم على هذا حتى في أهل عصره . وكان ابن معين إذا لقي في رحلته شيخاً فسمع منه مجلساً ، أو ورد بغداد شيخ فسمع منه مجلساً فرأى تلك الأحاديث مستقيمة ثم سأل عن الشيخ ؟ وثقه وقد يتفق أن يكون الشيخ دجالاً استقبل ابن معين بأحاديث صحيحة ويكون قد خلط قبل ذلك أو يخلط بعد ذلك ذكر ابن الجنيد أنه سئل ابن معين عن محمد بن كثير القرشي الكوفي فقال (( ما كان به بأس )) فحكى له عنه أحاديث تستنكر ، فقال ابن معين : (( فإن كان الشيخ روى هذا فهو كذاب وألا فإني رأيت الشيخ مستقيماً )) . وقال ابن معين في محمد بن القاسم الأسدي : (( ثقة وقد كتبت عنه )) وقد كذبه أحمد وقال : (( أحاديثه موضوعة )) وقال أبو داود : (( غير ثقة ولا مأمون ، أحاديثه موضوعة )) .

وهكذا يقع في التضعيف ربما يجرح أحدهم الراوي لحديث واحد استنكره وقد يكون له عذر .

ورد ابن معين مصر ، فدخل على عبد الله بن الحكم فسمعه يقول : حدثني فلان وفلان وفلان . وعد جماعة روى عنهم قصة ، فقال ابن معين : (( حدثك بعض هؤلاء بجميعه وبعضهم ببعضه ؟ )) فقال : (( لا حدثني جميعهم بجميعه ، فراجعه فأصر ، فقام يحيى وقال للناس : (( يكذب )) .

ويظهر لي أن عبد الله إنما أراد أن كلا منهم حدثه ببعض القصة فجمع ألفاظهم ، وهي قصة في شأن عمر بن عبد العزيز ليست بحديث فظن يحيى أن مراده أن كلاً منهم حدثه بالقصة بتمامها على وجهها في ذلك ، وقد أساء الساجي إذا اقتصر في ترجمة عبد الله على قوله : (( كذبه ابن معين )) .

وبلغ ابن معين أن أحمد بن الأزهر النيسابوري يحدث عن عبد الرزاق بحديث استنكره يحيى فقال : (( من هذا الكذاب النيسابوري الذي يحدث عن عبد الرزاق بهذا الحديث ؟! )) وكان أحمد بن الأزهر حاضراً فقام فقال : (( هو ذا أنا )) فتبسم يحيى وقال : (( أما إنك لست بكذاب ... )) وقال ابن عمار في إبراهيم بن طهمان (( ضعيف مضطرب الحديث )) فبلغ ذلك صالح بن محمد الحافظ الملقب جزرة فقال : (( ابن عمار من أين يعرف إبراهيم؟ إنما وقع إليه حديث إبراهيم في الجمعة .. والغلط فيه من غير إبراهيم )) .

التاسع : ليبحث عن رأي كل إمام من أئمة الجرح والتعديل واصطلاحه مستعيناً على ذلك بتتبع كلامه في الرواة واختلاف الرواية عنه في بعضهم مع مقارنة كلامه بكلام غيره ، فقد عرفنا في الأمر السابق رأي بعض من يؤثق المجاهيل من القدماء إذا وجد حديث الراوي منهم مستقيماً ، ولو كان حديثاً واحداً لم يروه عن ذاك المجهول إلا واحد، فإن شئت فاجعل هذا رأيا لأولئك الأئمة كابن معين ، وإن شئت فاجعله اصطلاحاً في كلمة (( ثقة )) كأن يراد بها استقامة ما بلغ الموثق من حديث الراوي لا الحكم للراوي نفسه بأنه في نفسه بتلك المنزلة .

وقد اختلف كلام ابن معين في جماعة ، يوثق أحدهم تارة ويضعفه أخرى ، منهم إسماعيل بن زكريا الخُلقاني ، وأشعث بن سوار ، والجراح بن مليح الرواسي ، وزيد بن أبي العالية ، والحسن بن يحيى الخُشَني ، والزبير بن سعيد ، وزهير بن محمد التميمي ، وزيد بن حبان الرقي ، وسلم العلوي ، وعافية القاضي ، وعبد الله الحسين أبو حريز ، وعبد الله بن عقيل أبو عقيل ، وعبد الله بن عمر بن حفص العمري ، وعبد الله بن واقد أبو قتادة الحراني ، وعبد الواحد بن غياث ، وعبيد الله بن عبد الرحمن بن موهب ، وعتبة بن أبي حكيم ، وغيرهم . وجاء عنه توثيق جماعة ضعفهم الأكثر ون منهم تمام بن نجيح ، ودراج ابن سمعان ، والربيع بن حبيب الملاح وعباد بن كثير الرملي ، ومسلم بن خالد الزنجي ، ومسلمة بن علقمة ، وموسى بن يعقوب الزمعي ، ومؤمل بن إسماعيل ، ويحيى بن
عبد الحميد الحماني . وهذا يشعر بأن ابن معين كان ربما يطلق كلمة .. ثقة )) لا يريد بها أكثر من أن الراوي لا يتعمد الكذب .

وقد يقول ابن معين في الراوي مرة (( ليس بثقة )) ومرة (( ثقة )) أو (( لا بأس به )) أو نحو ذلك (راجع تراجم جعفر بن ميمون التميمي وزكريا بن منظور ونوح بن جابر ). وربما يقول في الراوي (( ليس بثقة )) ويوثقه غيره ( راجع تراجم عاصم بن علي وفليح ابن سليمان وابنه محمد بن فليح ومحمد بن كثير العبدي )) . وهذا قد يشعر بأن ابن معين قد يطلق كلمة (( ليس بثقة )) على معنى أن الراوي ليس بحيث يقال فيه ثقة على المعنى المشهور لكلمة (( ثقة )) .

فأما استعمال كلمة (( ثقة )) على ما هو دون معناها المشهور فيدل عليه مع ما تقدم أن جماعة يجمعون بينها وبين التضعيف ، قال أبو زرعة لعمر بن عطاء بن وراز (( ثقة لين )) وقال الكعبي في القاسم أبي عبد الرحمن الشامي (( ثقة يكتب حديثه وليس بالقوي )). وقال ابن سعد في جعفر بن سليمان الضبعي (( ثقة وبه ضعف )) . وقال ابن معين في عبد الرحمن بن زياد بن أنْعُم (( ليس به بأس وهو ضعيف )) وقد ذكروا أن ابن معين يطلق كلمة (( ليس به بأس )) بمعنى (( ثقة )) وقال يعقوب بن شيبة في ابن أنعم هذا (( ضعيف الحديث وهو ثقة صدوق رجل صالح )) وفي الربيع بن صبيح : (( صالح صدوق ثقة ضعيف جداً )) وراجع تراجم إسحاق بن يحيى بن طلحة ، وإسرائيل بن يونس وسفيان بن حسين وعبد الله بن عمر بن جعفر بن عاصم وعبد الأعلى بن عامر الثعلبي وعبد السلام بن حرب وعلى بن زيد بن جدعان ومحمد بن مسلم بن تدرس ومؤمل بن إسماعيل ويحيى بن يمان . وقال يعقوب بن سفيان في أجلح (( ثقة حديثه لين )) وفي محمد ابن عبد الرحمن بن أبي ليلى (( ثقة عدل في حديثه بعض المقال لين الحديث عندهم )) .

وأما كلمة (( ليس بثقة )) فقد روى بشر بن عمر عن مالك إطلاقها في جماعة منهم صالح مولى التوءمة وشعبة مولى ابن عباس وفي ترجمة مالك من ( تقدمة الجرح والتعديل ) لابن أبي حاتم عن يحيى القطان أنه سأل مالكاً عن صالح هذا ؟ فقال : (( لم يكن من القراء)) وسأله عن شعبة هذا فقال (( لم يكن من القراء )) فأما صالح فأثنى عليه أحمد وابن معين ، وذكر أنه اختلط بأخرة ، وأن مالكاً إنما أدركه بعد الاختلاط ، وأما شعبة مولى ابن عباس فقال أحمد (( ما أرى به بأساً )) وكذا قال ابن معين ، وقال البخاري (( يتكلم فيه مالك ويحتمل منه )) قال ابن حجر (( قال أبو الحسن ابن القطان الفاسي : قوله ويحتمل منه . يعني من شعبة وليس هو ممن يترك حديثه ، قال ومالك لم يضعفه وإنما شح عليه بلفظة ثقة - قلت هذا التأويل غير شائع بل لفظة ليس بثقة في الاصطلاح توجب الضعف الشديد ، وقد قال ابن حبان روى عن ابن عباس مالاً أصل له حتى كأنه ابن عباس آخر )) .

يقول ابن حبان كثيراً ما يهول مثل هذا التهويل في غير محله كما يأتي في ترجمته وترجمة محمد بن الفضل من قسم التراجم ، وكلمة (( ليس بثقة )) حقيقتها اللغوية نفي أن يكون بحيث يقال له (( ثقة )) ولا مانع من استعمالها بهذا المعنى وقد ذكرها الخطيب في( الكفاية ) في أمثلة الجرح غير المفسر ، واقتصار مالك في رواية يحيى القطان على قوله (( لم يكن من القراء )) يشعر بأنه أراد هذا المعنى .نعم إذا قيل (( ليس بثقة ولا مأمون )) تعين الجرح شديد ، وإن اقتصر على (( ليس بثقة )) فالمتبادر جرح شديد ، ولكن إذا كان هناك ما يشعر بأنها استعملت في المعنى الآخر حملت عليه ، وهكذا كلمة ثقة معناها المعروف التوثيق التام ، فلا تصرف عنه إلا بدليل ، إما قرينة لفظية كقول يعقوب (( ضعيف الحديث وهو ثقة صدوق )) وبقية الأمثلة السابقة ، وإما حالية منقولة أو مستدل عليها بكلمة أخرى عن قائلها كما مر في الأمر السابع عن ( لسان الميزان ) ، أو عن غيره ولا سيما إذا كانوا هم الأكثر .

فتدبر ما تقدم وقابله بما قاله الكوثري في ( الترحيب ) ص 15 قال : (( وكم من راو يوثق ولا يحتج به كما في كلام يعقوب الفسوي ، بل كم ممن يوصف بأنه صدوق ولا يعد ثقة كما قال ابن مهدي : أبو خلدة صدوق مأمون ، الثقة سفيان وشعبة )) .

وعلى الأستاذ موأخذات :

الأولى : أنه ذكر هذا في معرض الاعتذار ، وأنا لم أناقشه فيما قام الدليل فيه .

الثانية : أن كلمة يعقوب التي أشار إليها هي قوله (( كتبت عن ألف شيخ وكسر كلهم ثقات ما أحد منهم أتخذه عنه الله حجة إلا أحمد بن صالح بمصر وأحمد بن حنبل بالعراق )) أوردتها في ( الطليعة ) ص 21 إلى قوله (( ثقات )) ذكرت ذلك من جملة الشواهد على أن شيخ يعقوب في ذاك السند هو أحمد بن الخليل الموثق لا أحمد بن الخليل المجروح ، فزعم الأستاذ في ( الترحيب ) أنني اقتصرت على أول العبارة لأوهم أن شيخ يعقوب في ذاك السند ثقة يحتج به ‍! وهذا كما ترى ،

أولاً لأن سياق كلامي هناك واضح في أني إنما أردت تعيين شيخ يعقوب فأما الاحتجاج وعدمه فلا ذكر له هناك .

ثانياً لأن بقية عبارة يعقوب لا تعطي أن شيوخه كلهم غير الأحمدين لا يحتج بأحد منهم في الرواية ، كيف وفيهم أئمة أجلة قد أحتج براويتهم الأحمدان أنفسهما ، بل قام الإجماع على ذلك ، وإنما أراد يعقوب بالحجة عند الله من يؤخذ بروايته ورأيه وقوله وسيرته .

الثالثة : أن كلمة ابن مهدي لا توافق مقصود الأستاذ فأنها تعطي بظاهرها أن كلمة (( ثقة )) إنما تطلق على الدرجات كشعبة وسفيان ، ومع العلم بأن ابن مهدي وجميع الأئمة يحتجون برواية عدد لا يحصون ممن هم دون شعبة وسفيان بكثير فكلمته تلك تعطي بظاهرها أن من كان دون شعبة وسفيان فإنه وإن كان عدلاً ضابطاً تقوم الحجة بروايته فلا يقال له (( ثقة )) بل يقال (( صدوق )) ونحوها وأين هذا من الأستاذ ؟

الرابعة : أن كلمة ابن مهدي بظاهرها منتقدة من وجهين :

الأول : أنه وكافة الأئمة قبله وبعده يطلقون كلمة (( ثقة )) على العدل الضابط وإن كان دون شعبة وسفيان بكثير .

الثاني: أن أبا خلدة قد قال فيه يزيد بن زريع والنسائي وابن سعد والعجلي والدارقطني (( ثقة )) وقال ابن عبد البر (( هو ثقة عند جميعهم وكلام ابن مهدي لا معنى له في اختيار الألفاظ )) وأصل القصة أن ابن مهدي كان يحدث فقال (( حدثنا أبو خلدة - )) فقال له رجل (( كان ثقة ؟ )) فأجاب ابن مهدي بما مر . فيظهر لي أن السائل فخم كلمة (( ثقة )) ورفع يده وشدها بحيث فهم ابن مهدي أنه يريد أعلى الدرجات فأجابه بحسب ذلك فقوله (( الثقة شعبة وسفيان )) (( ثقة )) على المعنى المعروف ، وهذا بحمد الله تعالى ظاهر ؛ وإن لم أر من نبه عليه ، وقريب منه أن المروذي قال (( قلت لأحمد بن حنبل : عبد الوهاب بن عطاء ثقة ؟ فقال : ما تقول ؟ إنما الثقة يحيى القطان )) ، وقد وثق أحمد مئات من الرواة يعلم أنهم دون يحيى القطان بكثير .

الخامسة : أن قيام الدليل على إطلاق بعضهم في بعض المراضع كلمة (( ثقة )) كما قدمت أنا أمثلته لا يسوغ أن تحمل على ذلك المعنى حيث لا دليل .

العاشر ([72]) إذا ([73]) جاء في الراوي جرح وتعديل فينبغي البحث عن ذات (‍‍‍!) بين الراوي وجارحه أو معدله من نفرة أو محبة ، وقد مر إيضاح ذلك في القاعدة الرابعة .

 

7- إذا اجتمع جرح وتعديل فبأيهما يعمل ؟

قد ينقل في راو جرح وتعديل ولكننا إذا بحثنا بمقتضى القاعدة السابقة سقط أحدهما أو تبين أنه إنما أريد به ما لا يخالف الآخر ، فهاتان الصورتان خارجتان عن هذه القاعدة ، فأما إذا ثبت في الرجل جرح وتعديل متخالفان فالمشهور في ذلك قضيتان :

الأولى : أن الجرح إذا لم يبين سببه فالعمل على التعديل ، وهذا إنما يطرد في الشاهد لأن معدله يعرف أن القاضي إنما يسأله ليحكم بقوله ، ولأن شرطه معرفته بسيرة الشاهد معرفة خبرة ، ولأن القاضي يستفسر الجارح كما يجب فإذا أبى أن يفسر كان آباؤه موهناً لجرحه .

