=ج2.
جزء 2.التنكيل بما في تأنيب الكوثري
من الأباطيل العلامة الشيخ عبد
الرحمن بن يحيى المعلمي العتمي اليماني رحمه الله تعالى/ 1313 – 1386 .
قام على طبعه وتحقيقه والتعليق عليه محمد ناصر الألباني طبع على نفقة الشيخ محمد نصيف وشركاه
------
الجزء الثاني
البحث مع الحنفية في سبعة عشرة قضية
و هو القسم الثالث من كتاب
(( التنكيل بما تأنيب
الكوثري من الأباطيل ))
P
الحمد لله رب العالمين ، الذي من يرد به خيراً يفقه في الدين ،وأشهد وألا اله إلا الله وحده لا شريك له ،وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، اللهم صلّ على محمد وعلى اله،كما صليت على آل إبراهيم ،وبارك على محمد وعلى آل محمد ، كما باركت على آل ابراهيم ، إنك حميد مجيد .
أما بعد : فهذه بضع عشرة مسئلة وردت فيها أحاديث ذكر الخطيب في ترجمة أبي حنيفة من (تاريخ بغداد ) إنكار بعض المتقدمين على أبي حنيفة ردها ، فتعرض لها الأستاذ محمد زاهد الكوثري في كتابه ( تأنيب الخطيب ) فتعقبه في ذلك كما تعقبه في غيره وسأذكر في كل مسئلة كلامه ،وماله ، وما عليه . وأسأل الله التوفيق .
المسألة الأولى
اذا بلغ الماء قلتين لم ينجس
في (تاريخ بغداد ) 13/389 من طريق (( الفضل بن موسى السينايي يقول : سمعت أبا حنيفة يقول : من أصحأبي من يبول قلتين . يرد على النبي صلى الله عليه وسلم : إذا كان الماء قلتين لم ينجس )) .
قال الأستاذ ص83 : (( وحديث قلتين(1) لم يأخذ به أحد من الفقهاء قبل المائتين (2) لأن في ذلك اضطراباً عظيماً(3) ولم يقل بتصحيحه إلا المتساهلون (4)ولم ينفع تصحيح من صححه في الأخذ به لعدم تعين المراد بالقلتين حتى أن ابن دقيق العيد يعترف في شرح ( عمدة الأحكام ) بقوة احتجاج الحنفية بحديث الماء الدائم في ( الصحيح ) فدعونا معاشر الحنيفة نتوضاً من الحنفيات ولا تسغطس في المستنقعات )) .
أقول : في هذه العبارة ستة أمور كما أشرت إليه بالأرقام .
فأما الأمر الأول فالمنقول عن السلف قبل أبي حنيفة وفي عصرها مذهبان :
الأول : أن الماء سواء أكان قليلاً أم كثيراً لا ينجس إلا أن تخالطه النجاسة فتغير لونه أو ريحه أو طعمه ،وإليه ذهب المالك ،وكذلك أحمد في رواية وهو أيسر المذاهب علماً وعملاً ، وقد جاءت عن النبي r أحاديث أن الماء طهوراً لا ينجسه شيء1 وجاء في الروايات استثناء ما غيرت النجاسة أحد أوصافه ،وهي ضعيفة من جهة إسناد،ولكن حكموا الجماع على ذلك .
المذهب الثاني : أن هذا حكم الماء الكثير بحسب مقداره في نفسه فأما القليل فينجس بوقوع النجاسة فيه وإن لم يغير أحد أوصافه ، والقائلون بهذا يستثنون بعض النجاسات كالتي لايدر كما الطرف والتي تعم بها البلوى وميتة ما لا دم له سائل ، وتفصيل ذلك في كتب الفقه .ثم المشهور في التقدير أن ما بلغ قلتين فهو كثير وما دون ذلك فهو قليل جاء في هذا عن النبي r حديث القلتين ،وروي من قول عبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وأبي هريرة ، ومن قول مجاهد وغيره من التابعين ،وأخذ به نصاً عبيد الله بن عبد الله بن عمر وبعض فقهاء مكة ،والظاهر أن كل من روى الحديث من الصحابة فمن بعدهم يأخذ به ، ولا يُعدل عن هذا الظاهر إلا بإثبات خلافة ،ولم يصح عن النبي r تقديره آخر ،فأما من بعده فرويت أقوال:
أولها عن ابن عباس ذكر ذنوبين ،وفي سنده ضعف ،ولو صح لما تحتمت مخالفة للقلتين فإن ابن عباس معروف بالميل إلى التيسير والتوسعة فلعله حمل القلتين على الإطلاق فرأى أنه يصدق بالقلتين الصغيرتين اللتين تسع كل منها ذنوباً فقط .
ثانيها عن سعيد بن جبير ذكر ثلاث قلال ،وسعيد كان بالعراق فكأنه رأى قلال العراق تعادل قلتين اللتين تسع كل منها ذنوباً فقط .
ثالثاً : عن مسروق قال : (( إذا بلغ الماء كذا لم ينجسه شيء )) ونحوه عن ابن سيرين وأبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود ،وهؤلاء عراقيون فإما أن يكونوا ا لم يحققوا مقدار القلتين في الحديث بقلال العراق فأجمعوا ،وإما أن يكونوا كل منهم أشاره إلى ماء معّين فأراد بقوله :
((كذا )) أي بمقدار هذا الماء المشار إليه ،وقد ثبت بقولهم أنهم يرون التقدير ، لأن يحمل ذلك على التقدير المنقول عن النبي r أولى من أن يحمل على تقدير لا يعلم له مستند من الشرع .
رابعها : عن عبد الله بن عمرو بن العاص ذكر أربعين قلة ،وروزى مثله من وجه ضعيف عن أبي هريرة ، وقيل عنه أربعين غرباً ،وقيل ، أربعين دلواً . وهذا القول يحتمل معنيين ، الأول معنى المعروف لحديث القلتين ،والمعنى الثاني أن ما بلغ أربعين لا ينجس البتة ، إلا مخالطة نجاسة لا تغير أحد أوصافه ، لأنه قلتان وأكثر ، ولا بمخالطة نجاسة تغير أحد أوصافه لأن ذلك لا يقع عادة ، إذ لا يعرف ذاك العصر ببلاد العرب ماء يبلغ أربعين أو أزيد تقع فيه نجاسة تغيره .والمعنى الأول يحتاج إلى الاستثناء من منطوقة فيقال إلا أن يتغير،ومن مفهومه فيقال إلا بعض النجاسات كميتة مالا دم له سائل ، مع ذلك لا يكون لمفهومه مستند معروف من الشرع بل المنقول عن الشرع خلافه ،وأيضاً فلم يذهب إليه أحد من الفقهاء . فأما أن يترجح المعنى الثاني وتكون فائدة ذاك القول أن من ورد ماء فوجده متغيراً فإن كان من الكثرة بحيث لا يعرف عادة أن تقع فيه نجاسة تغيره فله استعماله بدون بحث ، وإن كان دون ذلك فعليه أن يتروى ويبحث ، وأما ان يحمل على معنى الأول ويطرح مفهومه ويقال : لعل ذاك القول كان عند سؤال عن ماء بذاك المقدر وقعت فيه نجاسة ولم تغيره ، فذكر اربعين للموافقة الواقع لا للتقليد.
هذا ، ولم أجد من المتقدمين من الفقهاء ،وغيرهم واحداً من التفات إلى ما اعتمده الحنيفة من اعتبار مساحة وجه الماء دون مقداره وكان الأستاذ شعر بهذا في فحاول عبثاً أن يشرك مع مذهبه في ذلك مذهب القلتين ،وإذا قال : (( لم يأخذ به أحد الفقهاء قبل المأتيين )) وقد علم ان القول بالقلتين مروى عن النبي r ثم عن جماعة من الصحابة والتابعين وغيرهم .
فأما الحنفية فذهب في الجملة إلى الفرق بين القليل والكثير لكنهم لم يعتروا مقدار الماء في فسه ، وإنما نظروا إلى مساحة وجهه عندهم في ذلك روايات :
الأولى : أن الماء راكد الذي تقع فيه نجاسة لا تغير أحد أوصافه ، إذا كانت مساحة وجهه بحيث يظن المحتاج خلوص النجاسة من أحد طرفية إلى الآخر بنجس وإلا فلا .
الثانية : أنه إذا كانت بحيث لا تغير أحد أوصافه ، إذا كانت مساحة وجهه بحيث يظن المحتاج خلوص النجاسة من أحد طرفية إلى الآخر بنجس وإلا فلا .
الثانية : أنه إذا كانت بحيث ذا حرك أدناه اضطرب شديد جداً كما تراه في كتبهم المطولة .
واستبعدهم بعضهم عدم اعتبار العمق ، فاشترطوا عمقاً !واختلفوا في قدره! فقيل أن يكون بحيث لا ينحسر بالاغتراف ، وقيل:أربع أصابع ،وقيل : ما بلغ الكعبين ،وقيل : شبر ، وقيل :ذراع ،وقيل : ذراعان !!!
واختلف على رواية الثانية في الحركة فقيل : حركة المغتسل ،وقيل المتوضئ ،وقيل
اليد ،ولم يعتبروا وقوع الحركة إنما ذكروها لمعرفة قدر المساحة ، سواء في الحكم عندهم أكان الماء عند وقوع النجاسة وبعدها ساكناً أم تحرك ،وقالوا : إذا كان بالمساحة المشروطة فللمحتاج أن يغتسل النجاسة وإن لم يكن قد تحرك ! وقالوا : إذا كانت مساحة وجه الماء تساوى القدر المشروط كفى وإن كان دقيقاً كأن يكون طوله مائة ذراع وعرضه ذراعاً ! وقال محققهم ابن الهمام في ترجيح الرواية الأولى : (( هو الأليق بأصل أبي حنيفة أعنى عدم التحكم بتقدير فيما لم يرد فيه تقدير شرعي فيما لم يرد فيه تقدير شرعي)) .
أقول : والرواية الأولى فيها تحكم ، والبول مثلاً إذا وقع في لماء ثم تحرك الماء خلصت ذرات البول إلى جميع الماء كما تشاهد إذا صببت قارورة مداد في حوض فقد يظهر لون مداد في الماء واضحاً ، وقد يظهر بتأمل ،وقد لا يظهر ذلك بسب اختلاف قدر الماء وقدر المداد وقدر لونه ،وعلى كل حال فالخلوص محقق،وإنما لا يظهر اللون لتفرق الذرات ، وظنون الناس لا ترجع غالباً إلى دلالة وإنما ترجع إلى طبائعهم ، فمنهم متقزز ينفر عن حوض كبير إذا رأى إنساناً واحداً عشرة بال فيه و آخر لا ينفر ،ولكن لوا رأى ثلاثة بالوافية لنفر ، وثالث لا ينفر ولو رأى عشرة بالوا فيه .وإذا جردت الرواية الأولى عن التحكم ،لم يكد يتحصل منها إلا أن إلا قائلها وكل الناس طباعهم ،وفي عد هذا قولاً ومذهبا ًونظر. وقد حكى الحنيفة محمد بن الحسن كان يقول : بعشر في عشر ،ثم رجع وقال : (( لا أوقت شيئاً )) وعقد الشافعي لهذه المسألة باباً طويلاً تراه في الكتاب ( اختلاف الحديث ) بهامش ( الأم ) ج7ص105-125وذكر أنه أنه ثاظر بعضهم ،والظاهر أنه محمد بن الحسن ،وفي المناظرة : (( قال قد سمعت قولك في الماء )) فلو قلت لا ينجس الماء بحال للقياس على ما وصفت أن الماء يزيل الأنجاس كان قولاً لا يستطيع أحدُ رده …… قلت. لا ينجس إلا أن لا ينجس شيء من الماء إلا بأن يتغير …… أو ينجس كله بكلما خالطه؟ قال: ما يستقيم في لقياس إلى هذا ، ولكن لا قياس مع خلاف خبر لازم . قلت: فقد خالفت الخبر اللازم ولم تقل معقولاً ولم تقس )) وقال في موضع آخر ك (( فقال : لقد سمعت أبا يوسف يقول : قول الحجازيين في الماء أحسن من قولنا ،وقولنا فيه خطأ )) . وقال في موضع آخر : (( ما احسن تولكم في الماء )).
أقول : فاتحصر الحق في المذهبين الأولين وسقط ما يخالفهما.
وأما أمر الثاني .وهو الاضطراب في روايات ذاك الحديث فالاضطراب الضار أن يكون الحديث الحديث حجة على أحد الوجهين مثلاًَ دون الأخر ويتجه الجمع ولا الترجيح ،أو يكثر لاضطراب ويشتد بحيث يدل ان الراوى مضطرب الذي مدار الحديث عليه لم يضبط . وليس الأمر في هذا الحديث كذلك كما يعلم من مراجعة ( سنن الدار قطني ) و( المستدرك) و(سنن البيهقي(1) ) .
وأما الأمر الثالث وهو قول الأستاذ (( ولم بتصحيحه إلا المتساهلون )) ففيه مجازفة فقد صححه الشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهوية وأبو عبيد القاسم بن سلام ،وحكى الشافعي عن مناظرة من الحنيفة ويظهر انه محمد بم الحسن أنه اعترف بثبوته ،كما في كتاب ( اختلاف الحديث ) بهامش ( الأم ) ج7ص 115ولفظة (( فقلت : أليس تثبيت الأحاديث التي وصفت . فقال : أما حديث الوليد بن كثير { وهو الحديث القلتين } ،وحديث ولوغ الكلب في الماء ،وحديث موسى بن أبي عثمان فتثبيت بإسنادها،وحديث بئر بضاعة فيثبت بشهرته وأنه معروف )) اعترف الطحاوى بصحته كما يأتي ، وصححه ابن حزيمه وابن حبان والحاكم وغيرهم،قال الحاكم في ( المستدرك )ج1ص132 ك (( حديث صحيح على شرط الشيخين فقد احتجا جميعاً بجمع رواية ولم يخرجاه، وأظنها والله أعلم لم يخرجاه لخلاف فيه …)) ثم ذكر الخلاف وأثبت أنم ما هو متابعة تزيد الحديث قوة .
وأما أمر الرابع وهو قول الأستاذ : (( ولم ينفع تصحيح صححه لعدم تعين المراد بالقلتين )) في ( فتح الباري ) : (( واعترف الطحاوي من الحنفية بذلك ( يعنى بصحة الحديث ) لكنه اعتذر عن القول به بأن القلة في العرب تطلق على الكبيرة والصغيرة كالجرة ولم يثبت في الحديث تقديرهما فيكون مجملاً فلا يعمل به وقواة ابن دقيق العيد…….))
أقول : قال الله عز وجل : { فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } ومن المساكين الصغير والكبلير والطويل الجسيم والقصير القضيف ،ومن المماليك الصغير والكبير وقد يقال نحو ذلك في الإطعام والكسوة إذ يصدقان بتمرة تمرة وقلنسوة ،وأمثال هذا في النصوص كثير ،وفيها ذكر المقادير كالصاع والرطل والمثقال والميل والفرسخ وغير ذلك مما وقع فيه اشتباه والاختلاف ، ولم يقل أحد في شيء من ذلك أنه مجمل ،بل منهم من يقول بمقتضى الإطلاق ،ومنهم من يذهب إلى الغالب أو الأوسط ،ومنهم من يختار الأكمل فيمكن إذ بمعنى الإطلاق في القلتين فيؤول ذلك إلى التحقيق المقدار بما يملأ قلتين أصغر ما يكون من القلال ولا يخدش في ذلك أنه قد يكون مقدار قلة كبيرة أو نصفها مثلاً كما قد يأتى نحو ذلك في كسوة المساكين على القول بأنه يكفى ما يسمى كسوة المساكين .ويمكن الأخذ بالأحوط كما فعل الشافعى وغيره ،ولا ريب أن ما بلغ قلتين من أكبر القلال المعهودة حينئذ وزاد على ذلك داخل في الحكم المنطوق الحديث حتماً على كل تقدير،وهو أنه لا ينجس ،وأن ما لميبلغ قلتين من أصغر القلال المعهود حينئذ داخل في الحكم مفهوم الحديث حتماً ، وهو أنه ينجس ، فلا يتوهم في لحديث إجمال بالنظر إلى هذين المقدارين وإنما يبقى الشك في ما بينهما فيؤخذ فيه بالاحتياط .
وقال ابن التركماني في ( الجوهر النقي ) : (( وقد اختلف في تفسير القلتين اختلافاً شديداً كما ترى ، ففسرتا بخمس قرب ،وبأربع ،وبأربعة وبالخأبيتين، والخأبية : الحُبَّ ، فظهر بهذا جهالة مقدار القلتين فتعذر العمل بها )) .
أقول :أما الاختلاف في تفسير القلة بمقتضى اللغة فمن تأمل كلام أهل اللغة وموارد الإستعمالة تفسير المحدثين السابقين ظهر له أن القلة هي الجرة ،وإنما جاء قيد الكبر من جهتين : الأولى : تفسير أهل الغريب لما ورد في لحديث في ذكر سدرة المنتهى (( فإذا نبقها مثل قلال هجر نوإذا ورقها مثل آذان الفيلة )) وقلال هجر مشهورة بالكبر ، وتفخم شأن السدرة يقتضي الكبر .
الثانية : تفسيرالمحتاطين لحديث القلتين ،وفي (سنن البيهقي ) ج1ص264عن مجاهد تفسير القلتين بالجرتين ونحوه عن وكيع ويحيى بن آدم ،وعن ابن إسحاق : (( هذه الجرار التي يستقى فيها الماء والدواريق )) وعن هاشيم : (( الجرتين الكبار )) وعن عاصم بن منذر : (( الخوأبي العظام )) .
اكثر الآخذين بحديث القلتين أخذوا بالاحتياط فاشترطوا الكبر والخأبية هي الحب والحب هو الجرة أو الجرة الكبيرة ،وعلى كل حال فما بلغ جرتين من أكبر ما يعهد من الجرار داخل في الحكم منطوق الحديث حتماً وما لم يبلغ الجرتين من اصغر ما يعهد من الجرار داخل في حكم مفهومه حتماً كما سلف .
وأما الاختلف في مقدار ما تسع فأكثر الأوجه التي ذكرها ابن تركماني جاءت في خبر رواه ابن جريج عن محمد بن يحيى عن يحيىبن عقيل عن يحيى بن يعمر عن النبي r ((إذا كان الماء قلتين لم يحمل نجساً ولا بأساً )) رواهأبو قرة عن ابن جريج وقال فيه : (( قال محمد فرأيت قلال هجر فأظن كلقلة تأخذ قربتين ))ورواه دار قطني عن أبي بكر النيسابوري عن أبي حميد المصّيِصي عن حجاج عن ابن جريج وقال فيه : (( قال فأظن أن كل قلة تأخذ الفَرَقَيْن )) رواه البيهقي عن أبي حامد أحمد بن على الرزاى عن زاهر بن طاهر عن أبي بكر النيسابورى بإسناده مثله وزاد (( والفرق ستة عشر رطلاً ))وراوه الشافعي ثنا مسلم بن خالد عن ابن جر يجلا يحضرني ذكره أن النبي r قال : إذا كان الماء قلتين لم يحمل خبثاً.وقال في الحديث بقلال هجر . قال ابن جريج . وقد رأيت قلال هجر فالقلة تسع قربتين أو قربتين وشيئاً . قال الشافعي : كان مسلم يذهب إلى أن ذلك أقل من نصف القربة أو نصف القربة فيقول : خمس قرب هو أكثر ما يسمع قلتين ،وقد تكون القلتان أقل من خمس قرب . قال الشافعي فالاحتياط أن تكون القلة فربتين ونصف…وقرب الحجاز كبار…)) ومسلم بن خالد وإن ضعفه الأكثر ون ونسبوه إلى كثرة الغلط فقد وثقة ابن معين وغيره وقالوا : كان فقيه أهل مكة وكانت له حلقة في حياة ابن جريج ،وهذا الخبر مما يحتاج إليه الفقيه فلا ظن به الغلط فيه(1)وقد تابعه في الجملة أبو قرة وهو ثقة فلفظ ((القربتين )) ثابت عن أبن جريج ، فأما لفظ (( الفرقين)) فإن كان بفتح الراء فيدفعه أن قلال هجر معروفة بالكبر بحيث يضرب بها المثل كما مر ، وقد قال الأزهري بعد إن عاش في هجر معروفة بالكبر بحيث ونواحيها سنين (( قلال هجر والإحساء ونواحيها معروفة تأخذ القلة منها مزادة كبيرة من الماء وتملأ الرواية قلتين )) والقربة تكون من الجلد واحد والمزادة من جلدين ونصف أو ثلاثة والرواية هو البعير الذي يحمل مزادتي الماء فالمراد هنا أن المزادتين اللتين يستقي فيهما على البعير تملأن قلتين ، فكيف يعقل يكون ماتسعه القلتان من قلال هجر من الماء أربعة وستين رطلاً فقط ؟ فإما أن يكون لفظ ((الفرقين )) تصحيفاً من بعض الرواة والصواب ((القربتين )) وإما أن يكون ((الفرقين )) بسكون الراء ،والفرق بسكون الراء مائة وعشرون رطلاً وما وقع في رواية البيهقي عن الرازى عن زاهر ((الفرق ستة عشر رطلاً )) تقدير من بعض الرواة ظن الفرقين بفتح الراء ، وزاهر فيه كلام .
وأما ما ذكره ابن تركماني من تفسير القلتين معاً باثنتين وثلاثين رطلاً فإنما أخذه من قوله (( وقد جاء ذكر الفرق من طريق آخر أخرجه ابن عدي من جهة المغيرة بن سقلاب عن محمد بن إسحاق عن نافع عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا كان الماء قلتين من قلال هجر لم ينجسه شيء وذكر أنهما فرقان )) قال ابن تركماني : وهذا يقتضي أن تكون قلتان اثنين وثلاثين رطلاً .والمغيرة هذا ضعفه ابن عدي ،وذكر ابن أبي حاتم عن أبيه أنه صالح ، وعن أبي زرعة : جزرى لا بأس به ))
أقول : الرواى الذى يطعن فيه محدثو بلده طعناً شديداً لا يزيده ثناء بعض الغرباء عليه غلا وهناً ، لأن ذلك يشعر بأنه كان يتعمد التخطيط فتزين لبعض الغرباء واستقبله باحاديث مستقيمة فظن أن ذلك شأنه مطلقاً فأثنى عليه ،وعرف أهل بلده حقيقة حله.وهذه حال المغيرة هذا فانه جرى أسقطه محدثو الجزيرة فقال أبو جعفر النفيلى : لم يكن مؤنثاً . وقال على بن ميمون الرقي : كان لا يسوى بعرة . وابو حاتم وأبو زرعه رازيان كأنهما لقياة في رحلتهما فسمعا منه فتزين لهما كما تقدم فاحسنا به الظن .وقد ضعفه ممن جاء بع ذلك الدار قطني وابن عدي لأنهما اعتبرا أحاديثه ،وحسبك دليلاً على تخليطه هذا الحديث فإن النا زووه عن ابن إسحاق عن أبن عبد الله بن عمر عن أبيه ولا ذكر فيه لقلال هجر ولا للتقدير فخلط فيه المغيرة ما شاء . وهذا والذي في ( الميزان ) في ترجمة المغيرة هذا ((…عن محمد بن إسحاق عن نافع عن ابن عمر مرفوعاً إذا كان الماء قلتين لم ينجسه شيء ،والقلة أربعة آصع )) ففى هذا أن القلة الواحدة اثنان وثلاثون رطلاً لا القلتان معاً ،والصاع عند العراقيين ثمانية أرطال،وقد يكون المغيرة رأى في بعض الروايات التقدير بالفرقين بتقدير الراء كما تقدم ،وهو تالف على كل حال .
هذا والفرقان بسكون الراء قريب من قربتين وشيء من قرب الحجاز فإنها كبار كما ذكره الشافعي فالفرقان مائتان وأربعون رطلاً ،ومر عن الشافعي وشيخه مسلم بن خالد صاحب ابن جريج جعل شيء نصفاً وحررّ بعض أصحاب الشافعي القربة مائة رطل فتكون قلة مائتين وخمسين رطلا فتقاربت روايتا الفرقين والقربتين وشيء . فأما ما روى عن الإمام أحمد أن القلتين أربع قرب فكأنه رجح رواية أبي قرة عن ابن جريج ورأى ان قلتين في أصل الحديث مطلقتان ،وأن قلال هجراً أكبر من قلال المدينة فرأى أن الزيادة على أربع قرب غلو في الاحتياط لا حاجة إليه . وأما قول إسحاق بن راهويه أن القلتين ست قرب فكأنه أخذه من قول الشافعي خمس قرب مع قوله أن قرب الحجاز كبار فاحتط إسحاق فجعلها ست قرب بقرب العراق .
وعلى كل حال فذاك المقدار أعنى خمس قرب من قرب الحجاز داخل هو وما زاد عليه في حكم منطوق الحديث حتماً اعنى أنه لا ينجس ،لأنه يشتمل على قلتين أو قلتين وزيادة على جميع التفاسير ،فدلالة الحديث على أنه لا ينجس حتيمة .. وكذلك دلالة الحديث على ان الماء القليل الذي لا يبلغ أن يكون قلتين في تفسير من التفاسير ينجس واضحة ، فبطلت دعوى تعذر العمل بالحديث ،وتحتم على من يعترف بصحته أن يعمل به فيما ذكر.
وأما الأمر الخامس وهر الاحتجاج بحديث الماء الدائم فإنه صح في ذلك حديثان : الأول : في النهى عن البول فيه . ففى (صحيح مسلم ) من حديث جابر (( عن رسول الله r أنه نهى أن يبال في الماء الراكد )) ومن حديث أبي هريرة (( عن النبي r قال : لا يبولن أحدكم في الملء الدائم ثم يغتسل منه )) وفي رواية (( لا تبل في الماء الدائم الذى لا يجرى ثم تغتسل منه )) وحديث أبي هريرة في ( صحيح البخارى ) وفيه ك ((ثم يغتسل فيه )) فقد يقال من جانب الحنفية : ها هنا ثلاث قضايا :
الأولى : فرق الحديث بين الراكد وغيره وهو قولنا .
الثانية : دلّ على البول في الماء الراكد ينجسه ،ولم يشترط التغير فهو حجة لنا على من يشترطه .
اثالثة : قال في رواية البخارى : (( ثم يغتسل فيه )) وهو ظاهر في شمول الحكم للماء الذي يمكن الإنسان أن يغتسل فيه ،ولابد أن يكون أكثر من قلتين فهو حجة لنا على من يقول بالقلتين .
أقول : أما القضية الأولى فدلالة الحديث على التفرقة إنما هي بمفهوم المخالفة ،والحنفية لا يقولون بها فيلزمهم إلحاق الجارى بالرا كد قياسياً أو يقيموا على مخالفة له دليلاً آخر . أما نحن فنقول بدلالة مفهوم المخالفة ولكننا نقول ليس وجه المخالفة ماتوهمه الحنيفة أو بعضهم حتى قال بعضهم (( إنا ان ماء أحدهما طاهر ،والآخر نجس فصبا من مكان عال فاختلطا في الهواء ثم نزلا طهر كله ! ولو أجرى ماء الاناءين في الارض صار بمنزله ماء جار )) وقال بعضهم (( لو حفر نهراً من حوض صغير أو صب رفيقه الماء في ميزاب وتوضأ فيه وعند طرفة الآخر إنا يجتمع فيه الماء جاز توضؤه به ثانياً وثم وثم )) وذكروا أن هذا معتبر حتى على القول بنجاسة الماء المستعمل ،وقضية هذا أنه لو عمد إلى جرة يصب الماء منها في ميزاب وقعد آخر على وسط الميزاب يبول يبول فيه ويسيل بوله مع الماء وعلى طرف الميزاب إناء يجتمع فيه ذاك الماء كان ذاك الماء الذي خالطه البول واجتمع في ذاك البول الإناء طاهراً مطهراً مع أنه لووضع في الجرة ابتداء . شيء يسير من ذاك البول لصار ماؤها نجساً !ولا يخفى أن مثل هذا الفرق لا يعقل له وجه ،وإنما الماء الجارى الخارج بمفهوم المخالفة في الحديث هو بمقتضى التبادر والنظر ما كان جارياً بطبعه كالأنهار والعيون مماليس مفسدة البولفيه كمفسدة البول في الراكد فإنالراكد يختلط به البول ويبقى بحاله فإن اغتسل منه البائل وغيره كان مغتسلاً بماء مخالطه البل من أول اغتساله إلى آخره.وأما الجارى كماء النهر فإن الدافعة التي وقع فيها البول تذهب فوراً ولا تعود فلا يمكن البائل أن يعود فيغتسل فيها وإنما يمكنه أن يعود فيغتسل في تلك البقعة ولا صغير ،فان الماء الذى يكون فيها ماء جديد لم يخالطه بوله ،ومنشأن الماء الجارى أن يتلاحق فلا تكاد تمر الدافعة التي وقع فيها البول مسافة لهم قدر حتى يتلاحق بها الماء المتجد فيتغلب عليها وعلى أنها حفظت بعض حالها حتى مرتبانسان يغتسل فسرعان ما تجاوزه ويعقبها الماء الجديد بل المتجدد فيذهب بأثرها فهذا هو المعنى المعقول الذى به خالف الجارى الراكد فوجب البناء عليه وبذلك على الجواب .
وأما القضية الثانية فلو دل الحديث الجابر على تنج الراكد بالبولة الوحدة لدل على تنجس كل ماء راكد قل أو كثر حتى البحر الأعظم فالصواب أن هناك عدة علل إذا خشيت واحدة منها تحقق النهى :
الاولى : التنجيس حالاً إما بأن يكون الماء قليلاً جداً تغيره البولة الواحدة ،وأما بأن يكون دون المقدار الشرعي وقد تقدم الكلام فيه.
الثانية : التنجيس مآلاً وذلك أنه لو لمينه عن البول في الماء الراكد لأوشك أن يبول هذا ثم يعود فيبول ويتكرر ذلك وكذلك يصنع غيره فقد يكثر البول حتى يغير الماء فينجسه .
الثالثة : التقدير حالاً ، قال الشافعي كما في هامش ( الأم ) ج7ص111 (( ومن رأى رجلاً يبول في ماء نافع قذر الشرب منه والوضوء به )) وقال قبل ذلك: (( كما ينهى أن يتغوط على ظهر الطريق والظل والمواضع التي يأوى الناس إليها لما يتأذى به الناس من ذلك ))
الرابعة : التقذير مآلاً قد يكونالغدير أو المصنعة كبيراً جداً لا يقذره الإنسان لبوله واحدة لكن إذا علم أن الناس يعتادون البول فيه قذره .
الخامسة : فشّو الأمراض ،فقد تحقق في الطب أن كثيراً من الأمراض إذا بال المبتلى بأحدها خرجت الجراثيم المرض مع البول فأن كان البول في ماء راكد بقيت تلك الجراثيم حتى تدخل في اجسام الناس الذين يستعملون ذاك الماء فيصابون بتلك الامراض والاصابة بذلك اكثر جداً من الاصابة بالجذام للقرب من المجذوم وقد ثبت في الصحيح ( فر من المجذوم كما تفر من الاسد ) وكثير منها اشد ضرراً من جرب الابل وقد ثبت في ( الصحيح ) ( ( لايردون ممرض على مصلح ) ) ، وبهذا يبقى الحديث على عمومة ولايحتاج الى اخراج عن ظاهرة بمجرد الاستنباط فأما حال الظرورة فمستثنى من اكثر النواهي . ثم ان تحقق بعض هذة العلل في ماء يصدق علية انه ليس براكد وجب ان يشملة الحكم ، اما قول من لايعتد بمفهوم المخالفة كالحنفية فواضح ، واما على قول من يعتد بة فيخص عممومة بالقياس الواضح ولاريب ان الشرع لايبيح ان يلقى في الماء الجاري مايضر بالناس او يؤذيهم ، وعلى هذا قيل لو اعتبرنا العلل المذكورة واعتبرنا القياس لزم شمول المنع لكل ماء جار فيلزم اطراح المفهوم راساً . قلت : بل تبقى مياة السيول ونحوها التي تمر بنفسها على مواضع النجاسة فلا يبقى وجهه لمنع الانسان عن البول فيها على ان الذين يعتقدون بمفهوم المخالفة يشترطون مالعلنا لو دققنا للاح لنا انه غير متحقق هنا ، وفي القران عدة ايات لايأخذون فيها بمفهوم المخالفة ويعتلون بوجوه اذا تدبرت وجدت بعضها وارداص هنا .
وأما حديث أبي هريرة فأن كان قوله : (( ثم يغتسل منه )) على معنى الخبر كما قدرة القرطبي قال : (( كحديث لايضرب احدكم أمراتة ثم يضاجعها )) فالكلام فية كما مر انة زاد بقولة : (( ثم يغتسل منه )) التنبيه على بعض العلل كأنه قال : كيف يبول فية ثم لعله يحتاج اليه فيغتسل منه فيتنجس او يتقذر او يدع الاغتسال مع حاجتة اليه ؟ واذا كان هو يستقذرة لبولة فية فغيرة اولى بالاستقذار ، والمؤمن يحب لاخية ما يحب لنفسة ولايدفع هذا ان وان كان المعنى على نهي عن الجمع بين البول والاغتسال انصب النهي على الاغتسال بعد البول انة قيل : لايغتسل في ماء دائم قد بال فية . ويحتمل هذا النهي علل احدها التنجس ، ثانيتها التقذر ، ثالثتها ان يكون عقوبة للبائل لان الانسان اذا علم انة ان بال في الماء حضر علية الاغتسال منة كان مما يمنعه عن البول ، وقريب منه حديث الموأة التي لعنة ناقتها فأمر النبي r بتخلية الناقة كأنة جعل عقوبة الامراة على لعنها الناقة ان لاتنتفع بها لكي تنزجر هي وغيرها عن اللعن ، فأي واحدة من هذة العلل وجدت النهي وبذلك يساوق التعليل عموم النص . وان كان المعنى : لايبل في الماء الدائم فأن عصى فبال فلا يغتسل منه فآخرة كما ذكر ، واوله كما مر في حديث جابر ^17^
واما القضية الثالثة فقد مر مايعلم بها الجواب عنها ، على ان الماء اذا كان دون القلتين بقليل وكان في حفرة ضيقة او حوض بقدر قعدة الانسان الا انه عمق امكن الانغماس فيه لانه اذا قعد ارتفع الماء من جوانب فيغمرة ، ومع ذلك فالاغتسال في الماء يصدق بأن يقعد وسطه ويغرف على نفسة ، وفوق هذا كلمة (( فيه )) كأنها شاذة، والغالب في الروايات من ذلك الوجه وغيرة كلمة (( منه )).
الحديث الثاني : النهى عن الاغتسال الجنب فيه ، وهو في (الصحيحين) عن أبي طالب السائب (( أنه سمع أبا هريرة يقول : قال رسول اللع r : لبا يغتسل أحدكم في الناء الدائم وهو جنب فقال كيف يفعل يا ابا هريرة . قال : يتناوله تناولاً )) .
قد يتسدل به على ان الماء يصير باغتسال الجنب فيه نجساً أو غير مطهر ، فأما النجاسة فرويت عن أبي حنيفة ثم رغب عن ذلك الحنيفة أنفسهم وأما سلب التطهير فواقهم عليه فيما دون القلتين الشافعية والحنابلة .ومن يأبي ذلك يقول إن علة النهى هي التقذير ،وقد يحتمل غير ذلك من العلل تظهر بالتأمل فيساوق التعليل عموم النص . وأما التفرقة بين دائم والجارى فقد مر ما فيها ،وكذا إن قيل : ان الحديث يدل على حصول المفسدة في لماء الذي يمكن أن يغتسل فيه الجنب ولا يكون إلا فوق القلتين فقد مر مثله والجواب عنه. وأما الأمر السادس وهو قول الأستاذ ((فدعونا معاشر لحنيفة نتوضأ من الحنيفات ولا نغطس في المستنقعات )) فأبي الأستاذ إلا التقليد حتى في السخرية. (1)
المسألة الثانية
رفع اليدين
في (تاريخ بغداد ) 13/389 من طريق وكيع : (( سأل ابن لمبارك أبا حنيفة عن رفع اليدين في الركوع فقال أبو حنيفة : يريد أن يطير فيرفع يديه ؟ قال وكيع : وكان ابن المبارك رجلاً عاقلاً فقال :إن كان طار في الأولى فإنه يطير في الثانية . فسكت ابو حنيفة ولم يقل شيئاً )) .
قال الأستاذ ص 83: ((……(1) مع ظهور الحجة في لحديث ابن مسعود … (2) لم يسلم سند من أسانيد الرفع عند الركوع من علة (3) بل لم يصح حديث في الرفعغير الحديث ابن عمر (4) وهو لم يأخذ به في رواية أبي بكر بن عياش …(5) ودعوى أحد الفرقين التواتر في موضع الخلاف المتوارث غير مسموعة (6) وإنما المتواتر أن جماعة من الصحابة كانوا لا يرفعون ، وجماعة منهم كانوا يرفعون (7)فيدل ذلك على التخيير الأصلى (8) وإنما خلافهم فيما هو الأفضل )) .
أقول : أما الأمر الأول فحدث ابن مسعود كما قال الدار قطني : (( تفرد به محمد بن جابروكان ضعيفاً عن حماد عن إبراهيم ، وغير حماد يريه عن إبراهيم مرسلاً عن عبد الله من فعله غير مرفوع إلى النبي r وهوالصواب )) ومحمد بن جابر وذكره الاستاذ ص 116 بمناسبة ما جاءعنه أنه قال : ((سرق منى أبو حنيفة كتاب حماد )) فقال الأستاذ : (( الأعمى قال فيهاحمد لات يحدث عنه إلا من هو شر منه )) . وترى ترجمة في قسم التراجم والحاصل أنه ليس بعمده . وحماد بن سليمان سيء الحفظ حتى قال حبيب بن أبي ثابت : (( كان حماد يقول : قال ابراهيم : فقلت له والله إنك لتكذب على ابراهيم أو إن إبراهيم ليخطىء )) وقال شعبة : (( قال لي حماد بن سليمان يا شعبة لا توقفني على إبراهيم فإن العهد قد طال ، وأخاف أن أنسي أو أكون قد نسيت )) أنظر ( تقدمه الجرح والتعديل ) ص 165 وقوله : (( لا توقفنى إلخ)) معناه إذا قلت : (( قال إبراهيم )) أو نحو ذلك فلا تسألنى أسمعته من إبراهيم لا؟ فيتبين بهذا أنه قد كان يقال ك (( قال إبراهيم )) ونحوه فيما لا يتحقق أنه سمعه من إبراهيم . وقد أجاب ابن التركمان عن الكلام الدار قطني فدافع عن محمد بنجابر بما لا يجدى وقال : (( إذا تعارض الوصل ع الإرسال ،والرفع مع الوقف، فالحكم عند أكثرهم الرافع والوصل ، لأنهما زادا وزيادة الثقة مقبولة )) . كذا قال وقد علم أن محمد بن جابر ليس بثقة وحماداً سيء الحفظ ، فالحديث ضعيف من أصله فكيف مع لخلاف ؟ وقد قال الأستاذ ص153: (( من أصوله – يعنى أباحنيفة أيضاً رد الزائد متنا كان أو سنداً إلى الناقص …)) والذي عليه جهابذة الحديث الترجيح ، هذا في اختلاف الثقات وليسهذا منه كما مر .
وروى النسائي من طريق ابن الميارك عن سفيان الثورى عن عاصم بن كليب عن عبدالرحمن ابن لأسود عن عقلم عن عبدالله بن مسعود قال : ألا أخبركم بصلاة الرسول r ؟ قال: فقال رفع يديه أول مرة ثم لم يعد .وقد روى الترمذى عن ابن المبارك قال : (( لم يثبت حديث ابن مسعود أن النبي r لم يرفع يديه إلا أول مرة )) وفي ( سنن الدار قطني ) ص 110 و(سنن البيهقي ) ج 2ص79 عن ابن المبارك قال : (( لم يثبت عندي … )) نحوه قد يقال : لعل ابن المبارك عنى حديث محمد بن جابر . لكن قد دل جزمه بعدم الثبوت ومحافظته على رفع اليدين على أنه لا يرى فيمال رواه عن سفيان مايشد حديث محمد بن جابر ولو من جهة المعنى ، وحديث سفيان رجاله ثقات وعاصم وإن قال ابن المدينى : لايحتج به إذا انفرد ، فقد وثقه جماعة وأخرج له مسلم في (الصحيح)،لكن هناك علل .
الأولى : أن سفيان يدلس ولم أر في شيء من طرق هذا الحديث عنه تصريحه بالسماع.
الثانية : أنه قد اختلف عليه قال ابو داود عقب روايته عن عثمان بن أبي أبي شيبة عن وكيع وستأتي : (( ثناالحسن بن على ثنا معاوية وخالد بن عمرو وأبو حذيفة قالو ا نا سفيان بإسناده هذا قال: رفع يديه في أول مرة ،وقال بعضهم : مرة واحدة )) وفي (مسند أحمد ) ج 1 ص 442 (( ثنا وكيع عن سفيانم عن عاصم … قال عبد الله : أصلى بكم صلاة رسول الله r فرفع يديه في أول )),اخرجه أبو داود عن عثمان بن أبي شيبة عن وكيع وفيه (( فصلى فلم يرفع يديه إلا مرة )) . ^20^
الثالثة : قال أحمد في (المسند ) ج1ص 418: (( ثنا يحيى بن آدم ثنا عبد الله بن إدريس من كتابه عن عاصم بن كليب عن عبد الرحمن بن الأسود نا علقمة عن عبد الله قال : علمنا رسول الله r الصلاة ، فكبر ورفع يديه ثم ركع وطبق بين يديه وجعلها بين كبتيه، فبلغ سعداً فقال ، صدق أخي قد كنا نفعل كذلك ثم أمرنا بهذا –وأخذ بركبتيه – حدثنى عاصم بن كليب بهذا )) فأعل البخارى في ( جزء رفع اليدين ) حديث سفيان بحديث ابن أدريس وقال (( ليس فيه : ثم لم يعد ، فهذا أصح لأن الكتاب أجفظ عند أهل العلم )) يشير البخارى إلى بعض الرواة لما لم ير في القصة ذكر الرفع عند الركوع وكان المشهور عن أصحاب ابن مسعود أنهم كانوا لا يرفعون إلا في أول الصلاة فهم أن الواقع في القصة كذلك ، ثم لما روى من حفظه بحسب ما كان فهم ،وممن أعل حديث سفيان من الأئمة أحمد وأبو داود ,ابو حاتم ومحمد بن نصر المروزى وغيرهم ،فمنهم من حمل الوهم على وكيع ومنهم من حمله على سفيان ، وزعم بعض الناس أن اختلافهم في هذا يقتضي ردّ قولهم جملة ،وليس هذا بشيء والذى يظهر أنه كان سفيان دلسه فالحمل على شيخه الذى سمعه منه ، وإلا فالوهم . وراجع ( نصب الراية ) ج1 ص 395.
الرابعة : أنه ليس في القصة تصريح من ابن مسعود بأن النبي r لم يرفع إلا في أول الصلاة ،وغاية الأمر أنه ذكر أنه سيخبرهم بصلاة رسول الله r، ثم قام بصلى بهم ، فإن بنينا على رواية ابن ادريس عن عاصم فليس فيها ذكر أن عبد الله لم يرفع في غير أول الصلاة . فقد يكون رفع ولم يذكر الرواي ذلك كما لم يذكر وضع اليدين على الصدر والقراءة ةالتكبير للركوع ، وكأنه إنما كان يهمه من ذكر القصة شأن التطبيق ،وفي ( مسند أحمد ) ج 1ص 413من طريق (( أبي اسحاق عن أ[ي الأسود عن علقمة والأسود أنهما كانا مع ابن مسعود ، فحضرت الصلاة فتأخر علقمة علقمة والأسود ، فأخذ ابن مسعود بأيديها فأقام أحدهما عن يمينه ، والآخر عن يسلره ،ثم ركطعافوضعا أيديهما على ركبهما ، وضرب أيديهما ثن طبق بين يديه وشبك وجعلها بين فخذيه ، وقال : رأيت النبي r فعله)) وبنحوه رواه منصور عن إبراهيم عن علقمة والأسود كما في (صحيح
مسلم ) .وفيه من طويق الأعمش عن إبراهيم عن الأسود وعلقمة نحوه وزاد قال : فلما صلى قال … وإذا كنتم ثلاثة فصلوا جميعاً ،وإذا كنتم أكثر من ذلك فليؤمكمأحدكم ، وإذا ركع أحدكم فليفرش ذراعيه على فخذيه وليجنأ وليطبق بين كفيه فلكأني أنظر إلى اختلاف أصابع رسول الله r فأراهم )) فأكثر الروايات لاتذكر عدم ارفع كما ترى وكثير منها لا تذكر حتى الرفع أول الصلاة فيظهر من ذا أن الذي كان يهم ابن مسعود من تعليمهم في تلك الصلاة ويهمهم من رواية القصة إنما هو مقام الثلاثة والتطبيق ولذلك لم يذكر عقب الصلاة إلا هذين إذ قال : (( إذا كنتم ثلاثة ……)) كما مر .
فإن قيل : فقد اشتهر عن عقلمة والأسود وغيرهما من أصحاب ابن مسعود أنهم :انوا لا يرفعون إلا في أول الصلاة ،ولو رأياه رفع في غير ذلك ولاسيما في تلك الصلاة لكان الظاهر أن يأخذوا ذلك عنه ،فقد أخذوا عنه التطبيق وغيره ؟
قلت : فقد أشار بعض أهل العلم إلى احتمال أن تكونا غفلا عن رفعه يديه في غير اول الصلاة ، وأشار بعهم إلى احتمال أن يكون ابن مسعود ذهل عن الرفع كبعض مايسهو الرجللأن المهم في تلك الصلاة كان بيان الموقف والتطبيق كما مر .
فإن قيل هذه احتمالات بعيدة ، قلت هي على كل حال أقرب من دفع ما ثبت عن جماعة من الصحابة أن النبي r كان يرفع ، وما تواتر عنهم أنهم كانوا يرفعون .
فإن قيل فقد ذهب بعضهم إلى احتمال النسخ ، قلت : من الممتنع جداً أ، يقع نسخ في مثل هذا الحكم ولا يطلع عليه جمهور الصحابة ويختص به أبن مسعود ثم يكتفي من تبليغه مع اشتهار الرفع والأطباق عليه بما وقعه في القصة على فرض ثبوتها .
فغن قيل فهل من شيء غير هذا ؟ قيلت : ذكر بعض أهل العلم أنه كما أن ابن مسعود طبق وأخبر يالتطبيق وأمر به ، وقد تبين أن ذلك كان في أول الإسلام ثم نسخ ، واتفق الناس علة ترك التطبيق ،وكما قال إن موقف إمام الإثنين بينهما وخالفه الناس في ذلك واعتذروا باحتمال ان يكون الرأى النبي r فعل ذلك في بيت ضيق ، فكذلك حاله في عدم الرفع إن ثبت عنه ، قد يكونه الرفع في غير اول الصلاة لم يشرع منذ ^22^
شرعت الصلاة ، فرأى ابن مسعود النبي r في اول الإسلام يصلى ولا ريفع إلا في اول الصلاة فأخذ ابن مسعود بذلك كما أخذ كما أخذ بالتطبيق والموقف ، وإن كان كل ذلك كان أولاً ثم ترك ،وقد يكون رأى النبي r ترك الرفع في بعض الصلوات لبيان أنه ليس بواجب فأخذ ابن مسعود بذلك .
فإن قيل : قضية الموقف قريبة لأن غالب ما كان النبي r يصلي الجماعة بأكثر من اثنين فأما قضيتنا التطبيق والرفع ففيما ذكر بعد .
قلت : قد فتح الله تعالى وله الحمد بوجه يقرب الأمر في الثلاث كلها وهو أن يقال كأنه كان من رأى ابن مسعود أن النسخ لا يثبت بالترك وحذه بل يبقى الأول مشروعاً في الجملة على ما يقتضيه حاله ،ويرى أن على العالم إذا خشي أن ينسى الناس الأمر الأول أن يسعى في إحيائه ، فأما التطبيق فقد علم ابن مسعود أنه كان مشروعاً ثم ترك العمل به ورأى هو أن تركه ليس نسخاً له ، بل إما أن يكون تركه رخصة لأنه فيما يظهر أشق من لأخذ بالركب وقد كان النبي r ربما يدع الأمر المستحب كراهية المشقة كما كان يعجل الصلاة العشاء إذا جمعوا وأبطأ بها ليلة ثم خرج فصلى وقال : (( إنه لوقتها لولا أن أشق على أمتي )) وإما أن يكوتا سواء والمصلى مخير بينهما ،وأما أن يكون التطبيق مندوباً أيضاً وإن كان الأخذ بالركب أفضل ، وقد علم ابن مسعود أن النبي r كان ربما يدع وما هو في أصل مندوب ليبين للناس أنه ليس بواجب وربما يفعل ما هو في الأصل مكروه ليبين للناس أنه ليس بحرام ،وكان أبو بكر وابن عباس لا يضحون ، كانوا يدعون التضحية ليبينوا للناس أنها ليست بواجبة ، فلما رأى ابن مسعود أن الناس قد أطبقوا على ترك التطبيق رأى أنه سنة قد أميتت فأجب إحياءها ففعله ،وأمر أصحابه بفعله ولم يخش أن يؤدي ذلك إلى إماتة الأخذ بالركب ، لعله أن مشروعية ذلك معلومة بين لناس ،وقد كان النبي r . إذا قصد بيان الجواز فترك ما هو في الأصل مكروه لا يخبر بقصده بل يكل الناس إلى ماقد عرفوه من الدليل على ما هو الأصل في ذلك ، وكذلك لم ينقل ^ 23^
أن أبا بكر وعمر وابن عباس كانوا حين يتركون التضحية يبينون قصدهم بل يكونوا يتكلون على ما قد عرفه الناس من مشروعيتها .
وأما وقوف إمام الإثنين بينهما ، فعلل النبي r فعله مرة ثم تقدم فعلهم ابن مسعود الأمرين ولكنه رأى أن الأول لم ينسخ وأن كلا الأمرين مشروع وإن كان التقدم أفضل ، ثم لما رأى الناس أطبقوا على التقدم أحب إحياء تلك السنة . وأما ترك الرفع في غير أول الصلاة فإن ثبت عن ابن مسعود فالظاهر أنه رأى النبي r تركه ،وأما في أول الإسلام بأن يكون كان أولاً يقتصر على الرفع أول الصلاة ، ثم رفع في بقية المواضع ،وأما بعد ذلك بأن يكون ربما ترك الرفع في غير الموضع مواظبتهم على الرفع أول الصلاة تركه لمصلحة البيان ،وحال ذلك عنده دون حال التطبيق ووقوف إمام الاثنين بينهما بدليل أنه عقب تلك الصلاة أمر بهذين ولم يعرض للرفع كما مر في حديث مسلم وربما يقال قد يكون ابن مسعود علم أن النبي r كان اولاً يطبق ولا يرفع عند الركوع والرجوع منه ،ثم ترك التطبيق ورفع ،وفرأى ابن مسعود أن الرفع بدل من التطبيق ،فأما الأخذ بالركب فقد يكون رخصة
فقط فلما بدا لابن مسعود إحياء التطبيق طبق ولم يرفع لئلا يجمع بين البدل والمبدل . والله اعلم .
فهذا غاية ما يقتضيه حسن الظن بابن مسعود وهو أهل أن يحسن الظن به . وعلى كل حال فقد ثبت الرفع قطعاً عن النبلي r وهو فعل عبادى متعلق بالصلاة ةلا يعقل أن يكون الفعل مندوباً كطلقاً ،ويكون الترك أيضاً مندوباً مطلقاً فما بقا الاحتمال النسخ ، والنسخ لا يثبت بمثل ماروي عن ابن مسعود مع ما فيه من الكلام وما يطرقه من الاحتمال،وقد ترك الصحابة في عهد عثمان تكبيرات الانتقال أو لجهر بها وأستمر ذلك حتى ظن بعض التابعين أن ذلك غير مشروع كما يأتي ، ولا يظهر للترك سبب إلا الترخص في ترك المندوب ، ونحن لم نظن بابن مسعود في ترك الرفع ذلك ولا ما هو أبعد عن الملامة كالنسيان والذهول ،
وإنما ظننا به قصد البيان وتثبيت الحق . فإن قيل يظهر ان ابن مسعود واظب على الترك ورضي لأصحابه المواظبة عليه ،وقلت فكذلك في التطبيق ووقوف إمام الاثنين بينهما بل هو في هذين آكد فإنه عَقِب تلك الصلاة أمرهم بهما ولم يعرض لترك الرفع كما مر في حديث مسلم والحق أن غاية ما في الار أن يكون رضي الهم المواظبة مدة ليكون ذلك أوفى بما قصده من البيان ،كما واظب أبو بكو وعُمر وابن عباس على ترك التضحية ، ورأى ابن مسعود انه إن خفي على أصحابه حقيقى الخال فسيعلمونها عندما يرون غيره من الصحابة وكبار التابعين ويسمعون منهم ويتدبرون فما اتفق مما يخالف ذلك فابن مسعود غير مسؤل عنه ،وقد كان النبي r إذا قصد البيان فترك ما هو في الأصل مندوب أو فعل ما هو في الأصل مكروه ، ربما يراه من لم يعرف الدليل السابق فيفهم خلاف المقصود ،وربما توهم بعضهم النسخ ،وربما يقع هذا التوهم لبعض فقهاء الأمة ويبقى ذلك في اتباعه ،ولهذا نظائر كثيرة في الشريعة حتى في نصوص القرآن مما يقع بسببه بعض الناس في الخطأ ويبقى ذلك في أتباعه كما ترى ذلك واضحاً في اختلاف المذاهب ،ولله تعالى في ذلك الحكمة البالغة يستيقضها المؤمن ,عن لم يحط بها علماً ،وليس هذا موضع نظراً في ذلك .