فأما الراوي فقد يكون المثني عليه لم يقصد الحكم بثقته ، وقد يكون الجرح متعلماً بالعدالة مثل (( هو فاسق )) والتعديل مطلق والمعدل غير خبير بحال الراوي إنما اعتمد على سبر ما بلغه من أحاديثه ، وذلك كما لو قال مالك في مدني (( هو فاسق )) ثم جاء ابن معين فقال (( هو ثقة )) وقد يكون المعدل إنما اجتمع بالراوي مدة يسيرة فعدله بناء على أنه رأي أحاديثه مستقيمة والجارح من أهل بلد الراوي ، وذلك كما لو حجَّ رازي فاجتمع به ابن معين ببغداد فسمع منه مجلساً فوثقه ، ويكون أبو زرعة وأبو حاتم الرازيان قد قالا فيه (( ليس بثقة ولا مأمون )) ففي هذه الأمثلة لا يخفي أن الجرح أولى أن يؤخذ به.

فالتحقيق أن كلاً من التعديل والجرح الذي لم يبين سببه يحتمل وقوع الخلل فيه ، والذي ينبغي أن يؤخذ به منها هو ما كان احتمال الخلل فيه أبعد من احتماله في الآخر وهذا يختلف ويتفاوت باختلاف الوقائع والناظر في زماننا لا يكاد يتبين له الفصل في ذلك إلا بالاستدلال بصنيع الأئمة كما إذا وجدنا البخاري ومسلما قد احتجا أو أحدهما براو سبق ممن قبلهما فيه جرح غير مفسر فأنه يظهر لنا رجحان التعديل غالبا وقس على ذلك وهذا تفصيل ما تقدم في القاعدة الخامسة عن ابن الصلاح وغيره لكن ينبغي النظر في كيفية رواية الشيخين عن الرجل فقد يحتجان أو أحدهما بالراوي في شيء وقد لا يحتجان به ، وإنما يخرجان له ما توبع عليه ، ومن تتبع ذلك وأنعم فيه النظر علم أنهما في الغالب لا يهملان الجرح البتة ، بل يحملانه على أمر خاص ، أو على لين في الراوي لا يحطه عن الصلاحية به فيما ليس مظنة الخطأ أو فيما توبع عليه ونحو ذلك ، راجع الفصل التاسع من ( مقدمة فتح الباري ) .

القضية الثانية : أن الجرح إذا كان مفسرا : فالعمل عليه ، وهذه القضية يعرف ما فيها بمعرفة دليلها وهو ما ذكره الخطيب في ( الكفاية ) ص 105 قال : (( والعلة في ذلك أن الجارح يخبر عن أمر باطن قد علمه ويصدق المعدل ويقول له : قد علمت من حاله الظاهرة ما علمتها وتفردت بعلم لم تعلمه من اختبار أمره ، وإخبار المعدل عن العدالة الظاهرة لا ينفي صدق قول الجارح .. ولأن من عمل بقول الجارح لم يتهم المزكي ولم يخرجه بذلك عن كونه عدلاً ومتى لم نعمل بقول الجارح كان في ذلك تكذيب له ونقص لعدالته وقد علم أن حاله في الأمانة مخالفة لذلك )) .

أقول : ظاهر كلام الخطيب أن الجرح المبين السبب مقدم على التعديل ، بل يظهر مما تقدم عنه في القاعدة الخامسة من قبول الجرح المجمل إذا كان الجارح عارفاً بالأسباب واختلاف العلماء أن الجارح إذا كان كذلك قدم جرحه الذي لم يبين سببه على التعديل لكن جماعة من أهل العلم قيدوا الجرح الذي يقدم على التعديل بأن يكون مفسراً ، والدليل المذكور يرشد إلى الصواب فقول الجارح العارف بالأسباب والاختلاف : ليس بعدل ، أو : فاسق ، أو : ضعيف أو : ليس بشيء ، أو : ليس بثقة ، هل يجب أن لا يكون إلا عن علم بسبب موجب للجرح إجماعاً ؟ أو لا يحتمل أن يكون جهل أو غفل أو ترجح عنده مالا نوافقه عليه ؟ أو ليس في كل مذهب اختلاف بين فقهائه فيما يوجب الفسق ؟ فإن بين السبب فقال مثلاً : قاذف ، أو قال المحدث : كذاب ، أو : يدعى السماح ممن لم يسمع منه ، أفليس إذا كان المتكلم فيه راوياً قد لا يكون المتكلم قصد الجرح وإنما هي فلتة لسان عند ثورة غضب أو كلمة قصد بها غير ظاهرها بقرينة الغضب؟ أو لم يختلف الناس في بعض الكلمات أقذف هي أم لا ؟ حتى إن فقهاء المذهب الواحد قد يختلفون في بعضها . أو ليس قد يستند الجارح إلى شيوع خبر قد يكون أصله كذبة فاجر أو قرينة واهية كما في قصة الإفك ؟ وقد يستند التحدث إلى خبر واحد يراه ثقة وهو عند غير ثقة ، أو ليس قد يبني المحدث كلمة (( كذاب )) أو (( يضع الحديث )) أو (( يدعي السماع ممن لم يسمع منه )) على اجتهاد يحتمل الخطأ ؟ فان فصل الجارح القذف أفليس قد يكون القذف لمستحقه ؟ أو ليس قد يكون فلتة لسان عند سورة غضب كما وقع من محمد بن الزبير أو من أبي الزبير محمد بن مسلم بن تدرس على ما رواه أبو داود الطيالسي عن شعبة وكما وقع من أبي حصين عثمان بن عاصم فيما ذكره وكيع وإن كانت الحكاية منقطعة ؟

إذا تدبرت هذا علمت أنه لا يستقيم ما استدل به الخطيب إلا حيث يكون الجرح مبيناً مفسراً مثبتا مشروحاً بحيث لا يظهر دفعه إلا بنسبة الجارح إلى تعمد الكذب ، ويظهر أن المعدل لو وقف عليه لما عدل ، فما كان هكذا فلا ريب أن العمل فيه على الجرح وإن كثر المعدلون وأما ما دون ذلك فعلى ما تقدم في القضية الأولى .

 

8- قولهم : من ثبتت عدالته لم يقبل فيه الجرح إلا ...

قال البخاري في ( جزء القراءة ) : (( والذي يذكر عن مالك في ابن إسحاق لا يكاد يبين .. ولو صح .. فلربما تكلم الإنسان فيرمي صاحبه بشيء واحد ولا يتهمه في الأمور كلها ، وقال إبراهيم بن المنذر عن محمد بن فليح نهاني مالك عن شيخين من قريش وقد أكثر عنهما في (( الموطأ )) وهما مما يحتج بحديثهما ، ولم ينج كثير من الناس من كلام بعض الناس فيهم نحو ما يذكر عن إبراهيم من كلامه في الشعبي ، وكلام الشعبي في عكرمة وفيمن كان قبلهم وتأويل بعضهم في العرض والنفس ، ولم يلتفت أهل العلم في هذا النحو إلا ببيان وحجة ، ولم يسقط عدالتهم إلا ببرهان وحجة .... وقال بعض أهل المدينة إن الذي يذكر عن هشام بن عروة قال كيف يدخل ابن إسحاق على امرأتي ؟ لو صح عن هشام جائز أن تكتب إليه ... وجائز أن يكون سمع منها وبينهما حجاب وهشام لم يشهد )) .

وفي ( فتح المغيث ) للسخاوي ص 130 عن محمد بن نصر المروزي : (( كل رجل ثبتت عدالته لم يقبل فيه تجريح أحد حتى يبين ذلك بأمر لا يحتمل أن يكون غير جرحة )).

وفي ترجمة عكرمة من ( مقدمة فتح الباري ) عن ابن جرير : (( من ثبتت عدالته لم يقبل فيه الجرح ، وما تسقط العدالة بالظن وبقول فلان لمولاه : لا تكذب عليَّ ، وما أشبهه من القول الذي له وجوه وتصاريف ومعان غير الذي وجهه إليه أهل الغباوة )) . وقال ابن عبد البر :

(( الصحيح في هذا الباب أن من صحت عدالته وثبتت في العلم أمانته وبانت ثقته وعنايته بالعلم لم يلتفت فيه إلى قول أحد إلا أن يأتي في حرجته بينة عادلة تصح بها جرحته على طريق الشهادات والعمل فيها من المشاهدة والمعاينة )) . قال السخاوي في ( فتح المغيث ) : .. ليس المراد إقامة بينة على جرحه بل المعنى أنه يستند في جرحه إلى ما يستند إليه الشاهد في شهادته وهو المشاهدة ونحوها )) .

قد يقال : إن كان المراد بثبوت العدالة أن يتقدم التعديل والحكم به والعمل بحسبه على الجرح ، فهذا إنما يكثر في الشهود ، وإن كان المراد بثبوتها حصول تعديل على أي حال كان ، فهذا لا وجه له ، فقد تقدم في القاعدة السادسة ما يعلم منه أن التعديل يتفاوت ، ويحتمل كثير منه الخلل كما يحتمله الجرح الذي لم يشرح كل الشرح ، أو أشد ، ومن تتبع صنيع أهل العلم تبين له أنهم كثيراً ما يقدمون الجرح الذي لم يشرح كل الشرح على التوثيق ، كما في حال إبراهيم بن أبي يحيى والواقدي وغيرهما ، وكثيراً ما يقع للبخاري وغيره القدح فيمن لم يدركوه وقد سبق أن عدله معدل أو أكثر ، ولم يسبق أن جرحه أحد .

فأقول : الذي يتحرر أن للعدالة جهتين :

الأولى استقامة السيرة ، وثبوت هذا بالنظر إلى هذه القاعدة تظهر فيمن تظهر عدالته ويعدل تعديلاً معتمداً وتمضي مدة ثم يجرح . فأما ما عدا فالمدار على الترجيح وقد مر في القاعدة السابقة .

الجهة الثانية : استقامة الرواية وهذا يثبت عند المحدث بتتبعه أحاديث الراوي واعتبارها وتبين أنها كلها تدل على أن الراوي كان من أهل الصدق والأمانة ، وهذا لا يتيسر لأهل عصرنا لكن إذا كان القادحون في الراوي قد نصوا على ما أنكروا من حديثه بحيث ظهر أن ما عدا ذلك من حديثه مستقيم فقد يتيسر لنا أن ننظر في تلك الأحاديث فإذا تبين أن لها مخارج قوية تدفع التهمة عن الراوي فقد ثبتت استقامة روايته . وقد حاولت العمل بهذا في بعض الآتين في قسم التراجم كالحارث بن عمير والهيثم بن جميل . فأما ما عدا هذا فإننا نحتاج إلى الترجيح ، فقد يترجع عندنا استقامة رواية الرجل باحتجاج البخاري به في صحيحه لظهور أن البخاري إنما احتج به أن تتبع أحاديثه وسبرها وتبين له استقامتها ، وقد علمنا مكانة البخاري وسعة إطلاعه ونفوذ نظره وشدة احتياطه في (صححه) ، وقس على ذلك وراجع ما تقدم في القواعد السابقة . والله الموفق .

هذا وقد تعرض ابن السبكي في ترجمة أحمد بن صالح من ( طبقات الشافعية ) لهذه القاعدة وزاد فيها فقال :

(( فنقول مثلاً لا يلتفت إلى كلام ابن أبي ذئب في مالك ، وابن معين في الشافعي ، والنسائي في أحمد بن صالح لأن هؤلاء أئمة مشهورون صار الجارح لهم كالآتي بخبر غريب لو صح لتوفرت الدواعي على نقله وكان القاطع قائماً على كذبه .... ومعنا أصلان نستصحبها إلى أن نتيقن خلافها أصل عدالة الإمام المجروح .... وأصل عدالة الجارح .... فلا نلتف إلى الجرحه ولا نجرحه بجرحه ، فاحفظ هذا المكان فهو من المهمات .... فنحن نقبل قول ابن معين ... ولا نقبل قوله في الشافعي ولو فسر وأتى بألف إيضاح لقيام القاطع على أنه غير محق بالنسبة إليه )) .

أقول هول على عادته ، والإنصاف أن الشافعي لم يكن معصوماً ، ولم يقم القاطع اليقيني على أنه لم يقع منه ما إذا وقع من الرجل صح أن يجرح به ولم يكن الشافعي طول عمره في جميع أحواله لا يزال بحضرته جم غفير تقضي العادة حتماً بأنه لو وقع منه شيء مما ذكر لتوفرت الدواعي على نقله ، نعم لو فرضنا أن الجارح ذكر أمراً يصح أن يقال فيه : لو وقع لتوفرت الدواعي على نقله تواتراً : ولم يكن ذلك ، فأنه لا يقبل منه . ولو أن السبكي ترك أن يفرض ما لم يقع بما وقع واعتنى بما وقع في الأمثلة التي ذكرها وبين وجوهها لأجاد وأفاد ، وقد تعرضت لما وقفت عليه من ذلك في تراجم أولئك الثلاثة من قسم التراجم ولله الحمد .

 

9- مباحث في الاتصال والانقطاع

المبحث الأول في رواية الرجل بصيغة محتملة للسماع عمن عاصره ولم يثبت لقاؤه له .

ذكر مسلم في مقدمة ( صحيحه ) عن بعض أهل عصره : أنه شرط أن يثبت لقاء الراوي للمروي عنه ولو مرة فان لم يثبت لم يحكم لما يرويه عنه بالاتصال ، وذكروا أن الذي شرط ذلك هو البخاري وشيخه علي بن المديني ، وحكى مسلم إجماع أهل العلم سلفاً وخلفاً على الاكتفاء بالمعاصرة وعدم التدليس ، وألزم مخالفه أن لا يحكم بالاتصال فيما لم يصرح فيه الراوي بالسماع وإن ثبت اللقاء في الجملة ولم يكن الراوي مدلساً . وتوضيح هذا الإلزام أنه كما أن الراوي الذي يعرف ويشتهر بالارسال عمن عاصره ولم يلقه قد يقع له شيء من ذلك ، فكذلك الراوي الذي لم يعرف ويشتهر بالارسال عمن لقيه وسمع منه قد يقع له شيء من ذلك . فان كان ذلك الوقوع يوجب التوقف عن الحكم بالاتصال في الأول فيوجبه في الثاني ، وإن لم يوجبه في الثاني فلا يوجبه في الأول ، أجاب النووي بما إيضاحه أن رواية غير المدلس بتلك الصيغة عمن قد لقيه وسمع منه الظاهر منها السماع ، والاستقراء يدل أنهم إنما يطلقون ذلك في السماع إلا المدلس . أقول فمسلم يقول : الحال هكذا أيضاً في رواية غير المدلس عمن عاصره ، والرواية عن المعاصر على وجه الإيهام تدليس أيضاً عند الجمهور ، ومن لم يطلق عليها ذلك لفظاً لا ينكر أنها تدليس في المعنى ، بل هي أقبح عندهم من إرسال الراوي على سبيل الإيهام عمن قد سمع منه .

هذا وصنيع مسلم يقتضي أن الإرسال أي الوجهين كان إنما يكون تدليساً إذا كان على وجه الإيهام ، ويوافقه ما في ( الكفاية ) للخطيب ص 357 .