وأما الأمر الثاني والثالث ،وهما قول الأستاذ : (( لم يسلم سند للرفع من علة ول يصبح فيه إلا حديث ابن عمر )) فمجازفة ، وقال البخاري كما يأتي : (( لا أسانيد أصح من أسانيد الرفع )) وحديث ابن عمر بطعني الثبوت عنه وصح معه عدة أحاديث منها في (الصحيحين ) حديث مالك بن الحويرث ،وفي ( صحيح مسلم ) حديث وائل بن حجر ،وأشار البخاري في (الصحيح ) إلى حديث أبي حميد الساعدي في عشرة من الصحابة ، ،وقد صححه ابن حزيمة وابن حبان وصححا حديث على في ذلك ،وفي (الفتح ) : (( قال البخاري في( جزءرفع اليدين) :من زعم أنه بدعة فقد طعن في لصحابة فإنه لم يثبت عن أحد منهم تركه ،ولا أسانيد أصح من أسانيد الرفع ،…… وذكر البخاري أيضاً أنه رواه سبعة عشر رجلاً من الصحابة ، وذكر الحاكم وأبو القاسم ابن منده ممن رواه العشرة المبشرة ،وذكر شيخنا أبو الفضل الحافظ أنه تتبع من رواه من الصحابة فبلغوا خمسين رجلاً )) وتواتر باعتراف الكوثر الرفع عن جماعة من الصحابة بل نسبه غير واحد من التابعين كالحسن البصري وسعيد بن جبير إلى الصحابة مطلقاً ،زتواتره عنهم يستلزم تواترة عن النبي r كما يأتي في الأمر الخامس .
وأما الأمر الرابع ،وهو قول الكوثري أن ابن عمر (( لم يأخذ به في رواية أبي بكر ابن عياش )) ففيه مجازفة أيضاً ، فغن المراد رواية أبي بكر بن عياش عن حصين عن مجاهد قال :و (( مارأيت ابن عمر يرفع يديه إلا في أول ما يفتتح )) . ولو صح هذا عن مجاهد لما دل على أن ابن عمر لم يرفع ، فكيف أن يدل على انه لم يأخذ بالحديث ؟ وأنا أذكر جماعة من العلماء وغيرهم صحبتهم مدة وصليت معهم وأتذكر الآن هل أذكر رفعهم عند الركوع أو ولكني تحريت ذلك في جماعة ، فأنا الآن أذكر بعد طول العهد .ومجاهد لم يقل : رأيت ابن عمر لا يرفع ، وإنما قال – إن صحت الحكاية عنه : (( مارأيت ابن عمر يرفع …)) وهذا يشعر بأنه لا ينفي أن يكون ابن عمر ورفع ولم يروه مجاهد ، ومذهب مجاهد الرفع كما ذكر البخاري وغيره ، فإن صح عنه ذاك القول فكأنه لم يتفق له يتحرى تفقد ابن عمر في رئعه ، ,وإنما اتفق أنه شاهده رفع في اول الصلاة ، ثم اشتعل مجاهد بصلاة نفسه .وقد صح عن ابن عمر أنه كان ربما يرفع رفعاً تاماً وربما يتجوز ، ذكر مالك في (الموطأ) عن نافع (( أن ابن عمر كان إذا ابتداء الصلاة رفع يديه حذو منكبيه ،وإذ رفع رأسه من الركوع رفعها دون ذلك )) وفي (سنن أبي داود ) عن ابن جريج قال : (( قلت نافع : أكان ابن عمر وصح عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه الرفع حذو المنكبين في الأولى وغيرها ،قال الباحي في ( المنتقي ) : (( ويحتمل أن يكون عبد الله بن عمر كان يفعل الأمرين جميعاً ويرى ذلك واسعاً فيهما )) .
أقول : يدل مجموع الروايات عن ابن عمر أنه كان يرى أن أكمل الرفع أن تحاذي يداه منكبيه ، ,أن أصل السنة يحصل بما دون ذلك ولا سيما إذا كان هناك عذر ،فكأن ابن عمر لما كبر وضعف كان ربما يتجوز في الرفع فيرفع إلى الثديين أو نحو ذلك ،وربما يرفع في الأولى رفعاً تاماً لأنها آكد ويتجوز في الباقي .وكان ابن جريج جوزّ أن يكون المشروع التفرقة بأن يكون الرفع في الأولى أعلى ،وسأل عن فعل ابن عمر ليستدل به على ذلك وفهم نافع هذا فأجابه بحسبه ،فمحصل الجواب أن ابن عمر لم يكن يتحرى التفرقة تحرياً يشعر بأنها مشروعة ، بل كان ربما كان ربما يتجوز في الأولى أيضاً . فمن الجائر في الحكاية عن مجاهد أنه كان وراء ابن عمر غير قريب منه فاتفق أن ابن عمر رفع في الاةلى رفعاً تاماً رآه مجاهد ،وتجوز في الباقي فلم يره . ومن الجائز أن يكون ابن عمر سها في تلك الصلاة التي رقبة فيها مجاهد إن كان رقبة ،وقد قال البخاري في ( جزء الرفع اليدين) في الجواب عن تلك الحكاية : (( قال ابن معين : إنما هو توهم لا اصل له ، أو هو محمول على السهو كبعض مايسهو الرجل في صلاته ولم يكن ابن عمر ليدع مارواه النبي r ،مع ما رواه عن ابن عمر مثل طاوس وسالم ونافع ومحارب بن دثار وأبي الزبير أنه كان يرفع يديه ……)) وروي البخاري في( جزء رفع اليدين ) عن مالك أن ابن عمر كان إذا رأى رجلاً لا يرفع يديه إذا ركع وإذا رفع رماه بالحصى .
وإذا ترك ابن عمر الرفع في عض صلاته سهواً أو ضعفاً لم يصدق عليه مع ما تواتر عنه من الرفع انه لن يأخذ بالحديث ، فكيف والذي في تلك الحكاية إنما هو نفيا لرؤية لا نفي الرفع ولا تلازم بين النفيين كما سلف . ومع هذا كله فأبو بكر بن عياش عندهم شيء الحفظ كثير الغلط ،ولم يخرج له البخاري في (الصحيح ) إلا أحاديث ثبتت صحتها برواية غيره كما تراه في ( مقدمة الفتح ) ولم يخرج له مسلم شيئاً إلا أنه ذكر في (المقدمة ) عنه عن مغيره ابن مقسم قال : ( لم يكن يصدق على على رضي الله عنه في الحديث عنه إلا من أصحاب عبد الله بن مسعود ) ، فلو كانت روايته هذه مخالفة لما ثبت برواية الجماعة عن ابن عمر لوجب ردها كما لا يخفى .
وأما الأمر الخامس وهو قول الأستاذ : ((ودعوى أحد الفريقين التواتر في موضع الخلاف المتوارث غير مسموعة )) .
فكأن الأستاذ انتقل ذهنه من التواتر إلى الإجماع ، فإن الإجماع هو الذي يسوغ أن
يقال : لا تسمع دعواه في مواضع الخلاف المتوارث لمنافاة الخلاف للإجماع . فأما التواتر ابتداءه كان عقب وفاة النبي r فوراً لم يمنع من دعوى إجماع سابق ،فلنا أن ندعي في قضيتنا هذه إجماع الصحابة، لأن جماعة منهم رووا الرفع وتواتر العمل به عن كثير منهم اعترف به به الكوثرى ، بل نسبه غير واحد من التابعين كالحسن البصري وسعيد بن جبير إلى الصحابة مطلقاً فاشتهر ذلك وانتشر ولا يعرف عن أحد منهم ما يدل على انه غير مشروع ، فأما ماروي عن بعضهم أنه تركه فلم يثبت ،وقد مر الكلام على ما روي عن ابن مسعود ويأتي الكلام على غيره ،ولوثبت بعض ذلك فإنما هو ترك جزئي ،أي في ركعة واحدة أو صلاة واحدة ،وذلك لا يدل على أن التارك يراه غير مشروع ،وإذ قد يكون ترخص لعذر أولغير عذر في ترك ما يعلمه مندوباً . بل لوثبت أن بعضهم تركه مدة طويلة لما دل ذلك على أنه يراه غير مشروع ،فقد جاء عن أبي بكر وعمر وابن عباس أنهم كانوا لا يضحون . بل قد ثبت أن الصحابة تركوا في عهد عثمان تكبيرات الخفض والرفع أو الجهر بها ، واستمر ذلك حتى أن علياً لما قدم العراق وصلى بهم وأتى بالتكبيرات الخفض والرفع أو الجهر قال عمران بن حصين كما في ( الصحيحين ) وغيرهما (( ذكرنا هذا الرجل صلاة كنا نصليها مع رسول الله r )) وقال أبو موسى الأشعري فيما رواه أحمد وغيره بسند صحيح في (الفتح) (( ذكرنا الصلاة كنا نصليها مع رسول الله r إما نسيناها وإما تركناها عمداً )) واستمر الترك بالحجاز حت أن أبا هريرة حين استخلفه مروان على إمارة المدينة في عهد معاوية صلى بهم فأتى بالتكبيرات وجهر بها فأنكروا ذلك، قال أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف كما في ( صحيح مسلم ): ((قلنا يا أبي هريرة ما هذا التكبير ؟ فقال : إنهال لصلاة رسول الله r )) وصلى بهم بمكة فأتى بالتكبيرات وجهر بها فأنكووا ذلك ؟، وقال عكرمة كما في (صحيح البخاري ) وغيره (0فقلت لابن عباس إنه أحمق ، قال ثكلتك أمك سنة أبي القاسم محمد r )) .
فأما التواتر فأمره واضح ،فإنه قد يحصل لشخص دون آخر ، وقد جاء ^28^
عن ابن مسعود أنه كانيقول أن المعوذتين ليستا من القرآن واعتذر أهل العلم عنه بأنه لم. يسمع من النبي r ما يصرح بقرآنيتهما ولا تواتر ذلك عنده مع أن من المقطوع به تواتر ذلك عند غيره ، فلا يخدش في تواتر الرفع مخالفة بعض التابعين من الكوفيين إذ لا يازم من تواتر عند غيرهم تواتره عندهم بل عرضت لأولهم شبهة الترك فتوهموا أو بعضهم أنه غير مشروع ، كما توهم غيرهم من ترك عثمان وغيره تكبيرات الخفض والرفع أو الجهر بها أن ذلك غيرمشروع حتى انكروا على أبي هريرة كما تقدم ، ثم جاء بعدهم من الكوفيين من بلغته الأحاديث والآثار ولعلمها تواترت عنده فلم تطب نفسه بترك ما ألفه واعتاده وفر إلى احتمال النسخ ورأى أن الترك أحوطله وأطيب لنفسه . وقد اعترف الكوثري بتواتر الرفع عن جماعة من الصحابة وذلك لا يستازم تواتره عن النبي r فإنه فعل تعبدي في الصلاة ، لولم يعلموا أنه مشروع وفعلوه ، فإن فعلوه لا على وجه التعبد كان تلاعباً بالصلاة وإيهاماً لمشروعية مالم يشرعه الله وذلك كذب على الله ورسوله ودينه ، وإن فعلوه على وجه التنعبد فذلك صريح البدعة الضلالة والكذب على الله والتكذيب بآياته . فهذا يثبت قطعاً أنهم كانوا يعتقدون أنه مشروع ويمتنع اعتقادهم ذلك من جهة الرأى إذ لا مجالللرأى فيه ، على أن الرأى إنما يصار إليه في اثبات الفعل إذا لم يعلم أن النبي r تركه تركاً مستمراً مع قيام السبب وانتفاء المانع ،ويمتنع على الذين تواتر عنهم الرفع أن يجهلوا جميعاً أكان النبي r يرفع أم لا بعد أن طالت صحبتهم له ومراقبتهم لصلاته كما أمروا به .
وأما الأمر السادس وهو قول استاذ (( المتواتر أن جماعة من لصحابة كانوا لا يرفعون وجماعة منهم كانوا يرفعون )) فالشطر الثاني وهو تواتر الرفع حق ،وأما الشطر الأول فلا ، وهذا إمام النقل أبو عبد الله البخاري يقول كما تقدم (( لم يثبت عن أحد منهم تركه وإنما نقل الترك فيه قوة ما عن ابن مسعود وقد مر النظر فيه . وروي أيضاً عن عمر وعلي ، فأما عمر فقد جاء عنه الرفع من روايته ومن فعله ،وروي حسن بن عياش عن عبدالملك بن أبحر عن الزبير بن عدي عن إبراهيم عن الأسود قال (( صليت مع عمر فلم يرفع يديه في شيء من صلاته إلا في افتتاح الصلاة )) وأُعِلّ هذا بثلاثة أوجه .
الأول : أن حسن بن عياش لينه بعضهم ، قال عثمان الدارمي عن ابن معين : (( ثقة وأخوه ابو بكر ثقة )) قال عثمان ((ليستا بذاك وهما من أهل الصدق والأمانة )) واتفقوا على تليين أبي بكر في حفظه حتى قال يحيى القطان : (( لو كان أبو بكر بن عياش حاضراً ما سألته عن شيء )) وكان إذا ذكر عنده كلح وجهه ،وقال أبو نعيم الفضل بن دكين ((لم يكن في شيوخنا أحد أكثر غلطاً منه )) وقد روى الثورى عن الزبير بن عدى عن إبراهيم عن الأسود (( أن عمر كان يرفع يديه في الصلاة حذو منكبيه )) لم يذكر مافي رواية الحسن أبن عياش عن ابن أبجر عن الزبير بن عدي ،وكان الثورى لا يرفع ، فلو كان في قصة ما ذكره الحسن لما أغفله الثورى ، والخطأ في مثل هذا قريب فإنه كان عند إبراهيم حكايات عن أهل الكوفة في عدمالرفع فيقوى احتمال دخول الاشتباه على الحسن .
الوجه الثاني : أن إبراهيم ربما دلس . وفي ( معرفة علوم الحديث ) للحاكم ص 108 من طريق (( خلف بن سالكم قال :سمعت عدة من المشايخ أصحابنا تذاكروا كثرة التدليس والمدلسين فأخذنا في تمييز أخبارهم فاشتبه علينا تدليس الحسن بن أبي الحسن وأبيراهيم بن يزيد النخعي …… وإبراهيم أيضاً يدخل بينه وبين أصحاب عبد الله مثل هني بن نويرة وسهم بن منجاب وخزامة الطائي وربما دلس عنهم )) .
الثالث : أنه قد روي عن عمر الرفع من روايته ومن فعله ،ويكفي في ذلك ماتواتر عن ابنه عبدالله مع أنه كان ملازماً لأبيه متحرياً الافتداء به قال زيد بن اسلم عن أبيه : (( ما وجد قاصد لباب المسجد داخل أو خارج بأقصد من عبد الله لعمل أبيه )) رواه ابن سعد، وقد جاء عن إبراهيم أنه ذكر له الحديث ابن وائل بن حجر عن أبيه في الرفع فقال إبراهيم: (( ماأرى أباه رأى رسول الله r إلا ذك اليوم الواحد(1) . فحفظ ذلك وعبد اللله { بن مسعود} لم يحفظ عنه ؟ ! )) فيقال لإبراهيم : إن صح عنه مارواه الحسن بن عياش : مانرى الأسود رأى عمر إلا ذاك اليوم الواحد أفيكون أعلم به من ابنه عبد الله بن عمر ؟ ورواية وائل مثبتة محققة تثبت رفع النبي r في الواضع ،ومعلوم أن الرفع لايكون إلا تعبداً إذ ليس هنا داع طبيعي إلا فعله مكررا في المواضع ،ومإذا ثبت عن النبي r في صلاة واحد ثبتت مشروعيته في الصلاة مطلقاً كما هو الشأن في غيره من أعمال الصلاة ،إلا ما يثبت اختصاصه ،وقد قدمنا ما يثبت أو يقوى عن أن مسعود لا يتحقق فيه منافاة لذلك ، فأما في الرواية عن الأسود إن صحت إليه فمن الجائز أن يكون عمر كان إمام الأسود غير قريب منه فرفع عمر أول الصلاة رفعاً تاماً رآه الأسود ثم رفع عمر عند الركوع وما بعده رفعاً تجوز فيه كما تقدم عن ابن عمر –فلم يره الأسود فظن أنه لم يرفع أصلاً .
وأما على فروى أبو بكر النهشلى عن عاصم بن كليب عن أبيه عن على رضي الله عنه (( أنه كان يرفع يديه في التكبيرة الأولى من الصلاة ثم لا يرفع في شيء منها ))وروى ابن أبي الزناد عن موسى بن عقيبة عن عبد الله بن الفضل عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج عنو عبيد الله بن أبي رافع عن على عن النبي r أنه كان إذ اقام لصلاة رفع يديه حذو منكبيه ويصنع ذلك أيضاً إذا قضى قراء ته وأراد ان يركع ،ويصنعا إذا رفع رأسه من الركوع … وإذا قام من السجدتين رفع يديه كذلك …)) في ((نصب الرواية )) وغيرها عن امام أحمد بن حنبل أنه سئل عن حديث ابن أبي الزناد هذا وقال ؟ فقال (( صحيح وذكر البخاري في ( جزء القراءة ) أثر النهشلي ثم ذكر حديث حديث ابن أبي الزناد وقال (( وهذا اصح )) أخرج الترمذي حديثق ابن أبي الزناد في ((كتاب الدعوات )) من(جامعه ) وقال : (( هذا لحديث حسن صحيح )) ووصححه أيضاً ابن حزيمة وأبن حبان،وفي( سنن البيهقي ) ج2ص80 عن عثمان بن سعيد الدارمي ذكر ^ 31^
أثر النهشلي وقال : (( فهذا قد روى من هذا الطريق الواهي عن على ، وقد روى عبد الرحمن عن هرمز الأعرج عن عبيد الله بن أبي رافع عن على أنه رأى النبي r يرفعها عند الركوع وبعدما يرفع رأسه من الركوع ، فليس الظن بعلي رضي الله عنه أن يختار فعله على النبي r ،ولكن ليس أبو بكر النهشلي ممن يحتج بروايته أو يثبت به سنة لم يأت بها غيره )) ، اعترضه ابن التركماني فقال : (( بل الذي روي عن الطريق الواهي هو مارواه ابن أبي رافع عن على لأن في سنده عبد الرحمن بن أبي الزناد )) ، ثم الذكر قول الدارمي : فليس الظن .. الخ .
فقال : (( لخصمه أن يعكسه فيجعله بعد النبي r دليلاً على نسخ ما تقدم )) .
أقول : إذا صرفنا النظر عن النهشلي وابن أبي الزناد فسند المرفوع أثبت لأن رجاله كلهم ثقات أثبات احتج بهم احتج بهم الجماعة . وسند الموقوف فيه مقال ، عاصم وإن أخرج له مسلم ووثقه جمالعة فلم يخرج له البخاري ، وقال بن المدينى (( لا يحتج به إذا انفرد )) وأبوه رإن وثقه ابن سعد وأبو زرعة فلم يخرج له البخاري ولا مسلم ، وقال النسائي : (( لا نعلم أحداً روى عنه غير ابنه وغير ابراهيم بن مهاجر ،وابراهيم مهاجر ،وابراهيم ليس بقوى في لحديث )) فأما النهشي وابن أبي الزناد فلاشك أننا إذا وازنا بينهما إجمالاً فالنهشي أثبت أخرج له مسلم ووثقه ابن مهدي وأحمد وابن معين وأبو داود والعجلي وقال أبو حاتم : (( : ((شيخ صالحيكتب حديثه وهو عندي خير من أبي بكر الهذلي )) والهذلي ضعيفجداً ،وقال ابن سعد في النهشلي : (0 كان مرجئاً ، وكان عابداً ناسكاً وله احاديث ومنهم يستضعفه )) وأماأبي الزناد فلم يحتج به صاحبا ( الصحيح ) وإنما علق عنه البخاري وأخرج وأخرجله مسلم في المقدكمة ،ووثقه جماعة وضعفه بعضهم وفصل الأكثرون . وههنا أمران الأول أن أئمة الحديث من رواية من هو ضعيف عندهم أنه صحيح ، والواجب على من دونهم التسليم لهم ،وأولى من ذلك إذا كان الراوي وسطاص كالنهشلي وابن أبي الزناد . وقد صحح الأئمة حديث ابن أبي الزناد المذكور ولين البخاري والدرامي آثر النهشلي كما مر.
والأمر الثاني : إذا اختلفوا في راوٍ فوثقه بعضهم ولينة بعضهم ولم يأت في حقه تفصيل
فالظاهر أنه وسط فيه لفين مطلقاً وهذه حال النهشلي ، وإذا أكثرهم الكلام في راو فثبتوه في حال وضعفوه في أخرى فالواجب أن لا يؤخذكم حكم ذاك الراوي إجمالاً إلا في الحديث لم يتبين من أي الضربين هو ، فأما إذا تبين فالواجب معاملته بحسب حاله ، فمن كان ثقة ثبتا ثم اختلاط فهو غاية في الصحة ، أو بعده فضعيف ، وابن أبي لزناد من هذا القبيل فإن أكثر الأئمة فصلوا الكلام فيه ، قال موسى بن سلمة (( قدمت المدينة فأتيت مالك بن أنس فقلت له إني قدمت إليك لأسمع العلم وأسمع ممن تأمرني به . فقال : عليك بابن أبي الزناد )) ومالك مشهور بالتحري لا يرضي هذا الرضا إلا عن ثقة لا شك فيه ،ولذلك عد الذهبي هذا توثيقاً ، بل قال في ( لميزان ) : (( وثقة المالك قال سعيد بن أبي مريم قال لي خالي موسى بن سلمة : قلت لمالك : دلني على رجل ثقة ، قال : عليك بعبد الرحمن بن أبي الزناد )) وقال صالح بن محمد : (0 تكلم فيه مالك لروايته عن أبيه كتا بالسبعة – يعنى الفقهاء- وقال أين كنا عن هذا ؟ )) وإنما روي هذا بعد أن انتقل إلى العراق كما يأتي عن أبن المدني . وقال عبد الله بن على ابن المدني عن أبيه (( ما حدث بالمدينة فهو الصحيح ، وما حدث في لبغداد افسده البغداديون ،ورأيت عبد الرحمن بن مهدي يخط على أحاديثه ، وكان يقول في حديثه عن مشيختهم فلا فلان وفلان،وقال ولقنه البغداديون عن فقهائهم )) يعني الرواية عن أبيه عن المشيخة بالمدينة أو الفقهاء بها،وهذا هو الذى حكى صالح بن محمد أن مالكاً أنكره ، تبين أن ابن أبي الزناد إنما وقع منه ذلك بالعراق ، وابن مهد إنما كان عنده عن ابن أبي الزناد مما حدث به العراق كما يدل عليه كلام ابن المديني ،ويأتي نحوه عن عمرو بن على. وقال يعقوب بن شيبة : (( ثقة صدوق وفي حديثه ضعف ، سمعت على ابن المديني يقول : حديثه بالمدينة مقارب وما حدث به العراق فهو مضطرب . قال على : وقد نظرت فيما روى عنه سليمان بن داود الهاشمي فرأيتها مقاربة )) وقال عمر بن على : (( فيهضعف فما حدث بالمدينة أصح مما حدث ببغداد )). وقال أبو داود عن ابن معين (( أثبت الناس في هشام بن عروة عبد الرحمن بن أبي الزناد ))
هذا مع أنه قد روى عن هشام مالك والكبار )) . زفيما حكاه الساجي عن ابن معين (( عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه عن الأعرج ‘ن أبي هريرة حجة )) . وقال معاوية بن صالح وغيره عنأبن معين (( ضعيف )) وفيما حكاه الساجي عن أحمد : (( أحاديثه صحاح)) وقال أبو طالب عن أحمد (( يروى عنه )) قال أبو طالب : (( قلت يُحمل ؟ قال نعم )) وقال صالح بن أحمد عن أبيه : (( مضطر بالحديث )) وقال العجلي : (( ثقة )) . وقال الترمذي في((اللباس)) من ( جامعة ) ((ثقة حافظ)) ، وصحيح عدة من أحاديثه . وأخرج له في (( المسح على الخفين )) حديثه عن أبيه عن عروة بن الزبير عن المغيرة : رأيت النبي r يمسح عللاى الخفين على ظاهرهما . ثم قال : ( حديث المغيرة حديث حسن صحيح مهو حديث عبد لرحمن بن أبي الزناد …. ولا نعلم أحداً يذكر عن عروة عن المغيرة (( على الظاهر هما )) – غيره … قال محمد يعني البخاري – وكانم مالك يشير بعبد الرحمن بن أبي الزناد )) .
فإذا تدبرنا ماتقدم تبين لنا أن لا بن أبي الزناد أحوالاً :
الأولى : حاله فيما يرويه عن هشام بن عروة ، قال ابن معين إنه أثبت الناس فيه ، فهو في هذه الحال في الدرجة العلياء من الثقة .
الحال الثانية : حاله فيما يرويه عن أبيه عن الأعرج عن أبي هريرة ،ذكر الساجي عن ابن معين أنه حخجة . وهذا قريب من لأول . وظاهر الاطلاق أنه سواء في هاتين الحالتين ما حدث به المدينة وما حدث به ببغداد ،وهذا ممكن بأن يكون أتقن مايريه من هذين الوجهين حفظاً فلم يءثر فيه تلقين البغداديين ،وإنما اثر فيه فيما لم يكن يتقن حفظه فاضطرب فيه واشتبه عليه .
الثالثة : حاله فيما رواه من غير لوجهين المذكورين بالمدينة فهو في قول عمرو بن على والساجي أصح مما حدث به ببغداد ، ونحو ذلك قول على ابن أبن المديني على ماحكاه يعقوب وصرح ابنالمدني في حكاية ابنه أنه صحيح . ويواقفه ما روى عن مالك من يوثقه إذ كان بالمدينة والإرشاد إلى السماع منه مخصصاً له من بين محدثي المدينة ، ويلتحق بذلك ما رواه بالعراق قبل أن يلقنوه ويشبهوا عليه ، أو بعد ذلك ولكنت من أصل كتابة ،وعلى ذلك تحميل أحاديث الهاشمي عنه لثناء ان المديني عليها ، بل الاقرب أن سماع الهاشمي منهمن أصل كتابة ، فعلى هذاتكون أحاديثة عنه أصح مما حدث به المدينة من حفظه .
الرابعة : بقية حديثة ببغداد ففيه ضعف ، إلا أن يعلم في حديث منذلك أنهكان يتقن حفظه مثل اتقانه لما يرويه عن أبيه عن الأعرج عن أبي هريرة ، فإنه يكون صحيحاً وعلى هذا يدل صنيع الترمذى في انتقائه من حديثه وتصحيحه لعدة أحاديث منه ،وقد دل كلام الإمام أحمد أن القلتين إنما أوقعة انتقائه في لاضطراب . فعلى هذا إذا جاء الحديث من غير وجه عنه على وتيرة واحدة دل ذلك على أنه من صحيح حديثه . فابن أبي الزناد الحالين الأولين وما يلتحق بهما أثبت من النهشلي بكثير ،وفي الحال الثالثة إن لم يكن فوقهفليس بدونه ،وفي الرابعة دونه . وهذا الحديث مما حدث به بالمدينة فان ممن وراه عنه عبد الله بن وهب كما في ( سنن البيهقي ) ج2ص33 بسند صحيح ، وهو من أحاديث الهاشمي عنه كما في ( سنن أبي داود ) و(الترمذي ) وغيرهما وجاء من غير وجه وتيرة واحدة وصححه من تقدم من الأئمة ، فحاله فيه فوق حال النهشلي ، وتأكد ذلك برجحان سنده على سند النهشلي كما مر ، وبموافقة للأحاديث الثابتة عن جماعة من الصحابة ومخالفة أثر النهشلي لمقتضى تلك الأحاديث ومقتضى الآثار المتواترة من الصحابة . على أني أقول : لا مانع من صحة أثر النهشلي في الجملة وبيان ذلك أننا إذا علمنا الاختلاف في مسئلة الرفع ثم رأينا عالماً لم نعرف مذهبه في ذلك ، وأردنا أن نعرفه فرقبناه في بعض صلاته فلم نره رفع فإنه يقع قي ظننا أن مذهبه عدم الرفع وأن ذلك شأنه ، فإذا مضت على ذلك مدة ومات ذاك العالم ثم بدا لنا أن نذكر حاله في الرفع فقد نبني .على ما تقدم فنقول : لم يكن يرفع . فمن الجائز أن يكون اتفق لكليب أنه رقب علياً في بعض صلاته ليرى أمن مذهبه الرفع أم لا ؟ فاتفق أن رفع على عند الإفتتاح رفعاً تاماً رآه كليب ، ثم تجوزعلى في الرفع عند الركوع فما بعده فلم يره كليب ، فظن أنه لم يرفع ،وأن مذهبه عدم الرفع ، فذهب يحكي عنه بحسب ذلك .
فإن قيل : لكن هذا الاحتمال لا يخلو عن بعد .
قلت : لكنه أقرب الاحتمال . فإن قيل : قدّ روي عن إبن إسحاق السبيعي انه قال : (( كان أصحاب عبد الله وأصحاب على لا يرفعون ايديهم إلا في افتتاح الصلاة )) .
قلت : إنما أراد الذين صبحوا عبد الله ثم صبحوا علياً ولذلك قدم ذكر عبد الله مع أن علياً أفضل ،وكان أبو إسحاق يتشيع وأصحاب عبد الله هم كانوا بعده المقتدي بهم من أصحاب على ،وفي مقدمة ( صحيح مسلم ) عن المغيرة بن مقسم قال : (( لميكن يصدق على عليّ في الحديث عنه إلا من أصحاب عبد الله بن مسعود )) . وكان أصحاب عبد الله يلزمون ما أخذوه عنه ،وإن رأوا علياً يخالفه كما لزموا التطبيق وغيره . وقد تقدم الكلام على أخذهم عن عبد الله ترك الرفع فلا تفغل فإن قيل : ولماذا لم ينكر عليهم على ؟ قلت: لعله لم يقف على ذلك من خالهم ، أو أنكر عليهم فلم ينعوا كما يحتمل ذلك في قضية التطبيق .
بقى قول ابن تركماني : ((لخصمه أن يعكسه فيجعل فعل على بعد النبي r دليلاً على نسخ ما تقدم )) .
فأقول :ليس هذا بشيء فقد تقرر في الأصول أن الحكم إذا ثبت فادعي بعض الصحابة نسخة وخالفه غيره منهم ، لم يثبت النسخ بتلك الدعوى إذ قد يكون استند صاحبها إلى مالا يوافقه غيره على أنه دليل يوجب النسخ . وقد اختلف الصحابة في عدة أحكام ذهب بعضهم إلى أنها منسوخة ،وخالفه غيره ،ولم يرا المخالف في قول صاحبه : هذامنسوخ حجة ،ولا رأى القائل قوله ذلك كافيا في إثبانت النسخ ، فكيف يظن بعلي أن يكون يرى أن الرفع منسوخ ثم يخبر بأن النبي r كان يرفع ،ويعلم أن غيره من الصحابة يخبرون بذلك ويعلمون به عملاً شائعاً ذائعاً ثم لا يتبع على إخباره بذلك ببيان الحجة على نسخة ويعلن ذلك ؟
بل يقتصر على ماليس بدليل على النسخ ولا صريح في دعواه ولا ظاهر فيها وهو الترك ، إذ قد لا يرقبه الناس في صلاته ، فإن رقبة بعضهم فقد يقول لعله ترك لبيان ألجواز، أو لعذر، أو سها ، أو ترخص كما ترخص عثمان وغيره في ترك التكبيرات أو جهر بها كما تقدم . هذا ما لا يكون فالحق ماتقدم من وهم أثر النهشلي أو وهم كليب ، وتحقق ما قاله البخاري إنه لا يثبت عن أحد من الصحابة ترك الرفع إلى ان يكون بعضهم تركه في وقت ما لبيان الجواز أو غيره مما تقدم . والله أعلم .
وأما الامر السابع وهو قول الكوثري : (( فيدل ذلك على التخيير الأصلي )) فإن أراد بالتخيير الأصلي إن احد الأمرين مندوب والأخر جائز فهذا وجه ويتعين أن يكون المندوب هو الرفع فيكون تركه تركاً لمندوب وهو جاء في الجملة ولا يصح عكسه فإن من يرفع على وجه التعبد كما لا يخفى ولو كان الرفع غير مشروع فكان فعله على وجه التعبد بدعة وكذباً على الله تعالى وتكذيباً بآياته فيكيف يقال أنه جائز ؟ وإن أريد ان كلا الامرين مندوب ، فندب الرفع حق ثابت معقول ولا دليل على ندب الترك مطلقاً ، ولا هو مع ندب الفعل بمعقول ، فإن ترك المندوب حيث ندب إنما يكون مكروهاً أو خلاف الاولى والتخيير بين المندوبين إنما يكون بين فعلين كالا اذكار المأثورة في إفتتحاح الصلاة ، إذا ثبت منها إثنان مثلا فيقال أيهما أتنى به المصلي فقد احسن ، و إذا اتى بها بأحدهما لم يكن تركه للأخر مكروهاً ولا خلاف الاولى، لأنه إا تركه إلى أخر يقوم مقامه .
فإن قيل : فههنا أيضاً امران : الرفع والسكون ، فمن رفع الترك فقد أتى بالسكون وهو مندوب .
قلت : السكون ترك وإنما شرع السكون في الصلاة عن الحركات التي لم تشرع فيها كما في ( صحيح مسلم ) وغيره من حديث جابر بن سمرة قال ( صليت مع رسول الله r فكنا إذا سلمنا قلنا بأيدينا : السلام عليكم ، السلام عليكم ، فنظر إلينا رسول الله r فقال : ما شأنكم تشيرون بأيديكم كأنها أذناب خيل الشمس ؟ إذا سلم أحدكم فيلتفت الى صاحبه ولا يويء بيده ) فأمرهم بالسكون عن تلك الحركة وهيه رفع أيدي عند السلام ، ولإشارة بها يمنى ويسرى وأمرهم بالالتفات وهو حركة أيضاً وإنما الفرق إن الحركة الاولى غير مشروعه ، فعلى هذا يجري الأمر في سائر الحركات في الصلاة فما كان واجباً لم يعقل أن يكون السكون عنه جائزاً ، وما كان مندوباً لم يعقل أن يكون السكون عنه الى مكروهاً أو خلاف الاولى ، وما كان مباحاً فسكون عنه مباحاً(1) وأما الأمر الثامن وهو قول الكوثري : ( وإنما خلافهم فيماهو الأفضل ) فوجيه في الجملة فإن منهم من عرف أن الرفع سنة باقية ،وفعل السنة افضل من تركها ،ومن تابعين فمن بعدهم من لم تبلغه هذه السنة منوجه يثبت أو بلغته ولكن غلبت عليه شبهه ترجح بها عنده أنها منسوخة فيكون عنده أم الرفع بدعة ،وترك البدعة أفضل من فعلها،وكذلك من التبس عليه الحال فإن نا يحتمل أن يكون سنة ةإن يكون بدعة فتر كه أفضل ، فأما من أعرض عن الحجج واسترسل مع الشهاب إيثار لهواه ،فله حكم آخر . والله المستعان .
المسألة الثالثة
أفظر الحاجم والمحجوم
في ( تاريخ بغداد ) 13/388 من طريق عبد الصمد بن عبد الوارث عن أبيه : (( قال: ذكر لأبي حنيفة قول النبي r : أفطر الحاجم والمحجوم . فقال : هذا سجع )) . قال لاأستاذ ص 81: (( حديث : أفطر أفطر لحاجم والمحجوم لم يثبته كثير من أهل الحديث منهم ابن معين بمعنى أنهما عرضه للأفطار …)).
قلت : ممن صحح الحديث من وجه أو أكثر الإمام أحمد وابن المديني وإسحاق بن راهوية والبخاري وأبو زرعة وعثمان بن سعيد الدار مي وابن خزيمة وغيرهم . فأما ابن معين ففي (الفتح ) : قال المروذي : قلت لأحمد: إن يحيى بن معين قال : ليس فيه شيء يثبت . فقال : هذا مجازفة )) . وزعم الأستاذ أن من أثبته يراه منسوخاً أو مؤولاً ، ليس كما قال ، فإنه ترك القسم الثالث ،قال ابن حجر في ( فتح الباري ) : ((وعن على وعطاء والأوزاعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور يفطر الحاجم والمحجوم ،وأوجبوا عليها القضاء ،وشذ عطاء فأوجب الكفارة أيضاً ، وقال بقول أحمد من الشافعية ابن خزيمة وابن المنذر وأبو الوليد النيسابورى وابن حبان … وبذلك قال الداودي من المالكية )) .
فأما دعوى النسخ بحديث
أن النبي r احتجم وهو صائم .
فالحديث رواه عبد الوارث عن أبوب عن عكرمة عن ابن عباس : (0 احتجم وهو محرم
،واحتجم وهو صائم)) وفي ( الفتح ) (( ورواه ابن علية معمر عن أيوب عن عكرمة مرسلاً
، واختلف على حماد بن زيد في وصلة وإرساله )) . وجاء عن مقسم عن ابن عباس : : ((
احتجم رسول الله r بين مكةى والمدينة وهوصائم محرم )) . وذكر البيهقي ج4 ص 263 وقال:
(( وراه أيضاً ميمون بن مهران عن ابن عباس )) ، وكذلك في رواية لابن جريج عن عطاء
عن ابن عباس كما في ( الفتح) عن عكرمة عن ابن عباس عند أحمد ج1ص305 ذكر قصة
اليهودية التي وضعت السم في الطعام النبي r إذا وجد من ذلك شيئاً احتجم ، قال : فسافر مرة فلما أحرم وجد من
ذلك شيئاً فاحتجم )) . وقد أجاب ابن خزيمة عن هذا الحديث بلأن للمسافر إذا أصبح
صائماً ثم بدا له أثناء النهار أن يفطر ، وحاصل الجواب انه r أصبح في سفرة صائماً ثم لما هاج به الوجع احتجم فأفطر ، وكأن ابن
عباس لم يكن قد بلغه أن الحجامة تفطر الصائم احتج بالقصة على حسب ظنه. وهذا كما
سمع أسامة يحدث بحديث : (( لاربا إلا في النسيئة )) ولم يثبت عنده حديث :
(( لا تبيعوا الذهب مع بالذهب ولا الورق بالورق إلا وزناً بوزن مثلاً يداً بيد ))
فكان يفتي بحل ذهب بالذهب مع التفاصيل نقداً وكذا الفضة بالفضة ، ثم جاء أن بعض
الصحابة أخبره بالحديث الاخر فرجع (1).
وكما أخبره أسامة أن النبي r دخل الكعبة فلم يصلي فيها ، فكان يفتي بذلك ،وقد صح عن بلال أنه دحل مع النبي r الكعبة ، وأنه صلى بين العمودين المقدمين ،وكما كان يرى أن لا قراء في السرية ، ويذكر أن النبي r لم يكن يقرأ فيها ، فقيل له : لعله كان يقرأ في نفسه ، فغضب . وقد اثبت غير القراءة بما لا تبقى معه شبهه . وأمثال هذا كثير ممال يحتج به الصحأبي على حسب ظنه ويتبين أن ظنه كان خطأ . وقد روي عطاء ذاك الحديث عن ابن عباس ثم ذهب إلى الافطار كما مر .
فإن قيل :لو كان النبي r أفطر بالحجامة لكان الظاهر أن يبين ذلك للناس ؟
قلت : يحاب ان النبي r اكتفى بما سبق منه من بيان أنه يفطر الحاجم والمحجوم ،ومن بيان أن الصائم في السفر يحل له الأفطار .
فإن قيل : فقد جاء عن أبي سعيد الخدري وعن أنس أن النبي r رخص في الحجامة للصائم .
قلت : في صحة ذلك عنهما كما ترى في ( فتح الباري ) ،ولو صح أمكن أن يكون مرادهما بالترخيص ما ذكره ابن عباس من احتجامه r وهووهو صائم في سفره ، وقد مر ما فيه . وأما التأويل بصرف النص عن ظاهره فلا مسوغ له. والله أعلم(1) .
المسألة الرابعة
إشعار الهدى
في ( تاريخ بغداد ) 13/390 عن يوسف بن أسباط : (( … وأشعر رسول الله r وأصحابه ، وقال أبو حنيفة : الإشعار مثلة )) قال استاذ ص87 : (( ليس من قوله فقط ، بل أثر يرويه عن حماد عن إبراهيم النخعي كما يشتر إلى ذلك الترمذي …. ، يريدان إشعار أهل زمانها المبالغ فيه ولام التعريف تحمل على المعهود في زمانهما … على أن الأعمش يقول : يقول : لم نسمع ابراهيم النخعي يقول شيئاً إلا وهو مروي، كما تجد ما بمعناه في ( الحلية ) لأبي نعيم ،فيكون قول النخحعي هذا أثراً يحتج به ، وأنت عرفت قيمة مراسيل النخعي عند ابن عبد البر وغيره )) .
أقول أما الترمذي فروى من طريق وكيع حديث إشعار النبي r . ثم قال : (( سمعت يوسف بن عيسى ( وهو ثقة) يقول : (( سمعت وكيعاً يقول حين روى هذا الحديث قال : لا تنظروا إلى قول أهل الرأى في هذا فإن الاشعار سنة وقولهم بدعة )) قال الترمذي : سمعت أبا السائب ( سلم بن جنادة وهو ثقة ) يقول : كنا عند وكيع فقال لرجل عنده ممن ينظر في الرأى : أشعر رسول الله r ، ويقول أبو حنيفة : هو مثلة ؟ قال الرجل : فإنه قد روي عن إبراهيم النخعي أنه قال : الإشعار مثلة . قال : : فرأيت وكيعاً غضب غضباً شديداً ، وقال : : أقول لك : قال رسول الله r وتقول : قال إبراهيم ؟ ما أحقك بأن تحبس ثم حتى تنزع عن قولك هذا )) .
القائل : (( فإنه قد روي عن إبراهيم )) لا يدري من هو وممن سمعه وكيف إسناده ، ولكن الأستاذ بني على دعاوى :
الأولى : أن ذاك الرجل ثقة .
الثانية : أن قوله : (( فإنه قد روي )) معناه فإن أبا حنيفة روي .
الثالثة : أنه سمع ذلك من أبي من أبي حنيفة .
الرابعة : أن أباحنيفة روي ذلك عن حماد ، مع أنه لا ذكر لحماد في الحكاية .
الخامسة : أن ذلك أثر ، مع أن الأستاذ نقم نحو ذلك في ( الترحيب ) ص 28 فقال : (( وإطلاق الأثر على مالم يؤثر عن النبي r وأصحابه رضي الله عنهم في دين الله شيء مبتكر في سبيل تقوية الخبر الزائف من هذا الناقد الصالح !)) . السادسة : أن ‘براهيم النخعي لم يكن يستنبط ولا يقيس وإنما كان يقول ما يرويه بنصه ، والأستاذ يعلم أن المتواتر عن إبراهيم خلاف ذلك ، غاية الأمر أنه يسوغ أن يقال : إنه لم يكن يفتي برأيه المحض ، وإنما كان يستنبط من المرويات ويقيس عليها فيكون عرضه للخطأ كغيره .
السابعة : أن تلك المرويات التي كان إبراهيم لا يتعدي منصوصهاً لا تشمل أقول من قلبه من التعابعين ولا الصحابة وإنما هي النصوص النبوية فتكون أقول إبراهيم وفتاواه كلها كلها مراسيل أرسلها عن النبي r .
الثامنة : أن ذلك حجة . ولا أطيل بمناقشة الأستاذ في هذه المزاعم ،وقد رجع هو عن الثلاث الأخير بقوله : (( يريدان إشعار أهل زمانهما المبالغ فيه …)) ومع ذلك فهذه دعوى جديدة ، والظاهر الواضح من قول القائل : (( الإشعار مثله )) الحكم على الإشعار مطلقاً ولو أراد ما زعمه الأستاذ لقال : ((لمبالغة في الأشعار مثلة )) أو نحو ذلك . فأما إبراهيم فلم يثبت ذاك القول عنه ، فلا ضرورة إلى الاعتذار عنه بعذر ، إن دفع الملامة من جهة ، أوقع فيها من جهتين :
الأولى : الاطلاق الموهم للباطل .
الثانية : أتهامه جميح أهل زمانه وفيهم بقايا الصحابة والتابعون بالاطباق على مالا يجوز حتى استساغ أن يطلق ولا بفصل . وأما أبو حنيفة فقد اعتذر عنه الطحاوي بقوله : ((إنما كره ما يفعل على وجه يخاف منه هلاك البدن … فأرادسد هذا الباب عن العامة لأنهم لا يراعون لاحدّ في ذلك ،وأما من كان عارفاً بالسنة فى ذلك فلا )) .
والمقصود هنا إثبات أن الأشعار سنة وذلك حاصل على كل حال .
المسألة الخامسة
المحرم لا يجد إزارا أو نعلين السراويل والخف ولا لا فدية عليه
في ( تاريخ بغداد ) 13/392 من طريق حماد بن زيد قال : (( شهدت أبا حنيفة رسئل عن محرم لم يجد إزاراً فلبس سراويل ، قال : عليه الفدية ، قلت : سبحان الله …… )) قال الأستاذ ص 94 : (( فهذان إنما أبيحا لعذر كمن به أذى في رأسه فلا تحول هذه الإباحة دون وجوب الفدية كمن في رأسه أذي فلَبس ، على ما في القرآن الكريم ، وليس في الأحاديث ما يصرح بسقوط الفدية عن المعذور .
أقول : الذي في القرآن هو قول الله تبارك وتعالى : {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ}- 196 . فالذي في الآية الحلق ، فقولالأستاذ (( فلبس ، على ما في القران الكريم ))لا وجه له اللهم إلا أن يريد : قياساً على ما في القرآن ففي عبارته تلبيس ومع ذلك ففي صحة القياس نظر لتوقفها على عدم الاحرام - أعني التحلل – كما جعل السلام علماً على الخروج من الصلاة ،والسلام من خطاب الناس وهو أشد منافاة للصلاة من غيره بدليل أنه لا يجوز منه في الصلاة قليل ولا كثير حتى في حال القتال ، وإن احتاج إليه لاستغاثة مثلاً بخلاف الحركة مثلاً فإنها وإن كانت منافية للصلاة أيضاً إلا أنه لا يجوز القليل منها مطلقاً ويجوز الكثير في صلاة الخوف ، فالتشديد في الحلق لايستلزم التشديد فيما هو أخف منه . فإن كان هناك إجماع على وجوب الفدية على من احتاج إلى لبس عمامة لمرض مثلاً فلا يقاس عليه لبس فاقد الإزار للسراريل ، وفاقد النعلين للخفين ، لأن ستر الرأس غير المطلوب شرعاً كطلب ستر العورة ووقاية الرجلين مما قد يمنع من استطاعة المشيء إلى الحج وأد . أعماله ،والتشديد في الأول لا يستلزم التشديد في الثاني . فأما قياس لبس السراويل والخفين على الحلق المنصوص في القرآن فأبعد عن الصحة لا جتماع الفارقين معاً .
فإن قيل : أرأيت إذا تمكن فاقد الازار من فتق السراويل وتلفيقه بالخياطة حتى يكون
إزار كافياً له ، وتمكن فاقد النعلين من تقطيع الخفين حتى يصيروا نعلين ؟ قلت : لا يتجه إلزامه ذلك لأنه يكثر أن لا يتمكن الانسان من ذلك ، وإذا تمكن ففيه إفساد للمال ينقص قيمته ومنفعته . هذا وقد صح في الباب حديثان :
الأول حديث ابن عمر في ( الصحيحين ) وغيرهما أن النبي r سئل عما يلبس المحرم فقال : (( لا بلبس القميص ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرانس ولا الخفاف إلا أحد لا يجد نعلين فليلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين ……))ويؤخذ منه من باب أولى الإذن في السراويل لمن لم يجد إزاراً لان الحاجة الى ستر أسفل البدن أشد وكونه مطلوباً شرعاً أظهر ويبقى النظر في القطع فقد يقال كما أمر بقطع أعلى الخفين فكذلك ينبغي قطع ما تحت الركبتين من السراويل وقد يقال إنما يقطع ما تحت أنصاف الساقين لأنما فوق ذلك ألى الركب مشروع ستره أيضاً وان لم يجب بخلاف ستر الكعبين وما فوقهما وقد يقال لا يتعين القطع بل الأولى العطف والثبيت بالخياطة لأن ذلك محصل للمقصود بدون إفساد ، وله كان يتاتى بنحو ذلك في الخفين لقلنا به فيهما أيضاً فأما فتق السراويل ثم تلفيقه بالخياطة حتى يكون ازاراً فقد دل على عدم لزومه إكتفاء الحديث بما اكتفى به في الخفين ولم يشترط تقطيعهما حتى يصيرا نعلين .
الحديث الثاني : الحديث ابن عباس في ( الصحيحين ) وغيرهما (( سمعت رسول الله r يخطب بعرفات : من لم يجد ازاراً فليلبس سراويل ، ومن لم يجد نعلين فليلبس خفين )) ففي هذا الحديث النص على السراويل والخفين معاً ولم يذكر القطع ، فمن أهل العلم من أخذ به على اطلاقه وقال إنه نسخ للأمر بقطع الخفين لأن حديث أبن عباس، متأخر ومنهم من حمل المطلق على المقيد فقال بقطع الخفين ، فعلى الاول يكون عدم وجوب قطع السراويل اولى ، أما على الثانى فقد يتمسك فيه بالاطلاق ،وقد يقال بل يكون حكمه ما تقدم في الكلام على الحديث الأول . وعلى كل حال فسكوت الحديثين عن ذكر الفدية يدل أنها لاتحب ، وإلا لزم تأخير البيان عن وقت الحاجة ، والبيان المتقدم في القرآن لم يتعرض لقضية السراويل والخفين لا نصاً ولا تنبيهاً كما تقدم . والله أعلم .
المسألة السادسة
درهم وجوزة بدرهمين
في (تاريخ بغداد) 13/412 عن خالد بن يزيد بن أبي مالك قال : (( أحل ابو خنيفة الزنا والربا …. أما تحليل الربا فقال : درهم وجوزة بدرهمين نسيئة لا بأس به …)) قال الاستاذ ص 145 : (( فرية بلا مرية لأنها على خلاف المدون في مذهبه ،وأبو حنيفة من أشد الفقهاء في النسيئة )) .
أقول : إن صح الكلام الأستاذ فقد يكون أبو حنيفة قال قولاً ثم رجع عنه ، وقد يكون خالد رأى إجازة ذلك نقداً تستلزم إجازة نحوه نسيئة كما يأتي ، وبيان أ، من مرفوع تلك القاعدة : صاع تمر ودجرهم نقد بخمسة آصع من تمر نقداً ، يعتل الحنفية في إجازة ذلك بأنه في معنى بيعتين جائزتين صاع بصاع نقداً وأربعة آصع بدرهم نقداً فيقال لهم : فكذلك صاع تمر ودرهم نقداً بخمسة آصع نسيئة أحدها نقداً والباقي نسيئة ، إذيمكن أن يقال هو في امعنى بيعتين جائزتين صاع بصاع نقداً ,اربعة آصع نسيئة بدرهم نقداً . فإن التزموا ذلك جاء ربا النسيئة ، وإن قالوا لا ننجيزه إذ قد يقصدان الربا كأن يكون عند رجل تمر جيد وعند آخر صاع تمر ردى لا يسد حاجته فيحتالان بتلك البيعة قاصدين صاعاً بدرهم نقداً وصاعاً نقداً بأربعة آصع نسيئة . قلنا فكذلك النقد قد يقصدان صاعاً بدرهم نقداً وصاعاً بأربعة آصع نقداً ، فالأستاذ تبرأ من ربا فوقع فى ربا . والحاصل ان هناك معنيين أحدهما ربا قصداه وقام الدليل على قصدهما إياه ،والآخر جائز حاولا أن يوهماه / أفلا يعاب من أعرض عن الأول وينى الحكم على الثاني ؟ نعم إذا لم يراع سد الذريعة أن يصحح العقد إحساناً للظن بالمسلمين ،ويكره لهم هذه المعاملة مطلقاً لأنها متهمة وذريعة ألى الربا / وربما يمكن الحنيفة تنزيل قول أبي الحنيفة على هذا ،وبذلك يدفعون المعرة عن إمامهم وأنفسهم . والله الموفق .
المسألة السابعة
خيارالمجلس
في ( تاريخ بغداد ) 13/387عن بشير بن المفضل قال : (( قلت لأبي حنيفة : نافع عن أبن عمر أن النبي r قال : البيعان بالخيار مالم يتفرقا . قال : هذا رجز )) . قال الأستاذ ص 87: (( إذا حمل – يعنى الحديث – على الخيار – على الخيار المجلس يكون مخالفاً لنص كتاب الله الذى يبيح التصرف لكل من المتعاقدين فيما يخصه بمجرد تحقق ما يدل على التراضي قال الله تعالى : [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ ]ُ )).
أقول : في ( روح المعانى ) ج 2 ص 77 (( المعنى : لايأكل بعضهم أموال بعض ،والمراد بالباطل ما يخالف الشرع كالربا والقمار والبخس والظلم ، قاله السدي وهو المروى عن الباقر ري الله عنه . وعن الحسن : هو ما كان بغير استحقاق من طريق الأعوض . وأخرج عنه وعن عكرمة ابن جرير أنهما قالا : كان الرجل يتحرج أن يأكل عند أحد من الناس بهذه الآية ، فنسخ ذلك الآية التي في سورة النور [ ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم ] الآية ،والقول الأول أقوى لأن ما أكل على وجه مكارم الأخلاق لا يكرن أكلاً بالباطل ، وقد أخرج ابن أبي حاتم والطبراني بسند صحيح عن ابن مسعود أنه قال في الآية : إنها محكمة مانسخت ولاتنسخ إلى يوم القيامة )) .
أقول : المعنى الأول مبنى على أن الباء في قوله (( الباطل )) للسبية ، وأن الباطل مالا يعتد به الشرع سبباً للحل . والمعنى الثاني مبني على أن الباء للمقابلة ,ان الباطل مالا يحققله . ونسبة المعنى الأول إلى السّدى لا أراها تصح ، وغنما قال السدي كما في ( تفسير ابن جرير) ج5ص19 (( بالباطل : الربا والقمار والبخس والظلم . إلا أن تكون تجارة : ليربح في الدرهم ألفا إن استطاع )) فأول عبارته للمعنيين ، وبيان صلا حيتها للثاني في القمار والبخس والظلم ظاهر ، فأما الربا فإن من أقرض مائة ليقتضي مائة وعشرة يأكل العشرة بما لا تحقق له لإغن غايته ان يقل : لو لم أقرض المائة لعلى كنت أتجرت فيها فربحت ،ولعل المستقرض أتجر فيها فربح . فيقال له هذا لا تحقق له لعلك لو لم تقرضها لسرقت منك ،ولعلك لو أتجرت فيها لخسرت مع ما يلحقك والعناء ،ولعل المستقرض لم يتجر فيها ،ولعله أتجر فخسر أو ذهب منه رأس المال ، فإن ربح فيتبعه . ولتمام هذا موضع ىخر ،وإنما المقصود هنا أن ذكر السدي للربا لا يحتم أنه قائل بالمعنى الأول . وآخر عبارة السدي ظاهر في معنى الثاني وأنه رأى أن الغبن في البيع من الأخذ بالباطل المراد في الاية ولكنه مستثنى استثناء متصلاً على ما هنو الأصل في الاستثناء ،ولنفرض مثالاً يبين ذلك : ثوبان قيمة كل منهما بخسب الزمان والمكان عشرة ،فقد يجهل البائع ذلك ويظن قيمة كل منهما خمسة فقد فيبيعها بعشرة ،وقد يجهل المشترى فيظن قيمة كل منها عشرين فيشتريها بأربعين فمن أخذهما بقيمة أحدهما فقد أخذ أحدهما أو نصفيهما بما لاتحقق له ،ومن باعهما بمثلي قيمتها فقد أخذ نصف الثمن بما لا يحقق له ، هذا باعتبار قيمة الزمان والمكان ،وهو المتعارف بين الناس ، فإن من باع أو اشترى بقيمة الزمان والمكان لا يعده الناس غابناً أو مغبوناً البتة ، ولكنك إذا تعمقت قد تقول : إنما القيمة الحقيقة مقدار ما غرمه البائع على السلعة ، أو مقدار ما ينقصه فقدها ، فيقال لك : هذا بالنظر إلى البائع ، فأما بالنظر إلى المشترى فقيمتهما مقدار ماتنفقه ، وقد يتعارضان ، كمن عنده ماء كثير فباع منه شربة لمضطر ،ويبقى النظر في الثمن ويخفى الأمر ويضطرب وتضيق المعاملة جداً . لا جرم عدل الشرع إلى اعتبار ما تراضي به المتبايعان ، فما تراضيا به فهو القيمة التي يعتد بها الشرع في التجارة ، لكن هذا لا يمنع أن يسمى الغبن أكلاً بالباطل بالنظر إلى التحقق ،وليس من لازم الباطل بهذا المعنى أن يكون محرماً في الشرع ، وفي الحديث : (( كل شيء يلهو به الرجل باطل غلا رمية بقوسة وتأديبة فرسه وملاعبته امراته فإنهن من الحق(1) )) ومعلوم أن فيما يلهو به الرجل غير هذه الثلاث ما هو مباح إجماعاً .
فأما ما أكل على وجه مكارم الأخلاق فإنه إذا عمل فيه بالمشروع لم يكن على كلا المعنيين من الأكل بالباطل ، وذلك أن الباذل قد يقصد مكافأة المبذول له على إحسان سابق ،وقد يرجو عوضاً مستقبلاً ،إما مالاً وإما منفعة ،وأقل ذلك الثناء، والأكل في مقابل غحسان سابق أكل بأمر متحقق ،والمشروع للمبذول له على رجاء مستقبل أن يقبل عازماً غعلى المكافأة فيكون بمنزله من يفترض عازماً على لأن يقضى ،وإنما كان بعض الصحابة أولاً يتورعون عن الأكل في بيوت أقاربهم وأصدقائهم خشية أن لا يتيسر لهم المكافأة المرضية . فبين الله تعالى لهم في آية النور أنه لا حرج في الأكل ، يريد والله أعلم مادام ذلك جارياً على المعروف ،والمعروف أن الناس يكرم بعضهم بعضا ويكافئ بعضهم بعضا بالمعروف ، فمن أكل عازماً على المكافأة بحسب ما هو معروف بين أهل المروءت فلم يأكل بما لاتحقق له ، نعم لو فرضنا أن رجلاً غنياً لئيماً اعتادأن يتردد على بيوت أقاربة وأصدقائه ليأكل عندهم غير عازم على المكافأة المعروفة كان هذا والله أعلم داخلاً في الباطل على كلا المعنيين .
وإذا تدبرت علمت أنه على لمعنى الثاني ليس هناك نسخ ،وإنما هو بيان لدفع ما توهمه أولئك المتحرجون ،وقد عرف عن السلف أنهم ربما يطلقون النسخ على مطلق البيان ، فهذا والله أعلم من ذاك . وبهذا كله اندفع مارجح به المعنى الأول وترجح المعنى الثاني فيكون الاستثناء متصلاً كما هو الأصل . والله أعلم .
وقوله تعالى : [ عن تراض ] نص فس اشتراط رضا كلٍ من االمتبايعين ، والرضا معنى خفي ،وسنة الشارع في مثله أن يضبطه بأمر ظاهر منضبط يشتمل على المعنى الذي عليه مدار الحكمة كالرضا ههنا ، فيكون مدار الحكم على ذاك الضابط ههنا ؟
بنى الاستاذ على انه الصيغة أي الايجاب القبول كما في النكاح . وذلك مدفوع بوجهين : الأول : أن الصيغة قد علمت بقوله : (( تجارة )) .
الثاني : أنها ليست بواضحه الدلالة على الرضا إذ تكون عن هزل أو سبق لسان أو استعجال قبل تمكن الرضا من النفس ،ويكثر وقوعه ويتكرر ،ويكثر التغابن لكثرة الجهل بقيمة المثل بخلاف النكاح فإنمه قد لا يقع في العمر لا مرة ، ويحتاط الناس له مالا يحتاطون للبيع ، والشارع يتشوف إلى تثبيت النكاح ما لا يتشوف إلى تثبيت البيع ، جاء في الحديث : (( أبغض الحلال إلى الله الطلاق(1) )) وجاء فيه : (( من أقال نادماً بيعته أقال الله عثرته يوم القيامة )) ومبنى البيع على المشاحة ومبنى النكاح على مكارمه ، وأوضح من هذا كله أن في الحديث : (( ثلاث جدهن جد وهزلهن جد : النكاح والطلاق والرجعة (2))) ففرق هذا ثلاثة وبين غيرها كالبيع ، على أن تعين الضابط غنما هو للشارع ، فإذا لم يظهر من الكتاب وجب الرجوع إلى السنة ، فنجدها قد تعيين الضابط التراضي بحصول أحد أمرين بعد الايجاب والقبول ، وأما احتيار اللزوم ،وأما أن يستمرا على ظاهر حالهما من التراضي مدة اجتماعهما ويتفرقا على ذلك ،ولا يخفى على المتدبر أن هذا بغاية المطابعة للحكمة ،أما اختيار اللزوم فواضح أنه بين في استحكام التراضي ،وأما الاستمرار على ظاهر الحال من التراضي والتفرق على ذلك فلأن الغالب أنه إذا كان هناك هزل أوسبق لسان أو استعجال أن يتدار كه صاحبه قبل التفرق ولا سيما إا علم أن التفرق يقطع الخيار . فبان بهذا أن الحديث مفسر للآية التفسير الواضح المطابق للحكمة ، لا مخالف لها كما زعم الكوثري ، وراجع ( تفسير أبن جرير ) . ويؤكد هذا المعنى مافي ( سنن أبي داود ) وغيرهما من حديث عمرو بن شعيب عت أبيه عن عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعاً : (( المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا، إلا أن تكون الصفقة خيار ولا يحل له ان يفارق5 صاحبه خشية أن يستقيله )) .
والمراد والله أعلم انه لا يحل لأحد هما أن يستغفل صاحبه فبفارقه وهو لا يشعر إذ قد لا يكون استحكم رضاه وكان يريد الفسخ إلا أنه أمهل اعتماداً على أن ذلك لا يفوت ، حتى لو رآه يريد المفارقة لبادر بالفسخ . فأما ما جاء عن ابن عمر أنه كان إذا اشترى شيئاًُ يعجبه فارق صاحبه ، فمحمول على مبادرته بالمفارق وصاحبه يراه ، أو لا يكون وقف على هذه الزيادة ، وقوله : (0 حتى يستقله )) ، لا يدل على الزوم العقد ، فإن الاستقاله بعد الزوم العقد لا تمنع فيها المفارقة . إذا قد يستقله بعد أن يفارقه ويمضي زمان، وإنما المراد والله أعلم أن صاحبه قد يندم في المجلس فلا يبادر إلى الفسخ ويرى من حسن الأدب والعشرة أن يقول له : ((أقلني )) ليكون الفسخ برضاهما فإنه أطيب للنفوس .
قال الكوثري : (0 على أن لحديث إذا حمل على الخيار الرجوع بمعنى ان البائع والمشترى إذا أوجب فله حق الرجوع قبل قبول الآخر في المجلس فيزول خيار الرجوع من الموجب بائعاً كان أو مشترياً بقبول الآخر قبل انقطاع المجلس ، فهذا المعنى يكون غير مخالف لكتاب الله تعالى )) .
أقول : قد علمت أن الحديث بالمعنى الواضح من إثبات خيار المجلس لكل من المتبايعينبعد تبايعهما غير مخالف لكتاب الله تعالى ، وأما هذا المعنى الذي ذكره الكوثري فالحديث غير محتمل له كما يأتي ، ولو احتمله وحمل عليه لبقى ما في القرآن في معنى المجمل لأن أحدهما ((بعت)) وقول الآخر فوراً : (( اشتريت )) لا يتضح به التراضي المشروط في القرآن لاحتمال الهزل وسبق اللسان والاستعجال كما مر .
ثم حاول الأستاذ تقريب
احتمال الحديث للمعنى الذي زعمه فقال : (( وعلى هذا التقدير يكون لفظ ((
المتبايعين )) حقيقة ، إذ هذا اللفظ محمول على حال العقد في تقديرنا، وحمله على
مابعد صدور كلمتي المتعاقدين يجعله مجازاً كونياً . وفائدة الحديث أن خيار الرجوع
ثابت لهما مادام أحدهما أوجب ولم يقبل الآخر في المجلس لاكا لخلع على مال والعتق
على مال ، لأنه ليس المزوج ولا المولى الرجوع فيهما قبل قبول المرأة
والعبد )).
أقول : فللمجيء إلى الفرارإلى هذا القول أن تأويل قدماء الحنيفة (( المتبايعان )) بالمتساومين والتفرق بالايجاب والقبول أبطل بوجوه ،منها أنه أخرج للَّفظ عن حقيقة بلا حجة ،ومنها أن الحديث يبقى بلا فائدة إذ لا يجهل أحد أن التساوم لا يلزم به شيء . وستعلم أن هذا الفار كالمستجير من الرمضاء بالنار .
قوله : (( يجعله مجازاً كونياً تفسيره أن من الأصول المقررة أن المشتق يصدق على المةصوف حقيقة حين وجود المعنى المشتق منه ، فإن لم يكن فىخر جزء منه ، فأما قبل حصوله فمجاز كوني أي باعتبار ما سيكون ،واختلف فيما بعد زواله فقيل حقيقة ،وقيل مجاز كوني أي باعتبار ما كان . فأقول الأصل يقضي بأنه لا يصدق حقيقة على الإنسان لفظ (( بائع)) إلا حين وجود البيع حقيقة ،وإنما يكون ذلك عند آخر حرف من الصغة المتأخر ،والحديث يثبت أن لكل منهما حينئذ الخيار ويستمر إلى أن يتفرقا ،وهذا قولنا . وأوضح من ذلك أن الذي الحديث (( المتبايعان )) والتفاعل إنما يوجد عند وجود فعل الثاني، ألا تراك إذا ضربت رجلاً أنه لا يصدق أنه لا يصدق عليكما (( متضاربان )) ولا عليك أنك احد الضاربين ، وإنما يصدق ذلك إذا عقب ذلك ضربه لك فحينما تصيبك ضربته يوجد التضارب حقيقة فيصدق عليكما أنمكما متضاربان وأنك أحد المتضاربين . فإن قلت : كيف وقد زال فعلى ؟ قلت : الزائل هو ضربك والفعل المشتق منه هنا هو التضارب وهو الفعل واحد ضربك جزء منه والجزء لا يشترط بقاؤه ولا يضر زواله ، ألا ترى أنه لا يصدق حقيقة على من يتكلم أنه (( متكلم )) عند آخر حرف من كلامه مع أن كثير الحروف قد زالت ؟ فإنما يصدق حقيقة على المتبايعين أنهما (( متبايعان )) عند آخر حرف من صيغة المتأخر منهما وحينئذ يثبت لهما بحكم الحديث الخيار مستمراً أن يتفرقا ، وهذا قولنا .
ووجه ثالث وهو أن الحديث كما في (الموطأ) و (الصحيحين ) يثبت أن (( لكل واحد منهما الخيار حتى يتفرقا)) فهو ثابت للمتأخر قطعاً يثبت له آخر حرف من صيغته مستمراً إلى أن يتفرقا ، ولا قائل بأنه يثبت للمتأخر دون المتقدم فثبت له عند آخر حرف من صيغة الثاني مستمراً إلى أن يتفرقاً ،وهو قولنا . ولو قال المحتسب للعون وهو يرى رجلاً يضرب آخر : أمسك الضارب حتى تحضره عند الحاكم لكانت كلمة (( الضارب )) حقيقة لحكم بالإمساك مستمراً إلى غايته ، وإن كانت الضرب ينقطع قلبها ، وهكذا في السارق والزاني وغير ذلك ، فقد اتضح أن قولنا مبني على حقيقة ،وضل سعي الأستاذ في زعمك أنه يكون مجازاً ، فأما القولالذى اختاره فلا يحتمله الحديث حقيقة ولا مجازاً . فأما قولهخ: (( وفائدة الحديث ….)) فمبنى على القول الذي قد فرغنا منه ، ومع ذلك فالحديث أثبت الخيار لكل واحدٍ من المتبايعين ، وصيغة الموجب للبيع لا يتضمنمالا يحتاج إلى قبول بخلاف موجب الخلع أو العتق على مال فإن اجابه يتضمن الطلاق أو العتق ، فإيجابه في معنى تعليق الطلاق أو العتق ولا رجوع في ذلك ، فثبت أنه لا يتوهم في البادي بالصيغة من المتساومين أنه لا رجوع له ، فحمل الحديث على هذا المعنى الذي اختاره الأستاذ مثل حمله على المتساومين في أنه لا يكون له فائدة .
هذا ولم يظفر الأستاذ بعد الجهد بشهبه ما تجرئه على زعم كلمة (( يتفرقا )) في الحديث إن حملت إلى قولنا كانت مجازاً ، وإن حملت على قولهم كانت حقيقة ،، فعدل إلى قوله : (( والتفرق بالأقوال شائع في الكتاب والسنة نحو قوله تعالى : [ واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا ] وقوله تعالى وقوله تعالى [ وما تفرق الذين أُتوا الكتاب ] وقوله تعالى : [ وان يتفرقا يغن(1)الله كلاً من سعته ] وفي الحديث ( افترقت اليهود –الحديث )(2) بل التفرق بالأبد ان خروج من شأنه لإفساد العقود في الشرع لا إتمامها كعقد الصرف قبل القبض ،وعقد السلم قبل القبض لرأس المال ، والدين بالدين قبل تعيين أحدهما وفي حمل الحديث على التفرق بالأبد ان خروج عن الأصول ،ومخالفة لكتاب الله تعالى وأما حملة على التفرق بالأقوال فليس فيه خروج عن الأصول ولا مخالفة لكتاب الله تعالى مع كونه أشهر في الكتاب والسنة )) .
أقول : التفرق فك الاجتماع ،وهو حقيقة في التفرق بالأبدان بلا شيهة ، وكثيراً ما يأتي الإجتماع والتفرق مجازاً في الأمور المعنوية بحسب ما تدل عليه القرائن ،ومن ذلك الشواهد التي ساقها الأستاذ ، ومجيء الكلمة في موضع أو أكثر مجازاً بقرينته لا يسوغ خملها علىالمجاز حيث لا قرينة ،وهذه كلمة (( أسد )) كثر جذاًاستعمالها في الرجل الشجاع مع القرينة حتى لقد يكون ذلك أكثر من استعمالها في معناها الحقيقي ،ومع ذلك لا يقول عاقل أنه يسوغ حملها على المجاز حيث لا قرينة ، وهذا اصل قطعي ينبغي استحضاره فقد كثر تغافل المتأولين عنه تلبيساً على الناس . نعم اذا ثبت ان الشارع نقض الكلمة الى معنى الآخر صارت حقيقة شرعيه في معنى الذي نقلة اليه وهذا هنا ، اذ لا يدعى احد ان الشارع نقض كلمة(( التفرق )) الى معنى غير معناها اللغوي . وأما كثرة مجيئها في القران في الأمور المعنوية فانما ذلك لأن تلك الامور مهمة في نظر الشارع فكثر ذكرها دون افتراق الابدان ، ولها في ذلك اسوة بكلمات كثيرة كرقبه والكظم والزيغ والخيف واللين والغلظ وغير ذلك . ولا اختصاص للشواهد التى ذكرها الاستاذ بالقول بل كلها في تفرق معنوى قد يقع بالقول وقد يقع بغيره ، فالتفرق عن الإعتصام بحبل الله يحصل بأن يكفر بعض ، ويبتدع ويجاهر بالعصيان بعض ، وكل من كفر والابتداع والعصيان قد يقع بالإعتقاد وبالفعل ، وبالقول وتفرق اهل الكتاب بعد مجيء الرسول هو بإيمان بعضهم ، وإشتداد كفر بعضهم ولات اختصاص لذلك بالقول ، وتفرق الزوجين قد يكون بالفعل كارضاعها ضرة لها صغيرة ، وبالقول من الجانبين ، وبنية الزواج القاطعة على قول مالك ، وافتراق اليهود باختلاف اعتقاداتهم وما يبني عليها من الأفعال والأقوال.
ومع هذا فالتفرق في هذه الأمثلة إنما هو عن اجتماع سابق ، وتعاقد متساومين اجدر بأن يسمى اجتماعاً بعد تفرق كما لا يخفى . لكننى أرفد الأستاذ فأقول : إن المتساومين يجتمعان بأبدانهما وتحملهما الرغبة في لبيع على أن يبقيا مجتمعين ساعة ، ثم إذا تعاقد زال سبب الأجتماع فيتفرقان بأبدانهما ، فالتعاقد كأنه سبب للتفرق فقد يسوغ إطلاق التفرق على التعاقد لذلك ، لكن قد يقال : ليس التعاقد سبباً مباشراً ،ومثله في ذلك الاطلاق فمجاز ضعيف لا دليل عليه ولا ملجيء إليه ، بل الحديث نص صريح في قولنا ، فقفي ( الصحيحين ) من حديث الإمام الليث بن سعيد عن نافع عن ابن عمر مرفوعاً (( إذا تبايع الرجلان فكل واخد منهما بالخيار مالم يتفرقا زكانا جميعاً …. وإن تفرقا بعد أن يتبايعا ولم يترك واحد منهما البيع فقد وجب البيع )).
قوله (( بل التفرق بالأبدان من شأنه افساد العقود ….)).
أقول : فساد العقد في هذه المسأئل ليس للتفرق من حيث هو تفرق بل من جهة أخرى حصلت بالتفرق وهي صيرورته رباً في الأولى ، وبيع في بدين في الأخريين ،وتفرق المتعاقدين في شراء دارٍ أو فرس معينة بذهب أو فضة مثلاً لا يحصل به شيء من ذلك ولا ما يشبهه ، بل يحصل به ما يثبت العقد ويؤكده وهوتبين صحة التراضي المشروط في كتاب الله عز وجل واستحكامه كما تقدم إيضاحه . وكثيراً ما يناط بالأمر الواحدحكمان مختلفتان من جهتين مختلفيتين كإسلام أحد الزوجين ينافي النكاح ، إذا كان الآخر كافراً ، ويثبة إذا أسلم الآخر أيضاً ،كان قد أسلم قبل لك علىخلاف ، وكإسلام المرأة الأيم يُحل نكاحها للمسلم ويحرمه للكافر ،ويمنع إرثها من أرقابها الكفار ، ويثبته لها من أرقابها المسلمين . وأمثال ذلك لا تحصى .
على أن الأثر الحتاصل بالتفرق في مسئلتنا ليس هو تصحيح العقد حتى تظهر مخالفته لتلك الصور فإن العقد قد صح بالاجاب والقبول وإنما أثر التفرق قطع الخيار ، وإن شئت فقل إفساد الخيار .
قوله (( خروج عن الإصول ومخالفة لكتاب الله تعالى )) .
أقول : أما الخروج عن الأصول فالمراد به مخالفة القياس يسمونه خروجاً عن الأصول تمويهاً وتهويلاً وتستراً وقد تقدم الجواب الواضح عماد ذكره الاستاذ من القياس . وبينما الأستاذ يتبجح في آخر ص 161 بقوله : (( أجمع فقهاء العراق على ان الحديث الضعيف (( يرجح على القياس )) ويقول ص 181 في الحسن بن زياد ((كأن يأبي الخوض في القياس في مورد النص كما فعل مع بعض المشاغبين في المسألة القهقهة في الصلاة )) يعنى ببعض المشاغبين الإمام الشافعي ورفيقاً له أورد علىالحسن بن زياد أنه يرى أن قذف المحصنات في الصلاة لا يبطل الوضوء فكيف يرى أن القهقهة تبطله ؟ فقال الحسن وذهب ، (1) إذا بالاستاذ يرد أحاديث خيار المجلس زاعماً أنها مخالفة للقياس ، هذا مع ضعف حديثه القهقهة ورضوح القياس المخالف له وثبوت أحاديث الخيار ووهن القياس المخالف لها .
وأما المخالفة للكتاب فقد تقدم تنفيد زعمها ،وبينما ترى الاستاذ يحاول التثبيت بدعوى مخالفة الكتاب هنا ، أذا به يعرض في مسئلة القصاص في القتال بالمثل ومسئلة مقدار ما يقطع سارقه ن الدلالات القرآنية الواضحة مع ما يوافقها من الأحاديث البصحيحة زموافقة القياس الجلي في مسألة القصاص . إلى غير ذلك من التناقض الذي يؤلف بينه أمر واحد هو الذب عن المذهب ،والغلو في ذلك إلى الحد الذي يصعب معه تبرئه صاحبه من أن يكون ممن اتخ غلهه هواه ، واتخذ الأحبار والرهبان أربلاباً من دون الله . والله المستعان .
قال الاستاذ (( ولا نص فيما يروى عن ابن عمر من القيام من مجلس العقد على ان خيار المجلس من مذهبه ، بل قد يكون هذا منه لأجل أن يقطع على من بايعه حق الرجوع لا حتمال أنه ممنيرى الخيار المجلس ،وقد خوصم أبن عمر إلى عثمان في البراءة من العيوب فحمله عثمانم على خلاف رأية فيها فأصبح يرعى الآراء في عقود )) .
أقول : قد روى ابن عمر عن النبي r الحديث صريحاً في إثبات خيار المجلس كما تقدم ، وفي ( صحيح البخارى ) من طريق يحيى بن سعيد عن نافع عن ابن عمر مرفوعاً …. الحديث ، ثم قال نافع : (( وكان ابن عمر إذا اشترى شيئاً يعجبه فارق صاحبه )) وفي (صحيح البخاري ) من طريق الزهرى عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه (( بعت من أمير المؤمنين عثمان ……فلما تبايعنا رجعت على عقبي حتى خرجت من بيته خشية أن يرادّ ني البيع ،وكانت السنة المتبايعين بالخيار حتى يتفرقا .. فلما وجب بيعي رأيت أني قد غبنته )) .
فصراحة الحديث نفسه ثم جعله سبباً لمفارقة ابن عمر من يشترى منه ما يعجبه وقوله :
(( وكانت السنة …)) وقوله : (( فلما وجب بيعي وبيعه …)) بغاية الوضوح بطلان قول الأستاذ (( قد يكون هذا منه ….)) .
قال الاستاذ : (( ولأ صحابنا حجج ئاهضه )) .
أقول : بل شبه داحضة . قال : (( وعالم دار الهجرة مع أبي حنفية وأصحابه في هذه المسألة ،ومن ظن وهناً بما انفق عليه امام اهل العراق وإمام اهل الحجاز فقد ظن سواء )) .
أقول : أما من اعتقد وهن قولهما المخالف لما ثيت عن النبي r من رواية جماعة من صحابة وعمل به وقضى به جماعة منهم بعد النبي r ولا يعلم لهم مخالفة من الصحابة فإنما اعتقد ما يحب على كل مسلم أن يعتقده ، فمن زعم أن هذا المعتقد قد ظن سواء فقد شارف الخطر الأكبر أو وقع فيه .
ثم ذكر الاستاذ كلمة ابن أبي ذئب وهو محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة ،وقد ذكر تها في ترجمة في قسم التراجم .
وفي (تاريخ بغداد ) 13/389عن ابن عينية قال : (( ما رأيت أجراً على الله من أبي حنيفة كان يضرب الأمثال لحديث النبي r فيرده . بلغه أني اروي ( البيعان بالخيار ما لم يتفرقا )) فجعل يقول : أريت أن كانا في سفينة ، أ رأيت ان كانا في السجن ، أ رأيت إن كانا في سفر كيف يتفرقان ؟ قال الأستاذ ص 82 : (( هكذا كان غوص أبي حنيفة على المعنى حتى اهتدى إلى أن المراد بالافتراق الافتراق بالأقوال لا الأبدان )) .
أقول : مغزى تلك العبارة أننا إذا قلبنا الحديث ورد علينا أنه قد يتفق أن لا يتمكن المتأبيعان من التفرق . والجواب أن الحديث قد فتح لهما باباً آخر يتمكنان به من إبرام العقد وهو أن يختارا اللزوم فبيلزم من غير تفرق ، وأن أرادا أو أحدها الفسخ فظاهر . وكان أبا حنيفة لم تبلغه رواية مصرحة بذلك . فغن قيل قد يبادر أحدهما فيختار اللزوم ويأبي الآخر أن يختار الزوم أو يفسخ فيتضرو المبادر لأنه لا يمكنهإبرام العقد ولا فسخة . قلت : هو المضيق على نفسه بمبادرته فلينتظر التمكن من المفارقة بأن تصل السفينة إلى مرفأ ، أو يطلقا أو أحدهما من السجن ، أو ينقل أحدهما إلى من السجن ، أو ينقل احدهما إلى سجن ىخر ، أو يبلغ المسافران حيث لا يخاف من الانفراد والتباعد عن الرفقة . فإن قيل لكن المدة قد تطول مع جهالتها . قلت اتفاق أن يجتمع أن يبادر أحدهما ويمتنع التفرق وتطول المدة وتفحش الجهالة ، نادر جداً ، ويقع مثل ذلك كثيراً في خيار الرؤية ، وكذلك في الصرف والسلم وغيرها مما لا يستقر فيه العقد إلا بالقبض قبل التفرق ، فمثل ذلك الاستبعاد إن ساغ أن يعتد به ففى التوفيق عن الأخذ بدليل في ثبوته أو في دلا لته نظر ، وليس البأمر هنا ههنا كذلك ، فإن الحديث بغاية الصحة والشهرة ووضوح الدلالة، فهو في ( الصحيحين ) وغيرهما من طرق عن ابن عمر ، وصح عنه من قوله وفعله ما يوافقه، وهو في ( الصحيحين ) غيرهما من حديث حكيم بن حزام ، وصح عن أبي برزة أنه رواه وقضى به ، جاء من حديث عبدالله بن عمر وأبي هريرة وسمرة ةغيرهم ، وجاء عن أمير المؤمنين على القضاء به ، ولا مخالف من الصحابة ، وإنما جاء الخلاف فيه من التابعين عن ربيعة بالمدينة وإبراهيم النخعي بالكوفة ، واشتد نكير ابن أبي ذئب إذ قيل له : إن مالكاً لا يأخذ بهذا الحديث ، فقال : (( يستتاب فإن تاب وإلا يقتل )) ومالك أنما اعتذر في (الموطأ) بقوله بعد أن روى الحديث ((ليس لهذا عندنا حد معروف نقلا ونظراً ، فغنه معلوم أن التفرق حقيقة في التفرق بالأ بدان ، وحده معروف في العرب ، وقد اتفقوا على نظيرة في الصرف والسلم ، والعمل ثابت عن الصحابة وكثير من أئمة التابعين بالمدينة وغيرهما . وراجع كتاب ( الأم ) للشافعي أوائل المجلدات الثالث . ^58^
المسألة الثامنة
رجل خلا خلوة مريبة بامراة أجنبية يحل له أن يتزوجها فعثر عليها فقال : نحن زوجان
تقدم في المسألة السادسة قول خالد بن يزيد بن أبي مالك : (( احل ابوحنيفة الزنا …)) .
قال : (( وأما تحليل الزنا فقال : لو فقال : لو أن رجلاً وامراة اجتمعا في بيت وهما معروفا الأبوين فقالت المرأة : هو زوجي . وقال هو : هي امرأتي لم عرض لهما )) قال الاستاذ ص145 : (( قال الملك المعظم في ( السهم المصيب ): إذا جاء واحد من امراة ورجل فقالا له : نحن زوجان ، فبأي طريقة يفرق بينهما أو يتعرض عليها لأن كل واحد منهما يدعى أمراً حلالاً ،ولو فتح هذا الباب لكان الانسان كل يوم بل ساعة يشهد على نفسهوعلى زوجه أنهما زوجان وهذا لم يقل به أحد منالائمة ،وفيه من الحرج مالايخفى على أحد)).
اقول :على كتب الحنيفة : ((إن إقرار الرجل انه زوجها وهي أنها زوجته يكون إنكاحاً ويتضمن إقرارهما (( الانشاء )) فهذه هي مسالة ابن أبي مالك استشهاد الاسناذ نفسه وكذالك ملكه المعظم عنده ولذلك لجأ إلى المغالطة . وحاصلها أننا إذا عرفنا رجلاً وامرأة نعلم أنهما ليسا بزوجين ثم وجدناهما في خلوة مريبة فقال : هي زوجتى ،وقالنت : هو زوجى ، فأبوحنيفة يقول يقول : يكون اعترافهما عقداً ينقد به النكاح فيصران زوجين من حينئذ ولا يعرض لهما ! ففى هذا ثلاثة أمور .
الاولى : أنه بلا ولي .
الثاني : أنه كيف يكون إنشاء وإن لم يقصده .
الثالث : أنه كيف لا يعرض لهما بإنكار وتعزير على الأقل لأنهما قد ارتكبا الحرام قطعاً وهو خلوة لأنهما أن كانا تافظا بزواج قبل العثور عليهما فذاك باطل إذ لا ولي ولا شهود و‘ن لم يتلفظا إلا بدعواهما الزوجية ، أو اعترافهما بها عند العثور عليهما فالأمر أوضح ، وأيضاً فالتعزيز متجه من وجه ىخر وذلك لئلا يكون هذا تسهيلاً للفجور ، يخلو الفاجر بالفاجرة آمنين مطمئنين قائلين : إن لم يطلع علينا فذاك المقصود ،وإن اطلع علينا قلنا : نحن زوجان ! .
المسألة التاسعة
الطلاق قبل نكاح
في ( تاريخ بغداد ) 13/411 : عنم أحمد بن حنبل أنه قيل له : قول أبي حنيفة : الطلاق فبل النكاح ؟ فقال : (( مسكين أبو حنيفة ظ، كأنه لم يكن من العراق ، وكأنه لم يكن من العلم بشيء ، وقد فيه عن النبي r وعن الصحابة ،وعن نيف وعشرين من التابعين مثل سعيد بن جبير ،وسعيد بن المسيب ، عطاء ،وطاوس ،وعكرمة كيف يجترى أن يقول : تطلق ؟ )) .
قال الاستاذ ص 142 : (( … على ان مذهب أبي حنيفة انه لا طلاق إلا في ملك أو مضافاً ملك أو علقة من علائق الملك ،…… وقد أجمعت ألامة أنه لا يقع طلاق قبل النكاح لقوله تعالى : [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنّ] الآية ، فمن علق الطلاق بالنكاح وقال : إن نكحت فلانة فهي فهي طالق . لا يعد هذا المعلق مطلقاً قبل النكاح ولا طلاق واقعاً قبل النكاح ، وإنما يعد مطلقاً بعده حيث يقع الطلاق بعد عقد النكح النكاح فيكون هذا خارجاً من متناول الآية ومن متناول حديث : لا طلاق قبل النكاح ، لأن الطلاق في تلم المسألة بعد النكاح لا قبله . ,غليه ذهب أبو حنيفة وأصحابة الثلاثة وعثمالن البتى . وهو قول الثورى ومالك والتنخعي ومجاهد والشعبي وعمر بن عبد العزيز فيما إذا خص . والأحاديث في هذا الباب لا تخلوعن اضطراب ، والخلاف طويل الذيل بين السلف فيما إذا عم أو خص . وقول عمربن الخطاب صريح فيما ذهب إليه أبو حنيفة وأصحابة ، وتابع الشافعي ابن المسيب سواء عم أو خص ، وأليه ذهب أحمد .
أقول : قال البخاري في (الصحيح ) : (( باب لا طلاق قبل النكاح وقول تعالى : [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً] . وقال ابن عباس : جعل الله الطلاق بعدج النكاح ،ويرى في ذلك عن على وسعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وأبي بكر بن عبد الرحمن وعبيد الله بن عتبة ، بأن عثمان وعلى بن حسين وشريح وسعيد بن
جبير والقاسم وسالم وطاوس الحسن وعكرمة وعطاء وعامر بن سعيد وجابربن زيد ونافع بن جبير ومحمد بن كعب وسليمان بن يسار ومجاهد والقاسم بن عبد الرحمن وعمر وبن هرم والشعبي أنها لا تطلق )) .
والآثار عن جماعة من هؤلاء صحيحه كما في ( الفتح ) زلم يصح عن عمر بن الخطاب شيء في البااب ، وجمهورؤ السلف على عدم الوقوع مطلقاً ، وروى عن ابن مسعود انمه إذا خص وقع ,إذا عم كأن قال : ((كل أمرأة …)) لم يقع ، وعن ابن عباس انه انكر هذا فقال : (( ما قالها زلم يصح عن عمر بن الخطاب شيء في البااب ، وجمهورؤ السلف على عدم الوقوع مطلقاً ، وروى عن ابن مسعود انمه إذا خص وقع ,إذا عم كأن قال : ((كل أمرأة …)) لم يقع ، وعن ابن عباس انه انكر هذا فقال : (( ما قالها ابن مسعود ، وإن يكن قالها فزلة من عالم … قال الله تعالى …. )) فتلا ألاية وممن نقل عنه هذا القول الشعبي وإبراهيم النخعي وحماد بن أبي سليمان شيخ أبي حنيفة ، وهو مشهور عن ملك ، وقيل عنه كالجمهور أنه لا يقع مطلقاً وهذا مذهب الشافعي وأحمد ،وقال أبو حنيفة : يقع مطلقاً . ولا يعلم له سلف في ذلك .
فأما الآية فاحتج بها حبر الأمة وترجمان القران عبد الله بن عباس ثم زين العابدين على بن الحسين ثم البخاري على عدم الوقوع مطلقاً ،وزعم بعضهم كالأستاذ أنها لا تدل عهلى أنه لا يقع الطلاق على المرآة قبل نكاحها فأما من قال : (( إن تزوجت فلانة فهي طالق )) فلا تدل ألاية على عدم وقوعه لأنه إذا وقع فإنما قع بعد النكاح ، أقول : يقال : (( طلقت ( بفتح اللام مخففة ) فلانة أي انحلت عقدة نكاحها بقول من الزواج ، ويقال : (( طلق فلان امرأته )) أي جعلها تطلق كما يقال سرّ حها أي جعلها تسرح ،وسيّرها جعلها تسير ،وغير ذلك .فطلاق الرجل يتضمن أمرين : الأول : قوله الخاص . والثاني : وقوع الأثر على المرأة فتنحل به عقدة نكاحها . وإذا قيل : (( طلق فلان امرأته اليوم )) فالمتبادر أن قوله وانحلال العقدة وقعا ذاك اليوم فهذا هو حقيقة من قال لإمراته يوم السبت : إذا جاء يوم الجمعة فأنت طالق لم يصدق على وجه الحقيقة أن يقال قبل يوم الجمعة : إنه طلق . ولا أن يقال : طلق يوم السبت ، ولا طلق قبل يوم الجمعة ولكنه يقال بعد مجيء يوم الجمعة : إنه طلق . فإذا أُريدد التفضيل قيل : علق طلاقها يوم السبت وطلقت يوم السبت وطلقت يوم الجمعة . ونظير ذلك ،إذا جرح رجل آخر يوم السبت جراحة مات منها يوم الجمعة فلا يقال حقيقة قبل الموت أنه قتل ، ولكن يقال بعد الموت أنه قتله ، ولا يقال قتله يوم السبت ولايوم الجمعة بل يقال جرحه يوم السبت فمات يوم الجمعة . فقوله تعالى في الآية :[ ثم طلقتموهن ] يقتضي تأخير الأمرين معاً: قول الرجلوانحلال العقدة . ويؤيده أمرين :
الأول : قوله: [ ثم طلقتموهن ] وكلمة (( ثم )) تقتضي المهلة ،وإذا كان الطلاق معلقاً بالنكاح ،وقلنا إنه يقع وقع بلا مهلة .
الثاني : قوله : [ وسرحوهن سراحاً جميلاً ] ةالتسريح هنا إرجاعها إلى أهلها وإنما يكون ذلك إذا كانت قد زفت إليه ،ومن كان معلوماً أنه بنكاحه يقع طلاتقة فمتى تزف إليه المرأة حتى يقال له: سرحها سراحاً جميلاً ؟
وأما الحديث فاحتج به جماعة من المتقدمين على عدم الوقوع ،وتأوله بعضهم بما ذكر الاستاذ ،وأقول : إن كان لفظ (( طلاق )) فيه اسماً من التطبق كالكلام من التكلم سقط التأويل كما يعلم مما مر ،وإن كان مصدر قولنا (( طَلَقَتِ المرأةُ )) كان للتأْويل مساغ ، والأول هو الأكثر والأشهر في الاستعمال ،وقد دفع التأويل بأنه لا يجهل أحد أن المرأة لا تطلق ممن ليس لها بزوج فحمل الحديث على هذا النفي يجعله خلوا عن الفائدة .
وأما النظر فلا ريب أن الله تبارك وتعالى وإنما شرع النكاح والطلاق لمقاصد عظيمة،وأن مثل ذلك الطلاق لا يحتمل أن يحصل به مقصد شرعي ،وهو مضاد لشرع النكاح .
وبعد فإذا لم يثبت عن السلف قبل أبي حنيفة إلا قولان ، وأحدهما تدفعه الأدلة المذكورة وهو ضعيف في القياس ، تعين القول الآخر وهو مذهب على وأبن عباس ثم مذهب الشافعي وأحمد . والله الموفق (1)
المسألة العاشرة
العقيقة مشروعة
في (تاريخ بغداد ) 13/411 عن أحمد بن حنبل (( في العقيقة عن النبي r أحاديث مسنده وعن أصحابه وعن التابعين ،وقال أبو حنيفة : هو من عمل الجاهلية )) . قال الأستاذ ص 142 : (( نعم كان أهل الجاهلية يرون وجوب العقيقة وأبيحت في الإسلام من غير وجوب في رأي أبي حنيفة وأصحابه قال الإمام محمد ابن الحسن الاشيباني في ( الآثار ) : أخبرنا أبو حنيفة عن حماد عن إبراهيم قال : كانت العقيقة في لاجاهلية ، فلما جاء الاسلام رفضت . قال محمد : وأخبرنال أبو حنيفة قال : حدثنال رجل عن محمد ابن الحنيفة أن العقيقة : كانت في الجاهلية فلماء جاء الإسلام رفضت )) . ثم قال الأستاذ: (( يرى أبو حنيفة أن ما كان من عمل أهل الجاهلية معتبرين وجوبه عليهم إذا عمل به في الإسلام لا يدل هذا العمل إلا بإحة لا على إبقاء الوجوب المعتبر في الجاهلية …. )) .
أقول : قول القائل : (( من عمل الجاهلية ))ظاهر في أنها محظورة ،وكلمة (( عمل )) تدل أن كلامه في العقيقة نفسها لا في اعتقاد وجوبها فقط ،وقول القائل ((فلما جاء الإسلام رفضت )) ظاهر في أنها غير مشروعة البتة فيكون اعتقاد مشروعيتها ضلالاً كبيراً وتديناً بما لم ينزل الله به سلطاناً ، فأما محمد بن الحنيفة فلا يصح الأثر عنه ، إذ لا يدرى من شيخ أبي حنيفة أثقة أم لا ؟ وأما ابراهيم فناف ،والمثبت مقدم عليه .
وقد ورد في مشروعيتها
أحاديث قوليه منها حديثان في ( صحيح البخاري ) ذكرهما البيهقي في ( السنن ) ج9 ص
298 فاعترضه ابن التركماني قائلاً : (( ظاهرهما دليل على وجوبها فهما غير مطابقين
لمدعاه )) . والقول بالوجوب منقول عن الظاهرية ، واحتج من يقول بالندب بحديث عمرو
بن شغيب عن أبيه عن جده مرفوعاً : ((من ولد له ولد فأجب أن ينسك عنه فلينسك ، عن
الغلام شاتان ..)) وهذا الحديث أيضاً يدل على مشروعيتها لإغن النسك عبادة إذا لم
تكن.واجبة كانت مندوبة ولا بد ، وسواء أكان أهل الجاهلية يعتقدون وجوبها يعتقدون
وجوبها أم لا ، فإنها لم ترفض في الإسلام بل هي مشروعة فيه .(1)
المسألة الحادي عشرة
للراحل سهم من الغنيمة وللفارس ثلاثة ، سهم له وسهمان لفرسه
في ( تاريخ بغداد ) 13/390 عن يوسف بن أسباط (( …. قال رسول الله r للفرس سهمان وللرجل سهم . قال أبو حنيفة :أنا لا أجعل سهم بهيمة أكثر من سهم المؤمن )) قال الاستاذ ص86 : فقوله ( للفر سهمان وللرجل سهم ) هكذا في بعض الروايات وفي بعضها ( للفارس سهم وللرجل سهمان ) وهو الذى اختاره أبو حنيفة وهو الذى وقع في الفظ مجمع بن جارية المخرج في ( سنن أبي داود ) …. فأبو حنيفة لما رأى اختلاف ألفاظ الرواة . … نظر فوجد أن الشرع لا يرى تمليك البهائم فحكم على أن رواية ( للفرس سهمان ) المفيدة بظاهرها تمليك بهيمة ضعف مايملك الرجل من غلط الرواى حيث كانت الألف تحذف من الوسط في خط الأقدمين في غير الاعلام أيضاً فقرأهذاالغالط ( فرساً ) و( رجلاً ) ماتحب قرأءته ( فارساً ) و( راجلاً ) فتتابعت رواة على الغلط قاصدين باللفظين المذكورين الخيل والإنسان مع إمكان إرادتهم الفارس من الفرس كما يراد بالخيلالخالية عند قيام القرينة جمعاً بين الروايتين ،ومضى آخرون علىرواية الحديث على الصحة . فرد أبو حنيفة علىالغالطين يقوله : لإني لا أفضل بهيمة علمؤمن . ليفهمهم أنه لا تمليك في الشرع للبهائم ،والمجاز خلاف الأصل ،وإنما تكلم عن التفضيل مع أنه ايضاً لا يقول بمساوة البهيمة لمؤمن لأن كلام في الحديث المغلوط فيه… وقول أبي يوسف في الخراج بعد وفاة أبي حنيفة ومتابعة الشافعي له في ( الأم ) مع زيادة تشنيع بعيدانعن مغزى فقيه الملة … وأما ما ورد في مضاعفة سهم الفارسفي بعض الحروب فقد حمله أبو حنيفة على التنفيل جمعاص بين الادلة ، لأن الحاجة إلى الفرسان تختلف باختلاف الحروب . أبهذا كون أبو حنيفة رد على رسول الله r ؟. حاشاه )) .
أقول :لايخفى ما في هذا التوجيه من التعسف . وقد كثرت الحكايات عن أبي حنيفة في مجابهة من يعترض عليه بالكلماتالموحشة ، فقد يقال : أنه كان يتبرم بالمعرضين ، ولا يراهم أهلاً للمناظرة ، فكانيدفعهم بتلك الكلمات لئلا يعودو إلى التعرض ، غير مبال بما يترتب على ذلك من اعتقادهم .فهل جرى على هذه الطريقة مع أصحابة حتى أن أخصهم به وآثرهم عنده وأعلمهم بمقاصده –وهو أبو يوسف –لم يتفطن له الاستاذ ؟
فأما حذف الألف في كتاب المتقدمين فيقع في ثلاثة مواضع الأول : حيث يؤمن اللبس إما لعدم ما يلتبس به مثل : القاسم بن فلان سليمان بن فلان. وإسحاق بن فلان.فإن هذه الأعلام إذا كتبت بلا ألف لا يوجد ما يلتبس بها . وأما في متابة القرآن الذي من شأنه أن يؤخذ بالتلقي والتلقين وتعم معرفته بحيث إذا أخطاء مخطئ لم يلبث أن ينبه .وأما فيما يصح على كلا الوجهين مثل جبريل و[ ملك يوم الدين ] وليس قوله في الحديث ((للفرس للرجل )) . في شيء من هذا . اللهم إلا أن يخطيء الكاتب يسمع (( للفارس للرجل )) فيحسب ذلك مما يجوز تخفيفه في الكتابة فيكتب (( للفرس . للرجل )) لكنه كما قد يحتمل هذا فكذلك قد يحتمل أن يخطئ القارى بأن يكون الكاتب سمع (( للفرس . للرجل))فكتبها كذلك ، ثم توهم القارئ أن الأصل (( للفارس . للرجل )) وإنما حذف الألف تخفيفاً في الكتابة فيقرؤها (( للفارس . للرجل )) ويريها كذلك .
وأما تقديم الحقيقة على المجاز ، فالذي في الرواية (( جعل للفرس همين وللرجل سهماً )) ولا يتجه في قوله : (( للفرس )) مجاز ،بل اللام لام التعليل ، أي جعل لأجل الفرس . فغن قيل : بل اللام لشبه التمليك ، قلنا فما الحجة على أن لام شبه التمليك مجاز ؟ فإن كانت هناك حجة فجعلهاللتعليل اولى تقديماً للحقيقة على المجاز وكذلك لو ساغ أن يطلق (( الفرس )) ويراتد (( الفارس )) كما زعم الأستاذ . علىأن سواغ ذلك غير مسلم فإنه غير معروف ولا قرينة عليه ، فأما طلاق (( الخيل )) وإرادة (( الفرسان )) فمستفيض ،وإنما يسوغ بقرينة ،وإنما جاء حيث يكون المقام ذكر الجيش حيث لا تكون الخيل إلا مع فرسانها فيكون بينهماضرب من التلازم .
هب أنه اتجه المجداز فتقدم علىالمجاز محله في الكلمة الواحدة يجب حملها على معناها الحقيقي ولا يجوز حملها علىمعنى مجازى بلاحجة كما ارتبكه الاستاذ في غير موضوع .فأما روايتان مختلفتان متنافيتان والكلام في إحد اهما حقيقة وفي الأخرى مجاز صحيح بقرينته فلا يتجه تقديم الأولى للان المتكلم كما يتكلم بالحقيقة فكذلك يتكلم بالمجاز ، والمخطئ كما يخطئ من الحقيقة إلى المجاز ، فكذلك عكسه ، بل احتمله أقرب ، لأن أغلب ما يكون الخطأ بالحمل على المألوف ،وغالب كا يقع من التصحيف كذلك ، فقد رأيت مالا أحصيه اسم (( زَبر )) مصحفاً إلى (( أنس )) واسم (( سعر )) مصحفاً إلى (( سعد)) ولا أذكر أننى رأيت عكس هذا . قال الشاعر :
فمن يك سائلا عني فإني من الفتيان أيام الخُنان
وقال الآخر :
كساك ولم تستكسه فحمدته أخ لك يعطيك الجزيل وياصر
فصحف الناس قافيتى هذين البيتين إلى (( الختان . ناصر )) وأمثال هذا كثيرة لا يخفى على من له إلمام.
وهكذا الخطاء في الأسانيد أغلب ما يقع بسلوك الجادة ، فهشام بن عروة غالب روايته عن أبيه عن عائيشة ،وقد يروى عن وهب بن كيسان عن عبيد بن عمير فقد يسمع رجل من هشام خبراً بالسند الثاني ثم مضي على السامع زمان فيشبه عليه فيتوهم أنه سمع ذاك الخبر من هشام بالسند الأول على ما هو الغالب المألوف ، ولذلك تجد أئمة الحديث إذا وجدوا راويين اختلفا بأن رويا عن هشام خبراً واحداً جعله أحدهما عن هشام عن وهب عن عبيد ،وجعله الآخر عن هشام عن أبيه عن عائشة ، فالغالب أن يقدموا الأول ويخطؤوا الثاني ، هذا مثال ومن راجع كتب علل الحديث وجد من هذا مالا يحصى.
هب أن الحقيقة تقدم على المجاز في الروايتين المتنافيتين فإنما لا يبعدذلك جداً حيث لا يوجد للرواية الأخرى مرجح قوي ، ليس الأمر ها هنا كذلك بل من تتبع الروايات وجد الأمر بغاية الوضوح .وشرح ذلك أن الحنيفة يتشبثون بأربعة أشياء :
أولها : حديث مجمع ، والجوابعنه أنه من رواية مجمع بن يعقوب بن مجمع عن أبيه بسنده وفي ( سنن لبيهقي ) ج6ص325 ان الشافعي قال : (( مجمع بن يعقوب شيخ لا يعرف )) . أقول : أما مجمع فمعروف لا بأس به ، فلعل الشافعي أر اد أباه يعقوب بن مجمع ففي ( نصب الراية عن ابن القطان (( علة هذا الحديث الجهل بحال يعقوب بن مجمع ولا يعرفروى عنه غير ابنه . وذكر المزي راويين آخرين ولكنهما ضعيفان ،ولم يوثق يعقوب أحد فأما ذكر ابن حبان له في (التقات ) فلا يجدى شيئاً لما عرف من قاعدة ابن حبان من ذكر المجاهيل في (الثقاب ) فقد ذكر الأستاذ ذلك في غير موضع ، وشرحته في الأمر الثامن من القاعدة السادسة من قسم القواعد ،وفي ترجمة ابن حبان من قسم التراجم. وفي الحديث وهم آخر فإن فيه أن فرسان المسلمين يوم خبير كانوا ثلثمائة ،والمعروف أنهم كانوا مائتين ، وأبو داود وإن أخرج الحديث في ( سننه ) فقد تعقبه كما في ( نصب الراية ) بقوله : (( هذا وهم إنما كانواغ مائتي فارس فأعطى الفرس سهمين وأعطى صاحبه سهما )) وأخرج جماعة منهم الحاكم في ( المستدرك ج2326عن ابن عباس : (( أن رسول الله r فسم المائتي فرس يوم خبير سهمين سهمين )) وفي ( مصنف ابن أبي شيبة ) عن أبي خالد الأحمر عن يحيى بن سعيد الأنصارى عن صالح بن كيسان أن النبي r أسهم يوم خيبر لمائتي فرس لكل منهم سهمين .