وذكر مسلم فيها إرسال بالصيغة المحتملة عمن قد سمعوا منه ولم تعد تدليساً ولا عدوا مدلسين ، ومحمل ذلك أن الظن بمن وقعت منهم أنهم لم يقصدوا الإيهام ، وأنهم اعتمدوا على قرائن خاصة قائمة عند إطلاقهم تلك الراوية تدفع ظهور الصيغة في السماع وقد كنت بسطت ذلك ثم رأيت هذا المقام يضيق عنه . ولا يخالف ذلك ما ذكروه عن الشافعي أن التدليس يثبت بمرة ، لأنا نقول : هذا مسلم ولكن محله حيث تكون تلك المرة تدليساً بأن تكون بقصد الإيهام والأمثلة التي ذكرها مسلم لم تكن كذلك بدليل إجماعهم على أن أولئك الذين وقعت منهم تلك الأمثلة ليسوا مدلسين .

وزعم النووي في ( شرح صحيح مسلم ) أنه لا يحكم على مسلم بأنه عمل في ( صحيحه ) بقوله المذكور ، وهذا سهو من النووي ، فقد ذكر مسلم في ذلك الكلام أحاديث كثيرة زعم أنه لم يصرح فيها بالسماع ولا علم لقاء ، وأنها صحاح عند أهل العلم ، ثم أخرج منها في أثناء ( صحيحه ) تسعة عشر حديثاً كما ذكره النووي نفسه ومنها ستة في ( صحيح البخاري ) كما ذكره النووي أيضاً .

وهذا ولم يجيبوا عن تلك الأحاديث إلا بأن نفي مسلم العلم باللقاء لا يستلزم عدم علم غيره ، وهذا ليس بجواب عن تصحيح مسلم لها ، وإنما هو جواب عن قوله أنها عند أهل العلم صحاح .

وقد دفعه بعض علماء العصر بأنه لا يكفي في الرد على مسلم مع العلم بسعة إطلاعه.

أقول : قد كان على المجيبين أن يتتبعوا طرق تلك الأحاديث وأحوال رواتها ، وعلى الأقل كان يجب أن يعتنوا بالستة التي في ( صحيح البخاري ) ، وكنت أظنهم قد بحثوا فلم يظفروا بما هو صريح في رد دعوى مسلم ، فاضطروا إلى الأكتفاء بذاك الجواب الإجمالي ، ثم إنني بحثت فوجدت تلك الستة قد ثبت فيها اللقاء بل ثبت في بعضها السماع ، بل في ( صحيح مسلم ) نفسه التصريح بالسماع في حديث منها ، وسبحان من لا يضل ولا ينسى ، وأما بقية الأحاديث فمنها ما يثبت فيه السماع واللقاء فقط ، ومنها ما يمكن أن يجاب عنه جواب آخر ، ولا متسع هنا لشرح ذلك .

وزعم بعض علماء العصر أن اشتراط البخاري العلم باللقاء . إنما هو لما يخرجه في ( صحيحه ) لا للصحة في الجملة ، كذا قال ، وفي كلام البخاري على الأحاديث في عدة من كتبه ك‍ ( جزء القراءة ) وغيره ما يدفع هذا . والله الموفق .

المبحث الثاني في ضبط المعاصرة المعتد بها على قول مسلم ، ضبطها مسلم بقوله :

(( كل رجل ثقة روى عن مثله حديثاً وجائز ممكن له لقاءه والسماع منه لكونهما كانا في عصر واحد ... )) وجمعه بين (( جائز وممكن )) يشعر بأن المراد الإمكان الظاهر الذي يقرب في العادة والأمثلة التي ذكرها مسلم واضحة في ذلك . والمعنى يؤكد هذا فإنه قد ثبت أن الصيغة بحسب العرف ولا سيما عرف المحدثين وما جرى عملهم ظاهرة في السماع فهذا الظهور يحتاج إلى دافع فمتى لم يعلم اللقاء فإن كان مع ذلك مستبعدا :، الظاهر عدمه ، فلا وجه للحمل على السماع لأن ظهور عدم اللقاء يدافع الصيغة ، وقد يكون الراوي عد ظهور عدم اللقاء قرينه على أنه لم يرد بالصيغة السماع ، وإن احتمل اللقاء احتمالاً لا يترجح أحد طرفيه فظهور الصيغة لا معارض له ، فأما إذا كان وقوع اللقاء ظاهراً بيناً فلا محيص عن الحكم بالاتصال وذلك كمدني روى عن عمر ولم يعلم لقاؤه له نصاً لكنه ثبت أنه ولد قبل وفاة عمر بخمس عشرة سنة مثلا فإن الغالب الواضح أن يكون قد شهد خطبة عمر في المسجد مراراً .

فأما إذا كان الأمر أقوى من هذا كرواية قيس بن سعد المكي عن عمرو بن دينار فأنه يحكم باللقاء حتماً ، والحكم به في ذلك أثبت بكثير من الحكم به لشامي روى عن يمان لمجرد أنه وقع في رواية واحدة التصريح بالسماع . وانظر ما يأتي في الفقهيات في مسالة القضاة بالشاهد واليمين .

المبحث الثالث : لا يكفي احتمال المعاصرة لكن إذا كان الشيخ غير مسمى ففي كلامهم ما يدل على أنه يحكم بالاتصال وذلك فيما إذا جاءت الراوية عن فلان التابعي (( عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم .. )) ونحو ذلك ، راجع ( فتح المغيث ) ص 62 ، والفرق بين التسمية والإيهام أن ظاهر الصيغة السماع ، والثقة إذا استعملها في غير السماع ينصب قرينة فالمدلس يعتد بأنه قد عرف منه التدليس قرينة وأما غيره فإذا سمى شيخاً ولم يثبت عندنا معاصرته له فمن المحتمل أنه كان معروفاً عند أصحابه أنه لم يدركه فاعتد بعلمهم بذلك قرينة ، وأهل العلم كثيرا ما ينقلون في ترجمة الراوي بيان من حدث عنهم ولم يلقهم ، بل أفردوا ذلك بالتصنيف (( كمراسيل ابن أبي حاتم )) وغيره ، ولم يعتنوا بنقل عدم الإدراك لكثرته فاكتفوا باشتراط العلم بالمعاصرة ، فأما إذا أبهم فلم يسم فهذا الاحتمال منتف لأن أصحاب ذاك التابعي لم يعرفوا عين ذلك الصحابي فكيف يعرفون أنه لم يدركه أو أنه لم يلقه ؟ ففي هذا تنفي القرينه وإذا انتف ظهر السماع وإلا لزم التدليس والفرض عدمه . هذا ما ظهر لي ، وعندي فيه توقف .

المبحث الرابع : اشترط العلم باللقاء . أو بالمعاصرة غنما هم بالنظر إلى من قصدت الرواية عنه فأما من ذكر عرضاً فالظاهر أنه يكفي فيه الاحتمال ، فإذا كان غير مسمى فالأمر أوضح لما مر في المبحث السابق ، وذلك كما في حديث ( الصحيحين ) من طريق عبد العزيز بن صهيب قال : سأل رجل أنس بن مالك ما سمعت نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم يذكر في الثوم ؟ فقال : قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم .. )) لفظ مسلم، ولفظ البخاري : (( سئل أنس عن الثوم ؟ فقال : قال النبي صلى الله عليه )) عبد العزيز معروف بصحبة أنس ولا ندري من السائل . ومن ذلك ما في ( صحيح مسلم ) من طريق حنظلة قال : (( سمعت عكرمة بن خالد يحدث طاوساً أن رجلاً قال لعبد الله عمر ألا تغزو ؟ فقال إني سمعت رسول الله صلى الله عليه ... )) وأخرجه البخاري من طريق حنظلة : (( عن عكرمة بن خالد عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه ... )) وقد يأتي شبه هذا ويكون المبهم هو الراوي نفسه ، وإنما كنى عن نفسه لغرض كحديث ( الصحيحين ) عن معاذة : (( أن امرأة قالت لعائشة : أيجزي إحدانا صلاتها إذا طهرت ؟ فقالت : أحرورية أنت ؟ .... )) لفظ البخاري ، وفي ( الفتح ) : (( بين شعبة في روايته عن قتادة أنها هي معاذة الراوية ، أخرجه الإسماعيلي من طريقه وكذا لمسلم من طريق عاصم وغيره عن قتادة )) .

أقول : في ( صحيح مسلم ) من طريق يزيد الرشك (( عن معاذة أن امرأة سألت .... )) ومن طريق عاصم عن معاذة قالت : (( سألت عائشة فقلت ... )) وقد يجيء نحو ذلك والراوي لم يشهد القصة ولكنه سمعها بتمامها ممن قصد الرواية عنه كما في حديث البخاري من طريق علقمة قال : (( كنا بحمص فقرأ ابن مسعود سورة يوسف فقال رجل : ما هكذا نزلت ! فقال : قرأت على رسول الله صلى الله عليه ... )) ورواه مسلم من وجه آخر عن علقمة : (( عن عبد الله قال كنت بحمص فقال لي بعض القوم :اقرأ علينا ، فقرأت عليهم قال : فقال لي رجل من القوم : والله ما هكذا أنزلت ... )) .

فإن لم يكن التصرف من الرواة فالجمع بين الروايتين أن علقمة كان مع عبد الله بن مسعود بحمص ولكنه لم يشهد القصة وإنما سمعها من عبد الله ، ولما كان المقصود الرواية عنه هو عبد الله لم يلتفت إلى ما وقع في الرواية الأولى من إيهام شهود علقمة للقصة ، وهكذا ما في قول معاذة : (( أن امرأة سألت .... )) من إيهام أن السائلة غيرها فإن مثل ذلك لا يضع حكماً ولا يرفعه . والسر في حمل تلك المثلة على السماع ما قدمناه ، ومن شك في هذا لزمه أن يشك في اتصال قول ثقة غير مدلس قد عرف بصحبة ابن المبارك : طار غراب فقال ابن المبارك ... ، أو : هبت ريح فقال ابن المبارك ... ، وهذا لا سبيل إليه فكذا ذاك ؛ والله الموفق .

المبحث الخامس : اشتهر في هذا الباب العنعنة مع أن كلمة (( عن )) ليست من لفظ الراوي الذي يذكر اسمه قبلها بل هي لفظ من دونه وذلك كما لو قال همام (( حدثنا قتادة عن أنس )) فكلمة (( عن )) من لفظ همام لأنها متعلقة بكلمة (( حدثنا )) وهي من قول همام ، ولأنه ليس من عادتهم أن يبتدئ الشيخ فيقول (( فلان .. )) كما ترى بعض أمثلة ذلك في بحث التدليس من ( فتح المغيث ) وغيره ، ولهذا يكثر في كتب الحديث إثبات (( قال )) في أثناء الإسناد قبل .. حدثنا )) و (( أخبرنا )) وذلك في نحو قول البخاري : (( حدثنا الحميدي قال حدثنا سفيان قال حدثنا يحيى بن سعيد )) وكثيراً ما تحذف فيزيدها الشراح أو قراء الحديث ولا تثبت قبل كلمة عن وتصفح إن شئت ( شرح القسطلاني على صحيح البخاري ) فبهذا يتضح أنه في قول همام (( حدثنا قتادة عن أنس )) لا يدري كيف قال قتادة ، فقد يكون قال : (( حدثني أنس )) أو (( قال أنس )) أو (( حدث أنس )) أو (( ذكر أنس )) أو (( سمعت أنساً )) أو غير ذلك من الصيغ التي تصرح بسماعه من أنس أو تحتمله لكن لا يحتمل أن يكون قال (( بلغني عن أنس )) إذ لوقال هكذا لزم هماماً أن يحكى لفظه أو معناه كأن يقول : (( حدثني قتادة عمن بلغه عن أنس )) وإلا كان همام مدلساً تدليس التسوية وهو قبيح جداً وإن خف أمره في هذا المثال لما يأتي في قسم التراجم في ترجمة الحجاج بن محمد .

والمقصود هنا أنه لو قال راو لم يعرف بتدليس التسوية (حدثني عبد العزيز بن صهيب عن أنس )) كان متصلاً لثبوت لقاء عبد العزيز لأنس وأنه غير مدلس مع أننا لا ندري كيف قال عبد العزيز فقد يكون قال (( قال أنس )) أو (( ذكر أنس )) أو (( حدث أنس )) أو ابتدء فقال : (( أنس )) فالحمل على السماع في العنعنة يستلزم الحمل على السماع في هذه الصيغ وما اشبهها وقد صرحوا بذلك كما تراه في ( فتح المغيث ) ص 69 وغيره ، وما ذكروه من الخلاف في كلمة (( أن )) إنما هو في نحو أن يجيء (( عن عبد العزيز أن أنس سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم )) ومعلوم أن عبد العزيز لم يدرك ذلك ومن حمله على السماع إنما مال إلى أن الظاهر أن عبد العزيز سمع القصة من أنس فكأنه قال : (( حدثني أنس أنه سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم .. )) وفي هذا المثال لا مزية لكلمة (( أن )) بل لو قال عبد العزيز (( سأل أنس النبي صلى الله عليه .. )) لكان هذا كقوله : (( عن عيد العزيز أن أنساً سأل ... )) بل إن كلمة (( أن )) في المثال ليست من لفظ عبد العزيز وإنما هي من لفظ الراوي عنه فقوله : (( حدثني عبد العزيز أن أنساً سأل )) إنما تقديره (( حدثني عبد العزيز بأن أنساً سأل )) وقد يكون عبد العزيز قال (( سأل أنس )) وقد يكون قال غير ذلك . والله أعلم .

انتهى القسم الأول ويليه القسم الثاني في التراجم


القسم الثاني في التراجم

 

أسوق في هذا القسم على الحروف تراجم الأئمة والرواة الذين تكلم فيهم الأستاذ في
( التأنيب ) وربما ذكرت غيرهم لاقتضاء الحال ، فأذكر في كل ترجمة كلام الأستاذ وماله وما عليه متحرياً إن شاء الله تعالى الحق ، فما لم أنسبه من أقوال أئمة الجرح والتعديل إلى كتاب فهو من ( تهذيب التهذيب ) أو ( لسان الميزان ) ، وعادة مؤلفهما أن لا يجزم بالنقل فيما لم بثبت عنده فإن تبين لي خلاف ذلك نبهت عليه ، وما عدا ذلك فإني أسمي الكتاب وأبين الجلد والصفحة غالبا إن كان مطبوعا . وأعوذ بال
له من شر نفشي وسيء عملي وأسأله التوفيق فأنه لا حول ولا قوة إلا بالله .

1- أبان بن سفيان . في ( تاريخ بغداد ) ( 13/ 399 ) (( ... علي بن حرب حدثنا أبان بن سفيان حدثنا حماد بن زيد ... )) قال الأستاذ في ( التأنيب ص113 (( في سنده أبان بن سفيان قال ابن حبان يروي عن ( الثقات ) أشياء موضوعة . وقال الدارقطني متروك )) . أقول في ( الميزان ) و ( اللسان ) ذكر رجلين يقال لكل منهما أبان بن سفيان أحدهما بصري نزل الموصل من بلاد الجزيرة روى عن أبي هلال محمد بن سليم البصري قال فيه الدارقطني (( جزري متروك )) . والثاني مقدسي روى عن الفضيل بن عياض وعبيد الله بن عمر روى عنه محمد بن غالب الأنطاكي قال فيه ابن حبان : (( روى أشياء موضوعة )) وأورد له حديثين وقال : (( هذان موضوعان )) وناقشه الذهبي في ( الميزان ) ثم استظهر الذهبي أن الرجلين واحد وذكر ابن حجر أن النباتي فرق بينهما .