وهولاء كلهم ثقات متفق
عليهم وصالح من أفاضل التابعين . وفي ( سنن البيهقي )
ج
ص 326بسند ( السيرة ) عن ابن إسحاق (( حدثني ابن لمحمد بن مسلمة عمن أدركه
من أهله وحدثني عبد الله بن أبي بكر بن حزم قال : كانت المقاسم على اموال خيبر على
الف وثمان مائة سهم الرجال الف واربع مائة والخيل مأتين فرس ، فكان للفرس سهمان
ولصاحبه سهم وللرجال سهم وأكثر الروايات وأثبتها في عدد الجيش انه الف واربع مائة
وفي بعض الرواياتن الف وخمس مائة وجمع اهل العلم بين ذذلك بأن عدد مقاتل المستحقين
للسهم كانوا الفاً واربع مائة ومعهم نحو مائة ممن لا يستحق سهماً من العبيد
والنساء وصبيان وجاء عن بشير بن يسار قال : شهيدها مائة فرس وجعل للفرس سهمين وهذا
محمول على خيل الأنصار فأما مجموع الخيل فكانت مائتين .
الثاني : حديث عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم العمري عن نافع عن بن عمر : (( أن رسول اللله r كان يسهم للفارس سهمين وللراجل سهما )) اخرجه الدار قطني ثم قال : (( ورواه القعنبي عن العمري بالشك في الفارس والفرس ثنا أبو بكر ثناء محمد بن على الوراق نا القعنبي عنه )) فقد شك العمرى وهو مع ذلك كثير الخطأ حتى قال البخاري (( ذاهب لا أروي عنه شيئاً )) ومن أثنى عليه فلصلاحه وصدقه ،وأنه ليس بالساقط .
الثالث : ما وقع في رواية بعضهم عن عبيد الله بن عمنر بن حفص بن عاصم رسيأتي ذلك في الكلام على حديثه .
الرابع : قال ابن أبي سيبة في (المصنف ) : (( غنذر عن شعبة عن أبي إسحاق عن هانئ عن على قال : للفارس سهمان قال شعبة : وجدته مكتوباً عند ( بياض ) )) وقال قبل ذلك : (( معاذ ثنا حبيب بن شهاب عن أبيه عن أبي موسى أنه أنه أسهم للفارس سهمين وللرجل سهماً )) .
أما الأثر عن على فقول شعبة : (( وجدته ….)) عبارة مشككة .وقد روى الشافعي كما في ( سننالبيهقي ) ج6ص327 (( عن شاذان ( الأسود بن عامر ) عن زهير عن أبي إسحاق قال : غزوت مع سعيد بن عثمان فأسهمك لفرسي سهمين ولي سهما . قال أبو إسحاق : وكذلك حدثني هانئ بن بن هانئ عن على، وكذلك حدثني حارثة بن مضرب عن عمر)) وفي ( مصنف ابن أبي شيبة ) : (( وكيع ثنا سفيان وإسرائيل عن أبي إسحاق قال : شهدنا غزوة مع سعيد بنم عثمان ،ومعى عثمان بن هانئ ومعي فرسان ومع هانئ فرسان ، فأسهم لي ولفرسي خمسة اسهم ، وأسهم لهانئ ولفرسية خمسة أسهم )) وهذا غير مخالف لرواية زهير لأنه إذا أسهم للفرسين أربعة أسهم ولصاحبها سهما فقد أسهم للفرس سهمين ،ولصاحبه سهما . وهذا بلا شك أثبت مما ذكره شعبة . ومع هذا فهانئ بن هانئ لم يروعنه إلا أبو إسحاق وحده قال ابن المدينى . (( مجهول )) وقال النسائي : (( ليس به بأس )) . ومن عادة النسائي توثيق بعض المجاهيل كما شرحته في الأمر الثامن من القاعدة السادسة من قسم القواعد .
وأما الأثر عن أبي موسى فسنده جيد وقد تأوله بعضهم بأن معناه للفارس من حيث هو ذو فرس وذلك لا ينافي أن يكون له سهم ثابت من حيث هو رجل وفي هذا تعسف . وقد ذكر أبن التركماني أن أبن جرير ذكر في ( تهذيبه ) أن هذا كان في واقعه ( تستر) فكأن هذا رأى لأبي موسى فيما إذا كانت الواقعة قتال حصين يضعف غناء الخيل فيه ، وقد جاء عن جماعة من التابعين أنهم كانوا ينقصون سهام الخيل في قتال الحصون أو لايسهمون لها شيئاً ، ذكر ذلك ابن أبي شيبة وغيره ،وذكره إنكار عمنر بن عبد العزيز ذلك ، وإنكار مكحول له واحتجاجه بأن النبي r أسهم في غنائم خبير للفرس سهمين ولصاحبه سهما مع أن خيبر كانت حصناً . ولعل ابن جرير قد ذكر هذا المعنى في ( التهذيب ) فليراجعه من تيسر له ذلك .
حديث عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب
عبيد الله هذا ثقة جليل أثبت من أخيه عبد الله بما لا يحصى بل جاء عن يحيى بن سعيد القطان والإمام أحمد وأحمد بن صالح أن عبيد الله أثبت أصحابه نافع ، وفيهم مالك وغيره.
وقد وقعت على الجماعة الحديث .
الأول : الإمام المضروب به المثل في الحفظ والإتقان والفقه والزهد والعبادة والسنة أبو عبد الله سفيان بن سعيد الثورى ، قال الإمام أحمد في ( المسند) ج2ص152 : (( ثنا عبد الرزاق أنا سفيان بن عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمران أن النبي r جعل للفرس سهمين وللرجل سهماً )) ورواه الدار قطني في ( تالسنن) ص467 ن طريق عبد الله بن الوليد العدتي عن سفيان -بسنده –(1) (( ا، رسول الله r اسهم للرجل ولفرسه ثلاثة أسهم للرجل سهم ولفرسه سهمان )) . ورواه البيهقي في ( السنن ) ج6ص325 من طريق أبي حذيفة عن سفيان -بسنده –(( أن رسول الله r أسهم للرجل ثلاثة أسهم للرجل سهم وللفرس سهمان )) .
الثاني : الحافظ المقدم هشيم بن بشير الواسطي رواه عنه الامام أحمد في ( المسند) ج2ص2 وهو أول حديث في ( مسند ابن عمر ) ولفظه : (( أن رسول الله r جعل يوم خيبر للفرس سهمين وللرجل سهماً )) . الثالث : أبو معاوية محمد بن خازم الضرير رواه عنه الامام أحمد في ( المسند ) ج2ص2 ولفظه : (( أن رسول الله r أسهم للرجل ولفرسه ثلاثة أسهم ، سهماً له ،وسهمين لفرسه )) ، وراه ابو دالود في ( السنن ) عن أحمد ،وقد رواه عن أبي معاوية أيضاً على بن محمد بن أبي الشوارب عند ابن ماجه،والحسن بن محمد الزعفراني عند الذار قطني ص 467 ، وسعدان بن نصر عند البيهقي ج6 ص325 .
الرابع : إسحاق الأزرق عند الشافعي كما في ( مسنده ) بهامش (( الأم )) ج6ص250 (( …. أن رسول الله r ضرب للفرس بسهم )) ؟
الخامس : سليم بن أخضر رواه مسلم في ( صحيحه ) عن يحيى بن يحيى وأبي كامل عنه (( ….أن رسول الله r قسم في النفل للفرس سهمين ، وللرجل سهماً )) وقع عند يبض رواة الصحيح (( للراجل )) وقد رواه عن سليم أيضاً عبد الرحمن بن مهدى ( مسند أحمد ) ج2 ص62 ،وعفان ( مسند أحمد ) ج2ص72 ،وأحمد بن عبده وحميد بن مسعدة عند الترمذى وفي روايتهم جميعاً : (( للرجل )) .
السادس : أبو أسامة رواه عنه عبيد ابن إسماعيل عند البخاري في ( صححه ) في ((كتاب الجهاد )) : (( ..... أن رسول الله r جعل للفرس سهمين ، ولصاحبه سهماً )) وكذلك رواه عن أبي أسامة محمد بن عثمان بن كرامة عند الدارقطني ص 467 ،وأبو الأزهر عند البيهقي ج 6 ص 324 ، ورواه ابن أبي شيبة في ( المصنف ) عن أبي أسامة وعبد الله ابن نمير وسيأتي .
السابع : عبد الله بن
نمير رواه عنه الإمام أحمد في ( المسند ) ج 2 ص143 : (( .... أن رسول الله r قسم
للفرس سهمين وللرجل سهما )) وكذلك رواه الدارقطني ص467 من طريق أحمد ،رواه مسلم في
( الصحيح ) عن محمد بن نمير عن أبيه ، وأحال على متن سليم بن أخضر قال : (( مثله ولم
يذكر : في النفل )) ورواه الدارقطني أيضاً من طريق عبد الرحمن بن بشير بن الحكم عن
عبد الله بن نمير .وفي( مصنف أبن أبي شيبة ) باب (( في الفارس كم يقسم له ؟ من قال
: ثلاثة أسهم )) . حدثنا أبو أسامة وعبد الله بن نمير قالا : ثنا عبيد الله بن عمر
... أن رسول ألله r جعل للفرس سهمين وللرجل سهماً )) وذكره ابن
حجر في ( الفتح) عن ( مصنف ابن أبي شيبة ) وذكر أن أبي عاصم رواه في (( كتاب الجهاد
)) له عن ابن أبي شيبة كذلك .وقال الدارقطني ص 469 : (( حدثنا أبو بكر النيسابوري نا
أحمد بن منصور ( الرمادي ) نا أبو بكر بن أبي شيبة نا أبو أسامة وابن زيد نمير
.... أن الرسول الله r جعل للفارس سهمين , وللراجل سهماً.قال
الرمادي : كذا يقول ابن غير . قال لنا النيسابوري : هذا عندي وهم من ابن أبي شيبة
أو الرمادي لأن أحمد ابن حنبل وعبد الرحمن بن بشر وغيرهما رووه عن ابن غير خلاف
هذا, وقد تقدم ذكره عنهما , ورواه ابن كرامة وغير عن أبي أسامه خلاف هذا أيضاً وقد
تقدم.
أقول : الوهم من الرمادي فقد تقدم عن ( مصنف ابن أبي شيبة ) : للفرس . للرجل وكذلك نقله ابن حجر عن ( المصنف ) وكذلك رواه ابن أبي عاصم عن ابن أبي شيبه كما مر , ويؤكد ذلك أن ابن أبي شيبه صدر بهذا الحديث الباب الذي قال في عنوانه : (( من قال ثلاثة أسهم )) كما مر , ثمذكر باباً آخر عنوانه : (( من قال للفارس سهمان ؟)) فذكر فيه حديث مجمع وأثري علي وأبي موسى فلو كان عنده أن لفظ ابن غير كما زعم الرمادي أو لفظ أبي أسامة أو كليهما (( للفارس .للرجل )) لوضع الحديث في الباب الثاني.
فإن قيل : لعله تأول التأويل الذي تقدمت الإشارة إليه في الكلام على أثر أبي موسى .
قلت : يمنع من ذلك التأويل .
الثاني : تصديره باب (( من قال : ثلاثة أسهم )) بهذا الحديث .
الثالث : أن ذاك التأويل يحتمله أثرا عل وأبي موسى ولم يدرجهما في هذا الباب ، بل جعلهما في باب (( من قال: للفارس سهمان )) .
فإن قيل : فقد قال ابن
تركماني في ( الجوهر النقي ) : (( وفي (( الأحكام )) لعبد الحق: وقد روي عن أبن
عمر أنه عليه السلام جعل للفارس سهمين وللراجل سهماً . وذكره أبو بكر ابن أبي شيبة
وغيره )) ونقل الزيلعي في ( نصب الراية) ج3ص حديث ابن أبي شيبة وفيه : (( للفارس .
للرجل )) ثم قال : (( ومن طريق ابن أبي شيبة رواه الدارقطني في
( سننه) وقال أبو بكر النيسابورى ....)) .
أقول : أما عبد الحق فلا أراه إلا اعتمد على رواية الرمادي ،وأما ابن التركماني فالمعتبة عليه فإنه ينقل كثيراً عن ( مصنف ابن أبي شيبة ) نفسه ، بل نقل عنه بعد أسطر أثر علي ، فما باله أعرض هنا عن النقل عنه ،وتناوله من بعيد من ( أحكام عبد الحق ) ؟! وأمات الزيلعي فلا أراه إلا اعتمد على رواية الدارقطني عن النيسابوري عن الرمادي ، فإما أن لا يكون راجع ( المصنف ) لظنه موافقته لما الرمادي ، وإما أن يكون حمل الخطأ على النسخة التي وقف عليها من ( المصنف ) خطأ كما قاله الرمادي . والله المستعان .
الثامن : زائدة بن قدامة عند البخاري في ( صحيحة ) في (( غزوة خيبر )) رواه البخاري عن الحسن بن إسحاق عن محمد بن سابق عن زائدة ((....قسم ا لرسول الله r يوم الخيبر للفرس سهمين وللرجل سهماً . فسره نافع فقال : إذا كان مع الرجل فرس فله ثلاثة أسهم فإن لم يكن له فرس فله سهم )) وهذا التفسير يدل أن الصواب في المتن ((للرجل )) لكن وقع في نسخ ( الصحيح ) كما رأيت ،وزائدة متقن لكن شيخ البخاري ليس بالمشهور ، ومحمد بن سابق ، قال ابن حجر في ترجمته من الفصل التاسع من ( مقدمة الفتح ) : (( وثقة العجلي وقواه أحمد بن حنبل وقال يعقوب بن شيبة : كان ثقة وليس ممن يوصف بالضبط . وقال النسائي : لا بأس به ،وقال أبن أبي خيثمة عن ابن معين : ضعيف . قلت ليس له في البخاري سوى حديث واحد في (( الوصايا )) ... وقد تابعه عليه عبيد الله بن موسى )) . كذا قال وفاته هذا الحديث ، وعذر البخاري أنه رأى أن الوهم في هذا الحديث يسير يجبره التفسير . ومع ذلك فلم يذكره في (( باب سهمان الخيل )) وإنما ذكره في (( غزوة خيبر )) .
التاسع : ابن المبارك رواه عته علي بن الحسن بن شقيق كما في ( فتح الباري ) ، ذكر روايو الرمادي عن نعيم عن ابن المبارك الآيتة ولفظها (( .... عن النبي r أنه اسهم للفارس سهممين وللرجل سهماًَ ، ثم قال : (( وقدجرواه على ابن الحسن ابن شقيق – هو أثبت من نعيم – عن ابن المبارك بلفظ : أسهم للفرس )) ولم يذكره بقية لأنه إنما اعتنى بلفظ الفارس والفرس وقد قال قبل ذلك : (( ..... فيما رواه احمد ابن منصور الرمادي عن أبي بكر بن أبي شيبة ... بلفظ : أسهم للفارس سهمين قال الدارقطني .... )) . فأما ما رواه الدارقطني ص 469 (( حدثنا أبو بكر النيسابوري نا أحمد بن منصور (الرمادي) نا نعيم بن حماد نا ابن المبارك ..... عن النبي r أنه أسهم للفارس سهمين وللرجل سهماً . قال أحمد كذا لفظ نعيم عن ابن المبارك ، والناس يخالفونه . قال النيسابوري : ولعل الوهم من نعيم لان ابن المبارك من اثبت الناس )) .
أقول : نعيم كثير الوهم ، وكلام الحنيفة فيه شديد جذاً كما في ترجمته من قسم التراجم ، ولكني أخشى أن يكون الوهم من الرمادي كما وهم على أبي بكر بن أبي شيبة. ولا أدرى ما بليته في هذا الحديث مع انهم وثقوه . وقال ابن تركماني : ((رواه ابن تركمانى عن عبيد الله بإسناده فقال فيه : للفارس سهمين وللرجل سهماً ذكره صاحب ( التمهيد ) )) .
أقول : وهذه معقبة أخرى على ابن التركمانى ، إذا لم يذكر أن صاحب ( التمهيد ) إنما رواه من طريق الرمادي عن نعيم ! والله المستعان .
العاشر : حماد بن سلمة . قال الدار قطنى ص 468 (( حدثنا أبو بكر النيسابوري نا أحمد ابن يوسف السلمي نا النضر بن محمد بن موسى اليمامى نا حماد بن سلمة .... أن الرسول الله r أسهم للفارس سهماً وللفرس سه . خالفه حجاج بن المنهال عن حماد فقال : للفارس سهمين وللرجل سهماً )) .
أقول : حماد كثير الخطأ إنما ثبتوه فيما يرويه عن ثابت وحميد ، وكلام الحنيفة فيه الشديد كما تراه في ترجمته من قسم التراجم ، وأولى روايتيه بالصحة ما وافق فيه الثقات الأثبات .
وفي الباب مما يدل على ان للفرس سهمين ولصاحبه سهماً
في ( نصب الراية ) ج 3 ص 416 عن الطبراني ( الأوسط) : (( ثنا محمد بن عبد الله الحضرمي ثنا هشام بن يونس عن أبي معاوية عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن أبن عمر عن عمر أن النبي r أسهم له يوم خيبر ثلاثة أسهم سهما له . وسهمين لفرسه )) ، قال الطبراني : (( ورواه الناس عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر عن النبي r . وهذا تفرد به هشام ابن يونس عن أبي معاوية )) .
أقول : وقد رواه جماعة عن أبي معاوية فلم يقولوا فلم يقولوا (( عن عمر )) وقالوا : (( أسهم للرجل )) نعم وقع في ( سنن أبي داود ) عن أحمد عن أبي معاوية (( أسهم لرجل )) وهذا كأنه يشد من رواية هشام ، وهشام ثقة ، ولا يبعد أن يكون الحديث عند عبيد الله عن نافع من الوجهين ، ولكن الناس أعرضوا عن هذا لخصوصة بعمر ،وعنوا بالآخر لعمومه .
وروى عن سعيد بن عبد الرحمن الجمحي عند النسائي ، ومحاضر بن المورع عند الدارقطني ص 471 (( عن هشام بن عروة عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن جده أنه كان يقول : ضرب رسول الله r عام خيبر للزبير بن العوام أربعة أسهم سهماً للزبير وسهماً لذي القربى لصفية بنت عبد المطلب أم الزبير وسهمين للفرس )) سعيد ومحاضر من الرجال مسلم وفي كل منهما مقال ، واقتصر النسائي في (( باب سهمان الخيل )) على هذا الحديث ، ولم يتعقبه بشيء ،وذاك يشعر بأنه صحيح عنده لا يضره الخلاف . وقد رواه عيسى بن يونس عند ابن أبي شيبة ، ومحمد بن بشر العبدي عند الدارقطني ص 417 ، واتبن غيينة عند الشافعي كما في ( مسند ) بهامش ( الأم) ج 6 ص 250 ثلاثتهم عن هشام عن يحيى مرسلاً ، ولفظ ابن عيينه (( أن الزبير بن العوام كان يضرب في المغنم بأربعة أسهم ، سهم له ، وسهمين لفرسه ، وسهم في ذوي القربى )) وعند الدارقطني ص 417 عن إسماعيل بن عياش عن هشام بن عروة روايتان إحداهما عن أبيه عن عبد الله بن الزبير عن الزبير قال (( أعطاني رسول الله r يوم بدر أربعة أسهم .......)) والأخرى : عن عباد بن عبد الله بن الزبير عن الزبير .. )) بمعناه ،وإسماعيل يخلط فيما يرويه من غير الشاميين . وفي ( مسند أحمد ) ج 1 ص 166 (( ثنا عتاب ثنا عبد الله ثنا فليح بن محمد عن المنذرين الزبير عن أبيه أن النبي r أعطى الزبير سهماً وأمه سهماً وفرسه سهمين ى ذكره9 أحمد في ( مسند الزبير )) وليس من عادة أحمد في ( المسند ) إخراج المراسيل . وعتاب هو ابن زياد المروزي وثقة أبو حاتم وغيره ولم يغمزه أحد ، وعبد الله هو ابن المبارك وقد تصفحت على بعضهم كلمة (( بن )) بين محمد والمنذر ، فجرى البخاري في تاريخه ومن تبعه على ذلك كما في ترجمة فليح في ( تعجيل المنفعة ) . ولم يذكر البخاري من رواه كذلك عن ابن المبارك ، فالصواب إن شاء الله رواية أحمد . أما فليح فغير مشهور لكن رواية ابن المبارك عنه تقوية .
وفي الباب من حديث أبي عمرة عند أحمد في ( المسند ) ج 4 ص 138 ، أبي داود في ( السنن ) ، والدار قطني ص 468 ، وابن منده كما في ترجمة أبي عمرة ( من الإصابة ) .
ومن الحديث ابن عباس والمقداد وأبي رهم وأبي رهم وأبي كبشة وجابر وأبي هريرة ، تراها عند الدارقطني وغيره ، كاها متفقة على أن للفرس سهمين ولصاحبه سهماً . وفي (مصنف ابن أبي شيبة) مراسيل عن مجاهد وخالد بن معدوان و مكحول وغيرهم وقد تقدم بعضها ، كمرسل صالح بن كيسان ومرسل بشير بن يسار . وفي ( المصنف ) : (( ثنا عبد الرحيم بن سليمان عن أشعث بن سوار عن الحسن وابن سيرين قالات : كانوا إذا غزوا فأصابوا الغنائم قسموا للفارس من الغنيمة حين تقسم ثلاثة أسهم سهمين له ، وسهماً لفرسه وسهماً للراجل )) وفيه (( حدثنا جعفر بن عون عن سفيان عن سلمة بن كهيل : ثنا أصحابنا عن أصحاب محمد r أنهم قالوا : للفرس سهمان وللرجل سهم )) وفيه حدثنا محاضر قال : ثنا مجالد عن عامر ( الشعبي ) قال : لما فتح سعد عن أبي وقاص ( جلولا ) أصابة المسلمون ثلاثين ألف ألف مثقال فقسم للفارس ثلاثة آلاف ، وللرجل ألف مثقال )) وفيه (( حدثنا وكيع قال : ثنا سفيان عن هشام عن الحسين قال : لا يسهم لأكثر من فرسين فإن كان مع الرجل فرسان أسهم له خمسة أسهم أربعة لفرسيه وسهم له )) وفي ( نصبالراية ) ج3ص419 (( قال سعيد ابن منصور ثنا فرج بن فضالة ثنا محمد بن الوليد الزبيدي عن الزهري أن عمر ابن الخطاب كتب إلى أبي عبيدة بن الجراح أن أسهم للفرس سهمين وللفرسين أربعة أسهم ولصاحبها سهماً فذلك خمسة أسهم وما كان فوق الفرسين فهو جنائب )) .
وفي ( سنن الدارقطني ) ص 470 عن خالد الحذاء ( وقد رأى أنساً ) قال : (( لا يختلف فيه عن النبي r قال : للفارس ثلاثة وللرجل سهم )) . وذكر الأستاذ ص 87 عن كتاب ( اختلاف الفقهاء ) لابن جرير عن مالك قال : (( إني لم أزل أسمع أن للفرس سهمين وللرجل سهماً )) .
المسألة الثانية عشرة
أما على القاتل بالمثقل قصاص ؟.
في ( تاريخ يغداد ) 13 / 332 عن غبراهيم الحربي قال : (( كان أبو الحنيفة طلب النحو .. فتركه ووقع في الفقه فكان يقيس ولم يكن له علم بالنحو فسأله رجل بمكة فقال له : رجل شجّ رجلاً بحجر . فقال : هذا خطأ ليس عليه شيء لو أنه حتى يرميه بأبا قبيس لم يكن عليه شيء )) قال الأستاذ ص23 : (( وأدلة أبي حنيفة في حكم القتل بالمثقل مبسوطة في كتب المذهب ...... وقد صحت أحاديث وآثار عند النسائي ,أبي داود وابن ماجه وابت حبان وأحمد وابن راهوية وابن أبي شيبة وغيرهم يؤيد ظاهرها هذا المذهب،وقد صحت احاديث .... )) قوله : منها حديث عبد الله بن عمرو عن النبي r : ألا إن دية الخطأ شبه العمد ، وما كان بالسوط والعصا مائة من الإبل . أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان بسند صحيح . ومنها حديث ابن عباس عن النبي r : شبه العمد قتيل الحجر والعصا فيه الدية مغلظة . أخرجه ابن راهوية . ومنها حديث ابن عباس في دية القاتلة بمسطح - وهو عود من أعواد الخباء – أخرجه عبد الرزاق . إلى غير ذلك من الأحاديث )) .
أقول : في هذه القضية آيات من كتاب الله عز وجل أعرض عنها الأستاذ !
الآية الأولى : قوله تعالى : [ وما كان لمؤمنٍ أن يقتلَ مؤمناً إلا خطأً ومن قتلَ مؤمناً خطأً فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله ] إلى قوله : [ ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم ] الآية -سورة النساء : 92-93 .
من المعلوم في العربية أن عمد القتل وتعمده هو قصده ، وأن وقوعه خطأ هو أن يقع بلا قصد . ولا ريب أنه إذا كان هناك قتل يوصف بأنه خطأ شبيه بالعمد فإنما هو أن يتعمد سبب القتل كالضرب مثلاً ولا يقصد القتل ، وإنما يقصد الإيلام بلا قتل ، فهذا القتل خطأ لأنه لم يقصد ولكنه شبيه بالعمد من جهة أن سببه متعمدة . ولا يشك عاقل أن من عمد إلى طفل أو أو ضعيف فوضع رأسه على صخرة وجاء بأخرى فضرب بها رأسه حتى فضحه حبلاً في عنقه ثم شد طرفه بشجرة ثم جذب طرفه الآخر جذباً شديداً راسه وعنقه وصدره وظهره حتى مات فقد قتله عمداً فقد خرج عن لغة العرب.
ألاية الثانية : قوله تعالى : [ كتب عليكم القصاص في القتلى ] الآية –البقرة 178 نصت ألاية على وجوب القصاص في كل قتيل يتأتي فيه ، القصاص يدل على المماثلة ، والمقصود المماثلة في المعاني التي يعقل لها دخل في الحكم ، فلا تتناول القتيل بحق لأن قتل قاتلة يكون بغير حق ،ولا القتيل خطأ محضاً لأن قتل قاتلة إنما يكون عمداً ،ولا القتيل الذي دلت شواهد الحال على أنه إنما قصد إيلامه لا قتله كالمضروب ضربات يسيره بسوط أو عصا خفيفة لأن قتل قاتلة يكون مقصوداً . وتتنازل الآية القتلى في الصور المتقدمة سابقاً وهي فضح الرأس وما معه ونحوها إذا كان بغير حق ، لأنه قصد فيها سبب القتل وقصد فيها القتل ، وقتل القاتل يقتضي مثل ذلك بدون زيادة فهو قصاص ، فالآية تنص على وجوب القصاص في تلك الصور ونحوها حتماً .
الآية الثالثة : قوله عز وجل [ ومن قُتِلَ مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً فلا يُسرف في القتل إنه كان منصوراً ] الإسراء -33والإسراف هو تعدي المماثلة التي تقدم بيانها ، أو قل: تعدي القصاص ، فمن قُتل بحق فلم يقتل مظلوماً ، ولا يكون قتل قاتلة إلا إسرافاً ، وبقية الكلام كما في الآية السابقة ، وقتل القاتل في تلك الصور التي منها فضخ الرأس و ما معه وما في معناها لا يتعدي المما ثلة المعتبرة فلا إسراف فيه فقد جعل الله تعالى للولي سلطاناً عليه ، وذلك شرع القصاص .
الآية الرابعة : قوله سبحانه [ ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون ]البقرة -179
ولا ريب أنه إذا لم يكن في القتل قصاص لم يتقه الناس ، فيتحرون القتل بالمثقل عدواناً وانتقاماً فيفوت المقصود من شرع القصاص .
الآية الخامسة قوله
تعالى : [ وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ]
النحل – 126.الآية السابعة : قوله تعالى [ فمن اعتدى عليكم فاعتدوا بمثل ما اعتدي
عليكم واتقوا الله ] البقرة -194 .
الآية الثامنة : قوله تبارك وتعالى [ وجزاء سيئة سيئة مثلها ] الشورى – 40
وأما الأحاديث التي ذكرها الأستاذ فحديث (( ألا إن دية الخطأ شبه العمد ...)) مختلف في إستاده فقيل عن القاسم بن ربيعة مرسلاً ،وقيل عنه عن عبد الله بن عمرو مرفوعاً . وقيل عنه من عقبة بن أوس مرسلاً ، وقيل عنه عن عقبة عن رجل من الصحابة ، وقيل غير ذلك ،وقد ساق النسائي أكثرتلك الوجوه . وذلك الاختلاف والاضطراب قد يتسامح فيه إذا لم يكن المتن منكراً ، ومن قواه من المحدثين لا يرى معناه ما يزعمه الحنفية مما يخالف الكتاب والسنة الصحيحة ،ولو رأى أن ذلك معناه لأنكره فرده بذلك وبذاك الاختلاف والاضطراب (1) مع ذلك فعقبة بن أوس المتفرد به غير مشهور ، وإنما وثقه من من عادته توثيق المجاهيل وإن كانوا مقلين إذا لم ير في حديثهم ما ينكره ، وقد شرحت ذلك في الأمر الثامن من القاعدة السادسة من قسم القواعد . ولو رأوا أن معنى هذا الحديث ما يزعمه الحنفية لما أثنوا على عقبة ، بل لعلهم يجرحونه بمقتضى قاعدتهم في جرح المتفرد بالمنكر ،ولا سيما إذا كان مقلاً غير مشهور . والحنفية يردون الأحاديث الصحيحة الصريحة التي لا مطعن في أسانيدها البتة بدعوى مخالفتها للقرآن حيث لا مخالفة كما مر في المسألة السابعة ،وكما يأتي في مسألة الخامسة عشرة ، فكيف يسوغ لهم أن يتشبثوا بهذا الحديث مع ما في سنده من الاختلال ومع وضوح مخالفة معناه الذي يعتمدونه للقرآن . فإن قيل : وهل يحتمل معنى آخر ؟ قلت نعم ، وبيان ذلك أن من القتل ما يتبين فيه أن القاتل قصد القتل ، كالصور التي تقدم التمثيل بها من فضح الرأس وما معه ونحو ذلك وما يقرب منه . ومنه ما يتردد فيه أقصد أم لم يقصد كمن ضرب رجلاً ضربات يسيره بسوط أو عصا كبيرة فضرب رأسه فقتله . ومنه ما يتبين أنه لم يقصد كمن ضرب رجلاً ضربات يسيره بسوط أو عصا خفيفة فمات فهذه ثلاثة أضرب وقوله في أول الحديث : (( ألا إن دية الخطأ شبه العمد )) مُخْرجٌ للضرب الأول حتماً لأنه عمد محض لا يعقل أن يسمى خطأ شبه عمد ، فبقى الأ خيران والظاهر أنه شامل لهما . أما الثالث فواضح وأما الثاني فلأنه إذا لم يتبين قصد القتل فالأصل عدمه . فقوله بعد ذلك : ((ما كان بالسوط والعصا)) حقه أن يكون تقيداً ليخرج من الضرب الثاني ما كان بسلاح لأن استعمال السلاح يدل على قصد القتل ،وإن كانت قد تدافعه قرينة أخرى فيقع التردد ،ومن الحكمة في ذلك زجر الناس عن استعمال السلاح حيث لا يحل لهم القتل ، وفي ( صحيح مسلم ) من حديث أبي هريرة (( قال رسول الله r : لا يشتر أحدكم إلى أخيه بالسلاح فإنه لا يدري أحدكم لعل الشيطان ينزع في يده فيقع في حفرة من النار )) . وفيه من حديثه أيضاً (( من أشار إلى أخيه بحديدة فإن الملائكة تلعنه حتى وإن كان أخاه لأبيه وأُمه )) . وفي ( المستدرك ) ج4 ص290 من حديث جابر قال : (( نهي رسول الله r أن يتعاطى السيف مسلولاً )) ومن الحديث أبي بكرة قال : (( مر رسول الله r على يتعاطون سيفاً مسلولاً ، فقال رسول ألله r : لعن الله من فعل هذا ، أو ليس قد نهيت عن هذا ؟ إذا سل أحدكم سيفاً ينظر إليه فأراد أن يناوله أخاه فليغمده ثم ليناوله إياه )) وعلى ذاك المعنى فكلمة (( ما)) من قوله : (( ما كان بالسوط والعصا )) إما موصولة بدل بعض من (( الخطأ شبه العمد )) وإما مصدرية زمانية ، أي : وقت كونه بالسيف والعصا ، كما قيل بكل من الوجهين فيما قصة الله تعالى عن شعيب : [ إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت ] . هود : 88 .
ويؤيد ذلك أن في بعض الروايات عند النسائي وغيره منها رواية أيوب عن القاسم ورواية هشيم عن خالد الحذاء عن القاسم (( .... الخطأ شبه العمد بالسوط والعصا ...)) ليس فيه (( ما كان )) والتقييد في هذا ظاهر . على أن الشارع وإن قضى بأنه إذا كان القتل بسلاح ونحوه عمد حيث يتردد في القصد فإنه يبالغ في حض ولي الدم على أن لا يقتص . أخرج أبو داود في ( السنن ) من حديث أبي هريرة قال : (( قتل الرجل في عهد النبي r فرفع ذلك إلى النبي r فدفعه إلى ولي المقتول ، فقال القاتل : يا رسول الله والله ما أردت قتله ، قال فقال رسول الله r للولي : أما إنه إن كان صادقاً ثم قتلته لتدخلن النار . قال : فخلى سبيله )) ثم أخرجه من حديث وائل بن حجر وفيه (( قال كيف قتلته ؟ قال ضربت رأسه بالفأس ولم أرد قتله .... قال للرجل : خذه فخرج به ليقتله فقال رسول الله r : أما إنه إن قتله كان مثله ....)) وحديث وائل في ( صحيح مسلم ) وفيه (( كيف قتلته . قال : كنت أنا وهو نختبط من شجرة فسبني فأغضبني فضربته بالفأس على قرنه فقتلته ......)) وفي رواية (( فلما أدبر قال رسول الله r : القاتل والمقتول في النار....)) وتأوله بعضهم على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان سأل الولي أن يعفو فأبى . وهذا ضعيف من وجهين : الأول : انه ليس في القصة من الأمر بالعفو إلا بالعفو إلا ماوقع من بيان الإثم أو ما بعده . الثاني : أنه ليس من سنة النبي r أن يأمر أحداً بترك حقه أمراً جازماً يأثم المأمور إن لم يمتثله وقد رغب r إلى أبي بريرة لما عتق أن لا تفسح نكاح زوجها فقالت : أتأمرني يا رسول الله ؟ قال : لا ، وإنما أنا أشفع . قالت : فلا حاجة لي فيه . ولم يعقب هو بأبي وأُمي ولا أحد من أصحابه على بريرة . فالصواب ما دل عليه حديث أبي هريرة أن إثم الولي إن قتل إنما هو مبني على قول القاتل : لم أرد قتله . مع قوة احتمال صدقه . وقد ذكر الطحاوي في ، مشكل الآثار ) ج 1ص 409 الحديث ثم قال : (( فكان معنى ذلك والله أعلم أن البينة التي كانت شهدت عليه بقتله لأخي خصمة شهدت بظاهر فعله الذي كان عندنا أنه عمد له لا شك عندنا فيه ،وكان المدعى عليه أعلم بنفسه وأيما كان منه من ذلك فادعى باطناً كان منه في ذلك لا بحجة معه......)) .
أقول : لم أر في شيء من الروايات لإقامة بينة أي شهود بل في بعض الروايات أن الولي قال : (( أما إنه لو لم يعترف لأقمت عليه البينة )) فإنما كان في الواقعة اعترف الرجل بالضرب وبتعمده وبآلته وصفته ، وضرب الرأس بالفأس يقتضى قصد القتل ، إلا أن هناك ما عارضه وهو وبتعمده وبآلته وصفته ،وضرب الرأس بالفأس يقتضي قصد القتل ، إلا أن هناك ما علرضه وهو أنه لم يسبق بينهما عداوة وكانت الفأس بيد الجاني يختبط بها فثار غضبه بسبب السب فضرب بما كان في يده وادعى أنه لم يرد القتل وأقسم على ذلك . فالحديث يدل أنه في مثل هذه الحال يقضى بأن القتل عمدٌ تأكيد للزجر عن القتل والتنفير عنه ،ولا يمنع الولي من الاقتصاص ولكنه يحرم عليه فإن قيل : وكيف لا يمنع مما يحرم عليه؟ وقلت : لأنه لو منع منه حكماً لفات المقصود من تأكيد الزجر عن القتل . ويشبه هذا ما ثبت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كا يعطى الملحف في السؤال وإن كان غير مستحق ، وفي ( مسند أحمد ) و ( المستدرك ) وغيرهما من حديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وآله سلم قال : (( أما والله إن أحدكم ليخرج بمسألته من عندي يتأبطها وما هي إلا نار . قال عمر : لم تعطيها إياهم ؟ قال : ما أصنع ؟ يأبون إلا ذلك ويأبى الله لي البخل )) . وفي (صحيح مسلم ) من حديث عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : (( إنهم خيروني أن يسألوني بالفحش أو يبخلوني ، فلست بباخل )) (1) .
فإذا حمل ذاك الحديث على معنى الذي ذكرنا لم يكن مخالفاً لكتاب الله عز وجل ولا للسنة الصحيحة ولا للنظر المعقول ، فلا يكون منكراً ،وعلى هذا بنى من قواه من المحدثين ووثق راويه المتفرد به مع ما فيه من الخلل . فإن أبى الحنفية إلا المعنى الذي يتشبثون به قلنا فعلى ذلك يكون الحديث منكراً فيرد ويضعف راوية اتفاقاً .
خذ أنف هرشى أو قفاها فإنما كلا جانبي هرشى لهن طريق
علىانه سيأتي في الحديث الثاني التقييد بأن يكون القتل في مناوشة بين عشيرتين بدون ضغينة ولا حمل سلاح فيقتل رجل لا يدرى من قاتله . وعلى هذا فلو صح هذا الحديث وكان مطلقاً لوجب حمله على ذاك المقيد . ومقتضى الحديث انه في تلك الصورة يقضى بأن القتا شبه عمد فينظر في العشيرتين المتناوشتين فأيتهما كان المقتول منها كانت ديته مغلظة علىالأخرى ، لأن الظاهر أن القاتل منها وأنها عاقلته ، فأما إذا كان هناك ضغينة وحمل سلاح فإنه يقضى بأن القتل عمد فيجعل قسامة،وأماإذا عرف القاتل فله حكمه . والله أعلم .
قول الأستاذ : (( منها حديث ابن عباس عن النبي r : شبه قتيل الحجر والعصا فيه الدية مغلظة . أخرجه أبن راهوية )) .
أقول : ذكرناه الزيلعي في ( نصب الراية ) ج4ص332 وذكر أن ابن راهوية رواه عن عيسى بن يونس عن إسماعيل بن مسلم عن عمرو بن دينار عن أبن عباس ، وأنه مختصر ، وأحال يتمامه على ما تقدم له يعني ج4ص327 الحديث هناك : (( العمد قود إلا أن يعفو ولي المقتول ، والخطأ عقل لا قود فيه ، وشبه العمد قتيل العصا والحجر ورمي السهم فيه الدية مغلظة من اسنان الابل )) نسبه إلى ابن راهوية بالسند نفسه . والحديث في ( سنن الدارقطني ) ص328 من طريق : ((يزيد بن هارون نا إسماعيل بن مسلم عن عمرو بن دينار عن أبن عباس قال : قال رسول الله r : العمد قود اليد ،والخطأ عقل لا قود فيه،ومن قتل في عمية بحجر أو عصا أو بسوط فهو دية المغلظة في أسنان الإبل )) . وإسماعيل بن أمية ضعيف وقد اضطرب كما رأيت وجعل فيه في رواية ابن راهوية رمي السهم وهو عمد عند الحنفية . ورواه أبو داود وغيره من طريق سليمان بن كثير عن عمرو بن دينار عن طاوس عن أبن عباس يرفعه (( من قتل في عميا أو رمياً تكون بينهم بحجر أو سوط فعقله عقل خطأ ،ومن قتل عمداً فقود يده )) . سليمان متكلم فيه . ورواه الدارقطني ص 328 من طريق الحسن بن عمارة عن عمرو عن طاوس عن أبن عباس مرفوعاً . والحسن بن عمارة ضعيف جداً . ورواه الدارقطني ص 327 من طريق حماد بن زيد عن عمرو بن دينار بسنده .والصحيح عن حماد أنه رواه مرسلاً ، قال أبو داود في باب (( عفو النساء عن الدم )) : (( حدثنا محمد بن عبيد نا حماد ، ح ونا ابن السرح نا سفيان وهذا حديثه عن عمرو عن طاوس قال : من قتل . وقال ابن عبيد قال رسول الله r : من قتل عنداً في عميا في رمي يكون بينهم بحجارة أو بالسياط أر ضرب بعصا فهو خطأ وعقله عقل الخطأ ومن قتل عمداً فهو قود ،وقال ابن عبيد : قود يد ....... وحديث سفيان أتم )) . ورواه ابن السرح عن سفيان بن عيينة عن عمرو عن طاوس قوله كما مر عن أبي داود ، ولكن رواه الشافعي كما في ( سنن البيهقي ) ج8ص45 عن سفيان عن عمرو عن طاوس عن النبي r . ورواه البيهقي من طريق الوليد بن مسلم عن أبن جريج عن طاوس عن أبن عباس مرفوعاً ، والوليد شديد التدليس يدلس التسوية . وقد رواه الدارقطني ص 328 من طريق : (( عبد الرزاق أنا ابن جريح أخبر عمرو بن دينار أنه سمع طاوس يقول : أرجا يصاب في الرمي في القتال بالعصا أو بالسياط أو الترامي بالحجارة يودى ولا يقتل به من أجل أنه لا يعلم من قاتله ؟ )) قال ابن جريج : (( وأقول : ألا ترى إلى قضاء رسول الله r في الهذليتين : ضربت إحدهما الأخرى بعمود فقتلها ، إذ لم يقتلها بها ووداها وجنينها . أخبرناه ابن طاوس عن أبيه لم يجاوز طاوس )) .
أقول : قصة الهذليتين ستأتي .
وأخرج أيضاً من طريق : (( عبد الرزاق أنا ابن جريج أخبرني أبن طاوس عن أبيه ، قال(1) عند أبي كتاب فيه ذكر العقول جاء الوحي إلى النبي r .... ففي ذلك الكتاب وهو عن النبي r : قتل العمية ديته دية الخطأ ، الحجر والعصا والسوط ما لم يحمل سلاحاً )) ومن طريق (( عبد الرزاق عن معمر عن طاوس عن أبيه أنه قال : من قتل في عمية رمياً بحجر أو عصا أو سوط ففيه دية المغلظة )) .
فالروايات الصحيحة تجعله عن طاوس من قوله أو عنه عن النبي r مرسلاً ، وتفسيره بما سمعت ، وقد مر توجيه ذلك في آخر الكلام على الحديث السابق فلا متشبث فيه للحنفية .
و (العميا فسرها أهل الغرب كما في ( النهاية ) بقولهم : (( أن يوجد بينهم قتيل يعمي أمر ، ولا يتبين قاتله )) .
وأخرجه الدار القطني من طرق إدريس بن يحيى الخولاني : (( حدثني بكر بن مضر حدثني حمزة النصيبي عن عمر بن دينار حدثني طاوس عن أبي هريرة عن النبي r قال : من قتل في عميا رمياً تكون بينهم ..... )) ثم أخرجه من طريق عثمان بن صالح : (( أنا بكر بن مضر عن عمرو بن دينار ... )) ومن وجه آخر عن عثمان بن صالح : (( نا بكر بن مضر عن عمرو بن الحارث عن عمرو بن دينار )) .
حمزة النصيبى هالك , وعثمان بن صالح في نفسه لكنة من الذين ابتلوا بخالد بن نحبيح ، كانوا يسمعون معه فيملي عليهم ويخلط . وخالد هالك .
قول الأستاذ : (( ومنها حديث ابن عباس في دية القاتلة بمسطح ـ وهو عود من أعواد الخباء ـ أخرجه عبد الرزاق )) .
أقول : جاءت القصة من رواية جماعة من الصحابة :
الأول : زوج المرأتين حمل بن مالك بن النابعة ومنه سمعة ابن عباس ، ففي ( مسند أحمد ) ج 4 ص 80 (( ثنا عبد الرزاق قال : أنا ابن جريح قال : أنا عمرو بن دينار أنه سمع طاوسـاً يخبر عن ابن عن عمر رضي الله عنه أنه نشد قضاء . رسول الله r في ذلك، فجاء حمل ابن مالك بن النابغ فقال : كنت بين بيتي امرأتي فضربت إحداهما الأخرى بمسطح فقتلتها وجنينها ، فقضى النبي r في جنينها بغرة وأن تقتل بها . قلت لعمرو : لا ، أخبرني عن أبيه بكذا وكذا قال : لقد شككتني )) . ورواه أبي داود عن أبي عاصم عن أبن جريج بمعناه إلى قوله : (( أن تقتل )) وبعده : (( قال أبو داود قال النضر بن شميل : المسطح وهو الصوبج . قال أبو عبيد : السطح عود الخباء )) .
ورواه البيهقي ج8ص43 من طريق عبد الرزاق بنحوه وفيه من قول ابن جريج : ((فقلت لعمرو : أخبرني ابن طاوس عن أبيه أنه قضاء بديتها وبغرة عن جنبيها . قال : لقد شككتني : ورواه النسائي من طريق عكرمة عن أبن عباس وفيه : (( فرمت إحداهما الأخرى بحجر )) . وروى الطبراني من طريق أبي المليح أبن أسامة الهذلي عن حمل بن مالك: (( أنه كان له امرأتان لحيانية ومعاوية ... فرفعت المعاوية حجراً فرمت به اللحيانية وهي حبلى فألقت جنيناً ، فقال حمل لعمران بن عويمر : ( أخي القاتلة ) أدّ إلى عقل امرأتي ، فأبى فترافعا إلى رسول الله r فقال : العقل على العصبة )) . وذكره ابن حجر في ترجمة عمران من ( الإصابة ) .
الثاني : أخو المقتولة عويم ، ويقال : عويمر الهذلي . في ترجمته من ( الإصابة ) : (( أخرج ابن أ[ي خثيمة والهيثم بن كليب والطبراني وغيرهم من طريق محمد بن سليمان بن سموأل أحد الضعفاء عن عمرو بن تميم بن عويم الهذلي عن أبيه عن جده قال : كانت أختي مليكة وامرأة منا يقال لها : أم عفيف ... تحت رجل منا يقال له : حمل بن مالك.... فضربت أم عفيف أختي بمسطح بيتها .... ))) .
الثالث : أسامة بن عمير الهذلي روى الطبراني من طريق أبي المليح بن أسامة الهذلي عن أبيه قال : (( أتى النبي r بامرأتين كانتا عند رجل من هذيل يقال له : عمران بن عويم.... فقال عمران : يا نبي الله إن لها ابنين هما سادة الحي وهم أحق أن يعقلوا عن أمهم . قال : أنت أحق أن تعقل عن أختك .... )) ذكره ابن حجر في ترجمة عمران من ( الإصابة ) وذكر في ( الفتح ) أن الحارث بن أبي أسامة أخرجه من طريق أبي المليح وفيه (( فخذفت إحداهما الأخرى بحجر )) .
الرابع : المغيرة بن شعبة وحديثه في ( صحيح مسلم ) وغيره من طرق عن منصور عن إبراهيم عن عبيد بن نضلة عن المغيرة وفيه (( بعمود فسطاط )) وفي رواية للترمذي (( بحجر أو ع ود فسطاط ....)) .
الخامس : أبو هريرة وحديثه في ( الصحيحين ) و غيرهما من طريق مالك عن ابن شهاب عن أبي سامة عن أبي هريرة (( أن إمراتين من الهذيل رمت إحداهما الأخرى فطرحت جنينها.... )) .
وفي رواية أخرى في ( الصحيحين ) من طريق يونس عن أبن سهاب بسنده وفيه ((فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلها ، وما في بطنها ....)) وفي ( صحيح البخاري ) في (( باب الكهانة )) من (( كتاب الطب )) من طريق عبد الرحمن بن خالد عن أبن شهاب ((.... فرمت إحداهما الأخرى بحجر فأصاب بطنها وهي حامل فقتلت ولدها الذي في بطنها ... )) وفيه (( ثنا قتيبة عن مالك عن ابن شهاب عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن امرأتين رمت إحداهما الأخرى بحجر فطرحت جنينها .... )) .
السادس : يزيدة الأسلمي أخرج أبو داوود والنسائي من طريق عبد الله بن يزيدة عن أبيه أن امراة حذفت ( أو خذفث) امراة فأسقطت .... ونهى يومئذ عن الحذف )) .
هذا ماتيسر الإشارة إليه من طريق القصة ، وقد رأيت الاختلاف في الفعل أضرب هو أم رمي أم حذف أم حذف . وفي الآلة : مسطح -حجر- عمود فسطاط . والطريق العلمية في مثل هذا أن يجمع فإن لم يمكن فالترجيح . فقد بقال أما الفعل فحذف لأن الحذف هو الرمي عن جانب فكل حذف رمي ،ولا عكس ، وإنما كان ذلك سبباً للنهي عن الحذف لأن كلاً منهما رمي بحجر ولتقاربهما لفظاً . وقد يطلق على الرمي ضرب كما مر في بعض الروايات (( ضربت امراة ضربتها بحجر )) أما الآلة فقد يقال إنها حجر كان صوبجاً وذلك أن في رواية زوج المراة (( بمسطح )) وفي رواية عنه (( بحجر )) وفي رواية أخي المفتولة (( بمسطح )) والمسطح كلمة مشتركة يطلق على الصوبيج وهو ما يرقق به العجين ويخبز وقد يكون عند أهل البادية حجراً ،ويطلق على عمود الخباء والفساط ، فجاء في رواية منصور عن إبراهيم عن عبيدة عن المغيرة (( بعمود فسطاط )) وفي رواية (( بحجر أو عمود فسطاط )) وفي رواية الأعمش عن ابراهيم (( بحجر )) فكأنه كان في أصل الرواية (( بمسطح )) . فحمله بعضهم على احد معنييه وبعضهم على الآخر، وشك بعضهم. وفي رواية أبي المليح عن أبيه (( بعمود خباء )) وفي الأخرى منه (( بحجر )) فكأنه كان في الأصل (( بمسطح )) وفي رواية أبي هريرة في ( الصحيحين )) (( بحجر )) ولم يختلف عليه ، فإن اتجه ذاك التوجية وإلا فما اتفق عليه الشيخان أرجح . إذا تقرر هذا فنقول : إن حذف المراة صاحبتها بحجر ليس مما يتبين به مطلقاً لا قصد القتل . ^ 87^
فإن قيل عدم استفصال النبي r يدل على أن القتل بمثل ذلك شبه عمد على كل حال، قلت : لم يذكر في شيء من الروايات اختلاف من الخصمين في القتل أعمد أم شبه العمد ؟ ولا فغي موجبة بل تقدم في رواية أبي المليح عن حمل (( فقال حمل لعمران بن عويمر ( أخي القاتلة ) أد إلى عقل أمرأتي فأبى فترافعا )) في روايته عن أبيه (( فقال عمران يانبي الله لها ابنين هما سادة الحي وهم احق أن أن يعقل عن أمهم )) . فقد اتفق الخصمان فبل الترافع وبعده على أن في القتل دية على العاقلة ،وإنما اختلفا في العاقلة التي تلزمها الدية في الواقعة الأخ أم الا بنان ؟ ومعنى ذلك اتفاقهما على أن القتل شبه عمد . وافرض أن خصمين ترافعا إلى قاض فقال أحدهما إن اخت هذا قتلتن أختي شبه عمد وهو عاقلتها فأطالبه بالدية ، فقال الآخر : قد صدق ولكن للقاتلة بنون وهم أحق أن يفعلوا عن أمهم. ألا ترى أنه لا حاجة بالقاضي إلى السؤال عن صفة القتل ، لتصادق الخصمين على أنه شبه عمد ، وإنما اختلفا في غيره ؟
قول الأستاذ : (( وقد أعل أبو حنيفة حديث الرضخ كما سيأتي )) .
أقول في ( تاريخ بغداد ) 13/387 من طريق (( بشر بن مفضل قال : قلت لأبي حنيفة .... قتادة عن أنس أن يهودياً رضخ رأس جارية بين حجرين فرضخ النبي r رأسه بين حجرين . قال هذيان )) . فهل هذا إعلال ؟ ! قال الأستاذ ص 80 : وأما حديث الرضخ فمروي عن أنس بطرلايق هشام بن زيد ، وأبي قلابة عنعنة ، وفيه القتل بقول المقتول من غير بينة ، وهذا غير معروف في الشرع ، وفي رواية قتادة عن أنس إقرار القاتل لكن عنعنة قتادة متكلم فيها(1))) . ثم راح يتكلم في أنس رضي الله عنه .
أقول : أما هشام فهو هشام بن زيد بن أنس بن مالك وحديثه هذا عن جدة في (الصحيحين) وغيرهما ، وهشام غير مدلس وسماعة من جده أنس ثابت ،ومع ذلك فالراوي عنه شعبة ومن عادته التحفظ من رواية ما يخشى فيه التدليس ، وحديثه في (الصحيحين) .
ومن عادتهما التحرز عما يخشى فيه التدليس فسماع هشام لهذا الحديث من جده أنس بن مالك ثابت على كل حال. وأما أبو قلابة فهو عبد الله بن زيد الجرمي وقد قال فيه أبو حاتم : (( لا يعرف له التدليس )) وذكر ابن حجر في ترجمة من ( التهذيب ) ما يعلم منه أن معنى ذلك أن أبا قلابة لا يروى عمن قد سمع منه إلا ما سمعه منه . وقد ثبت سماعه من أنس كما في قصة العرنيين وغيرهما وحديثه في ( الصحيح ) أيضا ، فالحكم في حديثه هذا أنه سمعه من أنس.
أما قتادة فمدلس لكنه قد صرح بالسماع . قال البخاري في ( الصحيح ) في (( باب إذا أقر بالقتل مرة قتل به )) : حدثني إسحاق أخبرنا حيان حدثنا همام حدثنا قتادة حدثنا أنس أبن مالك أن يهودياً رض رأس جارية بين حجرين ..... فجئ باليهودي فأعترف ، فأمر به النبي r فرض رأسه بالحجارة )) . وقد قال همام : - (( بحجرين )) وفي ((مسند أحمد )) 36 ص269 : (( ثنا عفان قال ثنا همام قال : أنا قتادة أن أنساً أخبره ... فأخذ اليهودي فجيء به فاعترف )) وتمام الكلام في ( الطليعة ) ص 101-103 وترجمة أنس من قسم التراجم ، وفي مقدمة ( التنكيل ) أوائل الفصل الثالث وفي أثناء الفصل الخامس .
قال الأستاذ : (( ومن رأية ( يعني أبا حنيفة ) أيضاً أن القود بالسيف فقط تحقيقاً لعدم الخروج عن المماثلة المنصوص عليها في الكتاب )) !
أقول : الخروج عن المماثلة كمل يكون بالعدوان ، فكذلك يكون بالنقصان ، وكما أن العدل يقتضي منع الولي من الأعتداء فكذلك يقتضي تمكينه من الاستيفاء ، ومن قتل إنساناً ظلماً برضخ رأسه بالحجارة فالقصاص أن يقتل مثل تلك القتلة ، فإن قيل : ربما يقع في هذا زيادة فخفيفة غير مقصودة ولا محققة ولا مانعة من أن يقال : إنه قتل مثل قتلته ، وفي تمكين الولي من ذلك شفاء لغيظة ، وتطييب لنفسه ، وزجر للناس ، وردع عم الجمع بين القتل ظلماً وإساءة القتلة ، وقد شرع الله تبارك وتعالى رجم الزاني المحصن إبلاغاً في الزجر ، والقتل ظلماً أشد من الزنا . نعم قال الله تبارك وتعالى [ وجزاء سيئةٍ سيئةٌ مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله ] وكما أن العفو قد يكون بترك المجازاة البتة فقد يكون بتخفيفها فغاية الأمر أن يكون الاقتصاص بضرب العنق أولى ، وعلى هذا يحمل ما ورد في ذلك على ذلك على ضعفه ومعارضة غيره له . والله الموفق .
المسألة الثالثة عشرة
لا تعقل العاقلة عبداً
قال الأستاذ ص 24 : (( قول صاحب القاموس ( ع ق ل ) : وقول الشعبي لا تعقل العاقلة عمداً ولا عبداً ... معناه أن يجني على عبد .... قال الأصمعي : كامت أبا يوسف بحضرة الرشيد فلم يفرق بين عقلته وعقلت عنه حتى فهمته )) قال الأستاذ : (( وعقلته يستعمل في معنى غقلت عنه ، قال الأكمل في ( العناية ) : وسباق الحديث وهو : لا تعقل العاقلة عمداً . وسياقه وهو : (( ولا صلحاً ولا اعترافاً )) يدلان على ذلك لأن معناه: عمن عمد وعمن اعترف اه ويؤيده ما أخرجه أبو يوسف في ( الآثار ) عن أبي حنيفة عن حماد بن غبراهيم أنه قال : لا تعقل العاقلة العبد إذا قتل خطأ . وما أخرجه محمد بن الحسن في (الموطأ ) عن عبد الرحمن بقن أبي الزناد عن أبيه عن عبيد الله بن عبد اله بن عتبة بن مسعود عن أبن عباس قال : لا تعقل العاقلة عمداً ولا صلحا ولا أعترافاً ولا ما جنى المملوك .... اه وما جنى المملوك نص على أن المراد بقوله : لا تعقل العاقلة عبداً أن العاقلة لا تعقل عن العبد الجاني رغم كل متقول . وأخرج البيهقي بطريق الشعبي عن عمر: العمد والعبد والصلح والاعتراف لا تعقله العاقلة . ثم قال : هذا منقطع ، والمحفوظ أنه من قول الشعبي )) ثم حكى عبارة أبي عبيد وفي آخرها (( قال أبو عبيد فذا كرت الأصمعي فقال : القول عندي ما قال ابن أبي ليلى وعليه كلام عرب ، ولو كان المعنى على ما قال أبو حنيفة لكان : لا تعقل العاقلة عن عبد )) ثم قال الأستاذ : (( ... ولا منافاة بين هذا وبين أن يأتي في لسان العرب : عقل عنه . بمعنى : ودى . بل : عقله . في هذا الباب بمعنى : عقل عنه . على الحذف والإيصال لأأن أصل الكلام : عقل فلان قولئم الجمال ليدفعها دية عن فلان . فاستغني عن المفعول الصريح وأوصل إلى المدفوع عنه بحذف –عن- وهذا من أسرار العربية ، والقصد من الآثار المروية عن عمر وابن عباس وإبراهيم النخعي والشعبي واحد .....))
أقول : عاقلة الانسان عصبته على تفصيل معروف في كتب العلم ، فإذا قتل حرّ حراً خطأ محظاً أو شبه عمد وثبت ببينة فالدية على عاقلة القاتلا ، ومن الحكمة في ذلك أن أولياء المقتول يطلبون بثأره ، ومن شأن عصبة القاتل أن تقوم دونه وهم محقون في ذلك فيقال لهم : من شأنكم أن تقدموا دونه فاغرموا مالزم بفعله . وإن كان القتل عمداً أو لم يثبت إلا باعتراف القاتل لم يلزم العاقلة شيء لأنهم قد يقولون في العمد : لو طلب دمه لم نقم دونه ولا يحل لنا ذلك وهو أوقع نفسه باختياره . ويقولون في الاعتراف : هو جر البلاء باختياره وهكذا إذا لم يلزم شيء إلا بمصالحته لأن ذلك كاعترافه .
وبقيت مسألتان :
الأولى : أن يقتل عبد حراً فليس في هذا شيء على عاقلة العبد ولا على عاقلة سيده . أما عاقلة العبد فلأنه مادام عبداً في معنى الأجنبي عنهم ، وأما عاقلة سيده فلأنهم يقولون : القاتل المطالب هو العبد ولا شأن لنا به ولا نقوم دونه .
الثانية : أن بقتل حر عبداً فقيل : إذا كان عمداً ثبت القود ، وقيل : لا قود بحال ، لأن هذا ليس من مظنة الفتنة ، فإن سيد العبد لا يهمه أن يأخذ بثأر عبده وإنما يهمه أن يأخذ مالاً يستعيض به منه . فأما إذا كان خطأ محضاً أو شبه عمد فلا قود اتفاقاً وإنما يجب المال ، واختلفوا في الواجب فقال قوم : الواجب قيمة العبد بالغة ما بلغت ، لأن سيده يستحق ما يعادل ما فاته ومقدار ذلك معروف وهو القيمة كما لو كان المقتول فرساً ، وإلى هذا رجع أبو يوسف وهو قول الشافعي وغيره . وقيل : الواجب دية لكن مقدارها هو القيمة بشرط أن لا تساوي دية الحر ولا تزيد عليها فإن ساوت أو زادت لم يجب إلا دون دية الحر بعشرة ، وهذا قول أبي حنيفة ولا يخفي فيه . ثم اختلفوا في تعزيم العاقلة ، فقال قوم : ليس عليها شيء لأنه إن كان الواجب قيمة فكما لو كان المقتول فرساً ، وإن كان دية فليس من شأن سيد العبد أن يطلب دم القاتل فيكون ذلك من مثار تعصب عاقلته . وقال أبو حنيفة : تلزم العاقلة . احتج مخالفوه بما روي عن الشعبي : لا تعقل العاقلة عمداً ولا عبداً ولا صلحاً ولا اعترافاً . فقال أبو حنيفة : إنما معنى هذا وارد في المسألة الأولى ،وهي أن يكون العبد هو القاتل فرده الأصمعي بما مر وأجاب الأستاذ بما سمعت .
وأقول : أما ما ذكر عن إبراهيم ، فقوله : (( قتل )) لا أدري أبا لبناء للفاعل أم المفعول، فإن كان للمفعول وهو الظاهر فهو نص في خلاف قول أبي حنيفة . فإن قيل : رواية أبي حنيفة له تدل على أنه عنده بالبناء للفاعل ، قلنا : بل رواية أبي يوسف له تدل أنه عنده بالبناء للمفعول ،والحق اطراح هذين فإن إبراهيم تابعي ،والعالم كأبي حنيفة وأبي يوسف قد يروي من أقوال التابعين ما لا يقول به ، لكن إذا ثبت أن المعروف في اللغة عقلت القتيل . دون : عقلت القائل . تبين أن الفعل في قول إبراهيم مبني للمفعول وهو الظاهر .
وأما الأثر عن أبن عباس فليس من الواجب مطابقته لما روي عن غيره ، بل هي خمس مسائل اتفق القولان على ثلاث ، وانفرد كل منها بواحدة ، ويتعين الجزم بهذا إذا كان المعروف في اللغة : عقلت القتيل ، لا عقلت القائل . فتبين أن المدار على اللغة .
فأما ما ذكره صاحب ( العناية ) فليس بشيء ، بل المعنى لا تعقل العاقلة دية عمد ولا قيمة عبد ولا واجب صلح ولا واجب اعتراف . وأما تحقيق الأستاذ فيقال له : العبارة التي زعمت أنها الأصل وهي (( عقل فلان قوائم الإبل ليدفعها دية عن فلان )) إنما تعطي بمقتضى العربية أن فلاناً الثاني هو القاتل فإننا نقول : (( دفعت عن فلان الدين الذي عليه ، وأديت عنه الدية التي لزمته )) ويصح أن يقال بهذا المعنى : (( وديت عنه )) أي : أديت عنه الدية التي لزمته ، فأما المقتول فإنما يقال : (( وديته )) وقد يقال : هذه دية من القتيل أي بدل عنه قال الشاعر :
عقلنا لها من زوجها عدد الحصى
قال ابن قتيببة في ( كتاب المعاني ) : (( يقول قتلنا زوجها فلم تجعل عقلة إلا همها ..... والمفعول يولع بلقط الحصى وعدة )) و(( من)) هذه هي البدلية متلها في قةله تعالى : [ٌ أرضيتم بالحياة الدينا من الآخرة ] وفي صغار كتب العربية أن (( عن)) للمجاوزة ، وإذا أديت الدية فإنما جعلتهال تجاوز ذمة القاتل كما تقول : اديت عن فلان الدين الذي كان عليه ،ولا معنى لمجاوزنها المقتول .
وبعد فلا ريب أن الأصل (( عقلت قوائم الإبل ، لكن استغنوا عن القوائم على كل حال فقالوا : (( اعقل ناقتك )) ثم كثر عقل الإبل في الدية فاستغنوا في ذكر الدية عنلفظ الإبل ، يقول ولي المقتول أو المصلح : اعقلوا . ويقول أولياء القايل سنعقل . وكثر ذلك حتى صار المتبادر من العقل في قضايا القتل معنى الدية فاستعمل في معناها حتى جمع جمعها فقيل : (( عقول )) بمعنى (( ديات)) فإذا قيل في قضايا القتل : عقلته . فمعناه : وديته . أي أديت ديته . وإذا قيل : عقلت عنه . فالمعنى : وديت عنه . أي أديت عنه الدية التي كانت مستقرة عليه فجعلتها تجاوزه . هذا هو المعروف في العربية .
المسألة الرابعة عشرة
تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعداً
في ( تاريخ بغداد ) 13/391 حكايتان عن أبي عوانة (( كنت عند أبي حنيفة جالساً فأتاه رسول من قبل السلطان .... فقال يقول الأمير : رجل سرق ودياً فما ترى ؟ فقال غير متعتع : ان كانت قيمته عشرة دراهم فاقطعوه .... )) قال الأستاذ ص92 : (( قال الامام محمد بن الحسن الشيباني في ( الآثار ): أخبرنا أبو حنيفة عن حماد عن إبراهيم : لا يقطع السارق في أقل من ثمن المجن ، وكان ثمنة يومئذ عشرة دراهم ولا يقطع بأقل من ذلك ... قال الإمام محمد في ( الموطأ) : قد اختلف الناس فيما تقطع اليد في أقل من عشرة دراهم ورووا ذلك عن النبي r وعن عمرو عن عثمان وعن على وعن عبد الله بن مسعود وعن غير واحد فإذا جاء الاختلاف في الحدود أخذ فيها بالثقة وهو قول أبي حنيفة والعامة من فقهائنا . يعنى أن ربع الدينار نحو ثلاثة دراهم والحدود أخذ فيها بالثقة وهو قول أبي حنيفة والعامة من فقهائنا . يعنى أم ربع الدينار نحو ثلاثة دراهم والحدود مما يدراً بالشبهات فالأ خذ برواية عشرة دراهم في القطع أحوط فيؤخذ بها حيث لم يعلم الناسخ من المنسوخ من تلك الآثار المختلفة )) .
أقول : رأيت للحنفية مسالك في محاولة التخلص من الأحاديث الصحيحة في هذه المسألة نشطت للنظر فيها هنا .
المسلك الأول هذا الذي تقدم ،وحاصله أن الدليلين إذا تعارضا عمل بالناسخ ،فإن لم يعلم فبالراجح . تعارضت الأدلة هنا ولم يعلم الناسخ فتعين العمل بالراجح . ومن المرجحات نفي الحد , أي أنه كان أحد الدليلين المتعارضين مثبتاً لحد والآخر نافياً له , كان ذلك مما يقتضي ترجيح الثاني . فالأحاديث الموجبة للقطع في ربع دينار مثبتة للحد في ما ساوى ذلك وما زاد عليه . والأحاديث الدالة على أنه لا قطع في أقل من عشرة دراهم نافية للحد فيما ذلك , فجاء التعارض فيما يساوى ربع دينار أو يزيد عله ولكنه لا يبلغ العشرة , ولم يعلم الناسخ فترجح النافي .
والجواب عن هذا أن ما يذكر في أنه لا قطع فيما دون العشرة لا يثبت كما ستراه مفصلاً فليس بدليل أصلاً . هبه ثبت فعد نفي الحد من المرجحان فيه نظر , وما يذكر فيه من السنة لا يثبت . هبه ثبت فلا حجه فيه للاتفاق على أن الحد يثبت بخير الواحد ونحوه مما يقول الحنيفة أنه دليل فيه شبهة , وإنما الشبهة التي يدراً بها الحد ما يقتضي عذراً ما للفاعل كمن أخذ ماله فيه حق , فإن له أن يقول : لم أسرق وإنما توصلت إلى أخذ حقي, وكالواطئ في نكاح بلا ولي فإن له أن يقول لم أزن وإنما أتيت امرأتي . فأما من يقول سرقت عالماً بأن السرقة حرام , لكن قد تعارضت الأدلة في أن سرقتي هذا توجب الحد . فلا عذر له , ولا يدرأ عنه الحد , كما لا يدرأ عمن قال : (( سرقت عالمـاً )) بأن السرقة حرام , ولكن لم أعلم بأن حكم الإسلام قطع يد السارق . بل ذاك أولى فإنه إذا لم يعذر بجهل وجوب الحد من أصله فكيف يعذر بالتردد ? هبه ثبت أن نفي الحد من مقتضيات الترجيح . فللمثبت مرجحات أقوى من ذلك كما ستراه إن شاء الله .
المسلك الثاني للطحاوي . بدأ في كتاب ( معاني الآثار ) بذكر حديث ابن عمر (( أ، رسول الله r قطع في مجن ثمنة ثلاثة دراهم )) وهو في ( الموطأ ) و( الصحيحين ) وغيرها، رواه مالك وجماعة عن نافع عن أبن عمر فهو في أعلى درجات الصحة .
ثم ذكر الطحاوي أنه لا حجة فيه على أنه لا يقطع فيما دون ذلك . ثم روي من طريق أبي واقد صالح بن محمد بن زائدة عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه رفعه (( لا يقطع السارق إلا في ثمن المجن )) قال الطحاوي : (( فعلمنا بهذا رسول الله r وقفهم عند قطعة في المجن على أنه لا يقطع فيما قيمته أقل من قيمة المجن )) . ^ 94^
أقول : أبو واقد هذا ذكر بصلاح في نفسه وغزو ، قال أحمد : (( ما رأى به بأساً )) لكنهم ضعفوه في روايته ، قال ابن معين : (( ضعيف الحديث )) وضعفه أيضاً على أبن المديني والعجلي وأبو زرعة وأبو داود والنسائي وأبو أحمد والحاكم وابن عدي ، وقال البخاري وأبو حاتم والساجي : (( منكر الحديث )) . وقال ابن حبان : (( كان ممن يقلب الأخبار والأسانيد ولا يعلم ، ويسند المرسل ولا يفهم ، فلما كثر ذلك في حديثه وفحش استحق الترك )) ومما أنكروه عليه حديثه عم سالم عن أبيه عن عمرو رفعه : (( من وجدتموه قد غل فأحرقوا متاعه )) قال البخاري : (( وحديث الباطل ليس له أصل )) وقد ذكر الطحاوي حديثه هذا عن سالم في ( مشكل الآثار ) على ما في ( المعتصر ) ج2ص238 ، (1) وفي ( المعتصر ) عن الطحاوي : (( وكتاب الله يخالف ذلك ، قال الله تعالى : [ والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاءً بما كسبا ] فإذا لم يكن في سرقة مال ليس للسارق فيه شركة سوى قطع اليد لا جزاء له غير ذلك فأحرى أن لا يجب عليه في غلول مال له فيه حظ إحراق رحله )) .
أقول : دلالة الآية على أنه لا جزاء غير ذلك دلالة لا يقول بها الجمهور . وعلى القول بها فإنما يتجه ما بناه الطحاوي عليها لو كان على الغال قطع إذ يقال ليس على السارق إلا القطع مع أنه لا شبهة له فكيف يزاد الغال على مع أن له شبهة ؟ . فإما أن يكون على السارق الذي لا شبهة له القطع وليس على الغال على لشبهته قطع ولكن عليه عقوبة دون ذلك . فليس في هذا ما ينكر ، كما أن الزاني المحصن الرجم فقط وليس على غير المحصن رجم ولكن عليه الجلد . وكما أن من ارتكب موجب الحد يحد ولا يعزر ومن ارتكب ما دون ذلك لم يحد ولكنه يعزر .
رد الطحاوي حديث أبي واقد في الغال بدعوى مخالفة لا حقيقة لها , لدلالة لايقول بها الجمهور , ثم احتج بحديث أبي واقد نفسه هنا مع مخالفة محققة لدلالة متفق عليها من الآية نفسها , فإن حديثه هنا ينفي القطع عن عدد كثير يحق على كل منهم اسم (( السارق )) وهم كل من كان مسروقة أقل من قسمة المجن والآية توجب بعمومها قطع كل من يحق عليه – 95-
اسم (( السارق )) ودلالة العموم متفق عليها بل يقول الحنيفة أنها قطعية . ثم يبالغ الطحاوي فيقول (( فعلمنا بهذا .......)) كأنه يرى أبا واقد معصومها يوجب حديثه العلم. ويجعل ذلك أمراً مفروغاً منه , وإنما الشأن في معرفه قيمة المجن ؟
ومع ذلك نجاري الطحاوي في النظر في القيمة المجن . ذكر الطحاوي أن بعض أهل العلم يقول إنها ثلاثة دراهم بحديث ابن عمر السابق . قال : (( وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا : لايقطع السارق إلا فيما يساوي عشرة دراهم فصاعداً , واحتجوا في ذلك بما حدثنا ابن أبي داود ( وهو إبراهيم بن سامان داود الأ سدي البرلسي ) و ( أبو زرعة ) عبد الرحمن بن عمرو الدمشقي قالا : ثنا أحمد بن خالد الوهبي قال . ثنا محمد بن إسحاق عن أيوب بن موسى عن عطاء عن ابن عباس قال كان قيمه المجن الذي قطع فيه النبي صلى الله عليه وسلم عشرة دراهم ))
أقول : ابن إسحاق
متكلم فيه وفي حفظه شيء كما في ( الميزان ) ، وقد اضطرب في الخبر كما يأتي فخبره هذا
غير صالح للحجة أصلا فكيف يعارض به حديث ( الموطأ ) و ( الصحيحين ) وغيرهما المتواتر
عن نافع عن ابن عمر ؟ ومع هذا فالظاهر أن هذا لفظ ابن أبي داود كما يشير إلى ذلك تقديم
الطحاوي له ، فأما ، فأما الدمشقي فقال الحاكم في (المستدرك) ج 4 ص 378 : (( حدثنا
أبو العباس محمد يعقوب ( الأصم ) ثنا أبو زرعة الدمشقي ثنا أحمد ابن خالد الوهبي ثنا
محمد بن إسحاق عن أيوب بن موسى عن عطاء عن ابن عباس قال : كان ثمن المجن على عهد رسول
الله r يقوم
عشرة دراهم )) . وهذا هو الصواب من حديث الوهبي كذلك أخرجه الدارقطني في ( السنن)
ص 369 : (( نا محمد بن إسماعيل الفارسي نا أحمد بن عبد الوهاب بن نجدة نا احمد بن
خالد الوهبي )) وكذلك أخرجه البيهقي في ( السنن ) ج8 ص 257 : (( ثنا أبو طاهر الفقيه
أنبأ ابو بكر القطان ثنا أحمد بن يوسف السلمي ثنا أحمد بن خالد الوهبي ...)) كلاهما
بلفظ الأصم عن الدمشقي إلا أن ابن نجدة قدم كلمة (( يقوم )) ذكرها بعد كلمة (( المجن
)) فإن قيل فالمعنى واحد . قلت : كلاّ ، لفظ الطحاوي يجعل العشرة قيمة (( المجن الذي
قطع
فيه النبي r )) والمحفوظ وهو لفظ الدمشقي وأبن نجدة والسلمي
يجعلها قيمة المجن مطلقاً كما تقوم : كانت الغنم رخيصة في عهد فلان ، كان ثمن الشاة
يقوم درهمين . فإن قيل وكيف يستقيم ذلك والمجان تختلف جودة ورداءة ،وجدة وبلى ،
وسلامة وعيباً ، وترخص في وقت وتغلو في آخر ؟ قلت : كأن قائل ذلك بلغه أن أقل ما
قطع فيه النبي r مجن ورأى أنه لا ينبغي القطع في أقل من
ذلك ، وأعوزه أن يعرف ذاك المجن أو يعرف قيمته على التعين أو يجد دليلاً يغنيه عن
ذلك ، ففزع إلى اعتبار جنسه ليحمله على أقصى المحتملات احتياطاً ، أو على أولاها في
نظره ، فرأى أن العشرة أقصى القيم أو أوسطها أو غالبها أو أقصى الغالب أو أوسطه .
فإن قيل فهلا تحمل كلمة (( المجن )) في لفظ الجماعة على ذلك المجن المعهود الذي قطع
فيه النبي r فتوافق لفظ الطحاوي ؟ قلت : يمنع من ذلك أمور .
الأول : أن الظاهر إرادة الجنس .
الثاني : قوله (( كان .... يقوم )) وهذا يقتضي تكرار التقويم ولا يكون ذلك في ذاك المجن المعين .
الثالث : أنه لا داعي إلى حمل المحفوظ على الشاذ بما يخالف الحديث الثابت المحقق وهو حديث ابن عمر . فإن قيل قد يكون ابن عمر قوم باجتهاده فقال : عشرة . قلت : هذا باطل من أوجه .
الأول : أن الواجب في التقويم أنه إذا رفعت إلى الحاكم سرقة فكان المسروق مما لا يعلم لأول وهلة أنه بالقدر الذي يقطع فيه أولا أن يبدأ الحاكم فيأمر العدول العارفين بتقويم المسروق ، وابن عمر في دينه وتقواه وورعه وعلمه بأنه سيبنى على خبره قطع أيد كثيرة لا يظن به أن يجزم إلا مستنداً إلى ما جرى به التقويم بحضرة النبي r .
الثاني : أن أثبت الرويات وأكثرها عن ابن عمر بلفظ : (( ثمنه)) كما تراه في ( صحيح البخاري ) مع ( فتح الباري ) وأصل الفرق بين الثمن والقيمة أن الثمن هو ما يقع عوضاً عن السلعة ، والقيمة ما تقوم به السلعة فمن اشترى سلعة بثلاثة دراهم ، وكانت تساوي أكثر أو أقل فالثلاثة ثمنها ، والذي تساويه هو قيمتها ، فإذا أتلف رجل سلعة الآخر فقومت بثلاثة دراهم فقضى بها الحاكم فقد لزمت الثلاثة عوضاً عن السلعة ، فصح أن تسمى ثمناً لها فهكذا السلعة المسروقة لا يحسن أن يقال : (( ثمنها ثلاثة دراهم )) إلا إذا كانت قومت بأمر الحاكم بثلاثة دراهم فقضى بحسب ذلك . وكأن هذا هو السر في اعتناء البخاري باختلاف الرواة في قول بعضهم (( ثمنه )) وبعضهم (( قيمته )) مع أن قول بعضهم (( قيمته )) لا يخالف ما تقدم ، لأن ما وقع به التقويم فالقضاء يصح أن يسمى ((قيمته)) لكن مالم يعلم أنه وقع به التقويم فالقضاء ، فإنه لا يصح أن يسمى ثمناً فتدبر .
الثالث : أن ابن عمر لو بنى على حدسه لكان الغالب أن تتردد .
الرابع : أن الاختلاف في تقويم السلعة بين عارفيها وعارفي قيم جنسها في المكان والزمان الواحد لا يكون بهذا القدر ، يقول هذا : ثلاثة . ويقول الآخر : عشرة . قال ابن حجر في ( الفتح ) : (( محال في العادة أن يتفاوت هذا فقد جاء في بعض الروايات عن أبن عمر كما في ( سنن أبي داود ) والنسائي (( أن النبي r قطع يد السارق سرق ترساً صفة النساء ثمنه ثلاثة دراهم (1))) وهذا يدل على إتقان ابن عمر للواقعة ومعرفة بها فهو المقدم على غيره .
هذا كله على فرض صحة خبر ابن إسحاق ، وقد علمت أنه لا يصح ،وسيأتي تمام ذلك والصواب مع صرف النظر عن الصحة أن القائل عشرة دراهم إنما نظر إلى الجنس على ما تقدم بيانه .
فإن قيل فقد قال أبو داود في ( السنن ) : (( حدثنا عثمان بن أبي شيبة ومحمد بن إسحاق عن أيوب بن موسى عن عطاء عن ابن عباس قال : قطع رسول الله r يد رجل في مجن قيمته دينار أو عشرة دراهم )) .
قلت : هذا لفظ ابن أبي السري كما صرح به أبو داود ،وابن أبي السري وإن حكى أبن الجنيد أن ابن معين وثقة فقال قال أبو حاتم (( لين الحديث )) وقال مسلمة : (( كان كثير الوهم وكان لا بأس به )) وقال ابن وضاح : (( كان كثير الغلط )) ، وقال ابن عدي (( كثير الغلط )) . والمحفوظ عن ابنن نمير كما تقدم نا شعيب بن أيوب نا عبد الله بن نمير.... )) والظاهر أن لفظ عثمان بن أبي شيبة هكذا .
فإن قيل : فقد قال ابن أبي شيبة في ( المصنف 9 : (( حدثنا عبد الأعلى عن محمد عن محمد بن إسحاق قال: حدثني أيوب بن موسى عن عطاء عن ابن عباس : لا يقطع السارق في دون ثمن المجن ، وثمن المجن عشرة دراهم )) وذكره البخاري في ( التاريخ ) ج1 قسم 2 ص 27 عن عياش عن عبد الأعلى نحوه . فكلمة (( المجن )) الأولى للعهد فكذلك الثانية .
قلت : ليس هذا بلازم با الثانية للجنس كما في غالب الروايات ، على انه يمكن أن تكون الأولى للجنس أيضاً ، ويمكن أن تكونا معاً للعهد ، ولكن التقويم استنباطي على ما تقدم لا تحقيقي .
فإن قيل : فقد قال ابن التر كماني (( قال صاحب ( التمهيد ) : ثنا عبد الوارث ثنا قاسم ثنا محمد يوسف ثنا ابن إدريس ثنا محمد بن إسحاق عن عطاء عن ابن عباس قاتل : (( قوم المجن الذي قطع فيه النبي r عشرة دراهم )) .
قلت : المحفوظ عن ابن إدريس ما قاله الدارقطني ص 368 : (( ثنا ابن صاعد ثنا ابن خلاد بن أسلم ثنا عبد الله بن إدريس عن محمد بن إسحاق عن عطاء عن ابن عباس قال : (( كان ثمن المجن على عهد رسول الله r عشرة دراهم )) سند الدارقطني أقصر وأثبت فإن محمد بن وضاح كان ممن يخطئ وقاسم بن أصبغ اختلط باخرة )) .
هذا وقد اضطرب ابن إسحاق في هذا فرواه مرة عن عطاء عن ابن س كما هنا ، ومرة عن أيوب بن موسى عن عطاء كما مر ، وقال مرة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده كما يأتي ، ومرة عن عمرو بن شعيب عن عطاء أن ابن عباس كان يقول : (( ثمنه يؤمئذ عشرة دراهم )) أخرجه النسائي وذكره البخاري في ( التاريخ ) ج1 قسم 2 ص 27 ،ورواه مرة عن عمرو بن شعيب عن عطاء مرسلاً كما في ( الفتح ) ، ومرة عن أيوب بن موسى عن عطاء مرسلاً ، لم يذكر فيهما ابن عباس رجعله من كلام عطاء ، ذكر النسائي الثانية قال : (( أخبرني محمد بن وهب قال : حدثنا محمد بن سلمة قال : حدثني ابن إسحاق عن أيوب بن موسى عن عطاء ، مرسل )) .
فإن قيل فقد قال أبو داود : (( ورواه محمد بن سلمة وسعدان بن يحيى عن ابن إسحاق بإسناده )) ظاهر هذا الوصل .
قلت : لم يذكر أبو داود من حدثه عن محمد بن سلمة ، والنسائي ذكر ذلك وحققه فهو أولى . وفي كلام النسائي ما يدل على ترجيح الإرسال فإنه فإنه قال عقب ذلك : ((أخبرني حميد بن مسعدة عن سفيان –هو ابن حبيب –عن العرزمى –هو عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء قال : أدنى ما يقطع فيه ثمن المجن . قال : وثمن المجن يؤمئذ عشرة دراهم)) وفي ( مصنف ابن أبي شيبة ) : (( حدثنا عبد الرحيم بن سليمان عن عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء قال : أدنى ما يقطع فيه السارق ثمن المجن . وكان يقوم المجن في زمانهم ديناراً أو عشرة دراهم )) . وقال ابن التركماني : (( في ( كتاب الحجج ) لعيسى بن أبان ... )) ثم قال : (( وفي ( كتاب الحجج ) عن مصعب بن سلام ويعلى بن عبيد قلا : ثنا عبد الملك عن عطاء أنه سئل ما يقطع فيه السارق ؟ قال ثمن المجن . وكان في زمانهم يقوم ديناراً أو عشرة درهم )) .
وهذا الحديث في حكم مختلف فيه تعم به البلوى ، وعطاء إمام جليل فقيه معمر ، كان بمكة حيث ينتابها أهل العلم من جميع الأقطار ، وله أصحاب أئمة حفاظ فقهاء كانوا أعلم به وألزم له ايوب بن موسى وعمرو بنشعيب ، فلو كان عنده هذا الحديث عن ابن عباس لما فاتهم .
وهذا عبد الكلك بن أبي سليمان وهو من أثبت أصحاب عطاء وألزمهم له جاء عنه إلا قوله كما تقدم . وهذا عبد الملك بن أبي سليمان وهومن أثبت أصحاب عطاء لم يكن عنده عنه إلا قوله كما تقدم . وهذا ابن جريج أعلم أصحاب عطاء وألزمهم له جاء عنه أنه قال : (( لزمت عطاء سبع عشرة سنة )9 وقال : (( جالست عمرو بن دينار بعد ما فرغت من عطاء )) زكان يدلس عن غير عطاء فأما عن عطاء فلا ، قال : (( إذا قلت : قال : عطاء فأنا سمعه منه وإن لم أقل سمعت )) ، وإنما هذا لإنه كان يرى أنه قد استوعب ماعند عطاء فإذا سمع رجلاً يخبر عن عطاء بما لم يسمعه منه رأى أنه كذب فلم يستحل أن يحكيه عن عطاء . وهذا كما قال أبو إسحاق : (( قال أبو صالح ( ذكوان ) و ( عبد الرحمن بن هرمز الأعرج : ليس أحد يحدث عن أبي هريرة إلا أصادق هو أم كاذب )) يريدان أنه إذا حدث عن أبي هريرة بما لم يسمعاه منه علما أنه كاذب، لأحاطتهما بحديث أبي هريرة . وقال الإمام احمد : (( ابن جريج أثبت الناس في عطاء )) وكان ابن جريج يذهب إلى هذا المذهب ، قال ابن التركماني : (( في ( مصنف عبد الرزاق ) عن ابن جريج قال كان يقول : لا تقطع يد السارق في أقل من عشرة دراهم )) . مع هذا كله لم يكن عند ابن جريج عن عطاء في هذا إلا ما ذكره الطحاوي في أواخر كلامه ، قال : (( حدثنا إبراهيم بن مرزوق قال : ثنا ابن عاصم ابن جريج قال: كان قول عطاء على قول عمرو بن شعيب : لا تقطع اليد في أقل من عشرة دراهم )) وهذا يشعر بأن عطاء إنما أخذ هذا القول عن عمرو بن شعيب ، وهذا عكس ما زعمه ابن إسحاق ، أفيجوز أن يكون عند ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس فيترك أن يقول : كان قول عطاء على قول ابن عباس. ويعدل إلى عمرو بن شعيب ؟
وقد كان لا بن عباس أصحاب حفاظ فقهاء كأنه ألزم له وأعلم به من عطاء ولم يرو أحد منهم عنه في هذا الباب شيئاً ، فأما ما روى عبد الرزاق عن إبراهيم بن أبي يحيى عن داود بن حصين عن عكرمة عن أبن عباس قال : (( ثمن المجن الذي يقطع فيه دينار )) ذكره ابن التركماني ، فليس بشيء ، إبراهيم ساقط ولا سيما إذا لم يصرح بالسماع ، وأما حسن ظن الشافعي به فكأنه كان متماسكاً لما سمع منه الشافعي ثم ظهر فساده ، وقد قال ابن أبي شيبة في ( المنصف ) : (( حدثنا عبد الوهاب الثقفي عن خالد ( بن مهران الحذاء ) عن عكرمة قال : تقطع اليد في ثمن المجن . قال قلت له : ذكر لك ثمنه ؟ قال أربعة أو خمسة وعبد الوهاب وخالد من الثقات المشهورين . أفتراه يكون عند عكرمة عن مولاه ابن عباس أنه دينار أو عشرة دراهم فيعدل عنه إلى مالا يدري عمن أخذه مع شكة فيه ؟ فهذا كله يبين أن ابن عباس لم يقل ما رواه ابن إسحاق قط ، وأن عطاء لم يحدث به عن ابن عباس قط ، وإنما هو قول عطاء ، وقد علمت مع ذلك أنه مبنى على الحدس . والله الموفق .
فإن قيل : فقد قال البخاري في ( التاريخ ) : (( وقال الوليد بن كثير حدثني من سمع عطاء عن ابن عباس –مثله )) . قلت : وصله الدارقطني ص369 (( حدثنا أحمد نا شعيب بن أيوب نا أسامة عن الوليد بن كثير حدثني عن سمع عطاء عن ابن عباس أن ثمن المجن يومئذ عشرة))
قلت : أبو أسامة كان يدلس ثم ترك التدليس بأخرة ولا يدرى متى حدث بهذا ؟ وشيخ الوليد لا يدرى من هو ،ولو كان به طرق لما كنى عنه ، وقد كان من أهل بلد الوليد ممن يحدث عن عطاء محمد بن عبد الله العرزمى الهالك ولا يبعد أن يكون الوليد إنما سمعه منه فليس في هذا ما يجدى ، والصواب ما تقدم .
قال الطحاوي : (( حدثنا أبن أبي داود وعبد الرحمن بن عمرو الدمشقي قال ثنا الوهبي قال : ثنا ابن إسحاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده -مثله )) يعنى مثل حديثه المتقدم الذي رواه بهذا السند عن ابن إسحاق عن أيوب بن موسى عن عطاء عن ابن عباس وقد أقمنا الحجة على ذاك اللفظ ليس هو لفظ الدمشقي ولا الوهبي ولا ابن إسحاق فيأتي مثل ذلك هنا ، وقد قال الدارقطني ص369 : (( نا محمد بن القاسم بن زكريا نا هارون بن إسحاق نا المحأبي نا محمد بن إسحاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : كان ثمن المجن على عهد رسول الله r عشرة دراهم . نا محمد بن مخلد نا محمد بن هارون الحربي أبو جعفر هو أبو نشيط نا أحمد بن خالد الوهبي نا محمد بن إسحاق بإسناده نحو )) .
وفي ( نصب الراية ) ج3 ص359 ابن أبي شيبة روى في ( مصنفه ) عن عبد الأعلى عن ابن إسحاق (( عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله r : لا يقطع السارق في دون ثمن المجن . قال عبد الله : وكان ثمن المجن عشرة دراهم )) وفي (تفسير ابن كثير) أن ابن أبي شيبة روى عن ابن نمير وعبد الأعلى عن أبن إسحاق –فذكر مثله .
والذي وجديه في النسخة
التي وقفت عليها من ( المصنف ) (( حدثنا عبد الرحيم بن سليمان عن محمد بن إسحاق عن
عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال :
سمعت النبي r يقول : القطع في ثمن المجن )) وفيها (( حدثنا عبد الأعلى وعبد
الرحيم بن سليمان عن محمد بن إسحاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده - قال : كان يقول:
ثمن المجن عشرة دراهم )) وفي ( سنن البيهقي ) ج8 ص269 من طريق أبي يعلى (( ثنا أبن
نمير ثنا أبي ثنا محمد بن إسحاق [ عن عمرو بن شعيب ([1]) ] عن أبيه عن جده قال : كان
ثمن المجن على عهد رسول الله r عشرة دراهم)) . وقال الدارقطني ص 368 : ((
حدثنا الحسين بن إسماعيل ثنا يوسف بن موسى ثنا عبد الله بن إدريس وعبد الله بن نمير
عن ابن إسحاق ح و نا محمد بن القاسم بن زكريا نا هارون بن إسحاق نا المحاربي عن
محمد ابن إسحاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن قيمة المجن على عهد رسول الله r عشرة
دراهم )) . وفي ( مسند أحمد ) ج2ص18 (( ثنا ابن إدريس ثنا ابن إسحاق عن عمرو بن
شعيب عن أبيه عن جده أن قيمة المجن على عهد رسول الله r عشرة دراهم ). وقال النسائي في ( السنن ) ((
أخبرنا خلاد بن أسلم عن عبد الله بن إدريس عن محمد بن إسحاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه
عن جده قال : كان ثمن المجن على عهد رسول الله r عشرة دراهم )) . وفي ( نصب الراية ) ج3 ص
466 عن ( مسند إسحاق بن أبيه عن جده أن النبي r قال : مابلغ ثمن لمجن ففيه القطع . وكان ثمن
المجن رسول الله r عشرة دراهم . قال . وسئل عن اللقطعة ؟
فقال : عرفها سنة )) هذه الرواية تدل أن هذا الحديث هو في الأصل قطعة من حديث عمرو
بن شعيب عن أبيه عن جده في اللقطعة وغيرها . وفي ( مسند أحمد ) ج2ص302 (( ثنا ابن
إدريس سمعت ابن إسحاق عن عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده قال : سمعت رسول الله r ورجلاً
من مزينة يسأله عن ضالة الإبل ..... وسأله عن الحريسة التي توجد في مراتعها قال : فقال
فيها ثمنها مرتين وضرب نكال ، قال : فما أخذ من أعطانه ففيه القطع إذا بلغ ما يؤخذ
من ذلك ثمن المجن، فسأله فقال : يا رسول الله اللقطة نجدها في سبيل العامر ؟ قال :
عرفها سنة ... )) وفي (المسند) ج2 ص 207 (( ثنا يزيد ( بن هارون ) أنا محمد بن
إسحاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : سمعت رجلاً من مزينة وهو وهو يسأل
النبي r -فذكر نحو الحديث ابن إدريس
– قال : وسأله عن الثمار ... فقال ... ومن وجديه قد احتمل ففيه ثمنه مرتين وضرب
نكال ، فما أخذ من جرانه ففيه القطع إذا بلغ ما يؤخذ من ذلك ثمن المجن ... )) فأما
الحديث المختصر في القطع وقيمة المجن ففي ( المسند) ج 2 ص 204 (( حدثنا نصر بن باب
عن الحجاج ( بن أرطاة ) عن عمرو بن شعيب عنأبيه عن جده قال : قال رسول الله r
: لا
قطع فيما دزن عشرة دراهم )) . وأخرج الدارقطني ص 369 من طريق أبي مالك الجني عن حجاج
بسنده بإسناده : لا يقطع السارق في أقل من ثمن المجن ، وكان ثمن المجن على عهد
رسول الله r عشرة دراهم ))
والحجاج بن أرطاة معروف بالتدليس عن الضعفاء وفيه كلام غير ذلك وفي ( نصب الراية )
: (( قال في (التنقيح) : والحجاج بن أرطاة مدلس ولم يسمع من عمرو هذا الحديث )). وابن
إسحاق أيضاً مدلس وهو ممن يروي عن الحجاج فأخلق به أن يكون سمع بعض رواياته لهذا
الحديث عن الحجاج عن عمرو بن شعيب فرواها عن عمرو ابن شعيب تدليساً عل تدليس. لكن
قال البخاري في ( التاريخ ) ج1 قسم 2 ص27 ((
قال لنا على حدثنا يعقوب قال : حدثنا أبي عن أبن إسحاق حدثني عمرو بن شعيب أن شعيباً
حدثه أن عبد
حدثه عبد الله بن عمرو كان يقول – و حدثني أن مجاهداً أخبره أن عبد الرحمن بن أبي ليلى حدثه أن ثمن المجن يومئذ عشرة )). فهذا اللفظ الذي في هذه الرواية قوي لتصريح أبن إسحاق بالسماع ، و قال الدارقطني ص 368 : (( نا أحمد علي بن أبي العلاء نا أبو عبيدة بن أبي السفر نا أبو أسامة عن الوليد بن كثير عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: كان ثمن المجن عشرة دراهم )) . و أبو أسامة كان أولاً يدلس كما سبق ، فإن سلمت هذه الرواية من تدليسه كانت متابعة جيدة لابن إسحاق في هذا اللفظ الذي صرح فيه بالسماع .
فإن أغمضنا عن اضراب ابن إسحاق و عن تدليسه أبي أسامة قلنا : إنه يثبت أن عمرو ابن شعيب روى عن أبيه عن جده هذا القدر الذي اتفقت عليه رواية ابن أبي إسحاق المصرحة بالسماع و رواية أبي أسامة عن الوليد عن الوليد بن كثير و هو (( كان ثمن المجن يومئذ عشرة دراهم )) .
ويبقى النظر في عمرو بن شعيب ، و قد لخص ابن حجر كلامهم فيه بقوله : ضعفه ناس مطلقاً ، ووثقه الجمهور ، و من ضعفه مطلقاً فمحمول على روايته عن أبيه عن جده، فأما روايته عن أبيه فربما دلس ما في الصحيفة …. فإذا قال حدثني أبي فلا ريب في صحتها …. و قد صرح شعيب بسماعه من عبد الله بن عمرو في أماكن …. لكن هل سمع منه ما روى عنه أم سمع بعضها و الباقي صحيفة ؟ الثاني أظهر عندي وهو الجامع لاختلاف الاقوال فيه و عليه ينحط كلام الدراقطني و أبي زرعة )) .
فإن قيل فإذا لم يصرح بسماعه من أبيه من عبد الله بن عمرو فغاية ذلك ان يكون من الصحيفة ، و قد قال ابن حجر : (( قال الساجي : قال ابن معين : هو ثقة في نفسه و ما روي عن أبيه عن جده لا حجة فيه ، و ليس بمتصل و هو ضعيف من قبل انه مرسل ، و جد شعيب كتب عبد الله بن أبي عمرو فكان يرويها عم جده إرسالاً و هي صحاح عن عبد الله بن عمرو غير أنه لم يسمعها )) قال ابن حجر : (( فإذا شهد له ابن معين ان أحاديثه صحاح غير أنه لم يسمعها ، و صح سماعه لبعضها ، فغاية الباقي ان يكون و جادة صحيحة ، وهو أحد وجوه التحمل )) و ذكر بعد ذلك كلاماً ليعقوب بن شيبة وفيه : (( و قال علي ابن المديني و عمرو بن شعيب عندنا ثقة و كتابة صحيح )) قلت : الساجي لم يدرك ابن معين ، و قول ابن المديني : (( كتابه صحيح )) لعله أراد كتابه الخاص الذي قيد فيه سماعاته لا تلك الصحيفة ، و قد قال الامام أحمد : (( له أشياء مناكير و إنما يكتب حديثه يعتبر به ، فأما أن يكون حجة فلا )) . و قال مرة : (( ربما احججنا به و ربما وجس في القلب منه شئ )) مأنه يريد أن يحتج به إذا لم يكن الحديث منكراً ، و في كلام أبي زرعة (( ما أقل ما نصيب عنه مما روى عن غير أبيه عن جده من المنكر )) و هذا يدل أن في روايته عن أبيه عن جده مناكير غير قليلة . و بذلك صرح ابن حبان في ( الثقات ) وراجع ( أنساب ابن السمعاني ) الورقة 319 الف ، وذلك يدل على أحد أمرين : إما أن تكون تلك الصحيفة مع صحتها في الجملة عن عبد الله بن عمرو لم تحفظ كما يجب فوقع العبث بها . و إما أن يكون عمرو أو أبوه او كلاهما كما يدلس عن الصحيفة يدلس عن فير الصحيفة .
فالذي يتحصل أم ما صرح في عمرو بالسماع من أبيه ، و بسماع أبيه من عبد الله بن عمرو فإنها تقوم به الحجة ، و ما لم يصرح بذلك ففيه وقفة ، و لم أر في شئ . من طرق الحديث التصريح بسماع أبيه من عبد الله بن عمرو ، فأما سماعه من أبيه فوقع التصريح به لفظ (( كان ثمن المجن يومئذ عشرة دراهم )) في رواية ابن إسحاق عن عمرو ، و رواية أبي أسامة عن عمرو ، أبي أسامة عن الوليد بن كثير عن عمرو ، إلا أن فيه اضطراب أبن اسحاق و تدليس أبي أسامة مع عدم التصريح بسماع شعيب . وقد قال الشافعي لمن ناظره من الحنفية : (( عمرو بن شعيب قد روى أحكاماً توافق أقاويلنا و تخالف أقاويلكم عن الثقات فرددتموها و نسبتموه الى الغلط فأنتم محجوجون ، إن كان ممن ثبت حديثه ، فأحاديثه التي وافقناها و خالفتموها ، او اكثرها ، و هي نحو ثلاثين حكماً حجة عليكم، و إلا فلا تحاجوا به )) .
وبعد اللتيا و التي إن أصبح شئ عن عبد بن عمرو فهو (( كان ثمن المجن يومئذ عشرة دراهم )) فعلى فرض صحته فهو محمول على الجنس كما توضحه أكثر الروايات (( كان ثمن المجن على عهد رسول الله r عشرة دراهم )) و قد مر انه لا حجة بذلك بعد قيام الحجة المحققة ان المجن الذي قطع فيه النبي r كانت قيمته ثلاثة دراهم .
فأما الجملة المرفوعة
و لفظها فيما نسبه الزيعلي و ابن كثير الى
(مصنف ابن أبيشيبة)
(( لا يقطع السارق في دون ثمن المجن )) و
في النسخة التي وقفت عليها من (المصنف) ((القطع في ثمن المجن)) و في رواية ابن راهويه عن ابن إدريس عن ابن إسحاق عن عمرو ((ما
بلغ ثمن المجن ففيه القطع)) فقد تقدم أنها قطعة من حديث اللقطة الطويل ، كما و قد
تقدم رواية ابن إسحاق له عن عمرو . و رواه النسائي من طريق ابن عجلان عن عمرو ((عن
أبيه عن جده عبد الله بن عمرو عن رسول
الله r أنه سئل عن الثمر المعلق
قال….و من خرج بشئ منه فعليه غرامة مثلية و العقوبة ، و من يسرق شيئاً بع أن يؤويه
الجرين فبلغ ثمن المجن فعليه القطع …. )) و من طريق ابن وهب (( أخبرني عمرو بن
الحارث و هشام بن سعد عن عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو أن رجلاً
من مزينة اتي رسول الله r فقال يا رسول الله كيف ترى في حريسة الجبل ؟ فقال : هي و مثلها و
النكال ، و ليس في شئ من الماشية قطع الا فيما آواه المراح فبلغ ثمن المجن ففيه
قطع اليد …. )) و من طريق عبيد الله ابن الاخنس (( عن عمرو بن الاشعب عن أبيه عن
جده قال : سئل رسول الله r في كم تقطع اليد ؟ قال : لا تقطع اليد في ثمرة معلق فإذا ضمه
الجرين قطعت في ثمن المجن ، و لاتقطع جريسة الجبل ، فإذا آوى المراح قطعت في ثمن
المجن )) . و أخرجه أبو داود في (( اللقطة )) من طرق عن عمرو ، و يظهر من أن
الحديث أطول مما ساقه النسائي . فمدار تلك الجملة المرفوعة على هذا الحديث . و لم
أر في شئ من طرقه التصريح بسماع عمرو من أبيه و لا بسماع أبيه من عبد الله ابن
عمرو ، و قد ذكر البيهقي في ( السنن ) ج 8 ص 263 حديث رافع بن خديج مرفوعاً (( لا
قطع في ثمرة و لا كثر )) و حديث عمرو بن شعيب هذا فقال ابن التركماني : (( ذكر
الطحاوي أن الحديث الاول تلقت العلماء متنه بالقبول و أحتجوا به ، و الحديث الثاني
لا يحتجون به و يطعنون في إسناده و لا سيما ما فيه مما يدفعه الاجماع من غرم
المثلين )) .
أقول : و إنما الطعن في إسناده لمكان عمرو بن شعيب عب أبيه عن جده ، فليس للطحاوي أن يحتج بتلك القطعة من الحديث و لا بشئ من هذا رواية عمرو عن أبيه عن جده و قد أخرج مالك في ( الموطأ ) قطعة من الحديث عن عبد الله بن عبد الرحمن أبي الحسين المكي عن النبي r ، و ابن أبي حسين إنما سمعه من عمرو بن شعيب كما صرح به مالك في رواية الشافعي عنه كما في ( مسنده ) بهامش ( الام ) ج 6 ص 255 .
وعلى فرض صحة حديث اللقطة فالمراد بكلمة (( المجن )) ذاك المجن المعهود الذي قطع فيه النبي صلى الله عليه و آله و سلم كأنه بعد أن قطع في المجن جاءه ذلك السائل فاستشعر من سؤاله حرصه على الالتقاط و ما يقرب من السرقة أو يكونها ، فشدد عليه النبي r بذكر غرامة المثلين و جلدات النكال ، ثم ذكر له القطع و عدل عن أن يقول : (( ما بلغ ثلاثة دراهم )) أو (( ما بلغ ربع دينار )) ليتنبه السائل لموضع العبرة ، و يعلم أن ذلك أمر مفروغ منه ، قد نفذ به الحكم و جرى به العمل ، ليكون ذلك أبلغ في المقصود من ردعه . و لمثل هذا كثر في القرآن ترداد التذكير بأيام الله تعالى في الامم السابقة . وفي الخبر أن النبي صلى الله عليه و آله و سلم تلا على عتبة بن ربيعة أوائل سورة ( فصلت ) فلما بلغ [ فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد و ثمود ] بادر عتبة فوضع يده على فم النبي صلى الله عليه و آله و سلم و ناشده الرحم ان يكف ([2]) . و كأن عبد الله بن عمرو حفظ هذا و لم يبحث عن قيمة ذاك المجن ، و لا بلغه ما يغني عن ذاك فلما سئل بعد وفاة النبي r اضطر الى الحدس باعتبار الجنس كما تقدم شرحه ، و قد علم عبد الله بن عمر بن الخطاب قيمة ذاك المجن على التحقيق ، و إذا جاء نهر الله بطل نهر معقل .
قال الطحاوي : (( حدثنا فهد قال ثنا محمد بن سعيد ابن الاصبهاني أخبرني معاوية بن هشام عن سفيان عن منصور عم مجاهد و عطاء عن أيمن الحبشي قال : قال رسول الله r : أدنى ما يقطع فيه السارق ثمن المجن . قال : وكان يقوم يومئذ ديناراً )) .