أقول والفرق هو الظاهر فأما الذي في سند الخطيب فإن كان غير هذين فلا نعرفه وإن كان أحدهما ،فالظاهر أنه الأول ، فإن حماد بن زيد بصري من طبقة  محمد بن سليم، وعلي ابن حرب موصلي . والله أعلم .

2- إبراهيم بن بشار الرمادي . في ( تاريخ بغداد ) (( 13م 389 )) ([74]) (( ... إبراهيم ابن بشار الرمادي حدثنا سفيان بن عيينة ... )) قال الأستاذ ص 82 (( عنه يقول ابن أبي حاتم أنبأنا عبد الله بن أحمد بن حنبل فيما كتب إلي قال سمعت أبي وذكر إبراهيم بن بشار الرمادي فقال ك كان يحضر معنا عند سفيان ثم يملي على الناس ما سمعوه من سفيان وربما أملي عليهم ما لم يسمعوا – كأنه يغير الألفاظ فتكون زيادة ليس في الحديث فقلت له إلا تثقي الله تملي عليهم ما لم يسمعوا – وذمة في ذلك ذماً شديداً )) .

أقول : وقال ابن معين (( ليس بشيء ولم يكتب عند سفيان وكان يملي على الناس ما لم يقله سفيان )) وقال النسائي : (( ليس بالقوي )) وقال أبو حاتم (( صدوق )) وقال أبو عوانة في صحيحه .. ثقة من كبار أصحاب ابن عيينة وممن سمع منه قديماً )) وقال الحاكم (( ثقة مأمون من الطبقة الأولى من أصحاب ابن عيينة )) وقال يحيى بن الفضل (( كان والله ثقة )) وقال ابن حبان في ( الثقات ) (( كان متقناً ضابطاً صحب ابن عيينة سنين كثيرة ، وسمع أحاديثه مراراً ... )) ولقد حدثنا أبو خليفة ثنا إبراهيم بن بشار الرمادي قال : حدثنا سفيان بمكة و (( عبادان )) وبين السماعين أربعون سنة . سمعت أحمد بن زنجوية يقول سمعت جعفر بن أبي عثمان الطيالسي يقول : سمعت يحيى بن معين يقول : كان الحميدي لا يكتب عند سفيان بن عيينة وإبراهيم بن بشار أحفظهما . أقول يتحصل من مجموع ما ذكر أن إبراهيم كان قد سمع من سفيان بن عيينة قديماً ثم كان يحضر مجالسه فربما حد حدث سفيان ببعض تلك الحاديث فربما أبدل كلمة بأخرى أو نحو ذلك على ما هو معروف من عادة سفيان في الرواية بالمعنى ، وكان بعض الحاضرين لا يتمكنون من الحفظ أو الكتابة وقت السماع فإذا فرغ المجلس رغبوا إلى إبراهيم فيملي عليهم ذاك المجلس فربما أملي عليهم كما حفظ سابقا ويكون في ذلك ألفاظه مغايرة للألفاظ التي عبر عنها سفيان في ذاك المجلس ، فذاك الذي أنكره عليه أحمد ويحيى ، وقد يقال إن كان إبراهيم لم يشعر بالاختلاف فالخطب سهل وإن شعر به فغايته أن يكون استساغ للجماعة أن يذهب أحدهم فيروي عن سفيان كما حدث سفيان قديماً وإن كان هو إنما سمعه بتغيير ما في الألفاظ كما ساغ لسفيان أن يروي ما سمعه تارة كما سمعه ، وتارة بتغيير ما في الألفاظ ، بل هذا أسوغ فإن اللفظيين كلاهما صحيح عن سفيان . وبالجملة فهذا توسع في الرواية بالمعنى لا يوجب جرحا ، وظاهر قول أحمد (( كأنه يغير الألفاظ )) أنه جوز أن إبراهيم يغير الألفاظ من عنده وذلك أشد ، وهكذا ما يروي عن ابن معين قال في إبراهيم (( رأيته ينظر في كتاب وابن عيينة يقرأ ولا يغير شيئاً ليس معه ألواح ولا دواة )) فالكتاب الذي كان ينظر فيه سماعه القديم من ابن عيينة فكان يعيد سماعه ليتثبت وقد عرف عادة ابن عيينة في الرواية بالمعنى فلم يكن يلتفت إلى اختلاف بعض الألفاظ ولعله لو رأى اختلافا معنويا لراجع ابن عيينة إما في المجلس وإما بعده . وقد جاء عن يحيى القطان أنه ذكر لابن عيينة ما قد يقع في حديثه من اختلاف فقال ابن عيينة: (( عليك بالسماع الأول فإني قد سئمت )) كما في ( فتح المغيث ) ص429 . وفي ( التهذيب ) : (( وقال أحمد : كان سفيان الذي يروي عنه إبراهيم بن بشار ليس هو سفيان بن عيينة . يعني مما يغرب عنه وكان مكثرا عنه )) .

أقول : وحق لمن لازم مثل ابن عيينة في كثرة حديثه عشرات السنين أن يكون عنده عنه ما ليس عنده غيره ممن صحبه مدة قليلة . نعم قال البخاري في إبراهيم (( يهم في الشيء بعد الشيء وهو صدوق )) وأورد له حديثا رواه ابن عيينة مرفوعا [75] وغيره يرويه عن ابن عيينة مرسلا قال ابن عدي : (( لا أعلم أنكر عليه إلا هذا الحديث الذي ذكره البخاري وباقي حديثه مستقيم وهو عندنا من أهل الصدق ))

أقول فإن كان وهم في هذا فهو وهم يسير في جانب ما روى فالرجل ثقة ربما وهم والسلام .

هذا وقد توبع إبراهيم على الرواية التي ساقها الخطيب وذكر الأستاذ نفسه متابعة علي ابن المديني له غاية الأمر أن بين اللفظيين اختلافا ما وجهه أن ابن عيينة قال مرة كما ذكره إبراهيم ومرة كما ذكر ابن المديني . راجع ص 4 والله أعلم .

3- إبراهيم بن الحجاج . في ( تاريخ بغداد ) (( 13 / 392 )) . (( … الحسن بن سفيان عن إبراهيم بن الحجاج عن حماد بن زيد … )) قال الأستاذ ص 94 (( قدري ففي قبول قوله في أئمة السنة وقفة )) .

أقول في ترجمة إبراهيم بن الحجاج السامي من ( تهذيب المزي ) أنه يروي عن حماد بن زيد ويروي عنه الحسن بن سفيان وكذا في ترجمة إبراهيم بن الحجاج النيلي وكلاهما موثق ولم أجد نسبة أحدهما إلى القدر وليس كل بصري قدريا ولا غالبهم قدرية بل غالبهم غير قدرية كما يأتي في ترجمة طلق بن حيب وعلى فرض أن الرجل قدري فلم يكن داعية والمخالفة في المذهب لا تخدش في الرواية كما مر في القواعد . والله الموفق .

4- إبراهيم بن راشد الآدمي . في ( تاريخ بغداد (( 13 / 406 )) (( … إبراهيم ابن راشد الآدمي قال : سمعت أبا ربيعة فهد بن عوف … )) قال الأستاذ ص 129 (( المتهم عند ابن عدي كما ذكره الذهبي )) .

أقول تعقبه ابن حجر في ( اللسان ) قال : (( لم أر في ( كامل ابن عدي ) ترجمته )) وقد قال ابن أبي حاتم (( صدوق )) وذكره ابن حبان في ( الثقات ) وقال : (( كان من جلساء يحيى بن معين )) وفي ترجمة علي بن صالح النماطي من ( الميزان ) حديث ساقه الذهبي من طريق أبي نعيم الأصبهاني (( أنا عمر بن شاهين ثنا أحمد بن محمد بن يزيد الزعفراني ثنا إبراهيم بن راشد الآدمي ثنا علي بن صالح الأنماطي ... )) استنكر الذهبي وقال : (( المتهم بوضعه علي فإن الرواة ثقات سواه )) تعقبه ابن حجر في ( اللسان ) بأن عليا ذكره ابن حبان في ( الثقات ) وقال (( مستقيم الحديث )) قال ابن حجر (( وينظر فيمن دون صاحب الترجمة )) أقول أخاف أن يكون هذا من بلايا الإجازة فإن أبا نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني ربما تكون له إجازة عامة من شيخ ، ثم يسمع الشيء ويرويه رجل عن ذاك الشيخ فيرويه أبو نعيم عن الشيخ نفسه بلفظ (( أخبرنا )) على إصلاحه في الإجازة كما يأتي شرحه في ترجمته فيكون البلاء في هذا الحديث من الرجل الذي بين أبي نعيم وابن شاهين ويبرأ غيره . والله أعلم .

5- إبراهيم بن سعيد الجوهري . راجع ( الطليعة ) ص 66 – 98 قال الأستاذ في :
( الترحيب ) ص 50 (( لا يتصور من مثل ابن الشاعر أن يقع فيه من غير أن يتكرر ذلك منه )) .

أقول أما كلمة حجاج فلا تقتضي إلا مرة واحدة وأما قول ابن خراش (( وكان حجاج يقع فيه )) فإن عنى تلك الكلمة بان حالها وإن عناها وغيرها فالوقيعة في الإنسان معناها مطلق الذم كأن يكون قال مرة تلك الكلمة وقال مرة (( لم يكن بالذكي )) وقال أخرى (( مغرم بالكتابة عن كل أحد ليقال مكثر )) ونحو ذلك من الكلمات التي لا توجب جرحاً .

ثم مال الأستاذ إلى الإنصاف فذكر أنه يجب الذب عن إبراهيم بن سعيد ولكنه جعل الحمل على عبد الرحمن بن حراش وستأتي ترجمته .

6- إبراهيم بن شماس . في ( تاريخ بغداد ) 13 / 414 (( … إبراهيم بن شماس يقول كنت مع ابن المبارك في الثغر فقال لئن رجعت لأخرجن أبا حنيفة من كتبي )) وفيه بعد ذلك (( … إبراهيم بن شماس يقول سمعت ابن المبارك يقول اضربوا على حديث أبي حنيفة )) قال الأستاذ ص150 (( إبراهيم بن شماس ذلك المتعبد الغازي … على علو طبقته لم يخرج عنه أحد من أصحاب الأصول الستة .... بطل مغوار متبعد متعصب .... ملء أهابه التعصب على زهده )) .

أقول أما العبادة والزهد والجهاد والبطولة فنعم ، وأما التعصب فإنما وصفه به بعض من لم يدركه وهو الإدريسي الذي ولد بعد إبراهيم بأكثر من مائة سنة وإنما قال (( كان شجاعاً بطلاً ثقة متعصبا لأهل السنة )) .

فأما الذين أدركوه فإنما وصفوه بالسنة قال الإمام أحمد (( كان صاحب سنة )) وقال أحمد بن سيار (( كان صاحب سنة وجماعة ، كتب العلم ، وجالس الناس ورأيت إسحاق بن إبراهيم [ ابن راهويه ] يعظم من شأنه ويحرضنا على الكتابة عنه )) .

وممن روى عنه الإمام أحمد وأبو زرعة والبخاري في غير ( الصحيح ) ، وأحمد لا يروي إلا عن ثقة عنده كما يأتي في ترجمة محمد بن أعين ، وأبو زرعة من عادته أن لا يروي إلا ثقة كما في ( لسان الميزان ) ج 2 ص 416 والبخاري نحو ذلك كما يأتي في ترجمة أحمد بن عبد الله أبو عبد الرحمن . ووثقه الدارقطني وابن حبان وغيرهما ، وتحريض ابن راهويه على الكتابة عنه يدل على مكانته في الصدق والثبت ، وقال ابن حبان في
( الثقات ) (( كان متقنا ... سمعت عمر بن محمد البحيري يقول سمعت محمد بن سهل بن عسكر يقول : رأيت ابن المبارك يقرأ كتابا على الناس في الثغر فلما مر على ذكر أبي حنيفة قال اضربوا عليه ، وهو آخر كتاب قرأ على الناس ثم مات )) .

فأما عدم إخراج البخاري عنه في ( صحيحه ) فكأنه إنما لقيه مرة فإن إبراهيم كان دائبا في الجهاد فلم يسمع منه البخاري ما يحتاج إلى إخراجه في ( الصحيح ) وقد أدرك البخاري من هو أكبر من إبراهيم وأعلى إسنادا ، وكم من ثقة ثبت لم يتفق أن يخرج عنه البخاري في ( صحيحه ) وأخرج عمن هو دونه بكثير . فأما بقية الستة فأبو داود ولد سنة 202 فقد أدرك إبراهيم فإن إبراهيم استشهد سنة 220 ولكن لعله لم يلقه وإنما روى في مسائل مالك عن رجل عنه على ما يظهر من ( التهذيب ) وقد سمع أبو داود جماعة ممن هو أكبر وأعلى إسناداً من إبراهيم . ومسلم ولد سنة 204 والباقون بعد ذلك، وجامعوا الكتب الستة يتحرون علو الإسناد والاختصار ولا ينزلون إلا لحاجة والراوية عن إبراهيم قليلة لاشتغاله بالجهاد ولأنه لم يعمر حتى يحتاج إليه ، وقد روى عنه من هو أجل من أصحاب الكتب الستة كما مر . وقد ساق الأستاذ في تعليقه على شروط الأئمة كلاماً طويلا فيه ما فيه وقال في أواخره (( ومن ظن أن ثقات الرواة هم رواة الستة فقد ظن باطلاً وجود الحافظ العلامة قاسم بن قطلو بغا الثقات من غير رجال الستة في مؤلف حافل يبلغ أربع مجلدات )) .

فأما المخالفة في المذهب والتعصب للسنة فلا يخدش في الرواية كما مر في القواعد .

بقي أن الأستاذ قال بعد ما تقدم (( ويقضى على مختلقات الخصوم في هذا الكتاب كثرة رواية ابن المبارك عن أبي حنيفة في ( المسانيد السبعة عشر ) له ... فأنَّى تصح رواية ضرب ابن المبارك على حديث أبي حنيفة قبل أن يموت بأيام يسيرة )) .

أقول : الأستاذ يتذرع بهذا إلى الطعن في جماعة من الثقات الأثبات إبراهيم وغيره كما يأتي في تراجمهم وذلك يضطرنا إلى مناقشته هنا فأقول :

المسانيد السبعة عشر لأبي حنيفة منها ما جامعه مجروح ، وما كان جامعه ثقة ففي أسانيده إلى ابن المبارك مجروح أو أكثر ، وما عساه يصح إلى ابن المبارك لا يصح حمله على أنه مما حدث به ابن المبارك قديماً ، فأنه لا يلزم من تركه الرواية عن أبي حنيفة قبل أن يموت بأيام يسيرة أن لا يروي الناس عنه ما سمعوه قبل ذلك ولا سيما الذين لم يحضروا أمره بالضرب أولم يعملوا به ، والله المستعان .

7- إبراهيم بن أبي الليث في ( تاريخ بغداد ) 13/ 417 (( ... إبراهيم بن أبي الليث قال سمعت الأشجعي غير مرة .... )) قال الأستاذ ص 160 (( .... عنه يقول ابن معين لو اختلف إليه ثمانون كلهم مثل منصور بن المعتمر ما كان إلا كذاباً . وكذبه غير واحد )) .