أقول : هذا بهذا اللفظ من غريب هذا الوجه ، و ابن الاصبهاني كثير الغلط ، ([3]) و قد قال النسائي في( السنن ) : (( حدثنا محمود بن غيلان قال : حدثنا معاوية قال : حدثنا سفيان عن منصور عن مجاهد و عطاء ([4]) عن أيمن قال : لم يقطع النبي r السارق إلا في ثمن المجن ، و ثمن المجن يومئذ دينار )) . محمود أثبت جداً من أن ابن الاصبهاني . و أخرجه النسائي من طريق ابن مهدي عن سفيان عن منصور عن مجاهد عن أيمن (( لم تكن تقطع اليد على عهد رسول الله r إلا في ثمن المجن و قيمته يومئذ دينار )) و من طريق محمد بن يوسف عن سفيان عن الحكم عن مجاهد عن أيمن مثله . ادخل في هذه الرواية الحكم بين منصور و مجاهد و كذلك رواه الحسن و علي ابنا صالح عند النسائي ، و كذلك رواه أبو عوانة و شليبان عند البخاري في ( التاريخ ) ج 1 قسم 2 ص27 كلهم عن منصور عن الحكم عن مجاهد و عطاء عن أيمن . ورواه جرير عن منصور فلم يذكر الحكم اخرجه النسائي ، و كذلك رواه شريك كما ياتي ، و المحفوظ ذكر الحكم ، و الحكم مدلس و لم يصرح بالسماع ، و ايمن هو ايمن الحبشي كما صرح به في الرواية ، و لفظ البخاري في ( التاريخ ) : قال (( قال لنا موسى( بن اسماعيل) عن أبي عوانة – و تابعه شيبان – عن منصور عن الحكم عن مجاهد و عطاء عن ايمن الحبشي … )) فاما ان يكون هو ايمن الحبشي والد عبد الواحد كما يدل عليه ما رواه الدارقطني من طريق عبد الله بن داود : (( سمعت عبد الواحد بن ايمن عن أبيه– قال : و كان عطاء و مجاهد قد رويا عن أبيه . ووالد عبد الواحد تابعي لم يدرك الخلفاء الراشدين و اما ان يكون آخر لا يعرف .
فإن قيل فقد قال النسائي : (( أخبرنا على بن حجر قال أنبأنا شريك عن منصور عن عطاء و مجاهد عن أيمن بن أم أيمن – قال أبو الوليد : رفعه : لا يقطع السارق الا في مجن أو حجفة قيمته دينار )) .
قلت : شريك على فضله سئ الحفظ كثير الغلط ، و نسبه الدارقطني و عبد الحق الى التدليس ، و أيمن بن أم ايمن ليس بجبشي بل هو كما نسبه غير واحد أيمن بي عبيد بن زيد…أبن عوف بن الخزرج . فهو عربي أنصاري .
فإن قيل : لعله قيل له : الحبشي ، لأن أمه حبشية .
قلت : هذا بعيد ، و مع ذلك أختلف في أم أيمن ، نسبها غير واحد كابن عبد البر في ( الاستيعاب ) : (( … بنت ثعلبة بن عمرو بن حصن بن مالك بن سلمة بن عمرو بن النعمان )) . فعلى هذا هي عربية لا حبشية .
فإن قيل : لعل أمها كانت حبشية .
قلت : و ما الموجب لهذا التعسف ؟! و قد ذكر أهل المغازي و غيرهم أن أيمن أبن أم أيمن أستشهد يوم حنين ، و شريك قد تقدم حاله ، و قد تفرد بقوله : (( أبن أم أيمن )) ، و يجوز أن يكون زاد ذلك و هما ، أو يكون قال : (( أيمن بن أم أيمن )) كما يقال : (( أحمد أبن أم أحمد ، و إن لم تكن كنية أمه أم أحمد ، و في محاورة جرت بين سلمان و حذيفة أن حذيفة قال : يا سلمان أبن أم سلمان . فقال سلمان : يا حذيفة أبن أم حذيفة.
فلهذا الخبر علتان : الأول : قد ليس الحكم . الثانية : أن أيمن تابعي لم يدرك الخلافاء الراشدين ،أو غير معروف .
هذا و قد تفرد شريك بقوله : (( قال النبي صلى الله عليه و آله و سلم )) و شريك قد تقدم حاله ، و الائمة الاثبات لا يذكرون ذلك و رواية الطحاوي عن فهد عن أبن الاصبهاني عن سفيان شاذة بل باطلة . و أبن الاصبهاني كثير الغلط جداً ([5]).
فإن قيل : فقد قال الطحاوي : (( ثنا ابن أبي داود قال : ثنا يحيى بن عبد الحميد الحِمَّاني قال: ثنا شريك عن منصور عن عطاء عن أيمن عن أم أيمن قالت : قال رسول الله r : لا يقطع السارق إلا في جحفة و قومت يومئذ على عهد رسول الله r عشرة دراهم )) .
قلت : زاد ابن الحماني ضغتاً على أبالة ، وهو متكلم فيه و إن الح ابن معين في توثيقه . و في كتاب ( العلل ) لأبن أبي حاتم ج 1 ص 457 : (( سألت أبي عن حديث رواه الحسن بن صالح … قال قال أبي : هو مرسل ، و ارى انه والد عبد الواحد بن ايمن و ليست له صحبة .
قلت لأبي : قد روى هذا الحديث يحيى الحماني .. ؟ قال أبي : هذا خطأ من وجهين :
احدهما : ان اصحاب شريك لم يقولوا : عن ام ايمن …و الوجه الآخر : ان الثقات رووه عن منصور عن الحكم عن مجاهد و عطاء عن ايمن قوله)).فأما المتن في رواية الجماعة ففيه جملتان :
فالأولى : في رواية سفيان : (( لم تكن تقطع اليد على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم الا في ثمن المجن )) . و في رواية علي بن صالح : (( لم تقطع اليد في عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم الا في ثمن المجن )) . و في رواية جرير : (( لا يقطع السارق الا في ثمن المجن )) . و في رواية الحسن بن صالح و أبي عوانة و شيبان : ((يقطع السارق في ثمن المجن)). و سفيان إمام ، و علي ثقة ، و الباقون جماعة و قد كان أبو نعيم الفضل بن دكين يقول: (( ما رأيت أحداً إلا و قد غلط في شئ غير الحسن بن صالح )) .
و الجملة الثانية : لم تقع في رواية جرير ، و لفظة في رواية سفيان : (( ثمن المجن يومئذ دينار )) .و في رواية الباقين نحوه إلا الحسن بن صالح فلفظها عنده : (( كان ثمن المجن في عهد رسول الله r ديناراً أو عشرة دراهم )) ، ولعل هذا هو الاصل ، فاختصره الجماعة.
و على كل حال فهذا من قبيل ما تقدم من اعتبار الجنس ، و قد ثبت التحقيق بحديث ابن عمر فسقط الحدس .
قال الطحاوي : (( فلما إختلف في قيمة المجن الذي قطع فيه رسول الله r أحتيط في ذلك فلم يقطع إلا فيما أجمع أن فيه وفاء بقيمة المجن التي جعلها رسول الله r مقدراً لا يقطع فيما هو أقل منها ، وهو عشرة دراهم )) .
أقول : قد علمت أنه ليس فيما ذكره الطحاوي ما يصلح دليلاً على أن النبي r بين أنه لا قطع فيما دون قيمة ذاك المجن ، و لا يصلح دليلاً يخالف الحجة الواضحة المحققة أن قيمته ثلاثة دراهم .
ثم قال الطحاوي : (( و قد ذهب آخرون الى أنه لا يقطع الا في ربع دينار فصاعداً ، و احتجوا على ذلك بما حدثنا يونس أخبرنا به أبن عيينة … كان رسول الله r يقطع في ربع دينار فصاعداً . قيل لهم : ليس هذا حجة لأن عائشة إنما أخبرت عام قطع فيه رسول الله r ، فيحتمل أن يكون ذلك لأنها قومت ما قطع فيه )) .
أقول : روى ابن شهاب الزهري و جماعة عن عمرة عن عائشة في القطع في ربع دينار و اختلفوا ، ثم وقع خلاف عن بعض أصحاب الزهري ، ثم وقع خلاف يسير عن ابن عيينة في روايته عن الزهري ، وهذا الذي ذكر الطحاوي هو رواية يونس بن عبد الاعلى عن ابن عيينة عن الزهري عن عمرة عن عائشة ، و هكذا رواه جماعة عن ابن عيينة منهم يحيى بن يحيى عند مسلم ، و أحمد في ( مسنده ) ، و إسحاق و قتية عند النسائي . و خالفهم جماعة عن ابن عيينة . قال ابن حجر في ( الفتح ) : (( أورد الشافعي و الحميدي و جماعة عن ابن عيينة بلفظ : قال رسول الله r : تقطع اليد _ الحديث )) . و لفظ الشافعي كما في ( مسنده ) بهامش ( الام ) ج 6 ص 254 : (( أن رسو الله r قال: القطع في ربع دينار )) . و لفظ الحميدي كما ذكره الطحاوي فيما بعد أن رسول الله r قال : (( تقطع اليد في ربع دينار فصاعداً )) . و أخرجه الطحاوي فيما بعد من طريق الحجاج بن منهال عن ابن عيينة و لفظه : (( قال رسول الله r : السارق إذا سرق ربع دينار قطع )) .
و لنجب على قول الطحاوي : ليس هذا بحجة )) ثم ننظر في الروايات .
فأما الجواب : فإن أراد أن الحديث بذلك اللفظ ليس بحجة على أنه لا قطع فيما دون ربع دينار ، فجوابه مبني على رأي أصحابه في اهدار مفهوم المخالفة و لا شأن لنا به الآن. و إن أراد ليس بحجة على القطع فيما دون عشرة دراهم فقد أبطل . قوله : (( يحتمل أن يكون ذلك لأنها قومت ما قطع فيه )) . قلنا : و على هذا الاحتمال يكون حجة .
فإن قيل : قد خالفها غيرها .
قلنا : كلا ، لم يخالفها أحد ، فقد اتضح بما تقدم أنه لا يثبت مما ذكره الطحاوي غير حديث ابن عمرو و هو موافق لهذا الحديث لأن صرف الدينار كان حينئذ أثني عشر درهماً . و قول الحنفية : كان صرفه عشرة دراهم مردود كما بين في محله ، و هب أنه كان صرفه في وقت ما عشرة ، فذلك لا يدفع أن يكون صرفه في وقت آخر اثني عشر . وهب أن صرفه كان في طول العهد النبوي عشرة دراهم ، فالفرق نصف درهم و ليس في حديث ابن عمر نفي للقطع فيما دون ثلاثة دراهم . وهب أن عائشة قومت ذاك المجن درهمين و نصفاً فقد اتفقنا على القطع في ثلاثة دراهم لأنه إذا قطع فيما قطع فيها .
و أما الروايات ، فالواجب ان يبدأ باستقصاء النظر في الاختلاف عن ابن عيينة عن الزهري ، ثم بالنظر في رواية غيره عن الزهري ، ثم بالنظر في رواية غيره عن الزهري ، ثم برواية غير الزهري عن عمره . و الطحاوي عدل عن هذا ، فأخذ احدى الروايتين عن ابن عيينة و هي المخالفة لرواية غيره ، و انما بدأ بها الطحاوي ثم قال : (( حدثنا يونس أخبرنا ابن وهب قال : اخبرني يونس بن يزيد عن ابن شهاب عن عروة و عمرة عن عائشة ان رسول الله r قال : تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعداً )) ([6]) ثم قال : (( يونس بن يزيد عندكم لا يقارب ابن عيينة )) ثم ذكر بعض روايات غير الزهري عن عمرة، و انهم اختلفوا ، فمنهم من رفعه و منهم من وقفه ، و حاول ترجيح الوقت ، ثم عاد فذكر رواية الحميدي و الحجاج بن منهال عن ابن عيينة و رواية ابراهيم بن سعد عن الزهري بنحوها ثم قال : (( فلما اضطرب حديث الزهري على ما ذكرنا و اختلف على غيره من عمرة على ما وصفنا ارتفع ذلك فلم تجب الحجة بشيء منه اذا كان بعضه بنفي بعضاً )) كذا قال حسيبة الله ! فلندعه و لنسلك الجادة .
اما الروايتان عن ابن عيينة فقد ترجح رواية الشافعي الحميدي و من وافقها بأمور :
الأول : ان رواتها عن ابن عيينة ممن سمع منه قديماً و قد جاء عن يحيى القطان (( قلت لأبن عيينة : كنت تكتب الحديث و تحدث اليوم و تزيد في اسناده أو تنقص منه . فقال : عليك بالسماع الأول ، فإني قد سئمت )) كأنه يريد سئم من مراجعة اصوله .
الوجه الثاني : ان من رواتها عن الشافعي و الحميدي و كان لهما مزيد اختصاص به ، و جاء عن الحميدي انه لزمه سبع عشرة سنة . و قال الأمام أحمد ((الحميدي عندنا إمام)) و قال ابو حاتم : (( هو اثبت الناس في ابن عيينة وهو رئيس اصحابه و هو ثقة إمام )) .
الوجه الثالث : ان الحميدي لما روى هذا في مسنده عن ابن عينة ذكر كلام ابن عيينة في الحديث فقال كما ذكره الطحاوي – و قرأته في نسخة من ( مسند الحميدي ) : (( عن سفيان قال : حدثنا اربعة عن عمرة عن عائشة لم ترفعه ، عبد الله بن أبي بكر ، و رزيق بن حكيم الأيلي ، و يحيى ، و عبد ربة بن سعيد ، و الزهري احفظهم كلهم ، الا ان في حديث يحيى ما قد دل على الرفع : (( ما نسيت و لا طال علي ، القطع في ربع دينار فصاعداً )) . فهذا يدل ان ابن عيينة لما حدث الحميدي اعتنى بالحديث و احتفل له و ذلك احرى ان يتحرى التحقيق في روايته و لعله راجع اصل كتابه .
الوجه الرابع ان الذين رووه عن الزهري غير ابن عيينة رووه بلفظ الحميدي عن ابن عيينة عن الزهري او معناه .
الوجه الخامس : ان الذين رووه عن عمرة غير الزهري ، رواه اكثرهم بلفظ الحميدي او معناه أيضاً
الوجه السادس : ان في ( الصحيحين ) من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت : (( لم تقطع يد سارق على عهد النبي صلى الله عليه و سلم في ادنى من ثمن المجن ترس او حجفة و كان كل واحد منهما ذا ثمن )) ([7]) فقولها : (( ترس او حجفة )) يدل انها لم تعرفه ، و اذا لم تعرفه لا يمكنها ان تقومه .
و قولها : (( و كان كل واحد منهما ذا ثمن )) ظاهر في انها لم تعرف ثمن ذاك المجن و الا لبينته لتتم الفائدة المقصودة .
فإن قيل لا يلزم من عدم معرفتها بقيمة ذاك المجن ان لا تعرف قيمته غيره مما قطع فيه النبي صلى الله عليه و سلم .
قلت : قد قطع النبي صلى الله عليه و سلم سارق رداء صفوان و كان ثمنه ثلاثين درهماً، و قطع يد المخزومية التي كانت تستعير الحلي و تجحده . و هاتان الواقعتان ليس فيها ربع دينار فكيف تأخذ عائشة منها او من احدهما ان النبي صلى الله عليه و سلم كان يقطع في ربع دينار .
فان قيل لعلها اخذت ذلك من واقعة اخرى غير هذه الثلاث .
قلت : لا يعرف ذلك ، و لو كان ذاك عندها لما احتاجت ان تقول ما رواه هشام عن أبيه عنها ، بل كانت تذكر ذاك الشيء الآخر الذي عرفت قيمته فذلك اوفى بمقصودها من ذكر ما لم تعرف و لا عرفت قيمته .
فإن قيل قد قال النسائي : (( اخبرنا قتيبة ثنا جعفر بن سليمان عن حفص بن حسان عن الزهري عن عروة عن عائشة ، قطع النبي صلى الله عليه و سلم في ربع دينار ))
قلت : جعفر فيه كلام ، و حفص مجهول .
فإن قيل ، فقد يعكس عليك الأمر فيقال ، لو كان عندها عن النبي صلى الله عليه و سلم قوله (( تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعداً )) او نحوه لما احتاجت ان تقول ما رواه هشام عن أبيه عنها .
قلت : هناك مسألتان :
الأولى : هل يقطع في ربع دينار ؟
الثانية : هل يقطع فيما دون ذلك ؟
فحديثها مرفوعاً (( تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعداً )) يدل علىالمسألة الأولى بمنطوقة ، و لا يدل على الثانية الا بمفهوم المخالفة ، فكأنها لما ارادت الإحتجاج على انه لا يقطع في الشيء التافه ، استضعفت ان تخصص القرآن بمفهوم المخالفة ، فلم تحتج بهذا الحديث و عدلت الى ما رواه هشام عن أبيه عنها و كأنها كانت تجوز ان تكون قيمة ذاك المجن كانت أقل من ربع دينار ، فأخبرت بما عندها ، و هو انه اقل ما يقطع فيه النبي صلى الله عليه و سلم و تركت النظر لغيرها .
فإن قيل فقد جاء في بعض روايات حديث عمرة عنها ان النبي r قال : (( لا تقطع اليد الا في ربع دينار فصاعداً )) و هذا واضح الدلالة علىالمسألة الثانية .
قلت : هذا اللفظ مرجوح ، و المحفوظ (( تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعداً )) اما في معناه كما يأتي بيانه ان شاء الله ، و كأن من روى بلفظ : (( لا تقطع … )) انما روى بالمعنى فصرح بمقتضى مفهوم المخالفة اذ تقرر هذا فلو صح عنها انها قالت : (( كان رسول الله r يقطع اليد في ربع دينار )) لوجب حمله على انها انما اخذته من قول النبي r : (( تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعداً )) بناء على ان من شأنه r ان يوافق فعله قوله ، فإذا قال ، (( تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعداً )) علم منه انه كان اذا رفع اليه في سرقة ربع دينار قطع ، فإن لم يقع القطع بالفعل لعدم الرفع فهو واقع بالقوة .
و الحق ان ذاك اللفظ (( كان رسول الله r يقطع فير ربع دينار فصاعداً )) لا يثبت عن عائشة ، و لكن يمكن ان تكون تلك حال ابن عيينة سمع الحديث بلفظ (() تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعداً ) فرواه تارة كذلك و ذلك حين اعتنى بالحديث عنه تحديثه للحميدي كما مر ، و تارة بلفظ (( القطع في ربع دينار )) ، و تارة (( السارق اذا سرق ربع دينار قطع )) و تارة : (( قالت عائشة كان رسول الله r يقطع في ربع دينار فصاعداً )) و الثلاثة الأخيرة كلها من باب الرواية بالمعنى ، اما الثاني و الثالث فظاهر ، و اما الرابع فلما استقر في نفس ابن عيينة ان النبي r اذا قال شيئاً فقد عمل به او كأنه قد عمل به ، و قد ذكر الطحاوي في ( مشكل الآثار ) ج 2 ص 270 حديثاً من طريق شجاع بن الوليد عن ابن شبرمة بسنده : قال رجل يا رسول الله أي الناس أحق مني بحسن الصحبة ؟ قال : أمك . قال : ثم من ؟ قال : أمك . قال : ثم من ؟ قال أمك – ثلاث مرات . قال: ثم من ؟ قال أبوك . ثم رواه من طريق ابن عيينة و فيه ذكر كلام الأم مرتين فقط ثم قال الطحاوي : (( قد يحتمل أن يكون ابن عيينة ذهب عنه في ذلك ما حفظه شجاع لأن ابن عيينة كان يحدث من كتابه )) و عَبَّرَ صاحب ( لمعتصر ) ج 2 ص 286 ([8]) بعبارة منكرة . و في ( المعتصر ) ج 2 ص205 في الكلام على حديث (( أخرجوا يهود الحجاز و أهل نجران من جزيرة العرب )) أن ابن عيينة روى (( أخرجوا المشركين من جزيرة العرب )) ثم قال في ( المعتصر ) : (( ففيه غلط من ابن عيينة لأنه كان يحدث من حفظه فيحتمل أن يكون جعل مكان اليهود و النصارى المشركين إذ لم يكن عنده من الفقه ما يميز بين ذلك)) كذا في ( المعتصر ) و قوله : إذ لم يكن …. )) عبارة بشعة لا أرى الطحاوي يتفوه بها ، و إنما هي من تغيير المختصر الذي ليس عنده من العلم ما يعرف به مقام ابن عيينة كما فعل ابن عيينة كما فعل المختصر في المرضع السابق . و المقصود إنما هو ابن عيينة كان كثيراً ما يروي من حفظه و يروي بالمعنى . هذا و صنيع مسلم في ( صحيحه ) يقتضي أنه لا فرق في المعنى ، فإنه صرح أولاً بلفظ ابن عيينة الأول : (( قالت عائشة كان رسول الله … )) ثم ساق الإسناد عن معمر و إبراهيم ابن سعد و سليمان بن كثير و قال: (( كلهم الزهري بمثله )) مع أن لفظ معمر و إبراهيم كلفظ الحميدي عن ابن عيينة و لفظ سليمان الشافعي عن ابن عيينة .
أما البخاري فأعرض عن رواية ابن عيينة البتة كأنه يقول : أختلفت الرواية عنه ، و في رواية غير الكفاية . و الحق أن رواية الحميدي و من وافقه هي أرجح الروايتين عن ابن عيينة و أنه لو لم يعرف أرجح بصرف النظر عن رواية غيره فإنه يعرف بالنظر في رواية عيره فنقول مثلاً : يونس و ابن عيينة من جانب ، و ابن عيينة وحده من جانب أيهما أرجح ؟ على أن مع يونس جماعة كما يأتي . و في ( فتح الباري ) : (( و أما نقل الطحاوي عن المحدثين أنهم يقدمون ابن عيينة في الزهري على يونس ، فليس متفقاً عليه عندهم ، بل أكثرهم على العكس ، و ممن جزم بتقديم يونس على سفيان في الزهري يحيى بن معين و أحمد بن صالح المصري ، و ذكر أن يونس صحب الزهري أربع عشرة سنة و كان يزامله في السفر و ينزل عليه الزهري إذا قدم أيلة ،و كان يذكر أنه كان يسمع الحديث الواحد من الزهري مراراً ، و أما ابن عيينة فإنما سمع منه سنة ثلاثة و عشرون و مائة ، ورجع الزهري فمات في التي بعدها )) .
أقول : أما الحفظ فابن عيينة أحفظ ، و أضبط بلا شك و لا سيما فيما رواه قديما إلا أنه كثير الرواية بالمعنى ، و يونس دونه في الحفظ و لكن كتابه صحيح كما شهد له ابن المبارك و ابن مهدي . و على كل حال فلا معنى للموازنة بينهما هنا ، و لكن الطحاوي لأمر ما ذكر رواية ابن عيينة المرجوحة و عقبها برواية يونس ، و نصب الخلاف بينهما . و قد علمت ان الواقع رواية ابن عيينة المرجوحة من جانب و روايته الراجحة و يونس من جانب ، فأي معى للموازنة بين الرجلين ؟
أما بقية الرواة عن الزهري فجماعة :
الأول : يونس بن يزيد . تقدمت رواية الطحاوي عن يونس بن عبد الاعلى عن ابن مهب عنه ، و بنحوه رواه البخاري في ( الصحيح ) عن ابن أبي أويس عن ابن وهب ، و كذلك رواه عن ابن وهب الحارث بن مسكين عند النسائي ،و ابن السرح ووهب بن بيان و أحمد بن صالح عند أبي داود ، و رواه مسلم عن حرملة و الوليد بن شجاع عن ابن وهب و قالا في المتن : (( لا تقطع اليد إلا في ربع دينار فصاعداً )) و هذه رواية بالمعنى بالتصريح بمفهوم المخالفة ، و الاولون أكثر و أثبت . و أخرج الامام أحمد ( المسند ) ج 6 ص 311 عن عتاب ، و أخرج النسائي عن حبان بن موسى كلاهما عن ابن المبارك عن يونس عن الزهري عن عمرة عن عائشة مرفوعاً : ((تقطع اليد في ربع دينار فصاعداً)). و هذا أثبت مما تقدم لأن أبن المبارك أثبت من ابن وهب و كان يقول : كتاب يونس صحيح . و كان من عادة ابن المبارك تتبع أصول شيوخه ، فالظاهر أنه أخذ هذا عن يونس من أصل كتابه ، و يشد لذلك أنه لم يذكر عروة ، و بقية الرواية عن الزهري غير يونس في رواية ابن وهب لا يذكرون عروة ، و حديث عروة عن عائشة ليس بهذا اللفظ، و في ( الفتح ) : (( يحتمل أن يكون لفظ عروة هو الذي حفظه هشام عنه و حمل يونس حديث عروة على حديث عمرة فساقه على لفظ عمرة ، و هذا يقع لهم كثيراً )) .
أقول : إنما يتصرف يونس هذا التصرف إذا حدث من حفظه أو من فرع خرجه من أصوله ، فأما إذا حدث من أصله فإنما يكون على الوجه . فبان بهذا أن ابن المبارك أخذ الحديث عن يونس من أصل كتابه ، و لقوة هذه الرواية ذكرها الامام أحمد عقب رواية ابن عيينة كأنه يشير الى أن رواية يونس هذه هي الصواب .
الثاني : إبراهيم بن سعد عند البخاري في ( الصحيح ) عن القعنبي عن إبراهيم بمثل رواية ابن المبارك عن يونس . و كذلك ذكره الطحاوي (( ثنا ربيع المؤذن ثنا أسد ثنا إبراهيم ، و أخرجه مسلم في ( الصحيح ) عن أبي بكر بن أبي شيبة (( ثنا يزيد بن هارون أخبرنا سليمان ابن كثير و إبراهيم … )) و لم يسق المتن . و في ( مصنف ابن أبي شيبة ): (( القطع في ربع دينار فصاعداً )) و هذا لفظ سليمان .
الثالث : سليمان بن كثير تقدمت روايته قريباً .
الرابع و الخامس و السادس : قال البخاري في ( الصحيح ) عقب رواية إبراهيم (( و تابعه عبد الرحمن بن خالد و ابن أخي الزهري و معمر )) و في ( الفتح ) : (( أما متابعة عبد الرحمن .. فوصلها الذهلي في ( الزهريات ) عن عبد الله بن صالح عن الليث عنه نحو رواية إبراهيم …. و أما متابعة ابن أخي الزهري … فوصلها أبو عوانة في ( صحيحه ) من طريق يعقوب بن إبراهيم بن سعد عن ابن أخي شهاب عن عمه …. و أما متابعة معمر فوصلها أحمد عن عبد الرزاق عنه . و أخرجه مسلم من رواية عبد الرزاق لكن لم يسق لفظه ، و ساقه النسائي و لفظه : تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعداً ، ووصلها هو أيضاً و أبو عوانة من طريق سعيد بن أبي عروبة عن معمر . و قال أبو عوانة في آخره: قال سعيد نبَّلنا معمراً ، رويناه عنه وهو شاب …. و سعيد أكبر من معمر و قد شاركه في كثير من شيوخه . رواه ابن المبارك عن معمر لكن لم يرفعه ، أخرجه النسائي )) .
أقول : رواية أحمد في ( المسند ) ج 6 ص 163 ، و رواية مسلم هي عن إسحاق بن إبراهيم و عبدين حميد عن عبد الرزاق ، و رواية النسائي هي عن إسحاق عن عبد الرزاق، و كذلك أخرجه البيهقي في ( السنن ) ج 8 ص 254 من طريق أحمد بن يوسف السلمي عن عبد الرزاق . ورواية سعيد بن أبي عروبة عند النسائي هي عن عبد الوهاب الخفاف عنه ، و قد عدوا عبد الوهاب من أثبت الناس عن أبي عروبة ، لكن ذكر بعضهم أنه سمع من قبل الاختلاط و بعده ، و هذا لا يضر هنا فإن قول سعيد (( نبَّلنا معمراً ، رويناه عنه و هو شاب )) يقضي بأن سعيدا روى هذا قديماً ، فإن معمراً و لد سنة ست أو سبع و تسعين ، و سعيد بدأ به الاختلاط أواخر سنة 143 ، و اشتد به قليلاً سنة 145 و استحكم سنة 148 . هذا هو الجامع بين الحكايات المتصلة في ذلك فأما المنقطعة فلا عبرة بها . فأما رواية ابن المبارك فهي عند النسائي عن سويد بن نصر عنه، و سويد مات سنة 240 و عمره 91 سنة فقد أدركه الشيخان و لكنهما لم يخرجا عنه في ( الصحيح ) و إنما روى له النسائي و الترمذي وو ثقه النسائي و مسلمة ابن قاسم و قال ابن حبان : (( كان متقناً )) فالله أعلم . و قد روى النسائي عنه ابن المبارك عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة قالت : يقطع في ربع دينار فصاعداً . و أثبت الروايات عن يحيى ما رواه مالك و ابن عيينة عنه عن عمرة عن عائشة : (( ما طال علي و لا نسيت ، القطع في ربع دينار فصاعداً )) . فإن لم يكن و هو في روايته عن ابن المبارك عن معمر فالتقصير من معمر . و قد قال الامام أحمد : (( حديث عبد الرزاق عن معمر أحب الي من حديث هؤلاء البصريين ( عن معمر ) ، كان ( معمر ) ، يتعاهد كتبه و ينظر فيها باليمن ( حيث سمع منه عبد الرزاق ) ، و كان يحدثهم حفظاً بالبصرة )) . و سعيد بن أبي عروبة أقدم سماعاً ، فإن لم يكن الوهم من سويد فكأن معمراً حدث بالحديث مرة من حفظه حيث سمع منه ابن المبارك فشك في الرفع فقصر به كما كان يقع مثل هذا لحماد بن زيد . و قد حدث به معمر قبل ذلك حيث سمع من ابن أبي عروبة فرفعه و حدث به باليمن حيث كان يتعاهد كتبه فرفعه ، و الامام
أحمد إنما سمع من عبد الرزاق من أصوله كما تراه في ترجمة عبد الرزاق من ( التهذيب).
السابع : زمعة بن صالح . في ( مسند أبي داود الطيالسي ) ص 220 (( حدثنا زمعة عن الزهري عن عمرة عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعداً )) .
فهؤلاء سبعة رووه عن الزهري كما رواه الحميدي و الشافعي و غيرهما عن ابن عيينة الزهري ، و إنما هناك اختلاف على ابن عيينة و معمر ، و أرجح الروايتين عن كل منهما هي الموافقة للباقين . و هب أن الاختلاف عنهما ضارُّ فبروايتهما فقط ، و يثبت الحديث برواية الباقين و ليس وراء ذلك إلا اختلاف يسير في الألفاظ مع اتحاد في المعنى ، فليس في حديث الزهري ما يسوغ أن يسمى اضطراباً ، فضلاً عن أن يكون اضطراباً مسقطاً كما زعم الطحاوي بقلة مبالاة ، مع تشبثه بحديث ابن إسحاق الذي تقدم حاله !
و أما بقية الرواة عن عمرة فجماعة :
الأول : ابن ابن أخيها محمد بن عبد الرحمن عبد الله بن الرحمن بن سعدة بن زرارة الأنصاري . قال البخاري في ( الصحيح ) : حدثنا عمران بن ميسرة ثنا عبد الوارث حدثنا الحسين ( المعلم ) عن يحيى بن أبي كثير عن محمد بن عبد الرحمن الأنصاري عن عمرة بنت عبد الرحمن حدثه أن عائشة حدثتهم عن النبي r قال : تقطع اليد في ربع دينار )).
ورواه عن عبد الوارث أيضاً أبنه عبد الصمد و صرح بسماع يحيى بن أبي كثير ، و رواه عن يحيى أيضاً حرب بن شداد و همام بن يحيى كما في ( الفتح ) عن الأسماعيلي ، و رواية حرب في ( مسند أحمد ) ج 6 ص 252 و كذلك رواه هقل بن زياد عن يحيى كما في ( الفتح ) عن ( مسند أبي يعلى ) . و قال النسائي (( أنا حميد بن مسعدة ثنا عبد الوارث ثنا حسين يحيى بن أبي كثير عن محمد بن عبد الرحمن الأنصاري ثن ذكر كلمة معناها عن عمرة عن عائشة قالت : قال رسول الله r : لا تقطع اليد إلا في ربع دينار)). لم يتقن حميد بدليل قوله : فذكر كلمة معناها )) و الصواب (( تقطع اليد في ربع دينار )) كما مر .
وروى النسائي من طريق إبراهيم لن عبد الملك أبي إسماعيل القناد عن يحيى بن أبي كثير عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن عمرة عن عائشة : كان النبي r يقطع اليد في ربع دينار . و القناد ليس بعمدة ، و ذكر الساجي أن ابن معين ضعفه . و قال العقيلي : (( يهم في الحديث )) و قال ابن حبان في ( الثقات ) (( يخطئ )) فقد وهم في السند بقوله : (( بن ثوبان )) ووهم في المتن كما رأيت .
الثاني : أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم رواه عنه جماعة ، منهم يزيد بن الهاد عند مسلم في ( صحيحه ) من وجهين ، و عند الطحاوي من وجهين آخرين ، و منهم عبد الرحمن بن سلمان عند النسائي ، و منهم ابن إسحاق عند الطحاوي و البيهقي ، و قال في المتن المرفوع (( لا تقطع اليد إلا في ربع دينار )) و في رواية البيهقي ج 8 ص 255 من طريق ابن إسحاق عن أبي بكر (( أتيت بنبطي قد سرق فبعثت إلي عمرة بنت عبد الرحمن أي بني إن لم يكن بلغ ربع دينار فلا تقطعه فإن عائشة حدثتني أنها سمعت رسول الله r يقول : لا يقطع في دون ربع دينار )) و في ( مسند أحمد ) ج 6 ص 80 و (سنن البيهقي) ج 8 ص 255 من طريق محمد بن راشد عن يحيى بن يحيى الغساني قال : (( قدمت المدينة فلقيت أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم و هو عامل على المدينة فقال : أتيت بسارق ( زاد البيهقي : من أهل بلادكم حوراني قد سرقة سرقة يسيرة . قال ) فأرسلت إلي خالتي عمرة بنت عبد الرحمن أن لا تعجل … قال : فأتتني فأخبرتني أنها سمعت عائشة تقول : قال رسول الله r : أقطعوا في ربع الدينار و لاتقطعوا فيما هو أدنى من ذلك )) .
الأثبت عن عمرة لفظ ( تقطع اليد في ربع دينار فصاعداً ) وقد دل حديث عروة كما تقدم على أن هذا هواللفظ الذي كان عند عائشة ، فما وقع في هذه الرواية ( تقطع اليد إلا … ) و نحوه من الرواية بالمعنى . و المقتضى لذلك هنا و الله أعلم أن الحديث يدل على حكمين :
الأول : اثبات القطع في ربع دينار .
الثاني : نفي القطع فيما دون ذلك .
فإذا كان الاول هو الاهم فحقه أن يقال مثلا ً : ( تقطع اليد في ربع دينار ) . و إذا كان الثانمي هو الاهم فحقه أن يقال مثلاً : ( لا تقطع اليد إلا في ربع دينار ) . و إذا كانا سواء جمع بين اللفظين فلما كان الاهم في الواقعة التي ذكرها أبو بكر هو الحكم الثاني و قع التعبير لما يوافقه . و الاشبه أن التصرف من أبي بكر ، سمع الحديث في صدد بيان الحكم الثاني .
فثبت في ذهنه بالمعنى المقتضي للفظ الثاني فعبر بذلك ، ثم كأنه أستشعر حيث أخبر النسائي أن أصل لفظ عمرة يقتضي المعنيين على السواء فجمع بين اللفظين ، و أنما كان لفظ الحديث يقتضي أهمية الاول ، و المقام يقتضي أهمية الثاني فتدبر .
الثالث : سليمان بن يسار . أخرجه مسلم في ( الصحيح ) من طريق ابن و وهب مخرمة ابن بكير بن الاشج (( عن أبيه عن سليمان بن يسار عن عمرة انها سمعت عائشة تحدث أنها سمعت رسول الله r يقول : لا تقطع اليد إلا في ربع دينار فصاعداً )) . و أخرجه الطحاوي عن يونس عن ابن وهب مثله إلا أنه قال (( يد السارق ))
قال الطحاوي : أنتم تزعمون أن مخرمة لم يسمع من أبيه . حدثنا ابن أبي داود قال : ثنا ابن أبي مريم عن خاله موسى ابن أبي سلمة قال سألت مخرمة بن بكير : هل سمعت من أبيك شيئاً ؟ فقال : لا )) .
اقول : قال ابو داود : (( لم يسمع من أبيه الا حديثاً واحداً و هو حديث الوتر )) فقد سمع من أبيه في الجملة ، فان كان ابوه اذن له ان يروي ما في كتابه ثبت الإتصال و الا فهي وجادة ، فان ثبت صحة ذاك الكتاب قوي الأمر ، و يدل على صحة الكتاب ان مالكاً كان يعتد به ، قال احمد : (( اخذ مالك كتاب مخرمة فكل شيء يقول : بلغني عن سليمان بن يسار فهو من كتاب مخرمة عن أبيه عن سليمان )) . و ربما يروي مالك عن الثقة عنده عن بكير بن الأشج . و قد قال ابو حاتم : (( سالت اسماعيل بن أبي اويس قلت: هذا هو الذي يقول مالك : حدثني الثقة – من هو ؟ قال : مخرمة بن بكير )) .
واخرج النسائي من طريق ابن اسحاق عن يزيد بن أبي حبيب عن بكير بن الأشج عن سليمان بن يسار عن عمرة انها سمعت عائشة تقول :قال رسول الله r : لا تقطع اليد الا في ثمن المجن . قيل لعائشة : ما ثمن المجن ؟ قالت : ربع دينار )) . و من طريق مخرمة عن أبيه (( سمعت عثمان بن الوليد الأخنسي يقول ، سمعت عروة بن الزبير يقول : كانت عائشة تحدث عن النبي r انه قال : لا تقطع اليد الا في المجن او ثمنه ، و زعم ان عروة قال : المجن اربعة دراهم . و سمعت سليمان بن يسار يزعم انه سمع عمرة تقول : سمعت عائشة تحدث أنها سمعت رسول الله r يقول : لا تقطع اليد إلا في ربع دينار فما فوقه )).
أقول : ابن إسحاق في حفظه شئ و يدلس ، و كأنه او من فوقه سمع الحديث كما ذكره مخرمة عن أبيه فخلط الحديثين ، و الصواب حديث مخرمة ، فذكر المجن إنما هو من رواية بكير عن عثمان بن الوليد عن عروة ، و رواية سليمان لا ذكر فيها للمجن ، و عثمان بن الوليد ذكره ابن حبان في ( الثقات ) و ذاك لا يخرجه عن جهالة الحال لما عرف من قاعدة ابن حبان لكن إن صحت رواية بكير بن الأشج عنه فإنها تقويه ، فقد قال أحمد بن صالح : (( إذا رأيت بكير بن عبد الله ( بن الأشج ) روى عن رجل فلا تسأل عنه فهو الثقة الذي لا شك فيه )) . و هذه العبارة تحتمل و جهين :
الأول : أن يكون المراد بقوله : (( فلا تسأل عنه )) . أي : عن ذاك المروي . أي : لا تلتمس لبيكير متابعاً فإنه أي بكيراً الثقة الذي لا شك فيه و لا يحتاج الى متابع .
الوجه الثاني : أن يكون المراد فلا تسأل عن ذاك الرجل فأنه الثقة . يعني أن بكيراً لا يروي إلا عن ثقة لا شك فيه . و الله أعلم .
و على كل حال فالصواب من حديث عروة ما في ( الصحيحين ) عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت : (( لم تقطع يد سارق على عهد النبي r في أدنى من ثمن المجن ترس أو حجفة ، و كان كل واحد منهما ذا ثمن )) .
الرابع : أبو الرجال و هو محمد بن عبد الرحمن بن حارثة بن النعمان . قال النسائي : (( أخبرني إبراهيم بن يعقوب قال : حدثنا عبد الله بن يوسف قال : حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن ، ابن أبي الرجال عن أبيه عن عمرة عن عائشة قالت : قال رسول الله r : (( يقطع يد السارق في ثمن المجن ، و ثمن المجن ربع دينار )) . ذكر ابن حجر هذه الرواية في ( الفتح ) بقوله : (( أخرجه النسائي من رواية عبد الرحمن بن أبي الرجال عن محمد بن عبد الرحمن عن أبيه عن عمرة )) كذا وقع في النسخة و الصواب إسقاط كلمة (( عن )) الواقعة قبل (( محمد )) .
هذا و أبو الرجال ثقة عندهم و عمرة أمه ، و أبينه عبد الرحمن و ثقة أحمد أبن معين و غيرهما ، لكن لينة أبو زرعة و أبو حاتم و أبو داود .
و قال ابن حبان في ( الثقات ) : (( ربما أخطأ )) ، و أراه خلط حديثين فإنه لا يعرف عن عمرة ذكر المجن . و قد دل حديث ( الصحيحين ) عن عروة أن عائشة لم تكن تحق ثمن المجن كما تقدم شرحه .
الخامس و السادس و السابع . قال الطحاوي : (( حدثنا علي بن شيبة قال : ثنا عبد الله ابن صالح . قال : ثنى يحيى بن أيوب عن جعفر بن ربيعة عن العلاء بن الأسود بن جارية و يقال : الأسود ابن العلاء بن جارية ) و أبي سلمة بن عبد الرحمن و كثير بن خميس أنهم تنازعوا في القطع ، فدخلوا على عمرة يسألونها فقالت : قالت عائشة : قال رسول الله r : لا يقطع إلا في ربع دينار )) .
قال الطحاوي : (( أما أبو سلمة فلا نعلم لجعفر بن ربيعة عنه سماعاً ، و لا نعلمه لقيه أصلاً )) .
أقول : ذكروا أن جعفر بن ربيعة رأى عبد الله بن الحارث بن جزء ، و عبد الله توفى سنة 86 على الراجح . و قيل في التي قبلها ، و قيل في التي بعدها ، و قيل بعدها بسنتين فيشبه أن يكون مولد جعفر نحو سنة 75 . و قد أختلف في وفاة أبي سلمة و قيل سنة 94 و قيل سنة 104 فاللقاء ممكن . و الله أعلم .
و كان في المدينة ربيعة الرأي الفقيه و كان قوله : القطع فيما يبلغ درهماً فكأن هذا هو الباعث على ما وقع في بعض الروايات من التعبير عن الحديث بلفظ (( لا تقطع اليد … )) أو نحوه ذلك كما وقع في رواية سليمان بن يسار و غيرها .
الثامن : أبو النضر فيما رواه ابن لهيعة (( ثنا أبو النضر عن عمرة عن عائشة أن رسول الله r قال : لا تقطع يد السارق إلا في ثمن المجن فما فوقه . قالت عمرة بنت عبد الرحمن: فقلت لعائشة : ما ثمن المجن يومئذ ؟ قالت : ربع دينار )) . أخرجه البيهقي ج 8 ص 256 و ابن لهيعة ضعيف .
التاسع : يحيى بن يخيى الغساني فيما أخرجه الطبراني في ( المعجم الصغير ) ص 3 و ص 89 عن أحمد بن أنس بن مالك الدمشقي المقري و عن خالد بن أبي روح الدمشقي كل منهما عن إبراهيم بن هاشم بن يحيى بن يحيى الغساني عن أبيه عن جده عن عمرة عن عائشة قالت : قال النبي r : (( القطع في ربع دينار فصاعداً )) . قال الطبراني : (( لم يروه عن يحيى بن يحيى إلا ولده )) ، زاد في الموضع الثاني (( و هم ثقات )) . و إبراهيم بن هاشم ذكره أبن حبان في ( الثقات ) و أخرج له في ( صحيحه ) ، لكن طعن فيه أبو حاتم و ذكر قصة تدل على أن إبراهيم كان به غفلة . و الله أعلم .
العاشر : يحيى بن سعيد الانصاري . و هو من أجل من كثير من الذين تقدموا ، و إنما أخرته لأن بعضهم نسب رواة هذا الحديث عنه الى الخطأ كما يأتي . قال النسائي : (( أخبرنا الحسن بن محمد ( بن الصباح الزعفراني ) قال : حدثنا عبد الوهاب ( بن عطاء ) عن سعيد ( بن أبي عروبة ) عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة عن النبي r : (( تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعداً )) .أخبرني يزيد بن محمد بن فضيل قال : أنبأنا مسلم بن إبراهيم قال : حدثنا أبان قال : حدثنا يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة أن النبي r قال : (( تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعداً )) . و قال الطحاوي : (( حدثنا محمد بن خزيمة ثنا مسلم بن إبراهيم … )) فساقه مثله .
الحسن ثقة من رجال البخاري ، و عبد الوهاب من رجال مسلم ، و ثقة جماعة مطلقاً و لينة آخرون ، و قدموه في روايته عن سعيد ، قال الأمام احمد : (( كان عالماً بسعيد )) . و سأل ابو داود عنه و عن السهمي في حديث ابن أبي عروبة ؟ فقال : عبد الوهاب اقدم . فقيل له : عبد الوهاب سمع زمن الاختلاط ( يعني اختلاط سعيد ) فقال : من قال هذا ؟ ! سمعت احمد يقول : عبد الوهاب اقدم )) . و قال ابن سعد : (( لزم سعيد ابن أبي عروبة ، و عرف بصحبته ، و كتب كتبه … )) . و قال البخاري : (( يكتب حديثه )) قيل له : يحتج به ؟ قال : (( ارجوا إلا انه كان يدلس عن ثور و اقوام احاديث مناكير )) . و سعيد ثقة جليل إلا انه اختلط بأخرة ، و سماع عبد الوهاب منه قديم .
و أما السند الثاني فشيخ النسائي لم يوثق و لكن قد تابعه محمد بن خزيمة كما رأيت ، و مسلم ثقة متفق عليه . و أبان من رجال مسلم . و اخرج له البخاري في ( الصحيح ) بلفظ : (( قال لنا مسلم بن إبراهيم ثنا أبان … )) و بالجملة فمجموع السندين صالح للحجة حتماً . لكن اعله بعضهم بأن مالكاً و ابن عيينة رويا عن يحيى عن عمرة : قالت عائشة : (( ما نسيت و لا طال علي ، القطع في ربع دينار )) و بنحوه رواه جماعة عن يحيى، و روى أخوه عبد ربه و عبد الله بن أبي بكر و رزيق بن حكيم عن عمرة : قالت عائشة : (( القطع في ربع دينار )) . بل حاول الطحاوي إعلال من أصله ، و أجاب البيهقي و غيره بأنه لا منافاة بين أن يكون الحديث عند عائشة فتخبر به تارة و تستفتى فتفتي بمضمونه أخرى . و في ( الموطأ ) عن عبد الله ابن أبي بكر عن عمرة قالت : (( خرجت عائشة … إلى مكة و معها مولاتان لها … فسئل العبد عن ذلك فأعترف ، فأمرت به عائشة … فقطعت يده و قالت عائشة : القطع في ربع دينار فصاعداً و يؤيد الجمع أن لفظ المرفوع في أثبت الطرق وأكثرها : (( تقطع اليد في ربع دينار فصاعداً )) . و لفظ الموقوف في جميع طرقه إلا ما شذ : (( القطع في ربع دينار فصاعداً )) و زاد يحيى قبله:(( ما طال علي و لا نسيت )) .
و المدار في هذا الباب على غلبة الظن ، و لا ريب أن من تدبر الروايات غلب على ظنه غلبة واضحة صحة كل من الخبرين و أنه لا تعارض بينهما ، و علم أن الحمل على الخطأ بعيد جداً . هذا و قد قال أبن التركماني : (( قال الطحاوي : حدثني غير واحد من أصحابنا من أهل العلم عن أحمد بن شيبان الرملي ثنا مؤمل بن إسماعيل الرملي ( كذا ) عن حماد بن زيد عن أيوب عن عبد الرحمن بن القاسم عن عمرة عن عائشة قالت : يقطع السارق في ربع دينار فصاعدا قال أيوب : و حدث يحيى عن عمرة عن عائشة و رفعه ، فقال له عبد الرحمن : أنها كانت لا ترفعه فترك يحيى رفعه )) . و بمثل هذا السند لا يثبت هذا الخبر عن حماد بن زيد ([9]) لكن يظهر أن له أصلاً ، فقد تقدم رواية سعيد بن أبي عروبة و أبان بن يزيد عن يحيى عن عمرة عن عائشة مرفوعاً باللفظ الذي رواه الإثبات الذيثن رفعوا الحديث (( تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعداً )) . و روى مالك و ابن عيينة عن يحيى عن عمرة ان عائشة قالت : ما طال علي و لا نسيت ، القطع في ربع دينار . و قوله : (( القطع في ربع دينار )) هو اللفظ الذي رواه الواقفون فهذا يدل انه كان عند يحيى كلا الخبرين ، فكان يحدث بالمرفوع فأنكر عليه بعض من لم يسمعه و سمع الموقوف ، فأعرض يحيى عن رواية المرفوع صوناً لنفسه عن ان يتهمه من لا يعلم حقيقة الحال بالإصرار على الخطأ .
هذا ، وقد ذكر ابن عيينة رواية عبد الله بن أبي بكر و عبد ربة و رزيق ([10]) ثم قال : (( إلا أن في حديث يحيى ما قد دل على الرفع : ما نسيت و لا طال علي ، القطع في ربع دينار )) . اعترف به الطحاوي بقوله : (( قد يجوز أن يكون معناها في ذلك ما طال علي و لا نسيت ما قطع فيه الرسول r مما كانت قيمته عندها ربع دينار )) .
أقول : قد مر دفع الاحتمال و بيان أنه لا يعرف فيما قطع فيه النبي r و آله و سلم ما هو قليل إلا المجن ، و قد دل حديث ( الصحيحين ) عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة على أنها لم تكن تعرف المجن و لا قيمته . و بهذا يتبين أن رواية عبد الله بن أبي بكر و عبد ربة و رزيق تدل أيضاً على الرفع ، فإن التقدير بربع دينار ليس مما يقال بالرأي ، و لا يعرف ما تأخذ عائشة منه ذلك إلا ما ثبت عنها عن النبي r من قوله ، و الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات .
ثم جعجع الطحاوي بما علم رده مما تقدم ثم قال : (( فلما اضطرب حديث الزهري على ما ذكرنا ، و أختلف على غيره عن عمرة كما وصفنا ، أرتفع ذلك كله فلم تجب الحجة بشيء منه إذا كان بعضه ينقض بعضاً )) .
كذا قال ، و قد أقمنا الحجة الواضحة على انه لا اضطراب و لا تناقض([11]) ثم قال :(( و رجعنا إلى أن الله عز و جل قال في كتابه : [ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا ] فأجمعوا أن الله عز و جل لم يعن بذلك كل سارق و إنما عنى به خاصة … فلا يدخل إلا ما قد أجمعوا أن الله تعالى عناه ، و قد أجمعوا أن الله تعالى عنى سارق العشرة الدراهم )).
أقول : عليه في هذا أمور :
الأول : دعواه الإجماع غير مقبولة و في ( الفتح ) في تعداد المذاهب : (( الأول يقطع في كل قليل و كثير تافهاً كان أو غير تافه ، نقل عن أهل الظاهر و الخوارج و نقل عن الحسن البصري ، و به قال أبو عبد الرحمن أبن بنت الشافعي …. الثالث مثل الأول إلا إن كان المسروق شيئاً تافهاً لحديث عروة الماضي . لم يكن القطع في شيء من التافه ، و لأن عثمان قطع في فخارة خسيسة و قال لمن يسرق السياط لئن عدتم لأقطعن فيه ، و قطع أبن الزبير في نعلين . أخرجها أبن أبي شيبة . و عن عمر بن عبد العزيز أنه في مد أو مدين . الرابع : تقطع في درهم فصاعداً و هو قول عثمان البتي … من فقهاء البصرة و ربيعة من فقهاء المدينة … )) .
و أقول لا أرى هذه المذاهب الثلاثة إلا متفقة على إبقاء الآية على عمومها ، و إنما المدار على تحقق أسم (( السارق )) فإنه لا ريب أن عمومها إنما يتناول من يحق عليه أسم (( السارق )) و هذا لازم للمذهب الأول ، إذ يمتنع أن يقول عالم أن من أخذ حبه بر مثلاً حق عليه أسم (( السارق )) . و أما المذهب الثالث فلعل قائله نحا هذا المنحي أي أن الشيء التافه الذي لا يتبين أنه يحق على آخذه أسم (( السارق )) لا يتبين دخوله في الآية ، و القطع إنما هو على من يتبين دخوله فيها . و أما المذهب الرابع فالبتي و ربيعة الرأي كانا ممن يتفقه و يتعانا الرأي و النظر ، فكأنهما رأيا أن التفاهة التي لا يتبين بها الدخول في الآية معنى غير منضبط فرأيا ضبطها بالدراهم .