أقول ترجمة إبراهيم هذا في ( تاريخ بغداد ) ج 6 ص 191 فأما هذه الكلمة التي ذكرها الأستاذ فإنما رواها الخطيب من طريق أحمد بن محمد بن القاسم بن محرز وترجمة ابن محرز هذا في ( تاريخ بغداد ) ج 5 ص83 ليس فيها تعريف بحاله وإنما فيها (( يروى عن يحيى بن معين حدث عنه جعفر بن درستويه بن المرزبان الفارسي )) وكلمة ابن الدورقي المذكورة في ( اللسان ) و( التعجيل ) هي في قصة طويلة رواها الخطيب من طريق أبي الفتح محمد بن الحسين الأزدي الحافظ ، والأزدي اتهموه ، ونحتاج إلى الاعتذار عن ابن حجر في جزمه بها مع أنها من طريق الأزدي . وما في (( اللسان )) تبعاً لأصله أن ابن معين قال في إبراهيم (( ثقة لكنه أحمق )) إنما رواها الخطيب من طريق بكر بن سهل عن عبد الخالق بن منصور عن ابن معين ، وبكر بن سهل هذا إن كان هو الدمياطي المترجم في ( الميزان ) و ( اللسان ) كما بنيت عليه في ( الطليعة ) ص 78 وتأتي الإشارة إليه في ترجمة الحسن بن الربيع ففيه كلام شديد وعقبها الخطيب بقوله ك (( وهذا القول من يحيى في توثيقه كان قديماً ثم أساء القول فيه بعد وذمه ذماً شديداً )) .

والذي يتخلص من مجموع كلامهم أنهم لم ينقموا عليه شيئاً في سيرته ، وأنه كانت عنده أصول الأشجعي التي لا شك فيها ، وكان يذكر أنه سمعها من الأشجعي إلا مواضع كان يعترف أنه يسمعها فقصده الأئمة أحمد ويحيى وابن المديني وغيرهم يسمعون منه كتب الأشجعي فكانوا يسمعون منه ، ثم حدث بأحاديث عن هشيم وشريك وغيرهما من حفظه فاستنكروا من روايته عن أولئك الشيوخ أحاديث تفرد بها عنهم وكان عندهم أنها مما تفرد به غير أولئك الشيوخ منها حديث رواه عن هشيم عن يعلي بن عطاء وكان عندهم أنه من أفراد حماد بن سلمة عن يعلى ، فتوقف فيه أحمد لهذا الحديث حتى بان له أن غير حماد قد حدث به ، وعذره أحمد في بقية الأحاديث ، وأما ابن معين فشدد عليه وتبعه جماعة واختلف عن ابن المديني فقيل لَم يزل يحدث عنه حتى مات وقيل بل كذب بآخره . وقال أبو حاتم (( كان أحمد يجمل القول فيه وكان يحيى بن معين يحمل عليه وعبيد الله القواريري ( وهو ثقة عندهم من رجال الصحيحين ) أحب إلي منه )) وذكره ابن حبان في ( الثقات ) وقال أبو داود عن ابن معين (( أفسد نفسه في خمسة أحاديث )) فذكرها قال ابن حجر في ( التعجيل ) : (( وهذا عندي أعدل الأقوال فيه )) .

أقول قد ظهرت عدالة الرجل أولاً ثم عرضت تلك الأحاديث فاختلفوا فيها فمنهم من عذره ومنهم من رماه بسرقتها فالذي ينبغي التوقف عن سائر ما رواه عن غير الأشجعي وقبول ما رواه عن الأشجعي ، فإن ذلك من أصول الأشجعي باعترافهم جميعاً ولم ينكروا منها شيئاً ، وأحسب أن رواية الأمام أحمد وابنه عبد الله عن إبراهيم ، إنما هي مما رواه من كتب الأشجعي ، وقد يكون هذا رأي الأستاذ الكوثري فقد احتج ص 99 : حدثنا ... قال حدثني إبراهيم ابن أبي الليث قال حدثني الأشجعي ... )) فأما روايته هنا فهي عن الأشجعي لكنها حكاية لا يظهر أنها كانت من أصول الأشجعي . والله أعلم .

8- إبراهيم بن محمد بن الحارث بن أسماء بن خارجة بن حصن بن حذيفة بن بدر أبو إسحاق الفزاري .

في ( تاريخ بغداد ) 13/ 373 (( .... سمعت أبا إسحاق الفزاري يقول سمعت أبا حنيفة يقول : إيمان أبي بكر الصديق وإيمان إبليس واحد ، قال إبليس يا رب وقال أبو بكر الصديق يا رب ... )) قال الأستاذ ص 40 (( الفزاري كان يطلق لسانه في أبي حنيفة ويعاديه من جهة أنه كان أفتى أخاه على موازرة إبراهيم القائم في عهد المنصور فقتل في الحرب .... وحكم شهادة العدو في مذهب الشافعي ... معروف ... ويقول ابن سعد في ( الطبقات الكبرى ):كان كثير الغلط في حديثه ،ويقول ابن قتيبة في ( المعارف ) أنه كان كثير الغلط في حديثه ومثله في ( فهرست محمد بن إسحاق النديم ) لكن ذلاقة لسانه في أبي حنيفة وأصحابه نفعته في رواج رواياته بين أصحاب الأغراض .... مع أن الواجب فيمن كان كثير الخطأ في حديثه الإعراض عن انفراداته .... )) وقال الأستاذ ص 71 :

(( سامح الله أبا إسحاق الفزاري كأنه فقد اتزانه من فقد أخيه فأصبح يطلق لسانه في فقيه الملة ي كل مجلس ومحفل حتى مجلس الرشيد كما تجد ذلك في ( تقدمة الجرح والتعديل ) لابن أبي حاتم ..... غاية ما فعل أبو حنيفة أن أفتى أخاه بما أراه الله حين استفتاه )) ، وقال الأستاذ ص 77 :

(( إنما شأنه في السير والمغازي ولم يكن ابن سعد يرضاه فيها ، ويذكره بكثرة الغلط ، وابن سعد ذلك الأمام الكبير في السير والمغازي .... )) وقال ص 77 :

(( قال ابن سعد في الفزاري : كان ثقة فاضلاً صاحب سنة وغزو كثير الخطأ في حديثه)) .

أقول مدار كلام الأستاذ في أبي إسحاق على أمرين :

الأول : قوله أنه كان يعادي أبا حنيفة الأستاذ أن يجعلها عداوة دنيوية لأجل الفتوى مع أن ذكر الفتوى لم يقع إلا في رواية ذكرت في ( تاريخ بغداد ) ( 13 / 384 ) في سندها يزيد بن يوسف الشامي فتكلم الأستاذ فيها ص 70 :

قال (( يزيد بن يوسف الشامي يقول ابن معين فيه : ليس بثقة ، ويقول النسائي : متروك )) والكلام فيه أكثر من ذلك حتى قال ابن شاهين في الضعفاء (( قال ابن معين : كان كذاباً )) وقال ابن حبان : (( كان سيئ الحفظ كثير الوهم يرفع المراسيل ويسند الموقوف ولا يفهم فلما كثر ذلك منه سقط الاحتجاج بأفراده )) .

فهذه الرواية ساقطة ، والثابت رواية أخرى في ( تاريخ بغداد ) ( 13/ 384 ) فيها عن أبي إسحاق (( قتل أخي مع إبراهيم الفاطمي بالبصرة فركبت لأنظر في تركته ، فلقيت أبا حنيفة فقال لي من أين أقبلت ؟ وأين أردت ؟ فأخبرته أني أقبلت من المصيصة وأردت أخاً لي قتل مع إبراهيم ، فقال أبو حنيفة : لو أنك قتلت مع أخيك كان خيراً لك من المكان الذي جئت منه ... )) .

وهناك رواية ثالثة في ( تقدمة الجرح والتعديل ) هي التي وقع فيها ما أشار إليه الأستاذ من إطلاق اللسان وفي إسنادها نظر ، ولا ذكر فيها للفتوى ، ولو صحت لكانت أدل على عدم الفتوى ، فالحاصل أن الثابت أن أبا إسحاق بلغه قتل أخيه مع إبراهيم بن عبد الله بن الحسن الخارج على المنصور فقدم أبا حنيفة ، فسأله أبو حنيفة فأجابه أنه جاء من المصيصة – الثغر الذي كان أبو إسحاق يرابط فيه لجهاد الروم ودفعهم عن بلاد الإسلام فقال أبو حنيفة : (( لو أنك قتلت مع أخيك كان خيراً لك منالمكان الذي جئت منه )) . ومن المعلوم أن أبا إسحاق حبس نفسه غالب عمره على المرابطة في الثغر والتعرض للشهادة صباح مساء فلم يكن ليغمه قتل أخيه إلا لكونه في فتنة ولا لينقم على من رضي بقتل أخيه إلا لرضاه بما يراه فتنة ولا ليستعظم قول من قال له : (( لو أنك قتلت مع أخيك .... )) إلا لما فيه من تفضيل قتال المسلمين في غير كنهه عنده على الرباط والجهاد ودفع الكفار عن بلاد الإسلام ، فهذا وغيره مما يوجد في الروايات الأخرى منها الرواية التي تقدمت أول الترجمة هو الذي أحفظ أبا إسحاق على أبي حنيفة فإن بلغ ذلك أن يسمى عداوة فهي عداوة دينية لا ترد بها الرواية بإجماعهم كما تقدم في القواعد ، وسواء أكان الصواب استحسان الخروج مع إبراهيم بن عبد الله بن الحسن وتفضيله على الجهاد والرباط كما رأى أبو حنيفة أم خلافه كما كان يعتقده أبو إسحاق، فإن أبا إسحاق إماء مصيب مشكور وإما مخطئ مأجور ، ولا بأس بالإشارة إلى وجهتي النظر :

كان أبو حنيفة يستحب أو يوجب الخروج على خلفاء بني العباس لما ظهر منهم من الظلم ويرى قتالهم خيراً من قتال الكفار ، وأبو اسحق ينكر ذلك ، وكان أهل العلم مختلفين في ذلك فمن كان يرى الخروج يراه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقيام بالحق ،ومن كان يكرهه يرى أنه شق لعصا المسلمين وتفريق لكلمتهم وتشتيت لجماعتهم وتمزيق لوحدتهم وشغل لهم بقتل بعضهم بعضاً ، فتهن قوتهم وتقوى شوكة عدوهم وتتعطل ثغورهم ، فيستولي عليها الكفار ويقتلون من فيها من المسلمين ويذلونهم وقد يستحكم التنازع بين المسلمين فتكون نتيجة الفشل المخزي لهم جميعاً .

وقد جرب المسلمون الخروج فلم يروا منه إلا الشر ، خرج الناس على عثمان يرون أنهم إنما يريدون الحق ثم خرج أهل الجمل يرى رؤساهم ومعظمهم أنهم إنما يطلبون الحق فكانت ثمرة ذلك بعد اللتيا والتي أن انقطعت خلافة النبوة وتأسست دولة بني أمية ثم اضطر الحسين بن علي إلى ما اضطر إليه فكانت تلك المأساة ، ثم خرج أهل المدينة فكانت وقعة الحرة ، ثم خرج القراء مع ابن الأشعث فماذا كان ؟ ثم كانت قضية زيد بن علي وعرض عليه الروافض أن ينصروه على أن يتبرأ من أبي بكر وعمر فأبى فخذلوه ، فكان ما كان ، ثم خرجوا مع بني العباس فنشأت دولتهم التي رأى أبو حنيفة الخروج عليها ، واحتشد الروافض مع إبراهيم الذي رأى أبو حنيفة الخروج معه ولو كتب له النصر لاستولى الروافض على دولته ، فيعود أبو حنيفة يفتي بوجوب الخروج عليهم !

هذا والنصوص التي يحتج بها المانعون من الخروج والمجيزون له معروفة ، والمحققون يجمعون بين ذلك بأنه إذا غلب على الظن أن ما ينشأ عن الخروج من المفاسد أخف جداً مما يغلب على الظن أنه يندفع به جاز الخروج وإلا فلا . وهذا النظر قد يختلف فيه المجتهدان ، وأولاهما بالصواب من اعتبر بالتاريخ وكان كثير المخالطة للناس والمباشرة للحروب والمعرفة بأحوال الثغور ، وهكذا كان أبو إسحاق .

وأما حال أبي إسحاق في الرواية فنبدأ بتلك الكلمة : (( كثير الخطأ في حديثه )) هذه الكلمة نقلها الأستاذ عن ابن سعد وابن قتيبة وابن النديم ، فأقول : ابن قتيبة وابن النديم لا شأن لهما بمعرفة الرواية والخطأ والصواب فيها وأحوال الرواة ومراتبهم ، وإنما فن ابن قتيبة معرفة اللغة والغريب والأدب ، وابن النديم رافضي وراق ، فنه معرفة أسماء الكتب التي كان يتجر فيها ، وإنما أخذا تلك الكلمة من ابن سعد .

وابن سعد هو محمد بن سعد بن منيع كاتب الواقدي ، روى الخطيب في ترجمته أن مصعباً الزبيري قال لابن معين : (( حدثنا ابن سعد الكاتب بكذا وكذا )) فقال ابن معين (( كذب )) واعتذر الخطيب عن هذه الكلمة وقال : (( محمد عندنا من أهل العدالة وحديثه يدل عل صدقه .. )) وقال أبو حاتم : (( يصدق )) ووفاة ابن سعد سنة 230 فقد أدركه أصحاب الكتب الستة إدراكاً واضحاً وهو مقيم ببغداد حيث كانوا يترددون، وهو مكثر من الحديث والشيوخ وعنده فوائد كثيرة ومع ذلك لم يخرجوا عنه شيئاً إلا أن أبا داود روى عن أحمد بن عبيد وستأتي ترجمته عن ابن سعد عن أبي الوليد الطيالسي أنه قال : (( يقولون قبيصة بن وقاص له صحبة )) وهذه الحكاية ليست بحديث ولا أثر ولا ترفع حكما ولا تضعه ، والأستاذ كثيراً ما يتشبث في التليين بعدم إخراج أصحاب الكتب الستة للرجل مع ظهور العذر كما تقدم في ترجمة إبراهيم بن شماس ، فأما ابن سعد فلا مظنة للعذر إلا أنهم رغبوا عنه ، وأظن الأستاذ أول من منح ابن سعد لقب : (( الإمام )) ولم يقتصر عليه بل قال : (( الإمام الكبير )) وتغاضى الأستاذ عن قول ابن سعد في أبي حنيفة فإنه ذكره في موضعين من ( الطبقات ) ج 6 ص 256 وج 7 قسم 2 ص 67 وقال في كلا الموضعين : (( وكان ضعيفاً في الحديث )) ولم يقرن هذه الكلمة بشيء مما قرن به كلمته في أبي إسحاق فلم يقل : (( ثقة )) ولا (( فاضل )) ، ولا (( صاحب سنة )) !

ومع ذلك فليس ابن سعد في معرفة الحديث ونقده ومعرفة درجات رجاله في حد أن يقبل منه تليين من ثبته غيره أنه في أكثر كلامه إنما يتابع شيخه الواقدي ، والواقدي تالف، وفي ( مقدمة الفتح ) في ترجمة عبد الرحمن بن شريح :

(( شذ ابن سعد فقال : منكر الحديث ، ولم يلتفت أحد إلى ابن سعد في هذا فإن مادته من الواقدي في الغالب والواقدي ليس بمعتمد )) . وفيها في ترجمة محارب بن دثار :

(( قال ابن سعد : لا يحتجون به ، قلت : بل احتج به الأئمة كلهم ... ولكن ابن سعد يقلد الواقدي )) . وفيها ترجمة نافع بن عمر الجمحي :

(( قد قدمنا أن تضعيف ابن سعد فيه نظر لاعتماده على الواقدي )) .

وقد رد الأستاذ ص 168 قول إمام النقاد علي بن المديني في أبي حنيفة : (( روى خمسين حديثاً أخطأ فيها )) فقال الأستاذ : (( لم يذكر وجه تخطئته في الحديث حتى يحتاج إلى الجواب وهو على كل حال جرح غير مفسر )) وذكر ص 158 قول ابن أبي داود : (( إن أبا حنيفة أخطأ في نصف أحاديثه )) فقال الأستاذ :

(( فلا نشتغل بالرد على هذا الكلام المرسل منه جزافاً من غير أن يبين ما هو خطؤه وفي أي حديث كان ذلك الخطأ )) وذكر الأستاذ ص 90 قول ابن حبان في أبي حنيفة :

(( كان أجل في نفسه من أن يكذب ولكن لم يكن الحديث شأنه ، فكان يروي فيخطئ من حيث لا يعلم ويقلب الإسناد من حيث لا يفهم ، حدث بمقدار مائتي حديث أصاب منها في أربعة أحاديث ، والباقية إما إسنادها أو غير متنها )) .

فأجاب الأستاذ جواباً إجمالياً يأتي مع النظر فيه في ترجمة ابن حبان إن شاء الله ، يدفع الأستاذ هذه النصوص وإضعافها بأنها لم تفسر ، ويتشبث في الغض من أبي إسحاق بتلك الفخارة النيئة (( كثير الخطأ في حديثه )) محاولاً أن ينطح بها الجبل الشامخ ، وإذا قد تحطمت تلك الفخارة على رأس حاملها فلنذكر تقريظ الأئمة لأبي إسحاق ([76])

أما ثقته فقال ابن معين : (( ثقة ثقة )) ، وقال أبو حاتم : (( الثقة المأمون الأمام )) ، وقال النسائي : (( ثقة مأمون أحد الأئمة )) ووثقه جماعة غير هؤلاء واحتج به الشيخان في ( الصحيحين ) وبقية الستة والناس .

وأما فقهه فقال ابن المبارك : (( ما رأيت رجلاً أفقه من أبي إسحاق الفزاري )) وقال عبد الله ابن داود الخريبِي : (( لقول أبي إسحاق أحب إليَّ من قول إبراهيم النخعي )) .

وأثنى عليه آخرون في الفقه .

وأما معرفته بالسير فقال ابن عيينة : (( ما ينبغي أن يكون رجل أبصر بالسير ( وفي نسخة : يا لسنن ) منه )) وقال الخليلي (( أبو إسحاق يقتدى به وهو صاحب ( كتاب السير ) نظر فيه الشافعي وأملي كتابا على ترتيبه ورضيه )) وقال الحميدي : (( قال لي الشافعي : لم يصنف أحد في السير مثله )) .

وأما إمامته وفضله فقال سفيان بن عيينة : (( كان إماماً )) وقال أيضاً : (( والله ما رأيت أحداً أقدمه عليه )) وقال الفضيل بن عياض : (( ربما اشتقت إلي المصيصة وما بي فضل الرباط بل لأرى أبا إسحاق )) وقال أبو داود الطيالسي : (( مات أبو إسحاق الفزاري وليس على وجه الأرض أفضل منه )) وقال عبد الرحمن بن مهدي : (( إذا رأيت شامياً يحب الأوزاعي وأبا إسحاق فاطمئن إليه ، كانا إمامين في السنة )) وقال أبو أسامة : (( سمعت فضيل بن عياض يقول : رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم في النوم وإلى جنبه فرجة ، فذهبت لأجلس ، فقال : هذا مجلس أبي إسحاق الفزاري ، والثناء على أبي إسحاق كثير ، وفي هذا كفاية .

فهؤلاء الأئمة ونظراؤهم الراضون عن أبي إسحاق والموافقون والمثنون عليه هم الذين سماهم الأستاذ فيما تقدم من عبارته (( أصحاب الأغراض )) وقال الأستاذ ص 66 في شأن أبي إسحاق : (( حاله في علمه كما علمت وأنما وقعت ذلاقة لسانه في الوقوع في الناس موقع الإعجاب عند كثير ممن يحبون الوقوع في خصومهم بألسنة أناس آخرين فرفعوه إلى غير مرتبته ! .

أقول : إذا كان هؤلاء ساخطين على أبي حنيفة هذا السخط الذي يصوره الأستاذ فليت شعري من بقي غيرهم من أئمة الدين يسوغ أن يقال إنه راض عن أبي حنيفة ؟ وهل بقي إلا كسير وعوير ، وثالث ما فيه خير؟ !

وقال الأستاذ ص 77 : (( قال الحافظ ( ؟ ) ابن أبي العوام : حدثني .. سمعت إسماعيل ابن داود يقول : كان عبد الله بن المبارك يذكر عن أبي حنيفة فكانوا إذا اجتمعوا بالثغر - يعني المصيصة - لم يحدث ابن المبارك عن أبي حنيفة بشيء ولا يذكر أبو إسحاق الفزاري أبا حنيفة بسوء حتى يخرج ابن المبارك )) .

أقول : إن صحت هذه الحكاية فإنما تدل على أدب كل من الإمامين مع صاحبه وحسن اعتقاده فيه ، ولو كان ابن المبارك يرى أن أبا إسحاق يكذب على أبي حنيفة ويحكي عنه ما لم يكن ويتكلم فيه بالهوى ما ساغ لابن المبارك أن يسكت .

وإن تعجب فعجب ما في التعليق على صفحة 387 من المجلد13 من ( تاريخ بغداد )، ونص ذلك : (( أبو إسحاق الفزاري منكر الحديث وهذان الخبران وهذان الخبران من مناكيره )) أما إني لا أكاد أصدق أن مثل هذا يقع في مصر تحت سمع الأزهر وبصره ، وقريب من هذا ما يأتي في ترجمة صالح بن أحمد فإن القضية التي كشفت عنها في
( الطليعة ) ص 12 يعتذر عنها الأستاذ في ( الترغيب ) بأنه قد سبقته إليها اللجنة الأزهرية . والله المستعان .

9- إبراهيم بن محمد بن يحيى أبو إسحاق المزكي النيسابوري . في ( تاريخ بغداد ) 13/ 385 (( أخبرنا الحسن بن أبي بكر أخبرنا إبراهيم بن محمد بن يحيى المزكي النيسابوري حدثنا محمد بن المسيب .. )) قال الأستاذ ص 71 (( لم يكن البرقاني يرضاه ، وتفصيل أحواله عند الخطيب )) .

أقول قال الخطيب في ( التاريخ ) 6/ 168: (( ... وكان ثقة ثبتاً مكثراً مواصلاً للحج... وكان عند البرقاني عنه سقط أو سقطان ولم يخرج عنه في ( صحيحه ) شيئاً فسألته عن ذلك فقال : حديثه كثيراً الغرائب وفي نفسي منه شيء فلذاك لم أرو عنه في ( الصحيح ) . فلما حصلت بنيسابور في رحلتي إليها سألت أهلها ... فأثنوا عليه أحسن الثناء وذكروه أجمل الذكر ، ثم لما رجعت إلى بغداد ذكرت ذلك للبرقاني فقال قد أخرجت في ( الصحيح ) أحاديث كثيرة بنزول ، وأعلم أنها عندي بعلو عن أبي إسحاق المزكي إلا أني لا أقدر على إخراجها لكبر السن وضعف البصر وتعذر وقوفي على خطي لدقته - أو كما قال )) أقول فزال ما كان في نفس البرقاني من المزكي وعاد فرضيه ، وكانت نيسابور في ذاك العصر دار الحديث ، وحكى الخطيب عن الحاكم قال : ((كان إبراهيم بن محمد بن يحيى المزكي من العباد المجتهدين ... عقد له الإملاء بنيسابور سنة 336 وهو أسود الرأس واللحية وزكى في تلك السنة ، وكنا نعد في مجلسه أربعة عشر محدثاً منهم أبو العباس الأصم وأبو عبد الله بن الأخرم وأبو عبد الله الصفار ومحمد بن صالح وأقرانهم )) .

وكثرة الغرائب إنما تضر الراوي في أحد حاليين :

الأولى : أن تكون مع غرابتها منكرة عن شيوخ ثقات بأسانيد جيدة .

الثانية : أن يكون مع كثرة غرائبه غير معروف بكثرة الطلب .

ففي الحال الأولى تكون تبعة النكارة على الراوي نفسه لظهور براءة من فوقه عنها ، وفي الحال الثانية يقال من أين له هذه الغرائب الكثيرة مع قلة طلبه ؟ فيتهم بسرقة الحديث كما قال ابن نمير في أبي هشام الرفاعي (( كان أضعفنا طلبا وأكثرنا غرائب )) . وحفاظ نيسابور كانوا يعرفون صاحبهم بكثرة الطلب والحرص عليه وطول الرحلة وكثرة
الحديث ، ولازم ذلك كثرة الغرائب
، وعرفوه مع ذلك بالأمانة والفضل والثبت يشكوا فيه وهم أعرف به ولذلك رجع البرقاني إلى قولهم .

10- إبراهيم بن يعقوب أبو إسحاق الجوزجاني . قال الأستاذ ص 115 في كتاب
( الجرح والتعديل ) : أخبرنا إبراهيم بن يعقوب الحوزجاني فيما كتب إلي : عن أبي
عبد الرحمن المقري قال كان أبو حنيفة يحدثنا فإذا فرغ من الحديث قال هذا الذي سمعتم كله ريح وأباطيل ، ثم قال : أخبرنا إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني فيما كتب إليَّ حدثني إسحاق بن راهويه قال : سمعت جريراً يقول : قال محمد بن جابر اليمامي : سرق أبو حنيفة كتب حماد مني )) ثم قال الأستاذ (( وابن أبي حاتم من أعرف الناس أن الجوزجاني منحرف عن أهل الكوفة حتى استقر قول أهل النقد فيه على أنه لا يقبل له قول في أهل الكوفة ، وكان ناصبياً خبيثاً حريزي المذهب أخرجت جارية له فروجة لتذبحها فلم تجد من يذبحها فقال : سبحان الله فروجة لا يوجد من يذبحها وعلي يذبح في ضحوة نيفا وعشرين ألف مسلم . فمثل هذا الخبيث يصدقه ذلك التقي في أبي حنيفة )) .

أقول أما الحكاية الأولى فقد عرف عن أبي حنيفة أنه يترك العمل بكثير من الأحاديث كما يأتي في قسم الفقهيات إن شاء الله تعالى والحنفية ومنهم الأستاذ يعتذرون عن ذلك بما هو معروف ، وأما تركه العمل بكثير من الآثار عن الصحابة والتابعين فواضح ، فأي مانع أن يحدث بأشياء من ذلك ثم يقول تلك الكلمة ؟ وأما الحكاية الثانية فيأتي النظر فيها في ترجمة محمد بن جابر إن شاء الله تعالى .

وأما الجوزجاني فحافظ كثير متقن عارف وثقه تلميذه النسائي جامع (( خصائص علي )) وقائل تلك الكلمات في معاوية ، ووثقه آخرون ، فأما ميل الجوزجاني إلى النصب فقال ابن حبان في ( الثقات ) (( كان حريزي المذهب ولم يكن بداعية وكان صلبا في السنة ... إلا أنه من صلابته ربما كان يتعدى طوره )) وقال ابن عدي شديد الميل إلى مذهب أهل دمشق في الليل على علي )) .

وليس في هذا ما يبين درجته في الميل ، فأما قصة الفروجة فقال ابن حجر في (( تهذيب التهذيب )) : (( قال السلمي عن الدارقطني بعد أن ذكر توثيقه : لكن فيه انحراف عن علي اجتمع علي بابه أصحاب الحديث فأخرجت جارية له فروجة ... )) فالسلمي هو محمد بن الحسين النيسابوري ترجمته في ( لسان الميزان ) ج 5 ص140 تكلموا فيه حتى رموه بوضع الحديث ، والدارقطني إنما ولد بعد وفاة الجوزجاني ببضع وأربعين سنة وإنما سمع الحكاية على ما في معجم البلدان ( جوزجانان ) من عبد الله بن أحمد بن عدبس ولابن عدبس ترجمة في ( تاريخ بغداد ) ج 9 ص 384 و ( تهذيب تاريخ ابن عساكر ) ج 7 ص 288 ليس فيها ما يبين حاله فهو مجهول الحال فلا تقوم بخبره حجة ، وفوق ذلك فتلك الكلمة ليست بالصريحة في البغض فقد يقولها من يرى أن فعل علي عليه السلام خلاف الأولى أو أنه اجتهد فأخطأ ، وفي ( تهذيب التهذيب ) ج 10 ص 391 عن ميمون بن مهران قال : (( كنت أفضل علياً على عثمان فقال عمر بن عبد العزيز أيهما أحب إليك رجل أسرع في المال أو رجل أسرع في كذا – يعني الدماء قال فرجعت وقلت: لا أعود )) ، وهذا بين في أن عمر بن عبد العزيز وميمون بن مهران كانا يريان فعل علي خلاف الأولى أو خطأ في الاجتهاد ، ولا يعد مثل هذا نصبا إذ لا يستلزم البغض بل لا ينافي الحب ، وقد كره كثير من أهل العلم معاملة أبي بكر الصديق لمانعي الزكاة معاملة المرتدين ورأوا أنه أخطأ ، وهم مع ذلك يحبونه ويفضلونه .

فأما حط الجوزجاني على أهل الكوفة فخاض بمن كان شيعياً يبغض الصحابة أو يكون ممن يظن به ذلك ، وليس أبو حنيفة كذلك ثم قد تقدم في القاعدة الرابعة من قسم القواعد النظر في حط الجوزجاني على الشيعة وأتضح أنه لا يجاوز الحد وليس فيه ما يسوغ اتهامه بتعمد الحكم بالباطل ، أو يخدش في روايته ما فيه غض منهم أو فيهم ، وتوثيق أهل العلم له يدفع ذلك البتة كما تقدم في القواعد . والله الموفق .

11- أحمد بن إبراهيم . راجع ( الطليعة ) ص31- 32 . وقع في ( الطليعة ) ص31 (( وذكر سماعه من شريك )) اعترضها الأستاذ في ( الترحيب ) بأنه ليس في ( تهذيب التهذيب ) ذكر ذلك ، وصدق الأستاذ وقع الوهم في ( الطليعة ) لسبب الاختصار وصواب العبارة هكذا (( ذكر الخطيب سماعه من شريك وذكر المزي في
( التهذيب ) شريكاً في شيوخه )) .