الأمر الثاني : هب أنه سلم للطحاوي ما ادعاه من الإجماع ، فقد علمنا أن ظاهر القرآن وجوب القطع على كل سارق ، و ظاهر القرآن حجة قطعاً ، و يوافقه حديث ( الصحيحين ) : (( لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده و يسرق الحبل فتقطع يده )) ، و هذه الحجة لا يجوز الخروج عنها إلا بحجة ، فإن لا يثبت من السنة ما يوجب إخراج شيء من ذاك العموم رجعنا إلى الإجماع فإن كان هناك إجماع على خروج شيء ، فأما ما أختلف فيه فقيل بخروجه و قيل ببقائه فهو باق على ظاهر القرآن ، لأن القائلين بخروجه بعض الأمة ، و ليس في قول بعض الأمة حجة يترك بها ظاهر القرآن .
فإن قيل : فقد أختلف النظار في العام الذي قد خص ، فقال بعضهم : إنه لا يبقى حجة في الباقي .
قلت : هذا قول مخالف لإجماع السلف ، و قد رغب عنه الحنفية أنفسهم ، و تمام الكلام في رده في أصول الفقه .
الأمر الثالث : هب أنه قويت دعوى الإجماع ، و قوي ما يترتب على ذلك من دعوى أن الآية صارت مجملة ، ففي السنة الثابتة ما يكفي ، فقد صح حديث أبن عمر ، و أندفع ما عورض به ، و صح حديث عائشة ، و بطلت دعوى اضطرأبية ، فثبت القطع في ثلاثة دراهم و في ربع دينار ، و بقي النظر فيما هو أقل من ذلك ، و ليس هذا موضع البحث فيه .
ثم ذكر الطحاوي خبر المسعودي عن القاسم عن أبن مسعود : (( لا تقطع اليد إلا في دينار أو عشرة دراهم )) و رواه بعضهم عن المسعودي عن القاسم عن أبيه و المسعودي أختلط . ثم هو منقطع لأن القاسم لم يدرك أبن مسعود ، و كذلك أبوه عبد الرحمن نفى جماعة سماعة من
أبن مسعود ، و أثبت بعضهم سماعة منه لأحرف معدودة ذكرها أبن حجر في ( طبقات المدلسين ) ص 13 ، ثم قال : (( فعلى هذا يكون الذي صرح فيه بالسماع من أبيه ( أبن مسعود ) أربعة أحدها . وقوف و حديثة عنه كثير …. معظمها بالعنعنة هذا هو التدليس )) .
أقول : و ليس هذا الخبر من تلك الأربعة .
وروى الثوري عن (( حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم قال : قال عبد الله : لا تقطع اليد إلا في ترس أو حجفة . قلت لإبراهيم : كم قيمته ؟ قال : دينار )).و الثوري يدلس ، وحماد سيئ الحفظ ، حتى قال حبيب بن أبي ثابت : (( و كان حماد يقول : قال إبراهيم:ط فقلت و الله إنك لتكذب أو إن إبراهيم ليخطئ )) . و قد قال حماد نفسه لما قيل له : قد سمعت من إبراهيم ؟ : (( إن العهد قد طال بإبراهيم )) . و إبراهيم عن عبد الله منقطع ، و ما روي عنه ([12]) أنه قال : إذا قلت : قال عبد الله ، فهو عن غير واحد عن عبد الله . لا يدفع الانقطاع لاحتمال أن يسمع إبراهيم عن غير واحد ممن لم يلق عبد الله، أو ممن لقيه و ليس بثقة ، ([13]) و احتمال أن يغفل إبراهيم عن قاعدته و احتمال أن تكون قاعدته خاصة بهذا اللفظ (( قال عبد الله )) ، ثم يحكى عن عبد الله بغير هذا اللفظ ما سمعه من واحد ضعيف فلا يتنبه من بعده للفرق ، فيرويه عنه بلفظ (( قال عبد الله )) و لا سيما إذا كان فيمن بعده من هو سيئ الحفظ كحماد . و في ( معرفة علوم الحديث ) للحاكم ص108 من طريق (( خلف بن سالم قال : سمعت عدو من مشايخ أصحابنا تذاكروا كثرة التدليس و المدلسين ، فأخذنا في تمييز أخبارهم ، فأشتبه علينا تدليس الحسن بن أبي الحسن و إبراهيم بن يزيد النخعي … و إبراهيم أيضاً يدخل بينه و بين أصحاب عبد الله مثل هني بن نويرة ، و سهم بن منجاب ، و خزامة الطائي ، و ربنا دلس عنهم )) .
و قد ذكر الأستاذ ص 56 قول يحيى الحماني : (( سمعت عشرة كلهم ثقات يقولون : سمعنا أبا حنيفة يقول القرآن مخلوق )) فقال الأستاذ : (( قول الراوي سمعت الثقة يعد كرواية عن مجهول ، و كذا الثقت )) . ([14]) و ما روي عن أبي حنيفة عن حماد عن إبراهيم : (( لا تقطع اليد في أقل من ثمن الحجفة ، و كان ثمنها عشرة دراهم )) قول إبراهيم ، و قد يكون إنما أخذ من عمرو أبن شعيب أو مما روي عن مجاهد و عطاء و قد تقدم ما فيه .
و قد روي الثوري أيضاً عن عيسى بن أبي عزة عن الشعبي عن أبن مسعود أن النبي r قطع في مجن ثمنه خمسة دراهم . قال أبن التركماني : (( فيه ثلاثة علل ، الثوري مدلس و قد عنعن ، و ابن أبي عزة ضعفه القطان و ذكره الذهبي في كتابه في ( الضعفاء ) ، و الشعبي عن أبن مسعود منقطع )) .
أقول : أما الأولى فنعم ، و أما الثانية فإنما حكى ذلك العقيلي ، و هو لم يدرك القطان، ([15]) و مع ذلك فهو جرح غير مفسر ، و ابن أبي عزة ة ثقة أحمد و ابن معين و ابن سعد ، فأما الذهبي فمعلوم أن قاعدته أن يذكر في ( الميزان ) ([16]) كل من تكلم فيه و لو كان الكلام يسيراً لا يقدح . و أما الثالثة فنعم ، و لكن الشعبي جيد المرسل ، قال العجلي : (( لا يكاد الشعبييرسل إلا صحيحاً )) . و قال الآجري عن أبي داود : (( مرسل الشعبي أحب إلى من مرسل النخعي )) .
و الظاهر أنه إن صح عن ابن مسعود شيء فهو في ذكر القطع في المجن مطلقاً و أما التقويم فممن بعده أخذاً من حديث أنس عن أبي بكر و سيأتي ، أو يكون ابن مسعود إنما ذكر قطع أبي بكر .
و روى ابن عيينة عن حميد الطويل قال : (( سمعت قتادة يسأل أنس بن مالك عن القطع ؟ فقال : حضرت أبا بكر قطع سارقاً في شئ ما يسوى ثلاثة دراهم . أو : ما يسرني أنه لي بثلاثة دراهم )) و قد رواه أبو حاتم الرازي عن الانصاري عن حميد و فيه :(( ما يسرني أنه لي بثلاثة دراهم ))بدون شك . أخرجه البيهقي و لا يلزم من قول أنس : (( ما يسرني … )) أن تكون القيمة أقل من ثلاثة دراهم ، فأن من لا يحتاج إلى سلعة لا يسره أنها له بقيمة مثلها ، و إنما يسره أن تكون بأقل من قيمتها ليبيعها فيربح فيها أو يدخرها لوقت الحاجة .
و قد روى قتادة عن أنس قصة أخرى ، و هي أنه قطع في مجن قيمته خمسة دراهم . رواه النسائي و البيهقي في ( السنن )نه أنه أأأ ج 8 ص 259 من طريق الثوري عن شعبة عن قتادة . و رواه النسائي أيضاً من طريق أبي داود الطيالسي قال : (( حدثنا شعبة عن قتادة قال : سمعت أنساً يقول : سرق رجل في عهد أبي بكر فقوم خمسة دراهم فقطع. و رواه أبو هلال محمد بن سليم عن قتادة فقال : (( عن أنس أن النبي r …. )). و أبو هلال ليس بعمدة و لا سيما في قتادة . و رواه هشام عن قتادة فوافق أبا هلال ، و سئل هشام مرة فقال : (( هو عن النبي r ، و إلا فهو عن أبي بكر )) . و رواه عبد الوهاب بن عطاء عن سعيد عن قتادة عن أنس أن أبا بكر قطع في مجن قيمته حمسة دراهم، أو أربعة دراهم . شك سعيد . و صوب النسائي و غيره رواية شعبة و ذلك واضح . و من أحب تتبع هذه الروايات فليراجع ( سنن النسائي ) و ( سنن البيهقي ) .
وفي ( مصنف ابن أبي شيبة ) عن شريك عن عطية بن مقسم عن القاسم بن عبد الرحمن قال : أُتي عمر بسارق فأمر بقطعه ، فقال عثمان : إن سرقته لا تساوي عشرة دراهم قال : فأمر به عمر فقومت ثمانية دراهم فلم يقطعه . القاسم لم يدرك عمر و لا كاد ، و عطية مجهول الحال ، و شريك سئ الحفظ و نسبه بعضهم الى التدليس كما مضى . و رواه الثوري عن عطية بن عبد الرحمن الثقفي عن القاسم قال : (( أُتي عمر بن الخطاب بسارق قد سرق ثوباً فقال لعثمان : قومه ، فقومه ثمانية دراهم فلم يقطعه )) . و يؤخذ من كلام البخاري و أبي حاتم أن عطية هذا هو الذي روى عنه شريك ، فإن صح هذا فهو مجهول الحال ، و إلا فكلاهما مجهول . و لو صحت القصة ، فلفظ الثوري أقرب، و يكون ترك القطع لمانع آخر كشبهة ظهرت . و سيأتي عن عثمان أنه قطع في أترجة قومت ثلاثة دراهم و مر عنه أنه قطع في فخارة خسيسة . فكيف يقول ما وقع فيه لفظ شريك ؟!
وفي ( نصب الراية ) ج 3 ص363 أن في ( مصنف عبد الرزاق ) : (( عن معمر عن عطاء الخراساني أن عمر بن الخطاب قال : (( كم أخذ من ثمر شيئاً فليس عليه قطع حتى يأوي الجرين ، فإن أخذ منه بعد ذلك ما يساوي ربع دينار قطع )) . عطاء الخراساني لم يدرك عمر ، لكن هذا أقوى من رواية عطية . و في ( الفتح ) : أخرجه (( ابن المنذر عن عمر بسند منقطع أنه قال : إذا أخذ السارق ربع دينار قطع )) . و فيه أن ابن المنذر أخرج من طريق منصور عن مجاهد عن ابن المسيب عن عمرة : لا تقطع الخمس إلا في خمس )) . ابن المسيب عن عمر منقطع ، إلا أنه جيد ، لكن لا نعلم كيف السند إلى منصور . و أخرجه ابن أبي شيبة في ( المصنف ) من طريق قتادة عن ابن المسيب ، و قتادة مشهور بالتدليس .
وروى مالك في ( الموطأ ) ، و ابن عيينة كما في ( مصنف ابن أبي شيبة ) عن عبد الله بن أبي بكر عن عمرة أن سارقاً في زمن عثمان سرق أترجة فأمر به عثمان أن تقوم ، فقومت ثلاثة دراهم من صرف اثني عشر درهماً بدينار فقطع عثمان يده )) . و عمرة يقال أنها ماتت سنة 98 و عمرها سبع و سبعون سنة . فعلى هذا يكون سنها لمقتل عثمان فوع أربع عشرة سنة . و قد جاء عن عثمان ما هو أشد من هذا كما تقدم .
وروى حاتم بن إسماعيل كما في ( مصنف ابن أبي شيبة ) ، و سليمان بن هلال كما في ( سنن البيهقي ) عن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن أبي طالب عن أبيه عن علي رضي الله عنه أنه قطع يد سارق في بيضة حديد ثمنها ربع دينار . و قال الشافعي في ( الأم ) ج 6 ص 116 : (( أخبرنا أصحاب جعفر عن جعفر عن أبيه أن علياً رضي الله عنه قال : (( القطع في ربع دينار )) . محمد بن علي لم يدرك علياً ، لكن لم يعارض هذا عن علي ما هو أقوى منه ، و إنما ذكر البيهقي ( السنن ) ج 8 ص 261 أثراً عن علي فيه : (( لا تقطع اليد إلا في عشرة دراهم )) ثم قال : (( هذا إسناد يجمع مجهولين و ضعفاء))([17]) . فقال ابن التركماني : (( قد جاء من و جه آخر ضعيف إلا أنه أجود من الرواية التي ذكرها البيهقي بلا شك . فروى عبد الرزاق عن الحسن بن عمارة عن الحكم بن عتيبة عن يحيى بن الجزار عن على قال : لا تقطع اليد في أقل من دينار أو عشرة دراهم. فعدل البيهقي عن هذه الرواية الى تلك لزيادة التشنيع )) .
أقول : و هذه ليست مما يفرح به ، الحسن بن عمارة طائح ، قال شعبة : أفادني الحسن ابن عمارة سبعين حديثاً عن الحكم فلم يكن لها أصل )) . و نص شعبة على أمثلة منها ، سئل الحكم عنها فلم يعرفها . قال شعبة : (( قال الحسن بن عمارة : حدثني الحكم عن يحيى بن الجزار عن علي – سبعة أحاديث ، فسألت الحكم عنها فقال : نا سمعت منها شيئاً )) و قال ابن المديني في الحسن بن عمارة : (( كان يضع )) .
المسلك الثالث : لبعض مشاهير الحنفية في هذا العصر . كان الرجل مشهوراً بطول الباع و سعة الاطلاع و الوهد و العبادة ، ([18]) و كان يقرر أن أحاديث ( الصحيحين ) قطعية الثبوت . و كان مع ذلك غاية في الجمود على المذهب و التفاني في الدفاع عنه . و في مسلكه هذا ما يظهر منه علو طبقته في ذلك . ذكر أن لأصحابه طرقاً في التملص من أحاديث ( الصحيحين ) في هذهالمسألة ، من ترجيح غيرها أو دعوى اضطرابها أو نسخها، و أنه لم يرتض شيئاً من ذلك ، و اختار طريقاً جديداً يجمع بين الادلة في زعمه ، و هو أولاً كان في ثمن المجن كما في حديث ( الصحيحين ) عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة ، و كانت قيمة المجن أولاً قليلة ، ثم أخذت تزيد بزيادة أتساع حال المسلمين حتى بلغت عشرة دراهم فأقر الأمر عليها ، و ترك اعتبار ثمن المجن ، و ذلك كما هو الحال عنده في الدية . قال : (( و على نحو هذا حملت حد الخمر و مقدار المهر )) .
أقول : لم أظفر بتطبيق الأخبار على هذا المسلك لكن قد يقال : كان المعيار الشرعي لما يحب في القطع هو قيمة المجن فكأنها كانت أولاً لا تزيد عن أقل ما يحق على آخذه اسم (( السارق )) و حينئذ أنزل الله عز و جل : [ السارق و السارق فاقطعوا أيدهما ] ، ثم كأنها ترقت قليلاً فصارت كقيمة الحبل و البيضة و حينئذ قال النبي صلى الله عليه و آله و سلم : (( لعن الله السارق يسرق الحبل فتقطع يده و يسرق البيضة فتقطع يده)) ثم ترقت فصارت ربع دينار و هو عند الحنفية درهمان و نصف ، و حينئذ قال النبي r : (( تقطع اليد في ربع دينار فصاعداً )) ثم ترقت فصارت ثلاثة دراهم ، و حينئذ قطع النبي صلى الله عليه و آله و سلم في مجن قيمته ثلاثة دراهم .
ثم كأنها بقيت كذلك إلى أن قطع أبو بكر في شئ يقول أنس : (( ما يسرني أنه لي بثلاثة دراهم )) . ثم كأنها ترقت فصارت خمسة دراهم ، و حينئذ قطع أبو بكر في مجن قيمته خمسة دراهم . و كأنها بقيت على ذلك إلى عهد عمر ، و حينئذ قال – لو صح عنه - : لا تقطع الخمس إلا في خمس . ثم كأنها نقصت إلى درهمين و نصف فحينئذ قال عمر – لو صح عنه – إذا أخذ السارق ربع دينار قطع . ثم كأنها ترقت فصارت عشرة دراهم و حينئذ امتنع – لو صح عنه – من القطع في ما قيمته ثمانية دراهم . ثم نقصت في عهد عثمان و حينئذ قطع في أترجة قيمتها ثلاثة دراهم ، ثم ازدادت نقصاً و حينئذ قطع في فخارة خسيسة . ثم تحسنت الحال قليلاً في زمن علي و حينئذ قطع في بيضة حديد قيمتها ربع دينار ، و أفتت عائشة بالقطع في ربع دينار ، ثم لا ادري متى عادت فترقت إلى عشرة دراهم ، و حينئذ بمقتضى هذا المسلك نزل الوحي و بإلغاء اعتبار قيمة المجن ، و أن يكون هو العشرة الدراهم !!
و لعمري لقد تكرر في الأخبار ذكر المجن ، و أن بعض الألفاظ ليوهم اعتبار المجن ، إلا أن الناس فهموا أن سبب التكرر هو أن أقل ما قطع النبي e مجن ، و حملوا ما يوهم اعتبار المجن على ما تقدم مفصلاً ، و لم يعرج أحد منهم على هذا المسلك الطريف و لكن:
كل ساقطة في الأرض لاقط |
|
و كل كاسدة يوماً لها سوق |
و من العجيب أنه لم يرتض دعوى بعض أسلافه النسخ ثم وقع فيها ، و انه يقول : إن نسيت أحاديث ( الصحيحين ) قطعية الثبوت ثم يخالف صرائحها و يتشبث بما لم يثبت مما فيه ذكر العشرة .
فأما حديث هشام عن ابن أبيه عن عائشة فاختلف فيه الرواة عن هشام سنداً و متناً .
أما السند فمنهم من ذكر عائشة ، و منهم من لم يذكرها و جعله مرسلاً من قول عروة ، نبه على ذلك البخاري في ( الصحيح ) ، و الصواب ذكر عائشة .
و أما المتن فعلى ثلاثة أوجه :
الأول : ما رواه البخاري عن عثمان بن أبي شيبة عن عبدة عن هشام عن أبيه عن عائشة (( أن يد السارق لم تقطع على عهد النبي صلى الله عليه و سلم إلا في مجن حجفة أو ترس )) . ثم روى البخاري عن عثمان أيضاً عن حميد (( ثنا هشام عن أبيه عن عائشة . مثله )) .
لثاني : ما رواه البخاري عن محمد بن مقاتل عن ابن المبارك عن هشام عن أبيه عن عائشة (( لم تكن تقطع يد السارق في أدنى من حجفة أو ترس كل واحد منهما ذو ثمن )).
الثالث : رواه البخاري (( حدثني يوسف بن موسى ثنا أبو أسامة قال : هشام بن عروة أخبرنا عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت : لم تقطع يد سارق على عهد النبي صلى الله عليه و سلم في أدنى من ثمن المجن ترس أو حجفة ، و كان كل منها ذا ثمن )) .
فالأول : مداره على عثمان بن أبي شيبة عن عبدة و عن حميد ، و قد خولف عن كل منهما فرواه مسلم في ( صحيحه ) عن محمد بن عبد الله بن نمير عن حميد بسنده : (( لم تقطع يد سارق في عهد النبي صلى الله عليه و سلم في أقل من ثمن المجن حجفة أو ترس و كلاهما ذو ثمن )) . و هذا على الوجه الثالث كما ترى . و رواه البيهقي في ( السنن ) ج8 ص 256 من طريق هارون بن إسحاق عن عبدة بسنده (( لم تكن يد تقطع على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم في أقل من ثمن المجن حجفة أو ترس )) .
و هذا على الوجه الثاني كما ترى ، و بهذا بان ضعف الوجه الأول ، بل ظاهره باطل، لأنه يعطي أن القطع لم يقطع في عهد النبي صلى الله عليه و سلم إلا مرة واحدة في ذاك المجن ، و قد ثبت قطع سارق رداء صفوان الذي كانت قيمته ثلاثين درهماً . و ثبت قطع يد المخزومية التي كانت تستعير الحلي ثم تجحده .
وأما الوجه الثاني فقد اختلف على عبدة كما رأيت ، و كذلك اختلف على ابن المبارك ، رواه النسائي عن سويد بن نصر عن ابن المبارك عن هشام عن أبيه عن عائشة :(( لم تقطع يد سارق في أدنى من حجفة أو ترس ، و كل واحد منهما ذو ثمن )) .
و هذا على الوجه الثالث كما ترى . فبان رجحان الوجه الثالث ، لأنه رواه عن هشام أبو أسامة و لم يختلف عليه فيه ، و رواه ابن نمير عن حميد عن هشام وابن نمير اثبت من عثمان بن أبي شيبة ، و رواه سويد بن نصر عن ابن المبارك عن هشام .
و قد رجح الشيخان و النسائي الوجه الثالث .
أما البخاري فساقها على هذا الترتيب ، ثم عقب بحديث ابن عمر ، فأشار و الله أعلم بالترتيب إلى ترتيبها في القوة ، فالثاني أقوى من الأول ، و الثالث أرجح منهما . أو قل : أشار الى أن الثاني يفسر الأول من وجه و الثاني ([19]) يفسرهما جميعاً ، و أشار بالتعقيب بحديث ابن عمر إلى أن هذا الحديث و حديث ابن عمر عن واقعة واحدة ، فعائشة حفظت أن أقل ما قطع فيه النبي صلى الله عليه و سلم هو ذاك المجن و لم تذكر قيمته ، و ابن عمر حفظ قيمته و لم يذكر أنه أقل ما قطع النبي صلى الله عليه و سلم فيه .
و أما مسلم فصدر بحديثه عن محمد بن عبد الله بنمير و ساقه بتمامه و هو على الوجه الثالث كما مر ثم قال : (( حدثنا عثمان بن أبي شيبة أخبرنا عبدة بن سليمان و حميد بن عبد الرحمن ح و ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا عبد الرحيم بن سليمان ح و ثنا أبو كريب ثنا أبو أسامة كلهم عن هشام بهذا الإسناد نحو حديث ابن نمير عن حميد بن عبد الرحمن الرواس ، و في حديث عبد الرحيم و أبي أسامة : (( و هو يومئذ ذو ثمن )) فحمل سائر الروايات على حديث ابن نمير و هو على الوجه الثالث كما مر ، و لم يعتد بمخالفة بعضها له في الأوجه المذكورة مع اعتداده بالإختلاف في قول ابن نمير (( و كلاهما ذو ثمن)) و قول عبد الرحيم و أبو أسامة : (( و هو يومئذ ذو ([20]) ثمن )) ثم عقب مسلم ذلك بحديث ابن عمر .
وأما النسائي فأنه مع تصديه لجمع الروايات في ذكر المجن لم يسق من طرق حديث هشام المذكورة إلا رواية سويد بن نصر عن ابن المبارك عن هشام ، و هي على الوجه الثالث .
وصاحب هذا المسلك أنما يكون له متشبث ما في الوجه الثاني ، و قد علمت أنه مرجوح من جهة الرواية ، و هكذا هو مرجوح من جهة النظر لما يأتي ، و على فرض أنه لا يتبين أنه مرجوح فلا يصح التمسك بما اختص به بعض الروايات و خالفها و غيرها ، لأن الاختلاف إنما جاء من جهة الروايتين بالمعنى فلا يصح التشبث بواحدة منها حتى يترجح انها باللفظ الاصلي أو موافقة له .
و مع هذا اللفظ الواقع في الوجه الثاني لا يتعين حمله على ما زعمه صاحب هذا المسلك فإنه يحتمل أن يكون المراد أن السارق لم يقطع فيما دون ثمن ذاك المجن الذي قطع فيه النبي صلى الله عليه و آله و سلم . و لا مانع أن تعرف عائشة هذا و لا تعرف قيمة ذاك المجن . و هذا المعنى أقرب و أولى مما زعمه صاحب هذا المسلك ، فإنه يزعم أن المعنى قيمة أن اليد لم تكن تقطع إلا فيما يبلغ ثمن مجن من المجان أي مجن كان ، و هذا بغاية البعد ، فإن من المجان الردئ البالي أن تعرف
المعيب الذي تكون قيمته درهماً واحداً أو دونه ، و منها ما يزيد على ذلك زيادة متفاوتة ، و لم يعهد من حكمة الشارع و إيثاره الضبط ، أن ينوط مثل هذا الحكم العظيم بمثل هذا الأمر الذي لا ينضبط .
فإن قيل قد يختار مجن من أوسط الغالب على نحو ما قدمت أول المسئلة .
قلت : أوسط الغالب بعيد أيضاً عن الانضباط ، و الذي تقدم إنما هو من بعض من بعد النبي صلى الله عليه و آله و سلم ، رأى أنه لا ينبغي القطع في أقل مما قطع فيه النبي صلى الله عليه و آلة و سلم ، و عرف أنه ذاك المجن و لم يعرف ثمنه فأضطر إلى الحدس ، و الشارع لا ضرورة تلجئه ة لا حاجة تدعوه إلى مثل هذا ، فلماذا يعدل عن سنته من إيثار الضبط و هو قادر على الضبط بالذهب أو الفضة ، فيكون المناط ظاهراً منضبطاً سهل المعرفة جارياً على ما يعرفه الناس و يتعارفونه؟!
فأما تقدير الدية بالإبل فذلك معروف متعارف من قبل الاسلام ، و كان أغلب أموالهم الإبل ووصفها الشارع بصاف معروفة تقربها من الإنضباط ، و لا يخشى بعد ذلك التباس و لا مفسدة كما يخشى في نوط القطع بثمن مجن ، فإن وجبت عليه الدية لا يلزمه أن يدفع النفيسة ، فلو كانت عنده نفيسة ، و أراد أن يشتري بها عشراً كلهن على و صف الدية مكن من ذلك ، فيشتري بتلك الناقة عشراً و يدفعها فتحسب له عشراً ، و احتمال ان لا يتمكن من ذلك بعيد ، فإن اتفق ذلك فللفقيه أن يقول هي بمنزلة المعدومة ، ويعدل الى قيمة القدر الواجب من الغالب – كما قيل بنحو ذلك في الزكاة . فأما إذا طابت نفس صاحبها فدفعها فلا إشكال . و الحنفية لم ينكروا وجوب الإبل ، و إنما قالوا: إن الواجب هي أو ألف دينار ، أو عشرة آلاف درهم . و إن يتعين بالتراضي أو القضاء .
وأقول أما التراضي فلا إشكال فيه ، و كذلك القضاء إذا قضى القاضي بالإبل ، أو بذاك المبلغ من الذهب أو الفضة و هو قيمة الإبل . و أما إذا لم يكن ذلك قيمتها ، فجعل الخيرة للقاضي مناف للعدل و فتح لباب اتباع القضاة للهوى ، و أصول الشرع تأبى ذلك. و المقصود هنا انه مفسدة في جعل الزكاة من الإبل ، فإن الواجب الحقيقي هو أقل ما يتحقق به الصفة فالمستحق بين أن يحصل له حقه ، و أن يحصل له دونه برضاه ، و أن يحصل له فوقه برضا الدافع .
و على فرض أن المقوم اخطأ في التقويم ، فالخطب سهل ، إنما هو خسارة مالية يجبرها الله عز و جل من فضله .
و اما المجن فإن قيل : إنه يقطع في سرقته مطلقاً بأي صفة كان فلا يخفى ما فيه ، و إن قيل : لا يقطع فيه إلا إذا كان بوصف مخصوص ، فما هو ذاك الوصف ؟ و ما الدليل على تعيينه ؟ و إن قيل . لا يقطع فيه إلا إذا بلغت قيمته حداً معيناً كما يدل عليه قول أنس : (( سرق رجل مجناً على عهد أبي بكر فقوم خمسة دراهم فقطع )) فهذا قولنا و بطل هذا المسلك الطريف رأساً .
وإذا كان المسروق ذهباً أو فضة ، فعلى ذلك المسلك ينبغي أن ينظر هل هو قيمة مجن أولاً ؟ و هذا عكس المعروف المتعارف من اعتبار مقادير السلع بالذهب و الفضة . و إذا كان المسروق سلعة أخرى احتيج الى تقويمين ، تقويم السلعة بالذهب أو الفضة ، و تقويم المجن الذي لم تبين صفته بالذهب أو الفضة ، و احتمال الخطأ في ذلك أشد من احتماله في تقويم واحد .
فإن قيل : إنما كان ذلك في أول الأمر ثم استقر الحال على العشرة الدراهم .
قلت : فهل كان الشارع يجهل عاقبة الأمر و قد قال الشاعر :
رأى الأمر يفضي إلى آخر |
فصير آخره أولا |
وإذا كان المجن لا يصلح أن يجعل معياراً مستمراً ، فكذلك لا يصلح أن يكون معياراً موقتاً بلا ضرورة و لا حاجة .
فإن قيل : قد يكون صاحب هذا المسلك إنما عنى ذاك المجن الذي قطع فيه النبي صلى الله عليه و آله و سلم .
قلت : فيلزم أن يكون ذاك المجن محفوظاً في بيت النبي صلى الله عليه و آله و سلم ، ثم في بيوت الخلفاء ، فكلما رفع سارق ، قوم المسروق ثم أخرج ذاك المجن فقوم بقيمة الوقت! و هذا باطل من وجوه :
منها انه لم ينقل ، و لو كان لنقل لغرابته ، و منها أن النقل يأباه ، و منها انه خلاف المعهود من براءة الشريعة عن مثل هذا التكلف الذي لا تبرره حكمة . و كثير مما تقدم يرد على هذا أيضاً . أ شد ذلك الداهية الدهياء و هي النسخ بعد النبي صلى الله عليه و آله و سلم .
فإن قيل : لعل صاحب هذا المسلك إما أراد أن ذلك التدرج و استقرار الأمر على عشرة الدراهم كان كله في حياة النبي صلى الله عليه و آله و سلم . قلت ظاهر صنيعه خلاف ذلك لتنظيره بحد الخمر ، و لأنه لا يجهل أنه لم يصح عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم شئ في ذكر العشرة ، ([21]) و إنما يصح إن صح شئ عمن بعده و بعد الخلفاء الراشدين . و هب أنه أراد ما زعمت ، لم يأت عليه بشبهة فضلاً عن حجة ، و يرد عليه أكثر ما تقدم . و كيف يقول : إن أحاديث ( الصحيحين ) قطعية الثبوت ثم ينسخها بما لم يثبت ؟ !
وأما قضية المهر فلم يثبت تحديده ، و إنما اقتسر الحنفية قياسه على ما يقطع فيه السارق، و الأصل باطل ، و القياس أبطل .
وأما حد الخمر فالحق أنه أربعون . و استنبط الصحابة من تدرج الأمر في الخمر من حكم إلى أشد منه رعاية للحكمة جواز زيادة التشديد تعزيزاً ، و استأنسوا الزيادة بقولهم : (( إنه إذا سكر هذا ، و إذا هذا افترى )) ([22]) مع علمهم بأنه لا يلزم بمجرد الاحتمال حكم المرتد و لا حكم المطلق و لا غيرها ذلك مما يحتمل صدوره منه عند هذيانه ، و السرقة لم يقع في تحريمها تدريج ، لا من حال إلى أشد منها ، ولا من حال إلى أخف منها .
فإن قيل قد يقال ، إن للتدريج حكمة ، و هي أن الناس كانوا في ضيق فكان المسروق منه يتضرر بأخذ اليسير من ماله ، ثم اتسعوا فصار لا يتضرر إلا بأخذ أكثر من ذلك و هكذا .
قلت : تعقل الحكمة لا يثبت به الحكم ، مع أن ما ذكر تم يعارضه أن المناسب في زمن الضيق أن يخفف على السارق لكثرة الحاجة ، و قد شهدت الشريعة في الجملة لهذا المعنى دون الأول و ذلك يدرء الحد عن المضطر ، و ما يروى عن بعض السلف أنه لا قطع في زمن المجاعة ([23]) .
فإن قيل : إن المقدار لم يتغير في المعنى ، لأن السلع كلها أو غالبها تساير المجن ، فالسلعة المسروقة التي تكون قيمتها خمسة حين بلغ ثمن المجن خمسة ، كانت قيمتها ثلاثة حين كانت قيمة المجن ثلاثة ، و هكذا الدراهم نفسها ، فإن الثلاثة كانت أولاً تغنى غناء تغنيه أخيراً إلا الخمسة مثلاً .
قلت : هذا كله لا يغني فتيلاً فيما نحن بصدد ، ثم هو غير مستقيم ، فقد تغلوا سلعة و ترخص أخرى ، و لا تزال تضطرب قيمتها ارتفاعاً و انخفاضاً إلى يوم القيامة ، و لماذا إذ كان لوحظ ذاك المعنى وقع التحديد أخيراً بالعشرة ؟ ! و قد يزيد الأتساع فتصير خمسة عشر لا تغني إلا غناء الثلاثة ، و قد يعود الضيق و يشتد أشد مما كان أولاً ، و المعروف إنما هو ضبط أثمان السله بالدنانير و الدراهم ، لا ضبط الدنانير و الدراهم بالسلع ، فكيف بالسلعة لا تنضبط ؟
وقد أطلت في رد هذا المسلك مع أنه لا يحتاج في رده إلى هذا كله ، و لكن دعا إلى ذلك شهرة قائلة . و الله المستعان .
المسألة الخامسة عشرة
القضاء بشاهد و يمين في الأموال
قال الأستاذ ص 185 : (( و أما القضاء بشاهد و يمين فلم يرد فيه ما هو غير معلل عند أهل النقد ، و حديث مسلم فيه انقطاعات مع عدم ظهور دلالته على التنازع فيه كما فصل في محله . و الليث بن سعد رد على مالك رداً ناهضاً في رسالته إليه … حتى أن يحيى الليثي رواية ( الموطأ ) و غيرهم من كبار المالكية خالفوا مالكاً في المسألة ، و كم بين الشافعية من خالف الشافعي في المسألة ، فسل قضاة العصر ماذا كانت تكون النتيجة في الحقوق لو حكموا للناس بما يطالبون به بدون تكامل نصاب الشهادة ؟ فضلاً عن الضعف الظاهر فيما يحتجون به في الأخذ بشاهد و يمين )) .
أقول : حديث مسلم هو قوله في ( صحيحه ) : (( حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة و محمد ابن عبد الله بن نمير قالا ثنا زيد – و هو أبن حباب – ثني سيف بن سليمان أخبرني قيس بن سعد عن عمرو بن دينار عن ابن العباس أن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم قضى بيمين و شهادة )) .
فأما الإنقطاعات المزعومات فأحدهما بين عمرو و ابن عباس . و الآخرين بين قيس و عمرو.
أما الأول فقال ابن التركماني : (( في ( علل الترمذي ) : سألت محمداً ( البخاري) عنه– أي هذا الحديث – فقال : عمرو بن دينار لم يسمع عندي هذا الحديث من ابن عباس )) .
أقول : ليس لهذه العندية ما يسندها سوى أمرين :
الأول : أن محمد بن مسلم بن سوسن الطائفي روى هذا الحديث عن عمرو بن دينار، فقال بعض الرواة عنه : عن عمرو عن طاوس عن ابن عباس . و بعضهم قال : عن عمرو عن جابر بن يزيد عن ابن عباس .
الثاني : استبعاد صحة الحديث لعدم اشتهاره عن ابن عباس و مخالفته لظاهر القرآن .
فأما الأول فقد أجاب عنه البيهقي بأنه إنما جاء ذلك عن بعض الضعفاء ،فأما التقات فرووه عن الطائفي عن عمرو عن ابن عباس كما يأتي : و رواية الثقات لا تعلل برواية الضعفاء .
أقول : و مع ذلك فلو صح الوجهان المذكوران أو أحدهما لصح الحديث أيضاً كما صحح الشيخان حديث حماد بن زيد عن عمرو بن دينار عن محمد بن علي عن جابر في لحوم الخيل ، مع رواية ابن عيينة و غيره له عن عمرو عن جابر . ([24]) و لهذا نظائر .
و أما الثاني : فالجواب عنه من وجهين :
الأول : أن ذاك الاستبعاد إن كان له وجه فلا يزيله إلا دعوى أن بين عمرو و ابن عباس واسطة ضعيفة ، إذ لو كان بينه و بينه ثقة لصح الحديث أيضاً كما مر ، و ليس لأحد أن يفرض الواسطة الضعيفة هنا فأن عمراً لا يدلس مثل هذا التدليس ، و إنما قد يرسل ما سمعه من ثقة متفق عليه كما أرسل عن جابر ما سمعه من محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عنه ، و محمد إمام حجة . و قد تتبعت ما قيل أن عمراً أرسله مثل هذا الإرسال غير الحديث السابق ، فلم أجد إلا حديثاً حاله كحال الحديث السابق ، و ذلك أن في ( مسند أحمد ) ج3 ص 368 (( ثنا محمد بن جعفر ثنا شعبة عن عمروا بن دينار عن جابر … ، قلت لعمرو : أنت سمعته من جابر ؟ قال : لا )) . و الحديث في ( صحيح البخاري ) من طريق ابن عيينة (( قال عمرو : أخبرني عطاء أنه سمع جابراً …. )) فبين عمرو و جابر في هذا عطاء بن أبي رباح ، و هو إمام حجة . ووجدت حديثين آخرين لم يتضح لي الإرسال فيهما ، فإن صح فالواسطة في أحدهما عكرمة و طاوس أو أحدهما .
وفي الثاني : ابن أبي مليكة ، و هؤلاء كلهم ثقات أثبات . فإن ساغ أن يقال في حديث رواه عمرو عن ابن عباس : لعله لم يسمعه منه . فإنما يسوغ أن يفرض أن عمراً سمعه من ثقة حجة سمعه من ابن عباس . و في ترجمة عمرو من ( تهذيب التهذيب ) : قال الترمذي : قال البخاري : لم يسمع عمرو بن دينار من ابن عباس حديثه عن عمر في البكاء على الميت )) . قال ابن حجر : (( قلت : و مقتضى ذلك أن يكون مدلساً )) .
أقول : لم أظفر برواية عمرو ذاك الحديث عن ابن عباس ، و القصة – و فيها الحديث– ثابتة في ( صحيح مسلم ) و ( مسند الحميدي ) من رواية عمرو عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس ، فإن كان بعضهم روى الحديث عن عمرو عن ابن العباس فلا ندري من الراوي ؟ فإن كانت ثقة فالحال في هذا الحديث كما تقدم ، حدث به عمرو مراراً عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس حتى عرف أن الناس قد عرفوا أنه لم يسمعه من ابن عباس ، ثم قال مرة على سبيل الفتيا أو المذاكرة : (( قال ابن عباس )) و ليس هذا بالتدليس، على أنه لا مانع من أن يسمع من أبن أبي مليكة عن ابن عباس القصة و فيها الحديث و يسمع من ابن عباس نفسه الحديث . و لا مانع من أن يسمع الرجل الحديث من رجل عن سيخ ثم يسمعه من ذلك الشيخ نفسه ثم يرويه تارة كذا . و هذا النوع يسمى (( المزيد في متصل الأسانيد )) و قد عد بعضهم منه حديث عمرو في لحوم الخيل . و قد ذكر مسلم في مقدمة ( صحيحه ) أمثله مما قد يقع من غير المدلس من إرسال ما لم يسمعه . و ذكر منها حديث عمرو بن دينار في لحوم الخيل و قد مر ، و هذا حكم من مسلم بأن عمراً غير مدلس ، و أن ما قد يقع عن مثل ذاك الإرسال ليس بتدليس . و أحتج الشيخان بكثير من أحاديث عمرو التي لم يصرح فيها بالسماع ، و احتج مسلم بحديث في المخابرة رواه ابن عيينة عن عمرو عن جابر ، مع انه قد ثبت عن ابن عيينة أن عمراً لم يصرح فيه بالسماع من جابر . و هذا الترمذي حاكي الحكايتين عن البخاري صح في لحوم الخيل رواية ابن عينة التي فيها (( عمرو عن جابر )) و خطأ حماد بن زيد في قوله (( عمرو عن محمد بن علي عن جابر )) مع جلالة حماد و إتقانه ، فلو كان عند الترمذي أن عمراً يدلس لما كان عنده بين الروايتين منافاة . و الصحيح أنه لا منافاة و لا تدليس كما مر . فأما ما في ( معرفة الحديث ) للحاكم ص 111 في صدد كلامه في التدليس : (( فليعلم صاحب الحديث أن الحسن لم يسمع من أبي هريرة …. و أن عامة حديث عمرو بن دينار عن الصحابة غير مسموعة )) . فإنما قال ذلك في صدد من روى عمن لم يره قط و لا سمع منه شيئاً ، فإن تلك العبارة هي في صدد قوله ص 109 ((الجنس السادس من التدليس قوم رووا عن شيوخ لم يروهم قط …)) . و حاصل ذلك أن عمراً يرسل عمن لم يره من الصحابة ، و هذا على قلة ما قد يوجد عن عمرو فيه ليس بتدليس و إنما يسميه جماعة تدليساً إذا كان على وجه الإيهام ، فأما أن يرسل المحدث عمن قد عرف الناس أنه لم يدركه أو لم يلقه فلا إيهام فيه فلا تدليس . و عادة أئمة الحديث إذا كان الرجل ممن يكثر منه هذا الإرسال أن ينصوا على أسماء الذين روى عنهم و لم يسمع منهم ، كما تراه في تراجم مكحول و الحسن البصري و أبي قلابة عبد الله بن زيد و غيرهم ، و لم نجد في ترجمة عمرو إلا قول ابن معين : (( لم يسمع في البراء بن عازب )) و لعله لم يرسل عن البراء إلا خبراً واحداً . و سماع عمرو من ابن عباس ثابت ، و الحكم عندهم فيمن ليس بمدلس و لكنه قد يرسل لا على سبيل الإيهام أن عنعنته محمولة علة السماع إلا أن يتبين أنه لم يسمع ، كالحديث الذي رواه شعبة عن عمرو عن جابر و قد تقدم . ووجه ذلك أنه لم يثبت عليه إلا أنه قد يرسل لا على وجه الإيهام ، و معنى ذلكأنه لا يرسل إلا حيث يكون هناك دليل واضح على أنه لم يسمعه ، فحيث وجدنا دليلاً واضحاً على عدم السماع فذاك ، و حيث لم نجد كان الحكم هو السماع ألا ترى أن الثقة قد يخطئ ، و مع ذلك فروايته محمولة على الصواب ما لم يقم دليل واضح على الخطأ ، فأولى من ذلك أن يحكم بالاتصال في حديث من لم يعرف عنه ألا الإرسال حيث لا إيهام ، لأن المخطئ قد يخطئ حيث لا دليل على خطائه بخلاف المرسل . و الحكم عندهم فيمن عرف بالتدليس و كثر منه إلا أنه لا يدلس إلا فيما سمعه من ثقة لا شك فيه أن عنعنته مقبولة ، كما قالوه في ابن عيينة فما بالك بما نحن فيه ؟
وأما عدم اشتهار الحديث عن ابن عباس فلا يضره بعد أن رواه عنه ثقة جليل فقيه و هو عمرو بن دينار ، و كم من حديث صححه الشيخان و غيرهما مع احتمال أن يقال فيه مثل هذا أو أشد منه ، هذا حديث (( إنما الأعمال بالنيات )) عظيم الأهمية عند أهل العلم حتى قالوا أنه نصف العلم . و هذا مما يقتضي اشتهاره ، و في روايته ما يشير إلى أن النبي صلى الله عليه و سلم خطب به على المنبر ، و هذا مما يقتضي اشتهاره ، و ذكر فيه أن عمر بن الخطاب رواه و هو يخطب على المنبر ، و هذا مما يقتضي اشتهاره ، و مع ذلك لم يروه عن النبي صلى الله عليه و سلم غير عمر بن الخطاب ، و لا رواه عن عمر غير علقمة بن وقاص ، و لا رواه عن علقمة غير محمد بن إبراهيم التيمي ، و لا رواه عن محمد غير يحيى بن سعيد الأنصاري ، و مع ذلك صححه الشيخان و غيرهما و جعلوه أصلاً من أصول العلم ، بل جعلوه نصف العلم كما مر .
فإن قيل : لكن له شواهد .
قلت : و حديث القضاء بالشاهد اليمين كذلك فقد جاء من رواية جماعة من الصحابة بأسانيد جيدة قد صححوا نظائرها . و جاء من رواية آخرين بأسانيد نصلح للاستشهاد،([25]) وجاء من مرسل عدة من التابعين ، و كان عليه عمل أهل الحجاز لا يعرف عندهم خلافه.
فإن قيل : فقد قلت في حديث ابن إسحاق عن أيوب بن موسى عن عطاء عن ابن عباس في قطع يد السارق في ثمن المجن ما قلت .
قلت : ذاك خبر أضطرب فيه ابن إسحاق أشد سأضطراب ، و ابن إسحاق في حفظه شيء ، و جاءت أدلة تقضي بأنه من قول عطاء ، لا من روايته عن ابن عباس كما تقدم تفصيله في المسألة السابقة ، و ليس الأمر ههنا كذلك ، و لا قريباً من ذلك . و قد تجتمع عدة أمور يقدح مجموعها في صحة الحديث ، و منها ما لو أنفرد لم يضر .
وأما مخالفته لظاهر القرآن كما قد يشير إليه صنيع البخاري في ( صحيحه ) فكم من حديث صححه هو و غيره وهو مخالف لظاهر القرآن كحديث المنع من الجمع بين المرآة و عمتها أو خالتها ، و حديث النهي عن أكل كل ذي ناب أو مخلب ، و حديث النهي عن أكل لحوم الحمر الأهلية ، و غير ذلك . و كم من دلالة ظاهرة من القرآن خالفها الحنفية أنفسهم ، و قد تقدم شيء من ذلك في المسألة الثانية عشر ، و ذكر ابن حجر في (الفتح) أمثلة من ذلك ، و بسط الشافعي كلام في ( الأم ) ج 7 ص 6 – 31 و مع ذلك فمخالفة حديث القضاء بشاهد و يمين لظاهر القرآن مدفوعة كما ستراه .
قال الله تبارك و تعالى [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ ] إلى أن قال :[ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى ] إلى أن قال [ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا ] إلى أن قال [ وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِباً فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ ] .
إن قيل : أمر الله تعالى أن يستشهد عند المدينة رجلان فإن لم يكونا فرجل و امرأتان ، فدل ذلك على أنه لا يثبت الحق عند التداعي عند الحاكم إلا بذلك .
فالجواب : إن أردتم أنه لا يثبت مطلقاً إلا بذلك فهذا باطل ، إذا قد يثبت الحق بالاعتراف ، بالنكول فقط عند الحنفية ، و مع يمين المدعي عندنا ، و إن أردتم أنه لا يثبت بشهادة إلا كذلك فهذا لا يفيدكم ، فإن الحديث إنما أثبته بالشاهد و اليمين لا بالشاهد و حده .
فإن قيل : لو كان يثبت بشاهد و يمين لما كان بالأمر برجلين أو رجل و امرأتين فائدة.
قلنا : بلى ، له فوائد عظيمة ، الأولى ما نصت عليه الآية : [ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا ] ، و هذا كما يحصل بالكتابة مع أن الحق لا يثبت بالكتاب وحده ، فكذلك يحصل بالشهادة التامة ، فإن القضاء يحصل بشهادة تامة أظهر في القسط و العدل من القضاء بشاهد و يمين ، و أقوم للشهادة لأن كلاً من الشاهدين يبالغ في التحفظ لئلا تخالف شهادته شهادة الآخر ، و أبعد عن الريبة كما لا تخفى ، و قد دل الآتيان بصيغة التفضيل على أن أصل القسط ، و قيام الشهادة ، و البعد عن الريبة ، قد يحصل بما هو دون ما ذكر ، فما هو ؟ ليس إلا الشاهد و اليمين ، كما دل عليه الحديث ، فالآية تدل على صحة الحديث ، لأنه لو لم يكن صحيحاً لما كان هناك ما يحصل به ما اقتضته الآية .
الفائدة الثانية : أن ذلك أحوط للحق ، إذ لو أستشهد رجل واحد فقط فقد يموت قبل أداء الشهادة ، أو يعرض له ما تفوق به شهادته ، كالجنون أو النسيان أو الفسق أو الغيبة، فإذا كانا إثنين فالغالب أنه لا يعرض لهما ذلك معاً ، و هذه أدنى درجات الاحتياط نبهت عليها الآية ، و لم تمنع مما فوقها ، بل في هذا إشارة إلى أنه إذا اقتضت الحال ينبغي مظاهرة الاحتياط ، و ذلك كأن تكون مدة الدين طويلة كخمس عشرة سنة ، ووجد شاهدان شيخين كبيرين فينبغي الزيادة في عدد الشهود بحيث يغلب أنهم لا يموتون جميعاً قبل حلول الدين ، أو يعرض لهم جميعاً ما تفوت به شهادتهم .
الفائدة الثالثة : إن الشاهد الواحد لا يثبت به الحق بل لا بد معه من اليمين ، و قد يكبر على المدعي أن يحلف خشية أن يتهمه بعض الناس ، أو لأنه قد نسي القضية أو صفتها ، أو لأنه لم يحضرها و إنما حضرها مورثة الذي قد مات ، و قد يجن الدائن أو يموت و يكون وارثه صبياً أو مجنوناً فتتعذر اليمين وقت المطالبة فيتأخر القضاء بالحق إلى أن يكمل صاحبه او يموت .
فإن قيل : ذكر البخاري في ( الصحيح ) عن ابن شبرمة انه أحتج على أبي الزناد بالآية و ذكر قوله تعالى [ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى ] قال : (( قلت : إذا كانت يكتفى بشاهد شاهد و يمين المدعي فما يحتاج أن تذكر أحدهما الأخرى ؟ ما كان يصنع بذكر هذه الاخرى ؟ )) .
قلت : قد تقدم ما يعلم منه الجواب ، و لا بأس بإيضاحه فأقول : يصنع بذكر الأخرى أنه إذا كان الرجل باقياً حاضراً جائز الشهادة أن تتم فيكون ذلك أقسط عند الله و أقوم للشهادة و أبعد عن الارتياب . و لا يتوقف ثبوت الحق على يمين المدعي و قد تكبر عليه أو تتعذر منه فيضيع الحق ، أو يتأخر كما تقدم . و إن كان الرجل قد مات أو عرض له ما فوت شهادته ، شهدت المرآتان و حلف المدعى معهما و ثبت الحق كما هو مذهب مالك ، و الظاهر أنه كان مذهب أبي الزناد ، و هو مذهب قوي فإن الآية أقامت المرأتين مقام الرجل ، و في ( الصحيحين ) من حديث أبي سعيد الخدري في قصة خروج النبي صلى الله عليه و آله و سلم يوم العيد و مروره على النساء و موعظته لهن (( قال أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل ؟ قلن : بلى )) و هذا قاضٍ بأن شهادة المرأتين في ما تقبل فيه شهادتهن مثل شهادة رجل ، فأما إشتراط الآية لاستشهاد المرأتين أن لا يكون رجل فإنما هو و الله اعلم لأن المطلوب في حق النساء الستر و الصيانة ، و الشهادة تستدعي البروز و حضور مجالس الحكام و التعرض لطعن المشهود عليه .
فقد أتضح بحمد الله تبارك و تعالى انه ليس في الآية ما يتجه معه أن يقال إن الحديث مخالف لظاهر القرآن ، بل ثبت أن فيها ما يشهد له بالصحة .
وأما المخالفة لبعض الأحاديث الصحيحة فذكروا هاهنا ما جاء في قصة الأشعث بن قيس أنه أدعى على رجل فقال له النبي صلى الله عليه و آله و سلم : ((شاهداك أو يمينه)). وحديث ( الصحيحين ) عن ابن عباس مرفوعاً : (( لو يعطى الناس بدعواهم لأدعى ناس دماء رجال و أموالهم ، و لكن اليمين على المدعى عليه )) لفظ مسلم .
والجواب على الحديث الاول : أنه في ( الصحيحين ) و غيرهما من طريق أبي وائل شقيق ابن سلمة عن الاشعث بن قيس ، و أختلفت ألفاظ الرواة في مقاله النبي صلى الله عليه و آله و سلم ، ففي رواية (( شاهداك أو يمينه )) ، و في أخرى (( بينتك أو يمينه )) و في ثالثة أنه بدأ فقال للأشعث : ألك بينة ؟ )) قال الأشعث : قلت : لا ، (( قال فيحلف )) هكذا في ( صحيح البخاري ) في (( كتاب الأحكام )) في (( باب الحكم في البشر )) من طريق سفيان الثوري عن منصور و الأعمش عن أبي وائل ،و هكذا رواه أبو معاوية عن الأعمش إلا أنه قال : (( فقال لليهودي : احلف )) . أخرجه البخاري في (( كتاب الشهادات )) من ( صحيحيه ) ، باب سؤال الحاكم المدعي : ألك بينة ؟ )) . و نحوه في ( صحيح مسلم ) و ( مسند أحمد ) ج 5 ص 211 من طريق أبي معاوية و وكيع عن الأعمش – إلى غير ذلك فلا ندري ما هو اللفظ الذي نطق به النبي صلى الله عليه و آله و سلم ، و لكن أجل من روى الحديث عن أبي منصور و الأعمش و أجل من رواه عنهما سفيان الثوري و هو إمام الاتقان و الفقه ، و روايته هي الأشبه بآداب القضاء أن يبدأ فيسأل المدعي أله بينة ؟ فإن لم يكن له بينة و جه اليمين على المدعى عليه . و البينة كل ما بين الحق ، فتصدق على البينة التامة و هي ما لا يحتاج معها الى يمين ، و بالبينة الناقصة و هي ما يحتاج معها الى يمين . على انه لو ثبت ان لفظ النبي صلى الله عليه و آله و سلم:(( شاهداك أو يمينه )) فدلالة هذا على نفي القضاء بشاهد و يمين ليست بالقوة ، و دلالة أحاديث القضاء بالشاهد و اليمين و اضحة .