ثم ذكر الأستاذ أنه لا يحتج بالخطيب فيما هو منهم فيه ، وأقول قد تقدم في القواعد الكلام في التهمة ، والخطيب حجة على كل حال ، على أن نص الخطيب على سماع أحمد ابن إبراهيم من شريك إنما وقع في ترجمة أحمد بن إبراهيم حيث لا عين لذكر أبي حنيفة ولا أثر ، وبين تلك الترجمة وترجمة أبي حنيفة تسعة مجلدات ، والخطيب لا يعلم الغيب . ولو علمه لنص على السماع عند تلك الحكاية نفسها ،وكأن هم الأستاذ في ( الترحيب ) أن يقال : قد أجاب ، لا أن يقال : لعله قد أصاب !

12- أحمد بن جعفر بن حمدان بن مالك أبو بكر القطيعي . في ( تاريخ بغداد ) ( 13 / 411 ) (( أخبرنا بشرى بن عبد الله الرومي ثنا أحمد بن جعفر بن حمدان … )) قال الأستاذ ص 141 .

(( مختلط فاحش الاختلاط …. ))

أقول قضية الاختلاط ذكرها الخطيب في ( التاريخ ) ج 4ص 73 قال (( حدثت عن أبي الحسن ابن الفرات …. )) وذكرها الذهبي في ( الميزان ) عن ابن الصلاح قال (( اختل في آخر عمره حتى كان لا يعرف شيئا مما يقرا عليه ذكر هذا أبو الحسن ابن الفرات )) والظاهر أن ابن الصلاح إنما اخذ ذلك مما ذكره الخطيب ولا ندري من حدث الخطيب ومع الجهالة به لا تثبت القصة لكن ابن حجر شدها بأن الخطيب مكي في ترجمة أحمد بن أحمد السيبِي أنه قال (( قدمت بغداد وأبو بكر بن مالك حي …. فقال لنا ابن الفرضي لا تذهبوا إلى ابن مالك فأنه قد ضعف واختل ومنعت ابني السماع منه )) وهذه الحكاية في ( التاريخ ) ج 4 ص4 لكن ليس فيها ما في تلك المنقطعة مما يقتضي فحش الاختلاط وقد قال الذهبي في ( الميزان ) بعد ذكر الحكاية الأولى (( فهذا القول غلو وإسراف )) .

أقول ويدل على أنه غلو وإسراف أن المشاهير من أئمة النقد في ذلك العصر كالدارقطني والحاكم والبرقاني لم يذكروا اختلاطاً ولا تغيراً0

وقد غمزه بعضهم بشيء آخر قال الخطيب (( كان بعض كتبه فاستحدث نسخها من كتاب لم يكن فيه سماعه فغمزه الناس إلا أنا لم نر أحداً امتنع من الرواية عنه ولا ترك الاحتجاج به ، وقد روى عنه من المتقدمين الدارقطني وابن شاهين .... سمعت أبا بكر البرقاني سئل عن ابن مالك فقال كان شيخاً صالحاً .... ثم غرقت قطعة من كتبه بعد ذلك فنسخها من كتاب ذكروا أنه لم يكن سماعه فيه فغمزوه لأجل ذلك وإلا فهو ثقة )) قال الخطيب (( وحدثني البرقاني قال : كنت شديد التنقير عن حال ابن مالك حتى ثبت عندي أنه صدوق لا يشك في سماعه وإنما كان فيه بله ، فلما غرقت (( القطيعة )) ([77]) بالماء الأسود غرق شيء من كتبه فنسخ بدل ما غرق من كتاب لم يكن فيه سماعه )) .

أقول أجاب ابن الجوزي في ( المنتظم ) ج 7 ص 93 عن هذا بقوله (( مثل هذا لا يطعن به عليه لأنه يجوز أن تكون الكتب قد قرأت عليه وعورض بها أصله ، وقد روى عنه الأئمة كالدارقطني وابن شاهين والبرقاني وأبي نعيم والحاكم )) .

أقول : وقال الحاكم (( ثقة مأمون )) ونسخه ما غرق من كتبه من كتاب ليس عليه سماعه يحتمل ما قال ابن الجوزي ويحتمل أن يكون ذاك الكتاب كان أصل ثقة آخر كان رفيقه في السماع فعرف مطابقته لأصله والمدار على الثقة بصحة النسخة ، وقد ثبت أن الرجل في نفسه ثقة مأمون ، وتلك الحكاية تحتمل ما لا ينافي ذلك فكان هو الظاهر ، ولا أدري متى غرق القطيعة بالماء والأسود ، وقد فتشت أخبار السنين في ( المنتظم ) فلن أره ذكر غرقا بالماء السود وإنما ذكر أنه في شهر رمضان سنة 367 غرق بعض المحال منها قطيعة أم جعفر فإن كان ذلك هو المراد فإنما كان قبل وفاة القطيعي بنحو سنة واحدة وقد سمع الناس منه الكتب كلها قبل ذلك مراراً وأخذت منها عدة نسخ ، والذين ذكروا الاستنساخ لم يذكروا أنه روى مما استنسخه ولو علموا ذلك لذكروه لأنه أبين في التليين وأبلغ في التحذير ، وليس من لازم الاستنساخ أن يروي عما استنسخه ولا أن يعزم على ذلك ، وكأنهم إنما ذكروا ذلك في حياته لاحتمال أن يروي بعد ذلك عما استنسخه ، وقد قال الخطيب في ( الكفاية) ص 109 : (( ومذاهب النقاد للرجال غامضة دقيقة وربما سمع بعضهم في الراوي أدنى مغمز فتوقف عن الاحتجاج بخبره وإن لم يكن الذي سمعه موجباً لرد الحديث ولا مسقطاً للعدالة ، ويرى السامع أن ما فعله هو الأولى رجاء إن كان الراوي حياً أن يحمله على التحفظ وضبط نفسه عن الغميزة ، وإن كان ميتاً أن ينزله من نقل عنه منزلته فلا يلحقه بطبقة السالمين من ذلك المغمز . ومنهم من يرى أن من الاحتياط للدين إشاعة ما سمع من الأمر المكروه الذي لا يوجب إسقاط العدالة بانفراده حتى ينظر هل من أخوات ونظائر ... )) .

فلما ذكروا في حياة القطيعي أنه تغير وأنه استنسخ من كتاب ليس عليه سماعه كان هذا على وجه الاحتياط ، ثم لما لم يذكروا في حياته ولا بعد موته أنه حدث بعد تغير شديد أو حدث مما استنسخه من كتاب ليس عليه سماعه ولا استنكروا رواية واحدة وأجمعوا على الاحتجاج به كما تقدم تبين بياناً واضحاً أنه لم يكن منه ما يخدش في الاحتجاج به .

هذا وكتب الإمام أحمد ك‍ ( المسند ) و ( الزهد ) كانت نسخها مشهورة متداولة قد رواها غير القطيعي وإنما اعتنوا بالقطيعي واشتهرت رواية الكتب من طريقة لعلو السند ، ويأتي لهذا مزيد في ترجمة الحسن بن علي بن المذهب ، والحمد لله الذي بنعمته يتم الصالحات .

13- أحمد بن جعفر محمد بن سلم ، في ( تاريخ بغداد ) 13/ 369 (( أخبرنا محمد ابن أحمد بن رزق أخبرنا أبو بكر أحمد بن جعفر بن محمد بن سلم قال : أملى علينا أبو العباس أحمد بن علي بن الآبار ... )) قال الأستاذ ص 32 : (( فابن رزق ... وأقل ما يقال في شيخه أنه متعصب أعمى البصيرة )) .

أقول : ترجمة بن سلم هكذا في ( التاريخ ) ج 4 ص 71 وفيها : (( كان صالحا ديناً مكثراً ثقة ثبتاً كتب عنه الدارقطني ثم نقل عن ابن أبي الفرارس قال : (( توفي أبو بكر بن سلم .. سنة 369 وكان ثقة )) .

والخطيب يروي بهذا السند من مصنفات الآبار ، وكذلك يروي عن الحسن بن الحسين ابن دوما عن ابن سلم عن الآبار فكل ما أسنده عن هذين عن ابن سلم عن الآبار فهو ثابت عن الآبار حتماً لا شأن لهؤلاء الثلاثة ابن رزق وابن دوما وابن سلم فيه ، فإن كانت تبعه فعلى الآبار وستأتي ترجمته .

14- أحمد بن الحسن بن جنيدب أبو الحسن الترمذي الحافظ الرحال صاحب أحمد  ابن حنبل . في ( تاريخ بغداد ) ( 13/ 418) .

(( .... أحمد بن الحسن الترمذي قال سمعت أحمد بن حنبل يقول : قال الأستاذ ص163 (( وأحمد بن الحسن الترمذي من أصحاب أحمد ، لا يقل تعصباً من عبد الله بن أحمد وإن روى عنه البخاري حديثاً واحداً في المغازي ، وكم بين رجال البخاري من يؤخذ عنه شيء دون شيء )) .

أقول هذا الرجل معروف بالحفظ والمعرفة أثنى عليه أبو حاتم وابن خزيمة وهما ممن روى عنه وروى عنه أبو زرعه ومن عادته أن لا يروي إلا عن ثقة كما في ( لسان الميزان ) ج2 ص 416 ولم يذكر بشيء من التعصب لكن كونه من أصحاب أحمد وروى عنه تلك الكلمة كاف عند الأستاذ لرميه بشدة التعصب وقد تقدم تحقيق حكم التعصب في
القواعد . أما قلة رواية البخاري عنه فلأنه من أقرانه ، والبخاري كغيره من الأئمة يتحرى علو الإسناد ، فلا يكاد يروي في ( الصحيح ) عمن هو أكبر منه بقليل فضلاً عن أقرانه إلا ما أعوزه أن يجده عند من هو في طبقة كبار شيوخه . وإذا كان الرجل بحيث يؤخذ عنه الحديث في ( الصحيح ) فلأن تؤخذ عنه الحكايات أولى .

15- أحمد بن الحسن بن خيرون . قال الأستاذ ص 31 :

(( تكلم الحافظ أبو الفضل بن طاهر في أحمد بن الحسن المعروف بابن خيرون الذي كان الخطيب سلم إليه كتبه فاحترقت تلك الكتب في بين هذا الوصي وبينها نسخة الخطيب من ( تاريخ بغداد ) حتى روى الناس ( تاريخ الخطيب ) من نسخة ابن خيرون لا عن الخطيب ، وبوا فيها زيادات على ما كانوا سمعوه من الخطيب فقالوا : إن ابن خيرون هو الذي زادها حتى رمى أبو الفضل [ ابن طاهر ] المقدسي ابن خيرون بكل سوء وإن لم يعجب ذلك الذهبي وقد نقل في ( ميزان الاعتدال ) عن ابن الجوزي أنه قال : سمعت مشايخنا يقولون إن الخطيب أوصى ابن خيرون أن يزيد وريقات في ( تاريخه ) وكان لا يحب أن تظهر منه في حياته فبذلك تعلم أن الزيادة فيه لا شك فيها لكن هناك رواية أنها كانت بوصية من الخطيب فتكون تبعة الزيادة على عاتق المؤلف نفسه ، أو الزائد هو ابن خيرون فيسقط ابن خيرون من مرتبة أن يكون مقبول الرواية على رأي أبي الفضل ابن طه المقدسي ومن الغريب أن المثالب الشنيعة المتعلقة بأبي حنيفة في ( تاريخ الخطيب ) لم تذع إلا بعد أن تحنف عالم الملوك الملك المعظم عيسى الأيوبي ولذلك كان هو أول من رد عليها ولو ذاعت المثالب قبل ذلك لما تأخر العلماء من الرد عليها كما فعلوا مع عبد القاهر البغدادي وابن الجويني وأبي حامد الطوسي وغيرهم وسبط ابن الجوزي رد على الخطيب أيضاً في عصر الملك المعظم ... ))

أقول : ابن خيرون ذكره ابن الجوزي في ( المنتظم ) ج 8 ص87 وقال : (( روى عنه أبو بكر الخطيب وحدثنا عنه أشياخنا وكان من الثقات ، وشهد عند أبي عبد الله الدامغاني [ قاضي القضاة الحنفي المشهور ] ثم صار أميناً له )) .

وفي ( تذكرة الحفاظ ) ج 4 ص 7 : (( ذكره السمعاني فقال : ثقة عدل متقن واسع الرواية ... سمعت عبد الوهاب بن خيرون يقول : ما رُئُيَ مثل أبي الفضل بن خيرون لو ذكرت كتبه وأجزاءه التي سمعها يقول لك عمن سمع وبأي طريق سمع وكان يذكر الشيخ وما يرويه وما ينفرد به ... ، قال أبو طاهر السلفي : كان كيحيى بن معين في وقته .... )) وقد ذكرت في ( ميزان الاعتدال ) كلام ابن طاهبر فيه بكلام مردود وأنه كان يلحق بخطه أشياء في ( تاريخ الخطيب ) وبينا أن الخطيب أذن له في ذلك ، وأما خطه فمشهور وهو بمنْزلة الحواشي ، فكان ماذا ؟ )) .

وفي ( الميزان ) : أحمد بن الحسن بن خيرون أبو الفضل الثقة الثبت محدث بغداد تكلم فيه ابن طاهر بقول زائف سمج فقال : حدثني ابن مرزوق حدثني عبد المحسن بن محمد قال: سألني ابن خيرون أن أحمل إليه الجزء الخامس من ( تاريخ الخطيب ) فحملته إليه فرده ، وقد ألحق فيه ترجمة محمد بن علي رجلين لم يذكرهما الخطيب ، وألحق في ترجمة قاضي القضاة الدامغاني [ الحنفي ] : (( كان نزهاً عفيفاً )) وقال ابن الجوزي : قد كنت أسمع من مشايخنا أن الخطيب أمر ابن خيرون أن يلحق وريقات في كتابه ما أحب الخطيب أن تظهر عنه .

قلت : وكتابته لذلك كالحاشية وخطه معروف لا يلتبس بخط الخطيب أبداً وما زال الفضلاء يفعلون ذلك ، وهو أوثق من ابن طاهر بكثير بل هو ثقة مطلقا .. )) .

أقول : ( تاريخ الخطيب ) قرئ عليه في حياته ورواه جماعة ويظهر أنها أخذت منه عدة نسخ في حياته الخطيب على ما جرت به عادة المثرين من طلبة العلم والمجتهدين منهم أن يستنسخ كل منهم الكتاب قبل أن يسمعه على الشيخ ثم يسمع في كتاب نفسه ويصحح نسخته ، وكثير منهم يستنسخ قبل كل مجلس القطعة التي يتوقع أن تقرأ في ذلك المجلس إلى أن يتم الكتاب .

وعبد المحسن الذي روى ابن طاهر من طريقه ذكر الزيادة هو عبد المحسن بن محمد الشيحي وفي ترجمته من ( المنتظم ) ج9 ص100 (( أكثر عن أبي بكر الخطيب بصور وأهدى إليه الخطيب ( تاريخ بغداد ) بخطه وقال : لو كان عندي أعز منه لأهديته له )) ومن الواضح أن الخطيب لا يهدي نسخته الوحيدة من تاريخه الجليل ويبقى بلا نسخة فلا بد أن تكون عنده أخرى ، ومن البين أن العالم لا يزال يحتاج إلى الزيادة في تأليفه فلعله زاد في النسخة التي بقيت عنده أشياء لم تكن في النسخة التي أهداها لعبد المحسن فإذا كانت هذه النسخة الأخيرة صارت لابن خيرون كما يقول الأستاذ فطلب ابن خيرون من عبد المحسن أن يبعث إليه بالجزء الخامس من نسخته فألحق ما ألحق فإن كان ألحق على أنه من الكتاب فإنما ألحق ذلك من نسخة الخطيب الأخيرة ، وإن كان إنما كتب حاشية كما قال الذهبي فالأمر أوضح وما ذكره الأستاذ : أن كتب الخطيب احترقت عند ابن خيرون لا أتحققه ، نعم ذكروا احتراقاً ، ولكن لم أجد نصاً على أن نسخة الخطيب من ( تاريخه ) احترقت ولا أن الناس إنما رووا ( التاريخ ) بعد ذلك عن نسخة لابن خيرون لا عن خط الخطيب بل هذا باطل حتماً ، وقد علمت أنه كان عند عبد المحسن نسخة أخرى بخط الخطيب ، ولا بد أن تكون عند غيره نسخ مما صحح على نسخة الخطيب عند القراءة عليه وقد روى جماعة منهم ابن الجوزي وأبو اليمن الكندي أستاذ الملك المعظم وخليله سبط بن الجوزي ( تاريخ بغداد ) عن أبي منصور عبد الرحمن بن محمد القزاز يقول : (( أخبرنا الخطيب )) أو نحو ذلك ، وفي ترجمته في من ( المنتظم ) ج 10 ص 90 (( سمعه أبوه وعمه الكثير ، وكان صحيح السماع )) ولا بد أن نكون عنده نسخة أخرى سمع فيها الخطيب وإلا لطعنوا فيه بأنه يروي مما ليس عليه سماعه ، ثم رأيت في ( معجم الأدباء ) ج4 ص 38 :

(( قال السمعاني لما رجعت إلى خراسان حصل لي ( تاريخ الخطيب ) بخط شجاع بن فارس الذهلي [ الحافظ الثبت ] الأصل الذي كتبه بخطه لأبي غالب محمد بن عبد الواحد القزاز وعلى وجه كل واحد من الأجزاء : سماع لأبي غالب ولابنه أبي منصور عبد الرحمن ... )) .

فهذه النسخة كتبها ذاك الحافظ الثبت بخطه وسمع فيها القزاز وولده على الخطيب وصححت على نسخته ، ولا أدري أكانت عند الابن نسخة أخرى مما سمع على الخطيب فكان يروي منها أم كان قد استنسخ من هذه التي بخط شجاع الذهلي نسخة أخرى قوبلت على الأصل ، وكتب العلماء شهادتهم بذلك ونقلوا سماعه إلى نسخته الجديدة وباع الأصل حتى صار لابن السمعاني. وعلى كل حال فالنسخة التي كانت عند القزاز صحيحة عن الخطيب ولا شأن لها بنسخة عبد المحسن ولا بالنسخة التي كانت ابن خيرون ولا بالنسخة التي كانت عند ابن خيرون ولا بنسخة ابن خيرون ، ونسختا ابن الجوزي والكندي أستاذ المعظم مأخوذتان عن نسخة القزاز ونسختا سبط ابن الجوزي والمعظم تبع لذلك وكان المعظم ملكاً مسلطاً متعصباً وصاحبه سبط ابن الجوزي جوالاً متفانياً في هواه وهما أول من رد على الخطيب كما ذكر الأستاذ ولعلهما قد وقفا على عدة نسخ أخرى فلو عرفا أن أول بين النسخ اختلافاً في الموضع الذي ردا عليه لما سكتا عن بيان ذلك .

فأما سكوت من قبلهما من علماء الحنفية عن الرد على الخطيب مع ردهم على غيره فلأنهم أعقل منهما ومن الأستاذ ، إنما ردوا على رسائل صغيرة من شأنها أن تشيع وتذيع فأما ما في ذاك الموضع من ( تاريخ بغداد ) فرأوا أنه مدفون في كتاب كبير لا يقف عليه إلا الأفراد فتكلف الجواب إنما هو سعي في انتشار ذلك واشتهاره فعلموا أن السكوت أسلم ولما خالفهم الأستاذ وقع فيما تراه ، وعلى أهلها تجني براقش . وقد ذكر ابن عساكر نسختين أخريين انظر ( تاريخ دمشق ) ج 1 ص 45- 46 ([78]) .

وقد حقر الأستاذ ابن خيرون وعظم ابن طاهر والملك عيسى ، فأما محمد بن طاهر فترجمته في ( الميزان ) و( لسانه ) و( المنتظم ) ج 9 ص157 ويأتني له ذكر في ترجمة الخطيب ومن طالع ذلك وتدبر ما يعتمده الأستاذ علم ابن طاهر لو وقع في إسناد حكاية فيها غض من أبي حنيفة أو أحد أصحابه لحط الأستاذ عليه أشنع حط ، ولعله لا يتحاشى عن تكفيره فضلاً عن تفسيقه ، وأما الملك عيسى فحسبك أن تتتبع ما يحكيه عنه خليله في المجلد الأخير من تاريخه ( مرآة الزمان ) في مواضع متعددة ، ويمنعني من نقل ذلك هنا أنه كان له مشاهد في قتال الكفار ، وأنه حكى عنه ما يدل على محافظته على الصلاة حتى في مرض موته . والله أعلم .

16- أحمد بن خالد الكرماني . في ( تاريخ بغداد ) 2/ 178 (( محمد بن إسماعيل التمار الرقي قال حدثني أحمد بن خالد الكرماني قال سمعت المقدمي بالبصرة يقول قال الشافعي ... )) .

قال الأستاذ ص 183 : (( الكرماني مجهول )) .

أقول : أنا أيضاً لم أظفر له بترجمة ولا خبر إلا في هذه الرواية ، أو ذكره في شيوخ التمار لكن مثل هذا لا يسوغ لأمثالنا أن يقول : (( مجهول )) وراجع ( الطليعة ) ص 86- 98 .

17-أحمد بن الخليل . راجع ( الطليعة ) ص 20- 22 وما تقدم في القواعد أواخر القاعدة السادسة ([79]) .

18- أحمد بن سعد بن أبي مريم في ( تاريخ بغداد ) 13/ 420 (( ... أحمد بن سعد ابن أبي مريم قال وسألته - يعني يحيى بن معين - عن أبي حنيفة فقال : لا تكتب حديثه ))

قال الأستاذ ص 168 : (( كثير الوهم وكثير الاضطراب في مسائله مع مخالفة روايته هذه لرواية الثقات عن ابن معين ويبدو عليه أنه غير ثقة حيث يخالف ثقات أصحاب ابن معين فيما يرويه عنه في أبي حنيفة وأصحابه )) .

أقول : ممن روى عن أحمد هذا النسائي وقال : (( لابأس به )) وأبو داود وهو لا يروي إلا عن ثقة عنده كما في ( تهذيب التهذيب ) في ترجمة الحسين بن علي بن الأسود وترجمة داود بن أمية ، وبقي بن مخلد وهو لا يروي إلا عن ثقة عنده كما في ترجمة أحمد هذا من ( تهذيب التهذيب ) ([80]) . فأما كثرة وهمه وكثرة اضطرابه في مسائله فلم أعرفه ، وكان على الأستاذ أن ينقل ذلك عمن يعتد بقوله ، أو يذكر عدة أمثلة لما زعمه ، وقد رد الأستاذ قول إمام النقاد علي بن المديني في أبي حنيفة : (( أخطأ في خمسين حديثاً )) بأنه لم يفصل ذلك كما سلف مع نظائره في ترجمة إبراهيم بن محمد بن الحارث ، فكيف يطمع الأستاذ أن نقبل من مثله هذه المجازفة ؟! وأما دعوى مخالفة روايته هذه لروايات الثقات عن ابن معين فالجواب من أوجه :

الأول : المطالبة بتثبيت تلك الروايات .

الثاني : أنه كما يعلم الأستاذ قد جاءت عن ابن معين روايات أخرى في التليين لعلها أثبت من روايات التوثيق .

الثالث : أن ابن معين كثيراً ما تختلف أقواله وربما يطلق الكلمة يريد بها معنى غير المشهور كما سلف في القواعد في القاعدة السادسة .

الرابع : أن كلمة (( لا تكتب حديثه )) ليست بصريحة في الجرح فقد يكون ابن معين مع علمه برأي غيره من المحدثين علم أن أحمد قد استكثر من سماع الحديث ويمكنه أن يشتغل بما هو أنفع له من تتبع أحاديث أبي حنفية .

وعلى كل حال فأحمد هذا قد قبله الأئمة واحتجوا به ولم يطعن فيه أحد منهم . والله الموفق .

19- أحمد بن سلمان النجاد . في ( تاريخ بغداد ) 13/ 383 : (( أخبرنا محمد بن عبد الله أبان الهيتي حدثنا أحمد بن سلمان النجاد حدثنا عبد الله ... )) قال الأستاذ ص65 (( يقول فيه الدارقطني : يحدث من كتاب غيره بما لم يكن في أصوله )) .

وفي ( تاريخ بغداد ) 13/ 404 : خبر آخر من طريق النجاد فقال الأستاذ ص 125 (( والنجاد ممن يروي عما ليس عليه سماعه كما نص على ذلك الدارقطني كما في ( 4/ 191) من ( تاريخ الخطيب ) وليس قول الدارقطني فيه : قد حدث أحمد بن سلمان من كتاب غيره بما لم يكن في أصوله ، مما يزال بلعل ولعل )) .

أقول : لفظ الدارقطني (( حدث .... )) كما في ( تاريخ بغداد ) في الموضع الذي أحال عليه الأستاذ وهكذا في ( تذكرة الحفاظ ) وفي ( الميزان ) و( اللسان ) ، وهذه الكلمة تصدق بمرة واحدة كما حملها عليه الخطيب إذ قال (( كان قد كف بصره في آخر عمره فلعل بعض طلبه الحديث قرأ عليه ما ذكر الدارقطني )) بخلاف ما نسيه الأستاذ إلى الدارقطني أنه قال (( يحدث كم كتاب غيره ... )) ، (( ممن يروي عما عليه سماعه )) فإن هاتين العبارتين تعطيان أن ذلك كان من شأنه ، تكرر منه مراراً ! وقد تصرف الأستاذ مثل هذا التصرف وأشد منه في مواضع راجع ( الطليعة ) ص 66- 72 ، ويعتذر الأستاذ في ( الترحيب ) ص16 بقوله (( وأما مراعاة حرفية الجرح فغير ميسورة كل وقت وكفى بالاحتفاظ بجوهر المعنى )) .

أقول : على القارئ أن يراجع تلك الأمثلة في ( الطليعة) ليتبين له هل احتفظ الأستاذ بجوهر المعنى ؟ ولا أدري ما الذي عسر عليه المراعاة لعله كان بعيداً عن الكتب فلم يتيسر له مراجعتها وإنما اعتمد على حفظه ؟ أو لا يحق لي أن أقول إن الذي عسر عليه ذلك هو أنه لأي كلمات الأئمة التي تصرف فيها ذاك التصرف لا تشفي غيظه ولا تفي بغرضه فاضطر إلى ما وقع منه ، يدل على هذا أني لم أر كلمة واحدة من كلمات التليين في الذين يريد جرحتك تصرف فيها فجاءت عبارته أخف من أصلها ، بل رأيته يحافظ على جرفية الجرح حيث يراه شافياً لغيظه كما يأتي في الترجمة رقم 23 وغيرها ! وعلى هذا يكون اعتذاره المذكور اعترافاً بما قلته في ( الطليعة ) ص 66 .

وقول الأستاذ (( مما يزال بلعل ولعل )) يريد قول الخطيب (( .. فلعل بعض الطلبة ... )) وقد مر ، ولولا شدة غيظ الأستاذ على المحدثين لاكتفى بنص عبارة الدارقطني وعبارة الخطيب قائلاً : فعلى هذا ينبغي التثبت فيما يرويه عن النجاد من لم يكن في عصره معروفاً بالتيقظ ، ورواي تينك الحكايتين عن النجاد هو محمد بن عبد الله بن أبان الهيتي قال فيه الخطيب (( ... وكان مغفلاً مع خلوه عن علم الحديث ... )) وإذا كانت هذه نهايته فما عسى أن تكون بدايته ؟ فلا يؤمن أن يكون سمع تينك الحكايتين من النجاد في ذاك المجلس الذي حدث فيه النجاد من كتاب غيره بما ليس في أصوله .

أقول لو كان الأستاذ يكفكف من نفسه لاكتفى بهذا أو نحوه فإذا قيل له : القضية النادرة لا يعتد بها في حمل غيرها عليها وإنما الحمل على الغالب فقد يمكنه أن ينازع في هذا ، أما أنا فأقول : إنما قال الدارقطني (( بما لم يكن في أصوله )) ولم يقل (( بما يكن من حديثه )) أو نحو ذلك فدل هذا على احتمال أن يكون ما حدث به من ذلك الكتاب كان من حديثه )) أو نحو ذلك فدل هذا على احتمال أن يكون ما حدث به من ذلك الكتاب كان من حديثه أو روايته وإن لم يكن في أصوله ، وذلك كأن يكون سمع شيئاً فحفظه ولم يثبته في أصله ثم رآه في كتاب غيره كما حفظه فحدث به ، أو يكون حضر سماع ثقة غيره في كتاب ولم يثبت اسمه فيه . ثم رأى ذلك الكتاب وهو واثق بحفظه فحدث منه بما كان سمعه ، أو تكون له إجازة بجزء معروف ولا أصل له به ثم رأى نسخة موثوقاً بها منه فحدث منها ، نعم كان المبالغون في التحفظ في ذاك العصر لا يحدث أحدهم إلا بما في أصوله حتى إذا طولب أبرز أصله ، لا ريب أن هذا أحوط وأحزم لكنه لا يتحتم جرح كم أخل بذلك إذا كانت قد ثبتت عدالته وأمانته وتيقظه وكان ما وقع منه محتملاً لوجه صحيح ، وقد قال أبو علي ابن الصواف (( كان النجاد يجيء معنا إلى المحدثين ونعله في يده فيقال له في ذلك فيقول : أحب أن أمشي في حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا حافياً )) فقال أبو إسحاق الطبري (( كان النجاد يصوم الدهر ويفطر كل ليلة على رغيف ويترك منه لقمة ، فإذا كان ليلة الجمعة تصدق بذلك الرغيف وأكل تلك اللقم التي استفضلها )) وكان ابن رزقويه يقول (( النجاد ابن صاعدنا )) قال الخطيب (( عني بذلك أن النجاد في كثرة حديثه واتساع طرقه وأصناف فوائده لمن سمع منه كابن صاعد لأصحابه إذ كل واحد من الرجلين كان واحد وقته )) وقال الخطيب :

(( كان صدوقاً عارفاً صنف كتأبا كبيراً في السنن وكان له بجامع المنصور حلقة قبل الجملة للفتوى وحلقة بعدها للإملاء )) هكذا في ( تذكرة الحفاظ ) ج 3 ص 80 وقال الذهبي أول الترجمة :

(( النجاد الإمام الحافظ الفقيه شيخ العلماء ببغداد )) .

وقد روى عنه الأئمة كالدارقطني وابن شاهين والحاكم وأكثر عنه في المستدرك - وابن منده وابن مردوية وغيرهم ولم ينكر عليه حديث واحد ، الثقة تثبت بأقل من هذا ، ومن ثبتت عدالته لم يقبل فيه الجرح إلا ببينة واضحة لاحتمال فيها كما تقدم في القواعد. والله الموفق .