فإن قيل يقوي هذه أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة .
قلت : فإن ظاهرها يقتضي أن لا تقبل شهادة رجل و امرأتين .
فإن قيل : يجوز أن يكون الأشعث قد علم قبول رجل و امرأتين .
قلت : و يجوز أن يكون قد علم قبول شاهد و يمين . و الحق أنه يجوز ان لا يكون قد علم ذا و لا ذاك ، و ليس هناك محذور ، لأن من شأن المدعي أن يكون حريصاً على إظهار مل ما يؤمل أن ينفعه ، فلو كان له شاهد و امرأتان أو شاهد فقط أو امرأة واحدة و قيل له : (( شاهداك أو يمينه )) لقال لا أجد شاهدين و لكني أجد كذا ، و قد نازع في تحليف المدعى عليه كما في بقية القصة فإن فيها (( قلت يا رسول الله ما لي بيمينه ؟ و إن تجعلها تذهب بئري إن خصمي امرؤ فاجر )) أفتراه ينازع في هذا و يأخذ بما يشعر به قول النبي صلى الله عليه و آله و سلم إن كان ما قاله (( شاهداك )) فلا يقول : لي شاهد و احد إن كان له ؟
وأما الحديث الثاني فأوله يبين آخره ، و يدل على أن محل قوله (( اليمين على المدعى عليه )) حيث لا يكن للمدعى إلا دعواه فقط ، و كما أنه لا يتناول من له شاهدان لأنه لم يعط بمجرد دعواه ، و إنما أعطي بدعواه مع شهادة الشاهدين فكذلك لا يتناول من له شاهد ، لأنه إن أعطي فلم يعط بمجرد دعواه . و أما ما يقال : إن اختصاص المدعى عليه باليمين أصل من الأصول ، فحديث القضاء بشاهد و يمين المدعي مخالف للأصول ، فتهويل ، و يمكن دفعه بأن لما اقام شاهدا عدلا صار الظاهر بيده ، فاذا اصر المدعي عليه على الانكار فهو مدع لبطلان ذاك الظهور ، فقد صار المدعي في معنى المدعى عليه وصار المدعى عليه في معنى المدعي . ويمكن معارضته بأصل آخر ، وهو : انه لا يخالف المدعى عليه مع وجود بينة للمدعى .
فان قيل : ذاك إذا كانت بينة تامة .
قلت : لنا أن نمنع هذا . ويتحصل من ذلك أن المتفق عليه انه لا يمين للمدعي حيث لا شاهد له ، ولا يمين للمدعى عليه مع وجود بينة تامة ، ما إذا كان للمدعي شاهد واحد مترددا بين هذا الاصلين ، فيؤخذ فيه بالدليل الخاص به ، وقد ثبت الحديث بتحليف المدعي ، فان حلف صارت البينة في معنا التامة ، وان أبى صار في معنى من لا شاهد له أصلا . والله الموفق .
وأما الانقطاع الثاني وهو مبين في قيس وعمر وفلا وجه له، ولم يقله من يعتد به ،وقد تقدم ان البخاري كأنه استبعد صحة الحديث ، ثم لم يكن عنده إلا أن حدس إن عمرا لم يسمعه من ابن عباس ، وقد تقدم الكلام معه في ذلك ،وهو الذي يشدد في اشتراط العلم باللقاء ، فلو كان هناك مجال للشك في سماع قيس من عمرو لما تركه البخاري والتجأ إلي ذاك الحدس الضعيف الذي لا يجدي ، و قيس ولد بعد عمرو ومات قبله ، وكان معه في مكة وسمع كل منهما من عطاء وطاوس وسعد بن جبير ومجاهد وغيرهم ،وكان عمرو لا يدع الخروج الى المسجد الحرام والقعود فيه إلي أن مات ،كما تراه في ترجمة من(طبقات ابن سعد ) ، وكان قيس قد خلف عطاء في مجلسه كما ذكره ابن سعد أيضا ، وسمع عمرو من ابن عباس وجابر وابن عمر وغيرهم ولم يدركهم قيس ، فهل يظن بقيس انه لم يلق عمرا وهوه معه بمكة منذ ولد قيس إلى أن مات ؟ أو لم يكونا يصليان في المسجد الحرام الجمعة والجماعة ؟ أو لم يكونا يجتمعان في حلقة عطاء غيره في المسجد ثم كان لكل منهما حلقة في المسجد قد لا تبعد إحدى الحلقتين عن الأخرى إلا بضعة اذرع. او يظن بقيس انه استنكف السماع من عمرو لأنه قد شاركه في صغار مشايخه ثم يرسل عنه إرسالا ؟ وقد قاتل الأستاذ اشد القتال لمحاولة دفع قولهم أن أبا حنيفة الذي ولد سنة ثمانين بالكوفة ونشأ بها ، معرضا عن سماع الحديث لم يسمع من انس الذي عاش بالبصرة وتوفي بها سنة إحدى وتسعين وقيل بعدها بسنه او سنتين ، وليس بيده إلا انه قد قيل : أن أبا حنيفة رأى أنسا ! وقد تعرضت لذلك في ترجمة احمد بن محمد بن الصلت من قسم التراجم ، ثم ترى الأستاذ هنا يجاري أصحابه في توهمهم الباطل مع وضوح الحال .
وسبب الوهم في هذا أن الطحاوي ذكر هذا الحديث فقال (( و أما حديث ابن عباس فمنكر لان قيس بن سعد لا نعلمه يحدث عمرو بن دينار بشيء )) فتوهم جماعة من أخرهم الأستاذ الكوثري أن الطحاوي قصد بهذا أن قيسا عن عمرو منقطع لعدم ثبوت اللقاء بناء على القول باشتراط العلم به ، القول الذي رده مسلم في مقدمة ( صحيحه ) ، ونقل إجماع أهل العلم على خلافه .
وعبارة الطحاوي لا تعطي ما توهموه ، فانه ادعى أن الحديث منكر ، ثم وجه ذلك بقوله : (( لان قيس بن سعد لا نعلمه يحدث عن عمرو بن دينار بشيء )) ولم يتعرض لسماعه منه ولقائه له بنفي و لا إثبات . و لا ملازمة بين عدم التحديث و عدم اللقاء أو السماع ، فإن كثراً من الرواة لقوا جماعة من المشايخ و سمعوا منهم ثم لم يحدثوا عنهم بشئ .
فإن قيل : إنما ذاك لاعتقادهم ضعف أولئك المشايخ ، و عمرو لم يستضعفه أحد .
قلت : بل قد يكون لسبب آخر ، كما امتنع ابن وهب من الرواية عن المفضل بن فضالة القتباني لأن قضى عليه بقضية ، و امتنع مسلم عن الرواية عن محمد بن يحيى الذهلي لما جرى له معه في شأن اختلافه مع البخاري فكأن الطحاوي رأى أن قيس لو كان يروي عن عمر لجاء من روايته عنه عدة أحاديث لأن عمراً كان أقدم و أكبر و أجل . و قد سمع من الصحابة و حديثه كثير مرغوب فيه ، و كان قيس معه بمكة منذ ولد ، فحدس الطحاوي أن قيساً كان ممتنعاً من الرواية عن عمرو ، فلما جاء هذا الحديث استنكره كما قد نستنكر أن نرى حديثاً من رواية ابن وهب عن المفضل ، أو من رواية مسلم عن محمد بن يحيى . فإن قيل فقد يكون لإستنكاره خشي إنقطاعه .
قلت : كيف يبنى على ظن امتناع قيس من الرواية عن عمر نفسه أن يحمل هذا الحديث على أنه أرسله عنه ؟ بل المعقول أنه إذا امتنع من الرواية عنه نفسه كان أشد امتناعاً من أن يروي عن رجل عنه فضلاً عن أن يرسل عنه – أو بعبارة أخرى – يدلس ، و قيس غير مدلس .
فإن قيل : فعلى ماذا يحمل ؟
قلت : أما الطحاوي فكأنه خشي أن يكون سيف و هو راوي الحديث عن قيس – أخطأ في روايته عن قيس عن عمر .
فإن قيل : فهل تقبلون هذا من الطحاوي ؟
قلت : لا فإن أئمة الحديث لم يعرجوا عليه ، هذا البخاري مع استبعاده لصحة الحديث فيما يظهر إنما حدس أن عمراً لم يسمعه من ابن عباس ، و ذلك يقضي أن الحديث عنده ثابت عن عمرو ، و هذا مسلم أخرج الحديث في ( صحيحه ) ، و ثبته النسائي و غيره . و ليس هناك مظنة للخطأ ، و سيف ثقة ثبت لو جاء عن مثله عن ابن وهب عن المفضل بن فضالة ، أو عن مسلم عن محمد بن يحيى لوجب قبوله ، لأن المحدث قد يمتنع عن الرواية عن شيخ ثم يضطر إلى بعض حديثه ، هذا على فرض ثبوت الامتناع ، فكيف و هو غير ثابت هنا ؟ بل قد جاء عن قيس عن عمرو حديث آخر ، روى وهب بن جرير عن أبيه قال : سمعت قيس بن سعد يحدث عن عمرو بن دينار … )) و وهب و أبوه من الثقات الأثبات .
ذكر البيهقي ذلك في الخلافيات ثم قال : ((و لا يبعد أن يكون له عن عمرو غير هذا)) نقله ابن التركماني في ( الجوهر النقي ) ، ثم راح يناقش البييهقي بناءاً على ما توهموه أن مقصود الطحاوي الانقطاع و دعوى أنه لم يثبت لقيس لقاء عمرو ، و قد مر إبطال هذا الوهم ، و الطحاوي أعرف من أن يدعي ذلك لظهور بطلانه ، مع ما يلزمه من اتهام قيس بالتدليس الشديد الموهم للقاء و السماع على فرض أن هناك مجالاً للشك في اللقاء ، و قد بينا أن الطحاوي إنما حام حول الامتناع ، و الحق أنه لا امتناع ، و لكن قيساً عاجله الموت ، و لما كان يحدث في حلقته في المسجد الحرام كان عمرو حياً في المسجد نفسه و لعل حلقته كانت بالقرب من حلقة عمرو فكان قيس يرى أن الناس في غنى عن السماع منه من عمرو لأن عمراً معهم بالمسجد فكان قيس يحدث بما سمعه من أكابر شيوخه ، فإن أحتاج إلى شئ من حديث عمرو في فتوى أو مذاكرة فذكره ، قام السامعون أو بعضهم فسألوا عمراً عن ذلك الحديث فحدثهم به فرووه عنه و لم يحتاجوا الى ذكر قيس ، و استغنى سيف في هذا الحديث ، و جرير في الحديث الآخر باسماع من قيس لأنه ثقة ثبت ، و لعله عرض لهما عائق عن سؤال عمرو .
هذا و قد تابع قيساً على رواية هذا الحديث عن عمرو بن دينار محمد بن مسلم بن سوسن الطائفي ، ذكر أبو داود في ( السنن ) حديث سيف ثم قال : (( حدثنا محمد بن يحيى و سلمة ابن شبيب قالا : ثنا عبد الرزاق نا محمد بن كمسلم عمرو بن دينار – باسناده و معناه ، قال سلمة في حديث قال عمرو : في الحقوق ، و أخرجه البيهقي في (السنن) ج 10 ص 168 من طريق عبد الرزاق و من طريق أبي حذيفة – كلاهما عن الطائفي . و الطائفي استشد به صاحباً ( الصحيح ) ، و وثقه ابن معين و أبو داود و العجلي و يعقوب بن سفيان و غيرهم ، و قال ابن معين مرة : (( ثقة لا بأس به و ابن عيينة أثبت منه ، و كان إذا حدث من حفظه يخطأ و إذا حدث من كتابه فليس به بأس ، و ابن عيينة أوثق منه في عمرو بن دينار ، و محمد بن مسلم أحب الي من داود العطار في عمرو )) . و داود العطار هذا هو داود بن عبد الرحمن ثقة متفق عليه و ثقة ابن معين و غيره .
وقال عبد الرزاق (( ما كان أعجب محمد بن مسلم إلى الثورى )) . وقال البخاري عن ابن مهدي (( كتبه صحاح )) . و قال ابن عدي : (( لم أر له حديثاً منكراً )) و ضعفه أحمد، ولم يبين وجه ذلك ، فهو محمول على أنه يخطأ فيما يحدث به من حفظه .
فأما قول الميموني : (( ضعفه أحمد على كل حال من كتاب و غير كتاب )) ، فهذا ظن الميموني ، سمع أحمد يطلق التضعيف فحمل ذلك على ظاهره ، و قد دل كلام غيره من الأئمة على التفصيل ، و لا يظهر في هذا الحديث مظنة للخطأ و قد اندفع احتماله بمتابعة سيف .([26])
هذا ، و للحديث شواهد منها حديث ربيعة الرأي عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة (( أن رسول الله e قضى باليمين مع الشاهد )) كان سهيل أصيب بما أنساه بعض حديثه و من ذلك هذا الحديث ، فكان سهيل بعذ ذلك يرويه عن ربيعة و يقول : (( أخبرني ربيعة و هو عند يثقة أني حدثته إياه – و لا أحفظه )) . و النسيان على غير قادحة ، و قد رواه يعقوب ابن حميد عن محمد بن عبد الله العامري (( أنه سمع سهيل بن أبي صالح يحدث عن أبيه – فذكره )) و ذكر ابن التركماني أنه اختلف على سهيل ، رواه عثمان بن الحاكم عن زهير بن محمد عن سهيل عن أبيه عن زيد بن ثابت .
قلت : إن كان هذا مخالفاً لذاك أثبت ، ([27]) عثمان مصري ، قال فيه أبو حاتم : (( ليس بالمتين )) و زهير أكروا [ عليه ] الأحاديث التي يرويها عنه غير العراقيين . و روى المغيرة بن عبد الرحمن الحزامي عن أبي الزناد عن الاعرج عن أبي هريرة (( أن النبي e قضى باليمين مع الشاهد )) قال ابن التركماني : (( مغيرة قال فيه ابن معين : ليس بشئ )).
أقول : هذا حكاه عباس
عن ابن معين . و قد قال الآجري : قلت (( لأبي داود : إن عباساً حكى عن ابن معين
أنه ضعف مغيرة بن عبد الرحمن الحزامي و وثق ( مغيرة بن عبد الرحمن ) المخزومي .
فقال : غلط عباس )) احتج به الشيخان و بقية الستة ، و قال أبو زرعة : (( هو أحب
إلي من أبي الزناد و شعيب )) ، يعني في حديث أبي الزناد . كما في
( التهذيب ) .و شعيب هو ابن حمزة ثقة متفق عليه . قال أبو زرعة : (( شعيب أشبه
حديثاً و أصح من ابن أبي الزناد )) . و ابن أبي الزناد تقدم ذكره في المسألة
الثانية ، و قد حكى الساجي عن ابن معين أنه قال : (( عبد الرحمن بن أبي الزناد عن
أبيه عن الأعرج عن أبي هريرة حجة )) . و حكى البيهقي عن الإمام أحمد أنه قال : ((
ليس في هذا الباب حديث أصح من هذا )) .
قال ابن التركماني : (( قال صاحب ( التمهيد ) : أصح اسناد لهذا الحديث حديث ابن عباس . و هذا بخلاف ما أقل ابن حنيل )) .
أقول : كلاهما صحيح ، و لا يفيد الحنفية الإختلاف في أيهما أصح .
وذكر ابن عدي أن ابن
عجلان و غيره رووا عن أبي الزناد عن ابن أبي صفية عن شريح قوله . ([28]) و
هذا لا يوهن رواية المغيرة ، إذا لا يمتنع أن يكون الحديث عن أبي الزناد من
الوجهين ، و إنما كانم يكثر من ذكر المروي عن شريح لأن شريحاً عراقي ، و الخلاف في
المسألة مع العراقيين ، و من عادتهم أنهم يخضعون للمقاطيع عن أهل بلدهم ، و يردون
الأحاديث المرفوعة من حديث الحجازين ، و لذلك جاء عن محمد بن علي بن الحسين أنهم
سألوه : أقضى النبي e باليمين مع الشاهد ؟ قال : (( نعم ، و قضى
به علي رضي الله عنه بين اظهركم )) . ذكره البيهقي ج 10 ص 173 . و ذكر البخاري عن
زكريا بن عدي أن ابن المبارك ناظر الكوفيين في النبيذ (( فجعل ابن المبارك يحتج
بأحاديث
رسول الله e و أصحاب النبي e و المهاجرين و الأنصار من أهل المدينة ، قالوا : لا ، و لكن من
حديثنا ! قال ابن المبارك … عن إبراهيم قال : كانوا يقولون : إذا سكر من شراب لا
يحل له أن يعود فيه أبداً . فنكسوا رؤوسهم ، فقال ابن المبارك للذي يليه : رأيت
أعجب من هؤلاء ؟ أحدثهم عن رسول الله e و عن أصحابه و التابعين فلم يعبأوا به ،
و أذكر عن إبراهيم فنكسوا رؤوسهم ! )) حكاه البيهقي في ( السنن ) ج 8 ص 298 .
وروى عبد الوهاب الثقفي و هو ثقة عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبد الله أن رسول الله e قضى باليمين مع الشاهد )) . أعله جماعة بأن جماعة رووه عن جعفر عن أبيه مرسلاً .و نازع في ذلك الدارقطني ثم البيهقي . ([29])
وفي الباب أحاديث أخرى و مراسيل و مقاطيع عند الدارقطني و البيهقي و غيرهما ، و الحديث أشهر من كثير من الأحاديث التي يدعي لها الحنفية الشهرة ، و يحتجون بها على خلاف القرآن و السنن المتواترة .
وأما قول الأستاذ : (( مع عدم ظهور دلالته على التنازع فيه )) . فيشير به إلى تأويلات أصحابه ، فمنها زعم بعضهم في حديث مسلم : (( قضى بيمين و شاهد )) أن المعنى قضى بيمين حيث لا شاهدين ، و قضى بشاهد حيث وجد الشهود ، و المراد ب ( شاهد ) الجنس و هذا التأويل كما ترى !
أولاً : لأنه خلاف الظاهر .
ثانياً : لأنه يجعل الكلام لا فائدة له ، فإن لا يخفى على أحد أنه يقضى باليمين حيث لا بينة ، و يقضى بالشاهدين حيث و جدا .
ثالثاً : حمل شاهد على الجنس ثم إخراج الواحد منه لا يخفى حاله .
رابعاً : هذا اللفظ رواية زيد بن الحباب عن سيف . و قد رواه عبد الله بن الحارث بن عبد الملك المخزومي عن سيف ، فقال : (( قضى باليمين مع الشاهد )) . رواه الإمامان الشافعي و أحمد عن عبد الله بن الحارث كما في ( الأم ) ج 6 ص 273 و ( مسند أحمد) ج 1 ص 323 و زاد في رواية الشافعي : (( قال عمرو : في الأموال )) . و في رواية أحمد : (( قال عمرو : إنما ذاك في الأموال )) . و عبد الله بن الحارث كأنه أثبت من زيد بن الحباب ، فإن زيداً قد وصف بأنه يخطئ ، و لم يوصف بذلك عبد الله ، و كلاهما ثقتان من رجال مسلم . و هكذا رواه محمد بن مسلم الطائفي عن عمرو إلا أنه قال : (( قال عمرو : في الحقوق )) فقوله : (( قضى باليمين مع الشاهد )) . لا يمكن و لو على بعد بعيد على أجراء تأويلهم المذكور فيه ، و رواية عن ابن عباس – و هو عمرو بن دينار ثقة جليل فقيه – أقره على المعنى الذي نقول به و لهذا خصة في الأموال ، و القضاء باليمين حيث لا شهود فد يكون في غير الأموال ، و كذلك القضاء بالشاهدين .
وهكذا جاء لفظ هذا الحديث (( قضى باليمين مع الشاهد )) في حديث أبي هريرة و حديث جابر و غيرهما . و في بعض الشواهد و المراسيل و المقاطيع التصريح الواضح .
ومن التأويلات في قول بعضهم في لفظ (( قضى باليمين مع الشاهد )) أن المعنى قضى بيمين المدعى عليه مع وجود شاهد واحد للمدعي ، و رود بأوجه : منها أنه خلاف الظاهر ، فإن الظاهر أن المعية بين اليمين و الشاهد و أنه قضى بينهما معاً ، و منها أن الرواية الأولى ترد هذا التأويل ، و منها أن روية عن ابن عباس و هو ثقة جليل فقيه أقره على ظاهره كما سلف ، و منها ما ورد في بعض الشواهد و المراسيل و المقاطيع من التصريح الواضح .
وفي ( الفتح ) عن ابن العربي أن بعضهم حمله على صورة خاصة ، و هي أن رجلاً اشترى من آخر عبداً مثلاً فأدعى المشتري أن به عيباً ، و أقام شاهداً واحداً ، فقال البائع: بعته بالبراءة ، فيحلف المشتري أنه ما اشترى بالبراءة ، و يرد العبد .
أقول : حاصل هذا التأويل أن البائع أنكر أولاً العيب ، فأقام المدعي و هو المشتري شاهداً واحداً ، فأعترف المدعي عليه و هو البائع ، و لكنه أدعى دعوى أخرى و هي أنه باع بالبراءة فأنكر المشتري ، و لم يكن للبائع بينة فيحلف المشتري . و أنت خبير أن هذه قضيتان قضي في الأولى بالاعتراف ، و في الثاني باليمين و ذهب الشاهد لغواً فكيف يعبر الصحابة عن هذا بلفظ (( قضى باليمين مع الشاهد )) و (( قضى بيمين و شاهد )) ؟ فإن كلاً من هاتين العبارتين تعطي أن القضاء وقع باليمين و الشاهد معاً .
فإن قيل : قد يقال : لم يعترف البائع بل قال لا عيب ، فإن كان فلا يلزمني لأنني بعت بالبراءة .
قلت : فعلى هذا أن حلف المشتري على وجود العيب و عدم البراءة فقد قضى له في القضية الثانية بيمينه فقط و في الأولى بشاهده و يمينه و هو الذي تفرون منه . و إن حلف على عدم البراءة فقط و مع ذلك قضى له برد العبد فقد قضى له في الثانية بيمينه فقط ، و في الثاني بشاهد واحد بلا يمين ، وهو أشد مما تفرون منه . على أن الذي ينبغي في هذه الصورة أن لا يقبل قول البائع (( لا عيب … )) بل يقال له : أما أن تعترف بوجود العيب، و إما أن تصر على إنكارك ، فإن أعترف فقد تقدم ، و إن أصر على إنكاره ، قيل للمشتري ألك شاهد آخر ؟ فإن قال : لا ، فعلى قولكم يقال للبائع : احلف ، فإن حلف قضي له يمينه و ذهب الشاهد لغوا ، و لم يحتج إلى دعوى البراءة . و إن أبى قضي بوجود العيب لنكول المدعي عليه و ذهب الشاهد لغوا و تمت القضية الأولى ، ثم ينظر بالقضية الثانية .
وعلى قولنا يقال للمشتري احلف مع شاهدك ، فإن حلف ثبت العيب بشاهده و يمينه، ثم ينظر في القضية الأخرى ، و إن أبى قيل للبائع احلف أنه لا عيب ، فإن أبى قضى له بيمينه و استغنى عن الدعوى الثانية و ذهب الشاهد لغوا . و إن أبى قيل للمشتري احلف على وجود العيب ( و هذه يمين مردودة ليست هي التي تكون مع الشاهد ) فإن حلف قضى له بيمينه مع نكول البائع و استغنى عن الشاهد ، ثم ينظر في القضية الثانية ، و إن أبى سقط حقه و استغنى عن القضية الثانية .
فإن قال قائل : أنا أخالفكم في رد اليمين و في القضاء بالشاهد و اليمين إلا في صورة واحدة و هي ما إذا كان للمدعي شاهد واحد و نكل المدعي عليه عن اليمين فيحلف المدعي و يستحق ، ففي هذه يقضى له بشهاده مع يمينه . قلنا : فأنت تقضي للمدعي الذي لا شاهد له بمجرد نكول خصمه و لا تقضي للمدعي الذي له شاهد بمجرد نكول خصمه بل تكلفه اليمين فوق ذلك فكأن وجود شاهد للمدعي يوهن جانب المدعي حتى لو لم يكن له شاهد لكن جانبه أقوى ، فهل يقول هذا أحد ؟ !
وأما قول الأستاذ : (( و الليث بن سعد رد على مالك رداً ناهضاً في رسالته إليه )) . فهذه الرسالة في ( إعلام الموقعين ) ج 3 ص 82 و هي تفيد أن مالكاً كتب إللى الليث يعاتبه في أفتائه بأشياء على خلاف ما عليه جماعة أهل المدينة فاجابه الليث بهذه الرسالة ، فذكر أولاً أنه قد كان في الأقطار الأخرى جماعة من الصحابة ، و كان الخلفاء يكتبون إليهم قال : (( و من ذلك القضاء بشاهد و يمين صاحب الحق و قد عرفت أنه لم يزل يقضي بالمدينة به و لم يقض به لأصحاب رسول الله eبالشام و لا بحمص و لا بمصر و لا بالعراق و لم يكتب به إليهم الخلفاء الراشدون أبو بكر و عمر و عثمان و علي ، ثم و لي عمر بن عبد العزيز و كان كما قد علمت في أحياء السنن و الجد في إقامة الدين و الإصابة غي الرأي و العلم بما قد مضى من أمر الناس ، فكتب إليه رزيق …. إنك كنت تقضي بالمدينة بشهادة الشاهد و يمين صاحب الحق ، فكتب إليه عمر بن عبد العزيز : إنا كنا نقضي بذاك بالمدينة فوجدنا أهل الشام على غير ذلك ، فلا نقضي إلا بشهادة رجلين أو رجل و امرأتين .
مقصود الليث فيما يظهر أن الأحكام على ضربين ، منها ما لا يسع فيه الاختلاف و منها ما دون ذلك . و إن الخلفاء كانوا يكتبون إلي بالأقطار الأخرى من الصحابة في الضرب الأول كيلا يخالفون فيه ، و إذا وقع منهم فيه خلاف كتب إليهم الخلفاء ينهونم عنه ، و أما الضرب الثاني فكانوا يقرون فيه كل مجتهد على اجتهاده . ة إن هذه القضية من الضرب الثاني كان الخلفاء في المدينة يقضون بالشاهد و اليمين و كان من بالأقطار التي سماها الليث من الصحابة لا يقضون بذلك فيما يعلمه الليث و لم يكتب إليهم الخلفاء يأمرونهم بالقضاء به ، فدل ذلك أنها عندهم من الضرب الثاني ، و أستشهد لذلك بما ذكره عن عمر بن عبد العزيز ، و أنه لما كان في المدينة كأن فقهاءها ناظروه فقوي عنده قولهم فكان يقضي به ، ثم لما كان في الشام كأن فقهاءها ناظروه فقوي عنه قولهم فصار إليه . فيرى الليث أن ما كان من الضرب الثاني فليس لمالك أن يجعل عمل أهل المدينة فيه حجة على الناس كلهم ، و لا أن ينكر على من يخالفه فيه .
أقول : فهذا معنى معقول مقبول في الجملة ، و المدار على الحجة ، و أن حمل كلام الليث على غير هذا المعنى صار زللاً داحضاً لا رداً ناهضاً .
ونحن لم ندع أن القضاء بالشاهد الواحد مع يمين صاحب الحق من الضرب الأول الذي لا يسع خلافه و ينقص قضاء القاضي بخلافه ، و إنما ادعينا أنه ثابت بالحجة و أن المخالف له مخطئ . و ليس في رسالة الليث ما يدفع هذا .
وأما قول الأستاذ : (( حتى أن يحيى الليثي …. )) فمخالفة بعض المالكية و الشافعية للإمامين إنما تدل أنه قوي عند المخالفين أنه لا يقضى بذلك ، وقوته عندهم لا تستلزم قوته في نفس الأمر ، و المدار على الحجة و قد اقمناها .
وأما قول الأستاذ : (( فسل قضاة العصر …. )) فجوابه أنها إذا روعيت العدالة الشرعية كما يجب لم يكن هناك اختلال يعتد به ، و قد قضى أهل العلم بذلك و يقضون به إلى اليوم في بعض الأقطار ، و لا يدرك اختلال ، و إنما الاختلال في جواز القضاء بشهادة فاسقسن على ما يقول الحنفية ، أو رأيت أو قال قضاة العصر قد فسد الزمان فلا يقضى بأقل من ثلاثة شهود على شرط أن تكوت القرائن مساعدة لشهادتهم ؟ . و كما أن الفساد يخشى من إدعاء الباطل ، فإن أشد منه يخشى من جحد الحق .
فإن شددت بالشهادة دفعاً لما يخشى من ظلم المدعي للمدعي عليه ، فقد سهلت بذلك ظلم المدعى عليه للمدعي ، و هذا أشد ، فإن الغالب أن يكون المطالب عند الحاكم هو الضعيف اتلذي لا يمكنه استيفاء الحق من المدعى عليه فكيف أن يظلمه ؟ فالقسطاس المستقيم هو إتباع الشريعة ، و الله عز و جل متكفل بحفظهما ، و ضامن بقدره أن يسدد المتبع لها ، و يسد ما قد يقع من الخلل في تطبيق العمل بشرعه على حكمته في نفس الأمر أو يجبره . و هو سبحانه اللطيف الخبير ، على كل شيء قدير .
تتمة
يعلم من مناظرة الشافعي لمحمد بن الحسن في هذه المسألة أن محمداً مع إنكاره أن يقضي بشاهد و يمين و رده الأحاديث في ذلك و زعمه أن ذلك خلاف ظاهر القرآن كان يقول : إن نسب الطفل إلى المرأة و بالتالي إلى صاحب الفراش مع ما يتبع ذلك من أحكام الرق و الحرية و التناكح و التوارث و الاستحقاق الخلافة و غير ذلك يثبت بشهادة وحدها . فاعترضه الشافعي بأن عمدته في ذلك أثر (( رواه عن على رضي الله عنه رجل مجهول يقال له : عبد الله ابن نجي ، و رواه عنه جابر الجعفي و كان يؤمن بالرجمة)).
فحاول الأستاذ الجواب عن ذلك بوجوه :
الأول : أن قبول شهادة القابلة إنما هو استهلال المولود ليصلى عليه أو لا يصلى .
الثاني : أن ابن نجي غير مجهول فقد روى عنه عدة ووثقه النسائي و ابن حبان .
الثالث : أن جابر الجعفي روى عنه شعبة مع تشدده ووثقه الثوري .
الرابع : أنه قد تابعه عطاء بي أبي مروان عن أبيه عن علي .
الخامس : أنه قد روى عبد الرزاق بسنده إلى عمر قبول شهادة القبلة ، و الأسلمي الذي في السند مرضي عند الشافعي .
السادس : قال الأستاذ : (( محمد بن الحسن استنبط قبول قول المرأة فيما يخص معرفته من قوله تعالى : [ و لا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن ] ، و وجه دلالته أن الاستهلال مما تشهده النساء دون الرجال عادة فإبطال شهادتهن ينافي قبول قول المرأة فيما تخصها معرفته كما هو المستفاد من الآية )) .
أقول : أما الأول فالموجود في كتب الحنفية أنه يثبت النسب بشهادة القابلة عن أبي حنيفة و صاحبيه في بعض الصور و عندهما في صور أخرى فمن شاء فليراجع كتبهم ، و ليقل معي : أحسن الله عزاء المسلمين في علم الأستاذ محمد زاهد الكوثري ! فأما القبول في الاستهلال ليصلي عليه أو لا يصلي فهذا يوافق عليه الشافعي و غيره و ليس بشهادة ، و إنما هو خبر لا يترتب عليه أمر له خطر .
وأما الثاني : فابن نجي كان مجهول الحال عند الشافعي .
وقال البخاري : (( فيه نظر )) . و هذه الكلمة من أشد الجرح عند البخاري كما ذكره الأستاذ في كلامه في إسحاق بن إبراهيم الحنيني و تراه في ترجمة إسحاق من قسم التراجم، فأما توثيق ابن حبان فقاعته توثيق المجاهيل كم اذكره الأستاذ غيرة مرة و مرت الإشارة إليها في القواعد و في ترجمة ابن حبان من قسم التراجم . ([30]) و توثيق النسائي معارض بطعن البخاري ، على أن النسائي يتوسع في توثيق المجاهيل كما تقدم في القواعد .
وأما الثالث : فجابر الجعفي اسقر الأمر على توهينه ، ثم هو معروف بتدليس الأباطيل ولم يصرح بالسماع .
وأما الرابع : فذاك الخبر تفرد به سويد بن سعيد و هو إنما يصلح للاعتبار فيما صرح فيه بالسماع و حدث به قبل عماه ، أو بعده و روجع فيه فثبت . وهب أنه يصلح للاعتبار في هذا فأي فائدة في ذلك و خبر الجعفي طائح ؟ !
وأما الخامس : فالأسلمي هو إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى هالك ، و ارتضاء الشافعي له إنما هو فيما سمعه عنه أما لأنه سمع من أصوله ، و أما لأنه كان متماسكاً ثم فسد بعد ذلك ([31]) و هذا الخبر لم يسمعه منه الشافعي ، و مع ذلك فشيخه فيه إسحاق بن عبد الله الفروي و هو هالك باتفاقهم . و الزهري عن عمر منقطع .
ثم إن كان المراد بالقبول على الاستهلال لأجل الصلاة على المولود فليس هذا محل النزاع كما سلف .
وأما السادس : فقوله تعالى [ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِن ] الكلام فيع على التوزيع ، أي : ل يحل للمرأة أن تكتم ما خلق الله في رحمها ، و النهي عن الكتمان يقتضي أنه مظنة أن يقع ، و إنما يظن بالمرأة أن تكتم حيث كان لها غرض فمآل النهي عن الكتمان إلى الأمر بالاعتراف ، فغاية ما في هذا الدلالة على أنه يقبل منها الاعتراف ، فإذا ذكرت أنها قد تمت أقراؤها كان هذا اعترافاً بأنه لا نفقة لها ، و ادعاء لأنه لا رجعة للزوج عليها فيقبل منها الاعتراف و ينظر في الادعاء ، فإن قبل منها الادعاء أيضاً فهل تجعلون الولادة من هذا القبيل ؟
فإن قلتم : نعم !.
لزمكم أن تقبلوا قول الأم نفسها : هذا ابني من فلان ، و تثبتوا بذلك نسبه و ميراثه و غير ذلك .
فإن قلتم : إنما هو موضع الاستنباط أن الآية أشعرت بأنه يقبل قول المرأة في الحيض و الحمل و أن علة ذلك هو أنه يتعسر العلم إلا من جهتها فقلنا : و الولادة يعسر العلم بها إلا من جهة النساء فأخذنا النساء من ذلك قبول شهادتين فيها .
قلنا : أما قبول قولها و حدها في حيضها و حملها ، فهذا مما تختص هي بمعرفته دون غيرها ، و الولادة ليست كذلك بل يطلع عليها غيرها من النساء ، أفرأيتم إذا أخذتم من ذلك قبول شهادة النساء على الولادة فمن أين أخذتم أنها تكفي امرأة واحدة ؟ فقد تحضر عدة قوابل و قد تحضر مع القابلة عدة نساء و قد يحيط رجال بالخيمة مثلاً بعد كشفها ، و العلم بأنه ليس فيها إلا المرأة الحامل ، ثم يحرسون الخيمة إلى أن تكشف فلا يكون فيها إلا المرأة و طفل معها فيشهد الرجال شهادة محققة أنها ولدت ذاك الطفل ، دع قضية الرجال فإنها نادرة ، و لكن هل قلتم دلت هذه الآية على قبول شهادة النساء في الولادة ، و دلت آية الدين على اشتراط العدد ، فيؤخذ من الآيتين قبول شهادة أربع نسوة كما يقول الشافعي ؟ أو ليس إذا قبلتم شهادة امرأة واحدة فيما يختص به النساء لزمكم قبول رجل واحد فيما يختص به الرجال كما يتفق في الجامع يوم الجمعة ؟ بل في كل شئ إلا أنه إذا كفت امرأة واحدة فيما يختص به النساء و رجل فيما يختص به الرجال فما لا يختص لا يتجه فيه إلا أحد أمرين : إما أن يكفي الواحد رجلاً كان أو امرأة ، و إما أن يشترط رجل أو امرأتان ، فقد دلت السنة على هذا فيما يتعلق بالأموال و رادتكم يميناً .
فإن قلتم لكن الشافعي لا يقول بقبول شهادة المرأتين مع اليمين .
قلنا : قد قال بذلك أستاذه مالك و هو مذهب قوي كم سلف . و الله الموفق .
المسألة السادسة عشرة
نكاح الشاهد امرأة شهد زوراً بطلاقها
في ( تاريخ بغداد ) 13 / 371 من طريق الحارث بن عمير قال : قال (( سمعت أبا حنيفة يقول …. ، قال الحارث بم عمير و سمعته يقول : لو أن شاهدين شهدا عند قاض أن فلان بن فلان طلق امرأته و علما جميعاً أنهما شهدا بالزور ففرق القاضي بينهما ، ثم لقيها أحد الشاهدين فله أن يتزوج بها ؟ قال : نعم . قال : ثم علم القاضي بعد أله أن يفرق بينهما ؟ قال : لا )) .
قال الأستاذ ص 37 : (( مسألة نفاذ حكم القاضي ظاهراً و باطناً هو مقتضى الأدلة و إن كان شاهد الزور يأثم إثماً عظيماً لكن لا يحول ذلك دون نفاذ حكم القاضي ظاهراً أو باطناً و إلا لزم إباحة و طئها للزوج الأول في السر فيما بينه و بين الله و إباحة و طئها للزوج الجديد بحكم الحاكم ، و أي قول يكون أقبح و أشنع من هذا ؟ يكون لامرأة احدة زوجان في حالة واحدة أحدهما يجامعها في السر و الآخر في العلانية ، و نعترف أن أبا حنيفة لا يمكنه أن يرى مثل هذا الرأي رغم مل تشنيع ، بل يرتد على مخالفيه و مشنعيه كما صورناه ، و أبو حنيفة من أبرأ الناس من أن يحدث الفوضى في الأحكام ، و أما عدم تفريق القاضي بينهما بعد علمه بحال الشاهدين فليس من مسائل أبي حنيفة و إنما مذهبه التروي في الحكم مطلقاً )) .
أقول : يتفوه الأستاذ بالقبح و الشناعة و ينسى ما في صنيعه هذا منهما ، أما إباحتها لزوجها الحقيقي فذلك حكم الله تبارك و تعالى من فوق سبع سموات ! و أما إباحتها لذلك الشاهد الفاجر فإنما يقول بها أبو حنيفة ، فأما مخالفوه و منهم أصحابه أبو يوسف و محمد و زفر فإنهم قائلون بحرمتها عليه أشد التحريم . و الحاصل أن أبا حنيفة يقول هي حرام في حكم الله تعالى على زوجها ، مباحة في حكم الله تعالى للشاهد الفاجر ! و مخالفوه يقولون بعكس هذا . غاية الأمر أن القاضي لجهله في نفس الأمر يحول بينها و بين زوجها و يسلط الشاهد الفاجر عليها ، و لا قبح في هذا و لا شناعة ، أرأيت إذا ادعى رجل على امرأة أنها زوجته فحكم القاضي بذلك ، و كانت المرأة في نفس الأمر أم المدعي أو أخته أو بنته و القاضي لا يعلم ، أليس يسلطه عليها في قول أبي حنيفة و غيره ؟ و نظير مسألتنا ما إذا كان لزيد أمة فادعى بكر أنها أمته و أقام شاهدي زور فقضى له القاضي ، فأبو حنيفة يوافق في هذه أن الأمة لا تزال في ملك زيد حلالاً له و حرماً على بكر ، و إن كان القاضي يحول بينها و بين زيد و يسلط عليها بكراً . و ليت الأستاذ كان ذكر الأدلة التي زعم أن نفاذ حكم القاضي ظاهراً و باطناً هو مقتضاها فكنت أنظر فيها ، و عسى أن تكون في ذلك فائدة ، و لكن الأستاذ عدل عنها إلى سلاحه الوحيد من المغالطة و التهويل على عادته . و من العجيب قوله : (( و أما عدم تفريق القاضي بينهما بعد علمه …. )) أليس من المعلوم أنه في قول أبي حنيفة إذا علم حقيقة الحال قضى بأنها امرأة ذلك الشاهد الفاجر حلال له ظاهراً و باطناً ؟ أو ليس إذا كان هذا قضاءه لم يكن هناك وجه عنده للتفريق بينهما ؟
المسألة السابعة عشرة
القرعة المشروعة
في ( تاريخ بغداد ) 13 / 390 من طريق يوسف بن أسباط قال : (( و كان النبي e يقرع بين نسائه إذا أراد أن يخرج في سفر ، و أقرع أصحابه ، و قال أبو حنيفة : القرعة قمار )) قال الأستاذ ص 87 : (( و أما مسألة القرعة فقد قصرها أبو حنيفة على موردها و قال : إنما يجري الإقراع عند إرادة السفر بين النساء ، و عند القسمة التي ليس فيها باطل حق ثابت ، باعتبار أن القرعة وردت في ذلك على خلاف القياس )) .
أقول : الذي في متب الحنفية عن أبي حنيفة أنه لا حكم للقرعة ، و إنما تستحب تطييباً للنفس ثم لا يلزم العمل بها ، فللزوج أن يخرج بأي أزواجه شاء حتى لو أقرع فخرج سهم إحداهن فله الخروج بغيرها . و هكذا في القسمة يكون حق التعيين للقاضي . و قد بقين للقرعة موارد أخرى . و دعوى أنها خلاف القياس كأنه أريد بها في الأصل قمار . و سنوضح بعون الله عو و جل بطلان ذلك و نثبت أن القرعة في بابها قياس من أعدل الأقيسة و أقومها و أوفقها بالأصول ، و أن جعل التعيين إلى الزوج و القاضي في الفرعين السابقين هو مخالف للأصول .
أعلم أن صورة القرعة قد تستعمل في أربعة أبواب :
الباب الأول : أن يقصد بها إبطال حق صاحب الحق و جعله لمن لا يحق له ، كأن يقول الرجل لصاحبه ألق خاتمك و ألقي خاتمي و نقترع عليهما فأينا خرج سهمه استحق الخاتمين . أو يقول أحدهما : أقارعك على خاتمي هذا فإن خرج سهمك أخذته أنت . أو يتداعيا داراً في يدهما فيقال أقرعوا بينهما فان خرج سهم المدعي أخذ الدار .
الباب الثاني : أن يتنازعا حقاً أن يكون لهما معاً و لا دليل يرجح جانب أحدهما ، كأن يتنازعا داراً بيدهما معاً ، و لا دليل لأحدهما ، و حلف كل منهما أنها جميعها له ليس لصاحبه منها شئ .
الباب الثالث : أن يختص الحق بأحدهما بعينه و يتعذر تعيينه ، كمن طلق بائناً إحدى امرأتيه و تعذر تعيينها .
الباب الرابع : أن يكون الحق في الأصل ثابتاً لكل منهما لكن اقتضى الدليل أن يخص به أحدهما لا بعينه .
فأما الباب الأول فلا نزاع أن القرعة إذا استعملت فيه فهي قمار ، و كذلك الباب الثاني .
وأما الباب الثالث ففيه نظر و قد قال بعض الأئمة بصحة القرعة فيه .
وأما الباب الرابع فهو مورد القرعة ، و الفرق بينه و بين الأبواب الأولى بغاية الوضوح، فإنه إذا اقتضى الدليل أن يخص به أحدهما لا بعينه فما بقي إلا طلب طريق للتعيين لا ميل فيه و لا حيف ، فإذا ظفرنا بطريق كذلك لم يكن فيه إبطال حق ثابت و لا إثبات حق باطل ، فما هو هذا الطريق ؟ من كانت له امرأتان و احتاج إلى السفر و استصحاب إحداهما فقط ، فقد ثبت بالدليل باعتراف أبي حنيفة أن له ذلك و بقي التعيين، و من مات عن ابنين فقسم القاضي المال نصفين فقد ثبت الدليل باعتراف أبي حنيفة أنه ينبغي تخصيص أحدهما بأحد النصفين و الآخر بالآخر و بقي التعيين . فأبو حنيفة يقول : يعين الزوج و القاضي ، و مخالفوه يقولون : الزوج و القاضي منهيان عن الميل و عن كل ما يظهر منه الميل ، و لا ريب أن تعيينهما برأيهما ميل أو يظهر منه الميل والأصل في ذلك التحريم ، فإباحته لهما مخالف للأصول و القياس و فتح لباب الهوى و مناف للحكمة . و إذا عين الزوج برأيه إحدى امرأتيه ظنت الأخرى أنه إنما عينها ميلاً إلى هواه فحزنها ذلك ، و أدى ذلك إلى مفاسد ، و إذا عين القاضي برأيه أحد النصفين لزيد و كان بكر يريده ظن بكر أن القاضي إنما مال مع هواه ، و ساءت ظنون الناس بالقاضي و جر ذلك إلى مفاسد . فإن قال أبو حنيفة : فما المخلص ؟ قالوا قد بينه الله تعالى ورسوله و هو القرعة ، فإن قال : القرعة قمار . قيل له : إنما تكون قماراً في غير هذا الباب كما تقدم شرحه ، و إذا صح أن أبا حنيفة إستحب القرعة فقد لزمه أنها ليس في هذا الباب بقمار و إنها مشروعة ، وإذا اعترف بأنها مشروع فما بقي إلا أن يجب العمل بها أو يجوز تركها و جعل التعيين إلى الزوج و القاضي ، و الحجة قائمة على منع أن يكون التعيين إلى الزوج و القاضي لأنه فتح لباب الميل كما تقدم ، و لا ضرورة إليه ولا حاجة .
و قد وردت القرعة في فروع أخرى من الباب الرابع ، و بذلك ثبت أنها في ذلك الباب أصل من الأصول الشرعية يقاس عليه ما يشبه .
قال الله تبارك و تعالى في قصة مريم : [ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا ] إلى أن قال [ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ] (آل عمران: من الآية44) .
فالقوم و فيهم نبي الله زكريا عليه السلام اختصوا في كفالة مريم ، ففزعوا إلى القرعة ، و ظاهر أنهما إنما يرضون بالقرعة عند تساويهم في أصل الإستحقاق و إقتضاء مصلحة الطفلة أن يختص بكفالتها أحدهم . فقص الله تبارك و تعال ذلك في كتابه و أخبر أنها كفلها زكريا ، أي و الله أعلم بأن أخرج سهمه في القرعة فكان هو القارع .
و قال عز و جل في قصة يونس : [ إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ الصافات ] ( 140 - 142) ذهب يونس إلى فلك مشحون أي موقر ليركب فيه فكأنه و الله أعلم طلع إلى الفلك هو و جماعة حاجتهم كحاجه فكأن صاحب الفلك أخبرهم أنه لا يمكنه أن يسافر بهم جميعاً لأن فلكه مشحون أي موقر ، و طلب منهم أن ينزل بعضهم فتشاحوا فإقترعوا فطله سهم يونس في المدحضين أي في الذين خرجت القرعة بأن ينزلوا – و الظاهر أن الفلك كان لا يزال بالمرفأ و ليس في النزول منه خطر ظاهر ، لكن الله عز و جل قضى على يونس بما قضى و في ( الصحيحين ) من حديث أبي هريرة مرفوعاً : (( لو يعلم الناس ما في النداء و الصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لأستهموا …. )) و في ( صحيح مسلم ) من حديثه أيضاً مرفوعاً : (( لو تعلمون – أو يعلمون – ما في الصف المقدم لكانت قرعة )) أي أنهم يحضرون معاً و يكثرون و يتشاحون و لا يكون هناك مرجع فيحتاج إلى القرعة و في ( صحيح البخاري ) ، و غيره من حديث أم العلاء قالت : (( طار لنا عثمان بن مظعون في السكنى حين إقترعت الأنصار على سكنى المهاجرين …. )) و فيه من حديث النعمان بن بشير مرفوعاً : (( مثل القائم على حدود الله و الواقع فيها كمثل قوم إستهموا على سفينة …. )) و في ( صحيح مسلم ) و غيره عن عمران بن حصين : (( أن رجلاً أعتق ستة مملوكين عند موته لم يكن له مال غيرهم فدعا بهم رسول الله e فجزأهم أثلاثاً ثم أقرع بينهم فأعتق أثنين و أرق أربعة )) ووجه ذلك أن تصرف المريض مرض الموت وصية يصح منها الثلث فقط ، و من الأصول الشرعية مراعات أن تعتق الرقبة كاملة كما ثبت فيمن أعتق في حال صحته بعض مملوكة أنه يعتق عليه كله ، و فيمن أتعق شركاً له في مملوك أنه أن كان المعتق موسراً عتق المعتوق كله و غرم المعتق قيمة ما زاد على نصيبه لشريكه ، و إن كان معسراً فقد قال بعض أهل العلم : يعتق المملوك كله و يسعى في قيمة ما زاد على نصيب المعتق حتى يدفعها إلى الشريك ، و قال آخرون : قد عتق منه ما عتق و يبقى باقيه على الرق . و من المعنى في مراعاة عتق الرقبة كاملة أن مقصود العتق هو أن يحصل للملوك و عليه جميع الحقوق المختصة بالأحرار و يغني عن المسلمين غناء الحر ، و ليس المبعض كذلك ، فإن من حقوق الأحرار ما لا يحصل له و لا عليه منها شيء ، و منها ما يحصل له جزء من فقط ، و مع ذلك يكون التبعيض منشأ نزاع مستمر بين المبعض و مالك بعضه ، فيلحق الضرر بكل منها ، و يشتبه الحكم في كثير من الفروع على المفتي و القاضي ، كما تراه في أحكام المبعض في كتب الفقه ، فجاءة السنة بأن يجزأ الستة ثلاثة أجزاء ليعتق إثنان كاملان فكلهم متساوون في أصل الحق ، و اقتضى الدليل أن يخص إثنان منهم و بقي التعيين ، فهذه الصورة من الباب الرابع الذي وردت فيه القرعة . فثبت أن القرعة في ذاك الباب أصل من الأصول الشرعية قرره الكتاب و السنة ، و إقتضاه العدل و الحكمة .
و الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ، و صلى الله على خاتم أنبيائه محمد و آله و صحبه و سلم .
القائد إلى العقائد
و هو القسم الرابع من كتاب
(( التنكيل بما تأنيب الكوثري من الأباطيل ))
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي لا أعلم به من نفسه ، و لا أصدق نبأ عنه من وحيه ، و لا آمن على دينه من رسله ، و لا أولى بالحق ممن أعتصم بشريعته و رضي بحكمه ، و أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ، و أشهد أن محمداً عبده و رسوله ، اللهم صل على محمد ، و على آل محمد ،،كما صليت على آل إبراهيم ، وبارك على محمد ، و على آل محمد ، كما باركت على آل إبراهيم ، إنك حميد مجيد ، و رضي الله عنهم اختارهم لصحبة رسوله ، و حفظ شريعته ، و عن أتباعهم المقتدين بأنوارهم ، المقتفين لآثارهم ، الى يوم الدين .
أما بعد فإن صاحب كتاب(( تأنيب الخطيب )) تعرض في كتابه للطعن في عقيدة أهل الحديث و نبزهم بالمجسمة ، و المشبه ، و الحشوية ، و رماهم بالجهل و البدعة ، و الزيغ و الضلالة ، و خاض في بعض المسائل الاعتقادية ،كمسألة الكلام و الإرجاء ، فتجشمت أن أتعقبه في هذا كما تعقبه في غيره ، راجياً من الله تبارك و تعالى أن يثبت قلبي على دينه، و يهديني لما اختلف فيه الحق بإذنه ، و يتغمدني بعفوه و رحمته ، إنه لا حول و لا قوة إلا بالله .
مقدمة
قال الله تبارك و تعالى : [ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ] .
فاطر : آية : 15 .
تضافر العقل و الشرع على إثبات أن الله تبارك وتعالى غني عن العالمين ، و أنه سبحانه الحكيم ، فخلق الله تعالى الخلق و تكليفه لهم لا يكون إلا موافقاً لما ثبت من غناه سبحانه و حمده و حكمته .
و قال تعالى : [ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ] . الذريات:56
و عبادته سبحانه هي طاعته بامتثال ما أمر به و رضيه ، و اجتناب ما نهى عنه و كرهه، و لم يكن الغني الحميد ، الحكيم العليم ، ليأمر عباده إلا بما هو خير لهم ، و لا لينهاهم إلا عما هو شر لهم ، فإن أمرهم أو نهاهم للابتلاء فقط فطاعته نفسها خير لهم ، و عصيانه شر لهم ، و قد قال تعلاى : [ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ ]الزمر: الآية 7 تقول العرب : لا أرضى منك بكذا ، و أرضى منك بكذا . إذا كانت الفائدة للمتكلم . فإذا كانت هي للمخاطب و لكن المتكلم بكرمه و رحمته يحب الخير و يكره الشر قالوا : لا أرضى لك كذا ، و أرضى لك كذا ، و قال تعالى فيما قصه عن لقمان : [ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ]: لقمان الآية 12
وفيما يخص قصة سليمان [ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ] النمل: الآية 40
وقال تعالى : [ وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ ] إبراهيم: 8 .